ماذا يفعل المسلم غير القادر على تكاليف الحج
الحمد لله رب العالمين ، جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمنا، وأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، قال جل وعلا في الحديث القدسي مباهيا ملائكته الكرام، بعباده الذين فارقوا الأهل والديار والأوطان، وأتوا إلى الرحيم الرحمن جل وعلا: «انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم». فتقول له الملائكة: أي رب فيهم فلان يزهو وفلان وفلان. قال: يقول الله: «قد غفرت لهم»
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة»([1])، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، قال صلوات ربي وسلامه عليه في يوم الحج الأكبر، «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ»([2])، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- «ل «اَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا». وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا»([3]) نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، فنسأل الله أن يجزيه عنا خير ما جزى نبيا عن أمته ورسولا عن دعوته ورسالته، ونسأل الله الذي رزقنا الإيمان به في الدنيا ولم نره أن يدخلنا مدخله، وأن يرزقنا يوم القيامة صحبته، وأن يجعلنا من أهل شفاعته، وأن يوردنا حوضه الأطهر الأبرك، إنه ولي ذلك والقادر عليه، اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد أيها الأخوة المسلمون الموحدون، فإن الله تبارك وتعالى لما أمر الخليل أن يقيم البيت الحرام، وأن يرفع قواعده وقام الخليل عليه السلام بما أمره الله عز وجل به، أمره الله جل وعلا أن ينادي في الخلق ففي الحديث «لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت العتيق قيل له: أذن في الناس بالحج ، قال: رب! وما يبلغ صوتي، قال: أذن وعلي البلاغ ، قال: فقال إبراهيم عليه السلام: يا أيها الناس! كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق ، قال: فسمعه ما بين السماء إلى الارض ، ألا ترى أن الناس يجيئون من أقاصي الأرض يلبون»([4])،
قام إبراهيم عليه السلام فأذن في الناس بالحج فتجاوب معه الكون كله، رددت الجبال والأشجار والأطيار دعوة الخليل عليه السلام، بأمر الله رب العالمين، بل جاوبته النطف في الأصلاب والأرحام، فما من عبد قَّدر الله له حج بيته الحرام، إلا وأجاب الخليل إبراهيم: لبيك لبيك، لبيك اللهم لبيك، نسأل الله أن نكون ممن كتبت لهم السعادة ولبُّوا في عالم الذر، حتى يلبوا في عالم الحياة ، ومن يومها وقد صار حج بيت الله الحرام شرفا لمن يطوف به، وآية من آيات صدق الإيمان، من يومها وقلوب الناس المسلمين الموحدين في أنحاء الدنيا متلهفة ومتشوقة لزيارة البيت العتيق، ولهذا جعل الحج فريضة على القادر الذي لا عذر له يمنعه فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} }}آل عمران:97{.
لكن ماذا يفعل صاحب القلب الملهوف المشوق إذا قعدت به المؤنة ولم يستطع أن يحج بيت الله؟ ماذا يفعل لكي ينال أجر الحجاج؟
في هذا كان توجيه الحبيب صلى الله عليه وسلم لكل من لم يستطع أن يحج بيت الله إلى أعمال يستطيع المسلم بها أن ينال الثواب العظيم، وأن يأخذ الأجر الكبير من العلي القدير جلا وعلا:
من ذلك العمل الصالح في العشر الأول من ذي الحجة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ،وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ»([5]).
الوحيد من المجاهدين الذي يساوي أجره أجر من يعمل الصالحات في هذه الأيام العشر هو الذي يخرج ليجاهد في سبيل الله، بماله ونفسه، ويهلك ماله وتزهق روحه في سبيل الله، ولا يرجع بشيء، حينئذ يحصل ثواب الذاكر الشاكر العابد في هذه الأيام العشر.
ولعل سائلا يقول: أليس الجهاد من الأعمال الصالحة، بل هو ذروة سنام الإسلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ([6])؟ أوليس الجهاد هو أبرك الأعمال وأعظمها أجرًا عند الله رب العالمين؟ إذا لماذا يقول صلى الله عليه وسلم «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» ؟ .
أراد الحبيب صلي الله عليه وسلم أن يبين، أن بعض الأوقات تكون بعض الأعمال فيها أفضل منها في غيرها، فالأيام العشر الأول من ذي الحجة فعل الطاعات والقربات من الصلاة والصيام والذكر والقرآن وصلة الأرحام وغيرها، أعظم عند الله أجرًا من الجهاد، وإن كان الجهاد في غير هذه الأيام أعظم أجرا، لكن هذه الأيام بالذات، أيام اتصال وثيق بالله رب العالمين يتشبه فيها المسلم بالحاج، ما عمل الحجيج في هذه الأيام؟ هم عند ربهم جل وعلا في ذكر في خشوع في طواف، في عمل صالح، يدعونا رب العزة جل وعلا أن نتشبه بهم، وأن نجعل أيامنا مليئة بأعمال الخير كما يملأ الحاج وقته بأعمال الخير، ولذلك ندبنا الحبيب صلي الله عليه وسلم إلى أن نعمل في هذه الأيام العشر بأزيد مما نعمل في غيرها، أنا وأنت وكل مسلم، مطالبون بأن نعمل الصالحات، في هذه الأيام المطالبة أكبر، لأن الأجر أعظم، هذه الأيام أقسم الله بلياليها في القرآن، والله لا يقسم إلا بما هو عظيم عنده، قال: { {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} [الفجر:1-5] هي الليالي العشر الأول من ذي الحجة، هي الليالي التي يفر فيها الناس إلى الله، الحجاج عند بيت ربهم والمسلمون في بلادهم موصولون بالله في هذه الليالي، كما كان الحبيب صلي الله عليه وسلم يفعل، لذلك كان من المستحب للمسلم أن يصوم هذه الأيام إذا كان قادا على الصيام، وأن يقوم لياليها إذا لم يمنعه مانع من القيام، فصيامها أعظم أجرا من صيام غيرها ، وقيام ليلها أعظم أجرا من قيام غيرها، الذكر وتلاوة القرآن، والصلاة وصلة الأرحام، والتواضع لله الواحد الديان، هذه الأعمال الصالحة أبرك وأعظم أجرا، بالله يا أخي إذا سمعت هذا ثم قضيت الأيام العشرة على المقاهي وفي الطرقات ألا تكون قد ضيعت كثيرا؟
عندما يناديك رب العزة جل وعلا ويقول لك: أمامك أيام عشرة سأرفع لك فيها الدرجات، سأتوب عليك من السيئات، سأجعل لك فيها ذكرا مرفوعاً، وأجرا عظيما، ثم تمر بك الأيام كما مرت بك سابقاتها، كالتاجر الذي يدعي أنه تاجر ، ثم تقوم السوق وتنفض وهو جالس، كيف يكسب؟ التاجر إذا عرف السوق التي يربح فيها ذهب إليها من قبل الفجر، يكون أول الداخلين وآخر الخارجين، ويطول مكثه في السوق ، كذلك المؤمن الناصح إذا جاءت مواسم الخير كان أول العاملين ، وآخر المتكاسلين، يظل في هذه الأيام على أتم الاستعداد لعمل الصالحات، هذه دعوة من النبي صلي الله عليه وسلم لكل مسلم لم يكتب له الحج في هذه السنة، يريد أن ينال أجر الحجاج والمعتمرين، يريد أن ينال فضل الله العظيم، دعوة إلى أن يحيى هذه الأيام الكريمة بالصيام والقيام وصلة الأرحام، وتلاوة القرآن، دعوة لنغلق عيوننا في هذه الأيام عن الحرام، دعوة لنصم آذننا في هذه الأيام عن الحرام، دعوة لمن كانت أعصابه تالفة، ويهيج ويستفز لأدنى سبب، إلى أن يتربى ويربي نفسه على التواضع والتذلل له رب العالمين ، على إمساك النفس عن الغضب، دعوة إلى فعل الخيرات، أنت في هذه الأيام الكريمة إذا استفزك مستفز قل لنفسك لا ينبغي أن أضيع هذه الأيام، في هذه الأيام إذا جهل عليك جاهل تصبّر وابلع جرعة الغيظ وأعلم أن الله سيعد لك في الجنة خيرا منها، واقرأ قول الله تعالى: {وَالْكَاظمين الغَيْظَ} وإذا آذاك أحد فقرأ قول الله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} إذا رأيت مسكينا فأعطه واقرأ قول الله تعالى {وَاللَهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} إذا كانت أرحامك غير موصولة فصلها في هذه الأيام، إذا كنت قليل الذكر، فأكثر في هذه الأيام، هذه فرصة في هذه الأيام ، هذه فرصة، إن كنت تريد اللحاق بالقوم، وتحصل أجرهم بالعمل الصالح في هذه الأيام، من الصيام والصبر وصلة الرحمن والإنفاق، والمحافظة على الصلوات في جماعة، وصلاة الفجر ، وقراءة القرآن ودوام الذكر لله رب العالمين.
هذه فرصتنا أيها الأحبة لمن يريد أن يلحق بالحجاج والمعتمرين في أجرهم وثوابهم عند الله عز وجل.
ومن فاتته هذه الأيام، أو قصر فيها فإن النبي صلي الله عليه وسلم بين لنا أن من رحمة الله وكرمه، لمن منعته الموانع، عن أن يصوم هذه الأيام كلها ، أو عن أن يقوم هذه الليالي كلها، أعطانا فرصة، وذلك بصيام يوم عرفة، وقال لنا الحبيب صلي الله عليه وسلم: «إني أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِى بَعْدَهُ» » وفي بعض الروايات «وسنة بعده» ([7])، صيام يوم عرفة يكفر الله عز وجل به ذنوب سنة، وحتى لا يسيء بعض الناس فهم كلام رسول الله صلي الله عليه وسلم، أقول: ليس معنى كلام رسول الله صلي الله عليه وسلم أنك تلعب طوال السنة وتسيء وتذنب ثم تأتي لتصوم يوم عرفة ، وتقول هو كالممحاة تمسح، صيام يوم عرفة يكفر ذنوبا معينة مما يقع فيها الناس وليس كل الذنوب، مثل الأمراض، كل دواء ينفع لداء معين ، لا يوجد دواء واحد لكل الأمراض، الذنوب كذلك تتفاوت، وقد جعل الله لنا مكفرات لهذه الذنوب، فمن الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا السعي على المعاش، ومن الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا اجتناب الكبائر، ومن الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا صيام يوم عرفة، هذا اليوم العظيم الذي يتجلى الله فيه على عباده، ويكون أدنى من خلقه، وينزل رحمته لدرجة أن الشيطان، في هذا اليوم يكون أغيظ ما يكون، وأحقر ما يكون وهو يرى سعة رحمة الله ويرى رحمات الله تنزل على الخلق، كلما رأى الرحمات النازلة ، ازداد غيظه.
في يوم عرفة يقول الحبيب صلي الله عليه وسلم: «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلاَ أَدْحَرُ وَلاَ أَحْقَرُ وَلاَ أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلاَّ مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ». قِيلَ وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ «أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلاَئِكَةَ» ([8]).
وأنا أقول لنفسي وأسأل إخواني: إذا كان هذا يوم غيظ الشيطان، فهل يليق بالعبد الصالح أن يكون في هذا اليوم تابعا للشيطان؟ وأن يضيع هذا اليوم في اللعب والعصيان؟ حين يكون هذا اليوم يوما جعله الله لإغاظة الشيطان بكثرة الرحمة النازلة على العباد ، فهل يصح أن يقوم بعض الناس فيضيعوا يوم عرفة في اللهو والمعصية؟ ويفرحوا الشيطان بدلا من أن يغيظوه؟ ويجعلون يوم عرفة يوم طاعة للشيطان ومعصية للرحمن؟ هذا مما لا ينبغي أن يكون.
