التدريب بين الترف والحاجة
علي بن حسين بن أحمد فقيهي
بوح القلم
(تأملات في النفس والكون والواقع والحياة)
التدريب بين الترف والحاجة
• منذ خمسة عشر عامًا دخلت إلى إدارة التدريب التربوي للتسجيل في دورة إلزاميَّة للترشُّح لإحدى المهام الإدارية، وبعد الانتهاء من التسجيل قرأتُ قائمةَ الدورات المتاحة في المركز؛ فشدَّتني عناوينُها ومواضيعها، وأدهشني تنوُّعها وتعدُّدها؛ ما بين: مهنية، وتقنية، وسلوكية، وتطويرية!
• كانت أولى الدورات التطويرية عن موضوع شائكٍ ورائق، أخذ جدلًا كبيرًا ونقاشًا واسعًا في الأوساط الاجتماعية والعلميَّة والإعلامية؛ ألا وهو موضوع: (البرمجة اللُّغوية العصبية nlp)، ومن حُسن الحظ أن مُقدِّم الدورة كان أحدَ الدكاترة الفضلاء الذين أخذوا أصولَ البرنامج وقواعدَه، وعرفوا عوائده وغوائلَه من روَّاده ومنظِّريه في الجامعات والمعاهد العالمية.
• هذه الدورة وغيرُها من الدورات أثارَتْ في نفسي عددًا من التأملات الذهنية، والوقفات النفسيَّة تجاه التدريب وما يدار حولَه على مرِّ العقود الثلاثة الماضية من نزاعات وصراعات فكرية وعلمية، كلٌّ منها يأخذ جانبًا معينًا ومجالًا محدَّدًا، ويغفل ويهمل معه الجوانب الأخرى قصدًا أو جهلًا، تعصبًا أو تقليدًا.
• خلاصة تجربتي الشخصية وقراءاتي المعرفيَّة في التدريب مشاركًا وممارسًا ومفيدًا ومستفيدًا - أُجمِلها في العناصر التالية:
١- يُعرف التدريب بأنه: "عملية مخطَّطة ومنظَّمة ومستمرة، تهدف إلى إكساب العاملين المعارفَ والقدرات والمهارات المتخصصة، والمرتبطة بعملٍ ما، أو تغير بعض اتجاهات العاملين وسلوكياتهم بشكل يضمن تحسينَ الأداء، وتحقيق الأهداف".
٢- من الدلائل على ضرورة التدريب وأهميَّته في الجانب العملي والشخصي ما أكَّدته "جميع المنظمات على مستوى العالم من أن العنصرَ البشري هو العنصر الأول والأخير الذي تعتمد عليه لضمانِ استمراريتها وبقائها، فمتى كان أفرادُ المنظمة متحكِّمين في سلوكهم، ومتدربين تدريبًا جيدًا، ومجهزين تجهيزًا عاليًا، وموجهين توجيهًا سليمًا، ومدركين لأبعاد كل خطوة يقومون بها، وواثقين بمهاراتهم وقدراتهم - استطاعوا عندئذ تحقيقَ أهداف المنظمة طويلةً ومتوسطة وقريبة الأجل، والمساهمة في تطويرها، وزيادة إنتاجها".
٣- التدريب والتطوير يندرجُ تحت عِلم الإدارة؛ وهو أحد العلوم الإنسانية والاجتماعية التي ظهرت خلال القرون القريبة مع ولادةِ الدولة الحديثة، وشيوع مفاهيم النهضة والمدنية والحضارة، فهو عِلم قائمٌ بذاته له: حدوده، ومفاهيمه، وأصوله، وقواعده، وشروطه، وضوابطه، وفروعه، ونوافذه.
٤- التدريب يتكون من مجموعة من العلوم والمعارف في موضوع معين، وتمثل ربع المادة، والحقيبة التدريبية، والبقية عبارة عن فنونٍ ومهارات ومواهبَ وقدرات نظرية وتطبيقية لتفعيل تلك العلوم والمعارف في الواقع العملي والحياتي.
٥- يتَّفق جميع المصنِّفين والممارسين لعملية التدريب أن ما يُقدِّمونه من المعارف والمهارات هو من الأمور النسبيَّة القابلة للصواب والخطأ، ويتفاوت مقياسُ الاستفادة منها بحسب القابليَّة والاستعداد، والمواهب والقدرات من المستفيد، والصدق والموثوقيَّة في المعلومة، والقوة والتمكُّن من المدرِّب.
٦- الحسُّ والتجربة والعقل والواقع يُثبِتُ ويُؤكِّد مدى الفائدة والنَّفْع، والتغيُّر والتطور، والإنتاج والإنجاز الناتج عن هذه الدورات في كافة المجالات التعبُّدية والدعوية، والنفسية، والفكرية، والأسرية، والتقنية، والعلمية، والعملية.
• الحوارُ والمناقشات الثقافية والأحكام والاجتهادات الشرعية حول الأفكار والتصورات، والعلوم والمعارف، والأعمال والممارسات الجديدة والحديثة في العالم الإسلامي - يجبُ أن تُدارَ وَفْق دراسة واعيةٍ، ورؤية ثاقبةٍ، وتجربة فاحصة، ومعالجةٍ شاملة، وثقافة مدركة، وأحكام متَّزنة، تتم عبر هيئات جماعية، ومجالس علميَّة، كما تتطلَّب البعد والحذرَ من النظرة الجامدة، والأفهام القاصرة، والاتِّهامات الجائرة، والخصومات المُفْتعلَة، والآراء الشخصيَّة، والفتاوى الفرديَّة، والتصنيفات الظالمة.
• ومضة:
عن عائشةَ عن جدامة بنت وهب الأسدية أنها سمعَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لقد هَمَمْتُ أن أنهى عن الغِيلَة، حتى ذكرتُ أن الرومَ وفارسَ يصنعون ذلك، فلا يضر أولادهم))؛ رواه مسلم.
والغِيلَة: وطءُ الرجل زوجتَه وهي مُرضِع، فكانت العرب تظنُّ أن الرضيع يتضرَّر بلبن أمه الحامل.