خطبة الحرم المكي - رابطــــة الأُخــوَّةِ: عوامــل توثيقها وشــؤم قطعها
مجلة الفرقان
جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 11 ذي القعدة 1443 الموافق 10 من مايو 2022 بعنوان رابطة الأخوة: (عوامل توثيقها وشؤم قطعها) للشيخ صالح بن عبدالله بن حميد، وقد اشتلمت الخطبة على عدد من العناصر منها: رابطة الأخوة من خير الروابط، ودور الوالدين في توثيق عرى الأخوة، والعلاقة المتينة بين الإخوة والأخوات، وموقف النبييْن الكريميْن يوسف وموسى من رابطة الأخوة، وعوامل المحافظة على رابطة الأخوة، والطرائق الصحيحة لحل الخلاف بين الإخوة، وخطورة الشحناء بين الإخوة، والعاقبة الحسنة لمن يصل إخوانه.
في بداية الخطبة بين الشيخ ابن حميد أنَّ الأخُوَّة رابطة نَسَبيَّة كريمة، ومحبَّة فطريَّة حميمة، وقُربة شرعية عظيمة، فالإخوةُ والأخواتُ هُم جَمالُ الدنيا، وإنسانُ العينِ، بوصلهم تتوثَّق الحياةُ، وبحبهم تحلُّ السعادةُ، وبصِلَتِهم تكون طاعةُ الله وابتغاءُ مرضاته، والعَلاقةُ بينَ الإخوة من أرقِّ العلاقاتِ وأَرْقَاهَا، وأَشدِّها وأَقْوَاها، وأقدِرها على البقاء، ومِنْ أصلَبِها في الْمُلِمَّات، ومِنْ أوثَقِها في مواجَهة الصعاب والأزمات.
الوالدان هما البداية
وذكر الشيخ ابن حميد أنَّ هذه العلاقة الكريمة تبدأ في التوثُّق والتمتُّن من الوالدين؛ فالوالدانِ هُمَا اللذانِ يُربِّيانِ أبناءَهما تربيةً تَزرَع فيهم حقوقَ الأُخُوَّةِ؛ فتعامُلهما مع أبنائهما هو سرُّ العَلاقةِ التي تنشأ بين الإخوة، وأعظمُ ذلك وأكبرُه تحقيقُ العدلِ في كل أنواع التعامُل معَهم؛ من النظرات، والقُبُلات، والهدايا، والأُعطِيَات، وتجنُّب المقارَنات الخطأ، والبُعد عن الغِلظة في المعامَلة لبعضهم دون بعض، والحَذَر من تشجيعِ مَنْ يستحق التشجيعَ بتحقير الآخرينَ، أو الحطِّ مِنْ قَدرِهم.
نعمةٌ عظيمةٌ
الحياة مع الإخوة في بيت الوالدين نعمةٌ عظيمةٌ، وصلةٌ حميمةٌ، يتبيَّن جَمالُها، ويَظهَر الحنينُ إليها حينما ينتقل الأخُ من بيت أبيه إلى بيت الزوجية؛ فتنبعِثُ الأشواقُ إلى إخوته وأخواته، وإلى منزل والديه، مأدبةِ الطعام المشترَك، ومشارَكة الحياة في العواطف، وأحاديثِ المودةِ، وارتفاعِ الأصواتِ وانخفاضِها في انسجام، وأَخْذ وردّ، وعَفْو، وتسامُح، وعطاء وتغافُل، والتماس للأعذار، إنها بيئةٌ كريمةٌ تُصان فيها الحقوقُ، وتُغرَس فيها الفضائلُ، توقيرٌ للكبير، ورحمةٌ بالصغير، واحترامٌ للنِّدِّ والمثيل.
أخوك تاج على الرأس
أخوكَ تعطيه ويعطيكَ، وتأخذ منه ويأخذ منكَ، تتَّفِق معه وتختلف، تُعاتِبه ويعاتبكَ، ثم تصطلحون، وفي آخِر النهار تضحكونَ وتسمرون، يَفرَحُ لفرحكَ، ويحزَنُ لحزنكَ، يردُّ غَيبَتَكَ، ويستر عَيبَتَكَ، إذا مددتَ يدكَ إلى خيرٍ مدَّها، وإِنْ رأى فيكَ ثغرةً سدَّهَا، وإِنْ نزلَتْ بك نازلةٌ واساكَ، وإِنْ سألتَه أعطاكَ، وإن سكتَّ ابتدأكَ، يُؤثِرُكَ في الرغائب، ويتقدَّم عليكَ في النوائب، إذا غبتَ افتقَدَكَ، وإذا غفَلَتْ نبَّهَكَ، وإذا ضَلَلْتَ أرشدَكَ، وإذا دعَا ربَّه لم يَنْسَكَ، هو التاج على الرأس، والقلادة على الصدر.
