الأخوة الدينية أم الأخوة النَّسَبِيَّة؟
جمال فتح الله عبد الهادي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنعمت الدار الدنيا للمؤمن، عمل فيها قليلًا وأخذ زاده إلى الجنة، وبئست الدار الدنيا للكافر، عمل فيها قليلًا وأخذ زاده إلى النار.
قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10).
الحمد لله على نعمة الإسلام، ونعمة الإيمان، ونعمة الأخوة في الله، مِن أجمل وأروع الرابطة بين الخلق الأخوة في الله، ومِن أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله، ليس لمصلحة، ولا نسب، ولا قرابة، ولا قبيلة.
وقال -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (التوبة:71)، في هذه الآية عموم، فالأخوة الإيمانية تفتح لكل موحد، باب عظيم للأخوة في كل أنحاء الأرض، وما أجمله من شعور، أن تشعر أن كل موحد على وجه الأرض هو أخ لنا، ما دام على عقده وميثاقه التوحيدي مع الله -سبحانه وتعالى-، فالأخوة الإيمانية فوق كل الحواجز والعلائق الأرضية.
ورحم الله مَن قال:
يـا أخـي المسلم في كـل مكان وبلد أنت مني وأنا منك كروح في جسد
ما يميز الأخوة الإيمانية أنها لقاء بين الموحِّدين على مهام عظيمة، وأعمال كبيرة، تسمو بالمسلم الى المهمة الأصيلة في تعمير الأرض بالخير، ونشر العدل في الأرض، فهي إذًا أخوة في سبيل تحقيق مهام جسام في حياة البشرية لا يقدر عليها المسلم بمفرده، وإنما تتآزر جهود المؤمنين وطاقاتهم مجتمعة لتحقيق هذه المهام.
أخوة الإسلام، أخوة لبناء دولة الإسلام، وهو ما يطلق عليه: "أخوة المنهج"؛ المنهج الأصل، قرآن وسنة بفهم صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقد آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الصحابة الكرام مهاجرين وأنصار في رباط أخوة إيمانية، أبدعت نواة لدولة حضارية عمرت الأرض بمنهج الله -تعالى-، فهذه الأخوة تنطلق من أسس عقدية، فالمؤمنون والمؤمنات، ربهم واحد، ورسولهم واحد، وقدوتهم واحدة، وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة، ومنهجهم واحد، ومعتقدهم واحد.
فهم كالجسد الواحد الذي تسكنه روح واحدة، قال النبي -صلى الله علية وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه).
وقد شبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين بالجسد الواحد، وهو غاية التضامن والتآلف والتحابب، ووجه التشبيه فيه التوافق في التعب والراحة، وتداعي بعضه بعضًا إلى المشاركة في كل ما يلم به.
جاء في فتح الباريللحافظ ابن حجر: "فتشبيهه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيل صحيح، وفيه: تقريب للفهم وإظهار للمعاني في الصور المرئية. وفيه: تعظيم حقوق المسلمين والحض على تعاونهم وملاطفة بعضهم بعضًا".
فهي فوق أخوة النسب، وهي فوق أخوة القبيلة، وهي فوق أخوة الوطن، قال -تعالى-: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران:103)، فجعل الله -تعالى- الأخوة منحة إلهية، ونفحة ربانية يهبها الله للمخلصين الصادقين، يمحي بها الأحقاد، ويزيل بها العداوة والبغضاء، فتتوحد القلوب، وتتألف النفوس على المنهج الواحد، والعقيدة الواحدة، والهدف الواحد.
فهذه الأخوة يحصل بها المسلم محبة الله، وهي غاية كل موحِّد، جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ، عَلَى مَدْرَجَتِهِ، مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ) (رواه مسلم).
إذًا الأخوة الحقيقية هي أخوة الدِّين: المسلم أخو المسلم يعني في الدين، كما قال الله -تبارك وتعالى-: (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، وهذه الأخوة هي أوثق الأخوَّات، فهي أوثق من أخوَّة النسب، فإن أخوة النسب قد يتخلف مقتضاها، فيكون أخوك من النسب عدوًّا لك كارهًا لك، وذلك يكون في الدنيا وفي الآخرة، قال الله -تعالى-: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف:67).
ومِن الثمرات المهمة من الأخوة في الله: أنهم في ظل الله يوم القيامة، كما ورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي) (رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله علية وسلم-: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: وذكر منهم: وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه: اجتَمَعا عَلَيهِ، وتَفَرَّقَا عَلَيهِ... ) (متفق عليه).
ومن خلال التجارب العملية في هذه الحياة الدنيا في هذا العصر ثبت فعلًا: أن الأخوة الدينية أنفع في الأزمات والمحن والابتلاءات من الإخوة النَّسَبِيَّة والقَبَلِيَّة، إلا ما رحم ربي.
فاللَّهُمَ حَبَّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ.