سمات الأصالة في المنهج العلمي للإمام السيوطي
أ. د. محمد جبر الألفي
اقتضى قيامُ السيوطي بوظائف التدريس والإفتاء وإملاءِ الحديث، في وقتٍ كَثُر فيه أئمَّة العلوم والفنون من أمثال: "زكريا الأنصاري وخالد الأزهري، والقسطلاني وبدر الدين البلقيني، والأشموني والشهاب المنصوري، والسخاوي والأقصرائي، وزينب بنت السبكي وزينب بنت الحافظ العراقي" - أن يختطَّ لنفسه منهجًا خاصًّا في تناوُل كتب التُّراث بنظرةِ الناقد الخبير، وإعادة عرضِها بما يتناسَب وحالَ طلاَّب العلم والمعرفة، حتى يعمَّ نفعُها ويسهل تناولها:
1- الاختصار والنظم:
اتَّجه السيوطيُّ إلى اختصار أمَّهات الكتبِ، وصياغتِها في قوالب متونٍ أو منظومات، تيسيرًا على الدَّارسين في زمنٍ تَسُود فيه مَلَكَةُ الحفظ وتُقاس فيه مرتبة العالم بمقدارِ ما يحفظه من نصوصِ التُّراث، وقد يبدو أن هذا العمل مجرد جهدٍ مادِّيٍّ محدود الجدوى، ولكن الباحث المنصف يعلم أن عمليَّةَ الاختصار أو النظم لا يُحسنها إلا من وهبه اللهُ عقليَّةً علمية شاملة، ورزَقَه مقدرةً فائقة على التحصيل والفهم، وآتاه الحكمةَ وفصلَ الخطاب حتَّى يستوعب أفكارَ الأوائل ثم يخرجها بدقَّة وأمانَةٍ في ثوبٍ جديد.
فمن مختصرات السيوطي ومنظوماته في مجال الفقه:
• "تحقيق الخادم"؛ وهو مختصر كتاب خادم الرافعي والروضة في الفروع[1].
• "القنية"؛ وهو مختصر: "الروضة" في الفقه؛ للنووي[2].
• "الوافي"؛ وهو مختصر: "التنبيه"، في الفقه؛ للشيرازي[3].
• "مختصر الأحكام السلطانية"؛ للماوردي[4].
• "مختصر إحياء علوم الدين"؛ للغزالي[5].
• "الخلاصة"؛ وهو نَظْم لكتاب: "الروضة"؛ للنووي[6].
• "الابتهاج بنظم المنهاج"[7].
2- الشرح والتعليق:
تناول السيوطي أهمَّ كتب الفقه الشافعي وأصوله بالنَّقدِ والتحقِيق والشرحِ والتعليق، وتخريجِ الروايات وتصحيحِ الأقوال والوجوه، ولم يكتَفِ بكتب المذهب؛ وإنما تطرَّق إلى بعض كتب المذاهب الأخرى؛ فكتابه: "المعتصر في تقرير عبارةِ المختصر" تعليق على عباراتٍ في مختصر: "سيدي خليل" في فقه المالكية، لم تَرد في غيره من كتبِ الفقه[8].
ويبدو أن اشتغالَ السيوطي بتمحيص كتبِ الفقه قد أحاط بأقطارِ فِكْرِه، حتى إنه يرى في المنام كأنما يناقِش العلماءَ في مؤلَّفاتهم[9]، وقد لفت نظري أنه كان شديدَ الاهتمام بكتاب النووي: "روضة الطالبين وعمدة المفتين"، وهو مختصرٌ لكتاب الرافعي: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للغزالي؛ لأن الروضةَ كانت عُمدة المذهبِ في هذه الأيام، "وقد أكثر الناسُ من الكتابة عليها والكلامِ على مواضع وتصحيحاتٍ فيها، ظاهرُها التناقُض، ومواضع فيها مخالفة للشرح؛ كالإسنوي والأذرعي والبلقيني والزركشي وغيرهم...، وقد شرعتُ في تلخيص أحكامِها من غير ذكرِ خلاف، وضممتُ إليها زيادات شَرْح المهذَّب وبقية تصانيفه وتصانيف مَن بعده؛ كابن الرفعة والسبكي والإسنوي وغيرِهم...، إلى أن أعان اللهُ على إتمامِه"[10].
فمن شروحه وتعليقاته على "الروضة"[11]: الأزهار الغضَّة في حواشِي الروضة[12]، والعَذْب السلسل في تصحيح الخلاف المرسل في الروضة والينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع[13].
ومن شروحه وتعليقاته على كتب فقهية أخرى:
درُّ التاج في إعرابِ مشكل المنهاج[14]؛ الحاشية على القطعة، للإسنوي[15]، دفع الخصاصة في شرح الخلاصة[16]، شرح الروض[17]، زوائد المهذب على الوافي[18]، "شرح الرحبية"؛ في الفرائض[19]، "شرح التنبيه"؛ للشيرازي[20]، شرح الكوكب الساطع في نظم جمع الجوامع[21]، نشر العبير في تخريج أحاديث الشرح الكبير[22].
3 - التأصيل وضبط القواعد:
يمثِّل هذا اللون من الجهد العلمي والتفتُّح الذهني مرحلةً وسطًا بين الأصالة والتجديد؛ إذ إنه يتناول مناهجَ العلماء السابقين في محاولةِ استنباط قواعد كليَّة تدور حولها الأحكامُ الفرعية، فيهذِّبها ويكملها ويعيد ترتيبَها وصياغتها، ويتفنَّن في جَمْع الأشباهِ والنظائر، وينبِّه على أُسس الخلاف ومواضعه.
