جريمة الأدب
عمر السنوي الخالدي
كم أفتقدُ تلك المتعة التي كنت أشعُرُ بها حالَ قراءتي الروايات والقصص الأدبية أيام الصِّبا! كانت تجعلني ألتهمُ الكتاب التهامَ الجائعِ لفخِذِ خروفٍ مشويٍّ قُدِّمَ له على طبقٍ وقتَ الغروب بعد أن أنهَكَه العملُ نهارَ يومٍ كاملًا!
وكنتُ أعيش خيالًا بديعًا في عوالِمَ كثيرةٍ أسافر إليها مِن سريري أو مقعدي حين القراءة كطائرٍ يحُلُّ أينما شاء!
كنتُ أنتشي وأطرَبُ بما أجده مِن جمالٍ أعيشه في تلك اللحظات، فأنصرف حين أنصرف مِن قراءتي مرهَفَ الإحساس، مشحونًا بالمشاعرِ الإنسانية.
أما اليوم - وقد قاربتُ الثلاثين - فأقرأُ حين أقرأ وهمِّي أن أُحلِّلَ النص وأُفكِّكَ (الشيفرات)، وأبحث في النتائج عن المغزى، وأقارن الصور بالصور، وأُسقِط الأحداث على مثيلاتها في أرض أخرى، أو على واقعٍ نعيشه.. فيورثني ذلك تعبًا وثقلًا في الروح والجسم كمحاربٍ مُكرَهٍ ما بين دفعٍ وفرٍّ!
كما يورثني ذلك الأمر نكَدًا في النفس، وضيقًا في الخُلق؛ وذلك أن الإنسانَ في مِثل هذه المرحلة يحمِل الهمَّ أكثرَ، ويغرَق في حقائقَ مؤلمةٍ ...
ومما يزيدُ النَّكَد والإرهاق: مواجهةُ أفكار الكتَّاب والأدباء الذين ينقص كثيرًا منهم:
• المعرفةُ الكافية للانطلاق،
• والصِّدق المصاحِب للحروف،
• والبلاغة الرائدة.
بل تجد الواحدَ منهم همُّه التقليد والتبعية، وتجد بعضَهم غارقًا في بحر السرقة الأدبية، وآخرين همُّهم الشُّهرة أو المال..
أما الأتعس والأشرُّ والأخطر مِن هؤلاء جميعًا: أولئك المبدِعون حقًّا، والمتمكِّنون مِن المعرفة، والموسوعيُّون الأدباء، لكنهم أصحابُ قلوبٍ مملوءة بالشر، وعقولٍ طافحة بالتنكُّر للمجتمع أخلاقًا وعقيدةً وسياسةً... فهم الذين يعرِفون كيف يُقَوْلِبُونَ كلَّ ذلك في قوالبَ مستساغة، بل وباهرة لدى الشرائح المتزاحمة على قراءة الأدب اليوم.
فأنتَج هذا الأدب جيلًا يقص ويلصق ما يشاء من عباراتٍ قالها مَن صوَّرهم العالم كبارًا! جيلًا اصطدم بواقعٍ أليمٍ، فظنَّ أن الخروج منه يكون باتباع أفكارٍ ساقها له بعضُ الكتَّاب في تصوير مثالي يبدو للناظر القاصر أنها تحُلُّ كلَّ المشكلات... فصار جيلًا متنكرًا للآباء والأساتيذ والأوطان... بل متنكرًا حتى لحضارته، التي ما زال العالمُ يهتدي بهداها! أنكَروا المسلَّماتِ العقلية بمنطقٍ مشوَّهٍ يروي شيئًا مِن عطَشِ أهوائِهم!
إنها جريمةُ أولئك الأدباء الذين زيَّنوا لهم أفكارَهم، وفصلوا لهم حياتهم، وأوهَموهم بالسَّرابِ.
إنها جريمتنا أيضًا يومَ لم نكُنْ محصَّنين بالعلمِ والمعرفة واليقين.. بل لم نكن موطِّنين أنفسَنا على طباع الخيرِ، ومروِّضين أهواءَنا على كَبْحِ جِماحها.
فهي - إذًا - جريمةٌ مشتركة، سيؤاخذ بها كل طرَف، سواء كان ذلك في الحياة الدنيا أو في الآخرة - لِمَن آمن بها، ومَن لم يؤمن.