أخوك إذا وقَع فارْفَعْهُ، وإذا احتاج فساعِدْه، وإذا ضَعُفَ فَأَسْنِدْهُ، فالإخوان على نوائب الدهر أعوان، يُستظلّ بهم، ويُعتَمَد عليهم، أوثقُ مَنْ يُستوثَق، وأودَعُ مَنْ يُستودَع، وأخوكَ عضيدٌ لا يَلِينُ ولا يتراخى، ولا يُدبِر، ولا يتخلَّى، هو مَكمَنُ السرِّ، ومحلّ الستر، أخاكَ أخاكَ ينشر الحسناتِ، ويطوي السيئاتِ، إذا خدمتَه صانَكَ، وإذا صحبتَه زانَكَ، أُنسُ الخاطرِ، وسلوةُ القلبِ، وقرةُ العينِ، وهو عصاكَ التي تتوكَّأ عليها.
يوسف وموسى -عليهما السلام
وللنبييْن الكريمين يوسف وموسى -عليهما السلام- مع الإخوة شأن عجيب، مع قوله -سبحانه-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}(الْأَ نْعَامِ: 90)، أمَّا يوسف -عليه السلام- فقد قال عز شأنه: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}( يُوسُفَ: 7)، ومن أعظم الآيات في هذه القصص العظيمة تعامل يوسف مع إخوته، في مراحل حياته جميعها وابتلاءاتها، في بأسائها ونعمائها، في سرائها وضرائها، في حالي ضرائه وسرائه: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}( يُوسُفَ: 36)، وقوله -سبحانه-: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(ي ُوسُفَ: 92)، فاصبروا -رحمكم الله-، اصبروا أيها الإخوة والأخوات، اصبروا كما صبر، واعفوا كما عفا، وأحسنوا كما أحسن، ومن أدبه -عليه السلام- وحُسْن تَعامُلِه أنَّه لم يعاتبهم، ولم يَنسِب الخطأَ إليهم، بل قال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}(يُوسُ فَ: 100)، لم تَصدُر منه عبارةُ لومٍ، أو لفظةُ عتابٍ، أو حال استعلاءٍ، أو هيئةُ افتخارٍ، بل قال: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي}(يُوسُفَ: 90)، ذكَر اسمَه المجرَّدَ مِنْ كُلِّ لقَبٍ أو منصبٍ، ومن آيات هذه القصص العظيمة أن يوسف -عليه السلام- وهو يُعدِّد نِعَمَ اللهِ عليه قال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}(يُوسُ فَ: 100)، ولم يذكر واقعة الجُبّ؛ حفظًا لحقِّ إخوانه، وكرمًا منه؛ لئلَّا يخذلهم أو يُظهِر الغلبةَ عليهم.
موسى -عليه السلام
أمَّا موسى -عليه السلام- فلَه شأنٌ مع أخته وأخيه؛ أما أخته فهي محل الرحمة، واللطف والشفقة، {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ}(الْقَص َصِ: 11)، أما أخوه فمحل القوة، وشَدّ العَضُدِ، والمرء مهمَا بلَغ من المنزلة ولو كانت النبوةَ لا غِنى له عن دفء الأُخُوَّةِ؛ ولهذا حينما عَظُمَتِ المهمةُ لدى موسى -عليه السلام- وقد مرَّت به من الشدائد والكروب، وقد فرَّ من قومه للذنب الذي اقترفه، وغاب في فراره سنين عددًا، فلما جاءته هذه المهمة العظيمة وهي النبوة، وهي أعظم مهمة على الإطلاق، حينئذ سأل موسى ربَّه العونَ، بل عَلِمَ أنَّه ليس له بعد الله إلا أخوه، فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}(طه: 29-32)؛ فأجابه ربُّه: {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا}(الْفُر ْقَانِ: 35)، فقال: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}(الْقَ صَصِ: 35).
مكانة الأخ
مِنَ الخسارةِ والغبنِ ألَّا تَعرِفَ مكانةَ أخيكَ إلَّا بعدَ أَنْ تَفقِدَه، نَعَمْ، تَفقِدُه؛ إمَّا بموت أو بسبب مطامع الدنيا، فتبقى وحيدًا لا تَقدِر على شيء، كم مِنْ أخٍ بكى على قبرِ أخيه متمنيًا لو اصطَلَحَا قبلَ لحظة الفِرَاق!.
إنَّ الحفاظ على الأُخوَّة في قوتها ومتانتها تحتاج إلى عَقْل، وحكمة، وصَبْر، وتحمُّل، وتضحية {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}( يُوسُفَ: 36).
