قصة فاتح الهند الأول "محمد بن القاسم الثقفي" ومأساة نهايته
أ. د. عبدالحليم عويس
تلخصت قصة فاتح الهند الأول "محمد بن القاسم الثقفي" في هذا الحوار:
• أتعرف أيها الأمير أن قوادًا قبلك حاولوا ما تحاوله اليوم فباؤوا جميعًا بالفشل؟
♦ أعرف ذلك جيدًا ولكن شتان بيني وبينهم.
• لا.. يا سيدي الأمير لقد كانوا أكثر منك عددًا وعدة.
♦ ليس يعنيني العدد والعدة لأني لا أؤمن بمثل هذه المقاييس، وإنما أؤمن بمقاييس أخرى لأهميتها خطورة تفوق عندي العدد والعدة.
• أفصح يا سيدي القائد فلم أفهم بعد.
♦ إنني أملك طاقة من الإيمان برسالتي ومبدئي فوق ما يملكه السابقون، إنني أحمل روحي على كفي أقذف بها المشركين رخيصة في سبيل الله، وهي آخر ما أفكر فيه، أما هم فأول ما يعنيهم أرواحهم وأموالهم.
• إذن أنت مصمم على اقتحام ثغر السند وغزوه؟
♦ نعم إن شاء الله رب العالمين.
♦♦♦
دارت هذه المناقشة بين محمد بن القاسم الثقفي أحد قوَّاد الوليد بن عبد الملك، وبين صاحب من أصحابه، على إثرها قام ابن القاسم بتجهيز جيش عدَّته عشرون ألفًا من المؤمنين الأشداء، خرج به غازيًا بلاد السند، تلك التي استعصت على كثير من القواد والملوك.
وما إن وصل ابن القاسم إلى أول مكان من تلك البلاد ويسمى (الديبل) وفيه صنم كبير يعبده أهل السند، حتى نصب مجانيقه وانهال على الصنم كسرًا وتحطيمًا، ثم تابع سيره قاصدًا عظيم السند - ويدعى زاهر - فما أن علم الأخير بمقدمه حتى أعدَّ له جيشًا جرارًا تقدمته المئات من الفيلة، فما إن نظر المسلمون إلى هذا الجيش حتى خفقت قلوبهم، لا لأنهم لم يتعودوا حرب القلة مع الكثرة، بل لأنهم تعودوا حرب الإنسان مع الإنسان، أما أن يكون الإنسان مع الفيلة، فهذا جديد عليهم!!
ورأى قائدهم ذلك الوجوم الذي أطبق على وجوههم، فوضع أصبعه على فمه، ودارت برأسه معركة هائلة ذكر فيها قول صاحبه له:
"إن قوادًا قبل حاولوا ما ستحاول اليوم فباءوا جميعًا بالفشل".
ولكن.. أيقف هو بدوره كما وقف السابقون؟!
إذن فما هذا التشدق بالإيمان و.. و.. و.. لا لا.. لن أقف مكتوف اليدين لأن هذا ليس من شيمتي.
لا بد أن أفعل شيئًا مهما كانت الظروف.
أعدوا النفط وأشعلوا فيه النيران، واقبلا أفيالهم به، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
وانطق هو كالمارد متقدمًا الصفوف مقتحمًا جيوش أعدائه، ضاربًا بكل قوة وبمن معه من جنود الله – أعداء الله.. واستبسل جنوده من خلفه حتى لكأنهم لم يكن على وجوههم الوجوم من قبل.
وانطلق محمد بن القاسم غير هياب ولا وجل حتى لاح في الأفق بشير النصر، وولى المشركون الأدبار.
فسجل التاريخ أن فتح الإسلام لبلاد السند قد تم على يد محمد بن القاسم الثقفي.
♦♦♦
وعاد ابن القاسم وقد ظن أن الأقدار واتته وأن السعادة أتته، وأي سعادة بعد هذا؟؟
قائد شاب لما يبلغ الثالثة والعشرين من عمره يفتح ما عجز عنه الفاتحون!!