وقد اتَّبع السيوطيُّ هذا المنهج في أغلبِ العلوم والفنون التي تصدَّى لها التفسيرُ والحديث والفقه والنحو والتصوف والتاريخ، وتجلَّت موهبتُه في ممارسةِ هذا المنهج بكلِّ اقتدارٍ عند تألفيه كتاب: "الأشباه والنظائر"؛ في القواعد الفقهية، و"الأشباه والنظائر"؛ في النحو، ولْنَقْتبس من كلام السيوطي ما يجلِّي لنا هذا الموقفَ، يقول: "ولقد نوَّعوا هذا الفقهَ فنونًا وأنواعًا، وتطاولوا في استنباطه يدًا وباعًا، وكان من أجلِّ أنواعِه: معرفةُ نظائر الفروع وأشباهها، وضمُّ المفردات إلى أخواتها وأشكالِها.
ولعمري، إن هذا الفن لا يُدرك بالتمنِّي، ولا يُنال بسوف ولعلَّ ولو أني، ولا يبلغه إلاَّ من كشف عن ساعد الجدِّ وشمَّر، واعتزلَ أهلَه وشدَّ المِئْزَر، وخاض البحارَ وخالط العجاج، ولازم التردَاد إلى الأبواب في الليل الداج، يدأب في التكرارِ والمطالعةِ بكرةً وأصيلاً، وينصب نفسَه للتأليف والتحرير بياتًا ومقيلاً، ليس له همَّة إلاَّ معضلة يحلُّها، أو مستعصية عزَّت على القاصرين فيرتَقِي إليها ويحلها، قد ضرب مع الأقدمين بسهم، يقتحم المهامة المهولة الشاقَّة، له نقدٌ يميِّز به بين الهباب والهباء، ونظرٌ يحكم إذا اختلفَت الآراءُ بفضل القضاء، وفكرٌ لا يأتي عليه تمويهُ الأغبياء، وفهمٌ ثاقب لو أن المسألة من خلف جبلِ "قافٍ" لخرقَه حتى يصلَ إليه من وراء، على أنَّ هذا ليس من كسبِ العبد، وإنما هو فضلُ اللهِ يؤتيه من يشاء"[23].
وبعد أن يستعرض خطَّة البحثِ وترتيب أبوابِه ومضمون كلِّ كتابٍ وجهده في تتبُّع القواعد وأصولِها وشواهدها، يقول: "وهذا أمرٌ لا تَرى عينُك الآن فقيهًا يقدر عليه، ولا يلتفتُ بوجهه إليه، وأنت إذا تأملتَ كتابي هذا علمتَ أنه نخبةُ عمرٍ، وزبدة دهر؛ فإني عمدتُ فيه إلى مقفلاتٍ ففتحتُها، ومعضلاتٍ فنقَّحتُها، ومطولات فلخَّصتها، وغرائب قلَّ أن تُوجد منصوصة فنصصتها"[24].
ولا ينسى السيوطيُّ أن يبيِّن أن إمامَ هذا الفنِّ هو أبو طاهر الدباس إمامُ الحنفية بما وراء النهر، وتبعه القاضي حسين والشيخُ تاج الدين السُّبْكي والشيخ عز الدين بن عبدالسلام[25]، ومِن العجب العُجاب أن يأتي بعد السيوطي عالمٌ علاَّمة في الفقه الحنفي؛ هو ابنُ نجيم المصري (المتوفى 970 هـ)، فينقل نقلاً حرفيًّا من السيوطي ولا يشير إليه؛ ثم يزعم أنه أُلهم أن يضع كتابًا على نمط كتاب الشيخ تاج الدين السُّبكي الشافعي، لما رأى أن المشايخَ الكرام لم يدوِّنوا كتابًا مثل كتاب السبكي الذي يشتمل على فنون في الفقه[26].
[1] أحمد الخازندار ومحمد الشيباني: "دليل مخطوطات السيوطي"، الكويت 1983، ص 105.
[2] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 342.
[3] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 342.
[4] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 342.
[5] السيوطي: نفس المرجع، ص 344.
[6] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 342.
[7] أحمد الخازندار ومحمد الشيباني: المرجع السابق، ص 97.
[8] طاهر سليمان حمودة: "جلال الدين السيوطي"، بيروت 1989، ص 409.
[9] السيوطي: "المنهاج السوي في ترجمة الإمام النووي"؛ تحقيق أحمد شفيق دمج، دار ابن حزم، بيروت 1988، ص 60: "وقد كنت في أول اشتغالي" رأيت الشيخ في النوم، وكأني حضرتُ درسَه، فقلتُ له شأن المنهاج والاعتراضات التي أوردتُ عليه، فأخذ يُصلح العبارةَ إلى أن خرج الكتابُ عن هيئته، فقلت له: يا سيدي، اجعل هذا كتابًا على حِدَتِه غير المنهاج".
[10] السيوطي: "المنهاج السوي"، ص 54/ 55.
[11] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 342.
[12] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 342.
[13] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 342.
[14] أحمد الخازندار ومحمد الشيباني: المرجع السابق، ص 105.
[15] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 341 - 343.
[16] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 341 - 343.
[17] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 341 - 343.
[18] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 341 - 343.
[19] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 341 - 343.
[20] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 341 - 343.
[21] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 341 - 343.
[22] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 341 - 343.
[23] السيوطي: "الأشباه والنظائر"، دار الكتاب العلمية، بيروت 1979، ص 4.
[24] السيوطي: نفس المرجع، ص 5.
[25] السيوطي: المرجع السابق، ص 7/ 8.
[26] ابن نجيم: "الأشباه والنظائر"، تحقيق وتقديم محمد مطيع الحافظ، دار الفكر، دمشق، تصوير 1986 عن طبعة 1983، ص 10 - 12.