لا تُقابِلْ تصرُّفاتِ إخوانكَ بالتحليل والتدقيق، فأغلبُها أو جُلُّها عفويةٌ تلقائيةٌ، لا تَقبَل التحليلَ ولا التعمقَ، ولا تَستَحِقُّ الوقوفَ عندها.
واعلم أنَّه مَهمَا طالَتْ عَلاقَتُكَ بإخوانكَ فهي لن تدوم، فلسوفَ يَقطَعُها أقربُكم أَجَلًا، وأعجَلُكم موتًا، فبَادِرْ -حَفِظَكَ اللَّهُ- بكلِّ خيرٍ ومَكرُمةٍ، قولًا وفعلًا، {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}(ال ْمُدَّثِّرِ: 6).
إذا كنتَ ذا علمٍ، أو منصبٍ، أو جاهٍ، أو ثراءٍ، أو شهرةٍ، فَانزِعْ عنكَ هذه العباءاتِ كلَّها حينما تكون مع أَهلِكَ وإخوانِكَ.
مِنَ الكمالِ والجَمالِ والمروءةِ أن تُظْهِر افتخارَكَ بإخوانكَ، وبما يمتازونَ به مِنْ فضلٍ ومكانةٍ.
أخبارُكَ وأحوالُكَ ينبغي أن تَصِلَ إلى إخوانكَ عن طريقكَ، لا عن طريق غيركَ، بعدَ تقديرِ المصلحةِ في ذلك.
لا تَكُنْ كثيرَ اللومِ
واعلم أن كثرة الشيء تُرخِصُه، فلا تَكُنْ كثيرَ اللومِ، والنقدِ، والعتابِ، والاستقصاءِ، والتَّشَكِّي، واعلم أن كثرة العتاب طريقُ النُّفرةِ والاجتنابِ، يقول علي -]-: «مَنْ لم يَحمِلْ أخاه على حُسن النية لم يَحمَدْه على حُسْن الصنعة»، ويقول حمدون القصَّار -رحمه الله-: «إذا زَلَّ أخوكَ فاطلُبْ له سبعينَ عذرًا، فإن لم يَقبَلْه قَلبُكَ، فاعلم أنَّ العيبَ فيكَ؛ حيث ظهَر لكَ سبعونَ عُذرًا ثم لَمْ تَقبَلْه»، فما أجمَلَ الأُخُوَّةَ في أَسْمَى معانيها، خلافٌ، ثم هدوءٌ، ثم سكونٌ، ثم اعتذارٌ، فتسامُحٌ فدعاءٌ فاستغفارٌ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(ا لْأَعْرَافِ: 151).
استعيذوا بالله من شحناء الأُخوَّةِ
استعيذوا بالله من إخوةٍ بينَهم شحناءُ، وعداوةٌ وبغضاءُ، وغلظةٌ وجفاءُ، قطيعةٌ شنيعةٌ، وفُرقةٌ فظيعةٌ، خيرُهم مصروفٌ للناس، وشرُّهم مجموعٌ للإخوانِ، البعيدُ أنيسُهم، والقريبُ مُوحِشُهم، الوجوهُ بينَهم عابسةٌ، وقلوبُهم فيما بينَهم قاسيةٌ، صدورُهم ضيقةٌ، لَعِبَتْ بهم الأهواءُ، وفرَّقَهم وسخُ الدنيا، وعَبَثَ فيهم الطمعُ؛ فعميت أبصارهم، وصمت آذانهم، فقطَّعوا أرحامَهم.
ما يكدر صفو الأُخوَّةِ
يُكدِّر صفوَ الأُخوَّةِ -عافانا اللَّهُ وإياكم- ضعفُ الإيمانِ، ونسيانُ الدَّيَّانِ، واستدراجُ الشيطان، ويكدر صفوة الأخوةِ مطامعُ الدنيا: مالٌ، وميراثٌ، وعَقَارٌ، وإيجارٌ.
مِنْ أعظمِ مراتبِ بِرِّ الوالدينَ
واعلموا أن الصلةَ بينَ الإخوان مِنْ أعظمِ مراتبِ بِرِّ الوالدينَ، وقطيعتُهم مِنْ أشدِّ أنواعِ العقوقِ، لا تَدَعُوا للشيطانِ مَدخلًا للفُرقة والفتنة، ولا تسمعوا إلى الوُشاة والنمَّامِينَ، مَنْ وصَلَ رَحِمَهُ وأكرَم إخوانَه وأخواتِه سَعِدَ في دنياه، وبُورِكَ له في رِزقه، وعَظُمَ في الآخرةِ أَجرُهُ.