وأشرف الموكب على مدينة بغداد سعيد بنصر الله، وقائده الشاب في أحلى صوره وأجمل مظاهره، ونظر القائد عن كثب، وأمعن النظر في المدينة التي ظنها ستخرج عن بكرة أبيها تنتظره، فها هو ذا لا يجد منها إلا عبوسًا وفتورًا!!
وكاد يلوي عنان فرسه ليعود من حيث أتى لولا أنه وجد أبواب المدينة قد فتحت على مصراعيها، وأمامها رسول يدعوه لمقابلة والي العراق الجديد "يزيد بن أبي كبشة" وتقدم ابن القاسم من قصر الوالي الجديد فما هاله غير أصفاد وقيود توضع في يديه، وجنود يسوقونه إلى سجن مؤلم يلقى فيه صنوفًا من العذاب وألوانًا من التنكيل!!
إيه يا رب.. ماذا فعلت يا ابن القاسم، وماذا أجرمت؟!!
أي جريرة نسبت إليك وعملت الأحقاد على إلصاقها بك حتى تساق هكذا مجرمًا كباقي المجرمين!!
لك العتبى يا إلهي ومنك العفو والرحمة، فهذه هي ضريبة الجهاد على المصلحين وجزاء المجاهدين في عصرنا وفي بعض عصور الأولين!!
وجلس ابن القاسم في سجنه المظلم صابرًا لقضاء الله محتسبًا عنده ما بذله في سبيل الإسلام.. وجاءه ذات يوم صوت من الخارج وهو في سجنه يأمره بالمثول أمام القضاء الذين تهيأوا لمحاكمته.
وذهل ابن القاسم وكاد يصعق وساءل نفسه:
أي محاكمة؟!! وأي قضاة؟!! وأي جرائر؟
ما كل هذه الخيالات!! أأنا في حلم أم في حقيقة!!
وجاءه صوت من أعماقه يرد عليه: لست في خيال يا ابن القاسم، إنما هي حقيقة الأحقاد التي تربصت بك الدوائر، وكالت لك التهم ولفقت لك الجرائم.
لقد تغير الوالي الذي أرسلك بوالٍ آخر لم يقدر لك جهادك ونضالك، وإنما ظنك عميلًا للوالي السابق فأمر بك فسجنت، ثم أمر فقدمت للمحاكمة، ثم أمر فستموت، فلا يغرنَّك قضاة ومحكمة، فحكم القوي قد نفذ، فاصبر لقضاء الله ولا تكن من القانتين.
♦♦♦
وسيق ابن القاسم إلى المحكمة ليسمع ضجيجًا وكلامًا ما فهم منه كلم وكأنه ليس يعنيه، ثم سيق مرة ثانية إلى جهة نائية ووراءه قوم بعضهم يبكي وبعضهم يضحك إلى أن وصل إلى بقعة من الأرض ليس فيها غير حبل ووتدين قد علق الحبل بينهما..!!
ففهم ابن القاسم على الفور ما كان وما سيكون..
(وبينما هو ينتظر الصعود إلى حبل الموت إذ عنَّ له أن ينظر على هذا الحبل) فتطلع إليه من أرضه، فوجده يهتز يمينًا وشمالًا وكأنه يعارض هذا الحكم الجائر ويعلن عصيانه.
ثم نظر ابن القاسم إلى السماء فوجدها ملبدة بالغيوم تلبس ثوبًا أسود قاتم اللون وقد أنذرت بالعواصف الهوجاء.
فقال ابن القاسم لنفسه:
والله إنها لعواصف حقًا ستقوم..
إنها نذير ثورة عارمة سوف تثأر لدمي من أعدائي فما أتم ابن القاسم حديثه إلى نفسه حتى وجد عشرة من الرجال يقودونه إلى الحبل، فقرأ ابن القاسم بالشهادتين همسًا، وما كاد ينتهي منها حتى صعدت روحه إلى بارئها!!
وطوى التاريخ صفحة من صفحات البطولة والتضحية.. في سبيل الله.
صفحة عرف التاريخ أولها وأشاد به.. وغمض عليه آخرها.. فهو لا يجد لها تعليلًا..
ورحم الله فاتح السند محمد بن القاسم الثقفي!!