الخطبة الأولى
يتعاقب الزمان ويقلب الله الليل والنهار, وتمر الأيام سراعاً والسنين تباعاً, يكبر المرء وتتخطى به السنين وهو ما زال في الأماني غارق وفي الأمل واقع.
سلوا ابن الأربعين كيف رأى سرعة المرور, سلوا ابن الستين والسبعين كيف كان يُمنِّي نفسه بطول الأمل فطال العمر ولم يُحقِّق ما أمّل.
عُمرٌ يمضي ولذاتٌ تنقضي, وشمسٌ تشرق وتغرب, تُقرِّبُنا من الآخرة وتباعدُنا من الدنيا, كذا الدنيا سريعة الزوال لا تَبقى فيها لذةٌ, ولا تدومُ فيها سعادة.
في كل يوم يغدو الناس جميعاً, بيد أنهم يتباينون في عاقبة غدوهم, ومقصد سيرهم, فكل الناس يغدو, غير أن ثمة من يغدو ليعتق نفسه من النار ومنهم من يعدو وتصير أيامه موبقة له في عذاب الجبار, وفي الصحيح " كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها..."
ونحن أيها الكرام نستقبل الإجازة وتحلُّ علينا أيامها المفعمة بأوقات الفراغ والراحة, لا سيما لفئة الشباب من الطالبات والطلاب, إجازة هذه السنة لا كالإجازات, وموسمها موسم استثنائي, إجازة تمتد لقرابة مائة وعشرين يوماً, هي من العمر, وكل يوم منها له صحيفة, تدون وتسطّر, يخطُّ أعمالَها كرامٌ حافظون, مطيعون لربهم مؤتمنون, فماذا نحن فيها فاعلون .
أيها الموفق, يا من دخلت في معترك الإجازة, أباً كنت أو طالباً, ضع نصب العين آيتين, يمثلان لك حقيقتان, ينبغي أن لا تغيبا عن ذهنك, آيةٌ لدنياك وأخرى لأخراك, وبدون استذكارهما تخرب الدنيا ويخسر الدين, ويفوت خير كثير, هما قول الله ( ولا تنس نصيبك من الدنيا) وقوله ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)
فأما الأولى فتشعرنا أن النفوس ينبغي أن تأخذ حقها من الراحة والإجمام, فلا يُواصَلُ عليها بالجد, ولا تؤخذ بالحزم على الدوام, بل يروّح عنها وتؤخذ باللين, وكذا كان سيد المرسلين وصحبُه الغُرّ الميامين, فبرغم جدّهم وجهادهم فإن لهم أزماناً يُجِمُّون النفْس فيها, وعنها يروحون, لكن هذا الإجمام لا يتجاوز المباح ولا يصل للحرام.
ولذا فلا إشكال أن يُروِّحَ المرءُ عن نفسه في سفرٍ مباح, أو نزهة لا معصية فيها, ولا لوم على المرء أن يجم النفس ويريح البدن والذهن من الكدِّ والجُهد, فمن رام جداً مستمراً, وجلداً في العمل دائماً, فربما كلّ وانقطع, وما هكذا تُقاد النفوس, بل تدوم في العمل, حين تأخذها بالراحة تارة وبالجد والحزم تارات, ومن لطيف ما يروي قول أبي الدرداء " إني لأستجم ليكون أنشط لي في الحق" وعن غيره" أريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد.
وأما الآية الثانية فهي تُشعرنا أن المؤمن ليس في حياته إجازة مطلقة, فهو قد يأخذ إجازةً عن دراسته, وعمله, ولكنه لا يمكن أن يأخذ إجازة عن ميادين الخير, ودروب الطاعة, فالمؤمن يعبد ربه حتى يأتيه اليقين, بل ما أُتي به للدنيا إلا ليعمرها بطاعة المولى.
الإجازة يا كرام كغيرها حقبةٌ من العمر ينبغي أن تكون مركباً يوصل للجنة, وموسماً للطاعة, والأبواب مُشْرعة والسبل مفتوحة ومتنوعة, وفي أيامها فرصة أن يُحوِّلَ المرءُ إجازة الدراسة خطوة للمعالي والرفعة.
فأيامٌ تتجاوز المائة مع التخطيط, حفظ في مثلها أقوامٌ القرآن, في أربعة أشهر حصّل أقوام علوماً شرعية عبر دروسه المتكاثرة في الإجازات, أربعة أشهر هي فرصةٌ أن تكتسب حرفة أو تتقن صنعة, أو تتعلم مهارة.
أيا شباب الأمة, يا نشء الخير وعدّة الحاضِر وأمل الأمة في المستقبَل, ها هي الإجازة قد فتحت صفحتها لكم لتكتبوا فيها وتُسطِّروا, فماذا أنتم فاعلون ؟.
ليست الإجازة إجازة عن القيم والمثل, والأخلاق والدين.
نعم أيها الشاب أنت في إجازة, لكن هذا لا يعني أن تقضيها بمحرم, وأعيذك بالله أن تكون من قومٍ يُضايقون الناس في متنزهاتهم, ويزعجون المسلمين في طرقاتهم, ويعترضون العفيفات في مكناتهن, وأين يغيب هؤلاء عن دعوات المؤذَين, وعن نظر رب العالمين.
يا أيها الشاب: نعم أنتم في إجازة, لكن لله حقاً مستمراً فإياك أن تضيعه, فالصلوات, ومجانبة المحرمات, والقيام بالواجبات, أمرٌ ينتظر في جميع الأوقات, فلسنا في إجازة منها, وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا معاً.
أيها الشاب ما مشروعك في الإجازة, سؤال قصير لكن الإجابة فيه تبين معدن المرء, وتنبيء عن علو همته, لن أقترح عليك مشاريع, فكل أدرى بوجهته, ولكني أقول: لا تذهب الأيام والليالي إلا وقد حققت فيها شيئاً ينفعك دينا ودنيا.
أيها الشاب: أنت في زمن الغنائم, وحقبة النشاط, فماذا أنت صانع, وقد قال نبيك عليه السلام لرجل وهو يعظه: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وصححه
معشر الآباء والأولياء: يامن حمّلهم الله الأمانة, أمانة الأبناء والبنات, ورعاية القيم وصيانة الفلذات, التبعة عليكم كبيرة, والحمل عظيم, لا سيما في هذا الزمن الذي تعددت مشاربه, وكثرت صوارفه ومؤثراته, أنتم مخرِّجوا جيل الغد, فإن طابت المقاصد وحسن الجهد طاب النتاج.
الإجازة لأولادكم هي مفترق طرق, وهي حقبة حساسة ربما فيها سقط وهوى, أو تقدم وسما, ربما انحدر وربما علا, ومنكم ينتظر الدور, وبهمكم يوجه الجيل
ليست الأبوة يا كرام انتساب, ومأكل ومسكن وشراب, الأبوة تكليف وتربية وعياله, والذرية أمانة.
ما أجمل ذلكم الأب, يتحمل المسؤلية, ويتابع ويوجه, ويربط أولاده في مجالات الخير المتعددة في الإجازات, من برامج قرانية, أو دورات تربوية, أو معرفية, هنيئاً له وهو أول المستفيدين من صلاح أبناءه.
ما أروع ذلكم الأب, يعلم أين يذهب أبناءه, ومع من, لن ترى أبناءه مع من يسهرون الليالي في الطرقات, لأنه علم أن الطرقاتِ لم تكن لِتُخرِّجُ خُلقاً فاضلاً أو شباباً واعياً.
ما أحسن ذلكم الأب لا يفتح لهم أبواب شر, ولا يسافر بهم لأماكن حرم العلماء غشيانها, يفسحهم ويروح عنهم ويسعدهم وعن الشر يباعدهم, ويحتسب ذلك كله عند ربهم.
أما أنتم أيها الدعاة و يا طلبة العلم، فإجازتكم ينبغي أن تكون مختلفة, فقد عقدت الأمة عليكم بعد الله آمالها، ورنت إليكم بأبصارها، وهوت إليكم بأفئدتها، فالمسؤولية التي أنيطت بكم وألقيت على كاهلكم في توجيه الناس ودعوتهم وتبصيرهم كبيرة، سيما في زمانٍ كثر فيه الباطل والفساد، ونَفَقَت فيه سِلَعُ أهلِ الكفر والإلحاد، ونشط دعاة التغريب والإفساد، والمؤمل فيكم والمنتظر العمل بجد واجتهاد, في كل سبيل وناد, سافِروا إلى القرى والأمصار، وعلِّموا الجاهل، وأرشدوا التائه، ودُلُّوا الحائر، مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قاوموا وسائل التدمير والإفساد بوسائل البناء والإرشاد، واستغلوا وقت الإجازة بدعوة القريب والبعيد, فالناس في كل مكان ينتظرون أهل الإسلام ليدلُّوهم ويرشدوهم, فكونوا أدلاء خير, دعاة إحسان وبر, وأخلصوا في ذلك كله لله تعالى، فإن ما كان لله يبقى، وما كان لغيره يذهب ، ولا تحقروا من أعمال البر والدعوة شيئًا, وفي التنزيل (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33].
قال لي ذلك الطالب الأعجمي وهو يسافر قبل يومين: مشروعي في هذه الإجازة أن أوعي خمس قرى لدينا عن خطر الرافضة, وقال الآخر: سأخرج مائة حافظ للأربعين النووية, وقال الثالث: سأتنقل بين القرى في بلدي معلماً ما تعلمته, ما أعظمها من أهداف, وما أجلها من مشاريع, فماذا أنتم فاعلون أيها الدعاة ويا طلاب العلم, والمجال بين يديكم متاح, والأبواب مشرعة في طول العالم وعرضه .
اللهم صل على محمد
الخطبة الثانية: الحمد لله وحده.
والأمتعة تشد والركائب للسفر تُعد؛ جميل أن يستشعر المرء أنه قد يجعل سفره عبادة حين ينوي به إدخال السرور على أهله, والتفكرَ في عظيم خلق ربه, ولكن العبادة لا تكون حين يكون السفر بذاته معصية وذنباً, والسفر يكون ذنباً وعصياناً بأحد أمور ثلاثة: إما أن يسافر بقصد البحث عن المعصية وطلبها, فذاك ذنب ولو لم يتهيأ له الحرام, وإما أن يفعل في سفره الحرام فذاك ذنب ولو لم ينو في سفره الآثام, وإما أن يسافر لبلاد الكفر, لأجل الاستمتاع والسياحة, وتلك محالٌّ أفتى العلماء بحرمة السفر لها, إلا لحاجة دين كدعوة, أو حاجة دنيا كعلاج وتجارة, مع الأمن على الدين والقلب, وليست السياحة بمسوّغ ومجيز لذلك, لا سيما حين يُصحب الأولاد من الجنسين لجهاتٍ ربت على الكفر فصارت مشاهد المعصية هي الأصل, مع ما يترتب على ذلك من التسمح والتساهل في النظر المحرم والسماع المحرم الذي يصك الآذان في كل مكان, وفي بلادنا غنية, ولو لم تصل لغيرها في الطبيعة فإن سلامة الدين أولى من مشهدٍ تراه فتنتهي لذته بمجرد أن تتعداه.
فإن عزمت أمرك وشددت ركائبك فاذكر أنك قدوة تمثل الإسلام وأهله, فكن خير سفيرٍ لدينك وبلدك, وداعيةً إلى الله بفعلك وسلوكك, واذكر أن ربك في كل مكان .
وبعد معاشر المسلمين فستمضي الإجازة وسيمضي العمر, والموفقون هم الذي عملوا لآخرتهم وقدّموا في مواسم الفراغ أعمالا تزيدهم صلةً بالله وخدمة ونفعاً لعباد الله, وليُعلم أنه ليس بين الناجحين دينا ودنيا وبين البطالين إلا علوَ الهمة والمبادرةَ للعمل, ولئن كانت النعم من الله وفيرة, فإن النعمة التي غبن فيها الكثير نعمةُ الفراغ, فها نحن في زمن الفراغ فماذا نحن مقدمون, اللهم أصلح أحوال المسلمين واجعل الإجازة شاهدة لنا, وبلغنا رمضان