ولهذا يجب من الآن -ونحن على أبواب هذه الأيام- أن نعد أنفسنا للصيام إن استطعنا، وللقيام إذا لم يمنعنا منه مانع، ولكثرة الذكر والإقبال ، عشرة أيام نجعلها معسكر طاعة للواحد الديان جل وعلا، حتى إذا ما جاء يوم العيد فرحنا برحمة الله رب العالمين، والذي لا يُقَدَّر له أن يصوم الأيام كلها يرتب نفسه على أن يصوم يوم عرفة، وعلى أن يقوم ليلة عرفة، وعلى أن يكثر الذكر في يوم عرفة، نحن في أيام وصفها النبي صلي الله عليه وسلم بأنها أيام ذكر وتكبير وتسبيح وتهليل لله تبارك وتعالى.
إذاً الذي لم يكتب له الحج عليه أن يحسن العمل في هذه الأيام وعليه أن يرتب نفسه لصيام يوم عرفة وقيام ليله إن شاء الله.
أمر ثالث: جعله الله جل وعلا فرصة، لمشاركة الحجاج في الأجر، وهو الأضحية، سنة من سنن أبينا إبراهيم عليه السلام، الأضحية في يوم النحر أو ثاني يوم أو ثالث يوم، أو رابع يوم، الذبح يكون في واحد من هذه الأيام، يوم العيد أو الأيام الثلاثة التي بعده.
الأضحية هي تشبه بما يفعله الحجاج، حين ينزلون إلى المزدلفة، ثم في الصباح يصعدون إلى منى، فيرجمون الشيطان ويبدؤون في ذبح الهدي لله رب العالمين.
يا أيها المسلم الذي يريد أن يشارك الحجاج في الأجر، لماذا لا تفعل مثل فعلهم، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا»[9]، الذي يستطيع أن يضحي ومعه إمكانية ثم امتنع من الأضحية بخلاً فلا يقربن مصلانا، الأضحية سنة مؤكدة ، فالنبي صلي الله عليه وسلم لم تمر عليه سنة إلا وضحى، وكان يضحي بكبشين أملحين ثمينين، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ ضَحَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّى وَيُكَبِّرُ ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ ([10]).
وكان ينتقي أطيب الأضاحي، حين يشتري أضحيته، يشتري أغلاها وأثمنها وأنفسها، لأنه يريد أن يتقرب إلى الله بالأكمل الأحسن، لذلك نهى أن يضحى بالعوراء، أو العرجاء، أو العمياء([11])، أو التي بها عيب ظاهر، لأنك تضحي وتتقرب إلى الله، ولك بكل قطرة دم وبكل صوفة عند الله جل وعلا حسنة ودرجة، وقبل أن ينزل دمها إلى الأرض، تكون قد وقعت في يد الله رب العالمين، ويكون الحق جل وعلا قد غفر لك بكل قطرة دم من دمها وبكل شعرة من صوفها، فإذا ضحيت فضحِ ونفسك طيبة، وأنت راغب فيما عند الله، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلاَفِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا»[12].
الأضاحي سنة الخليل عليه السلام ([13])، حين أنزل الله إليه كبشا من الجنة، فذبحه فداءً لسيدنا إسماعيل عليه السلام، وصارت هذه سنة متبعة، وكأنما يفتدى المسلم نفسه من عذاب الله بهذه الأضحية، كأنك تقول: يا رب، أنا أفتدي نفسي من عذابك، بهذه الأضحية، كما افتديت إسماعيل عليه السلام بهذا الذبح وبهذا الكبش من الذبح والقتل، أنا كذلك أفتدي نفسي بهذه الأضحية، ويجوز أن يشترك سبعة في بقرة أو في جاموسة لا يقل عمرها عن سنتين، لكن إذا كان واحد يذبح عن نفسه وأهل بيته يمكن أن يذبح خروفا أو نعجة أو جديا لا يقل عمر الجدي عن سنة ولا يقل عمر الخروف عن ستة أشهر على الأقل، وحينما ينوي هذا يذكر وهو يذبح أن كلَّ عضو من أعضاء هذا المذبوح يعتق به عضوٌ من النار حتى تطيب نفسه، ويستريح قلبه، وينشرح صدره، لطاعة الله رب العالمين.
وإذا كانت هناك النية لأن تضحي إن شاء الله فإذا دخلت العشر، إذا بدأنا اليوم الأول من ذي الحجة، فلا تقص أظافرك ولا تقص شعرك، ولا تنتف شيئا من شعر جسمك، وافعل كما يفعل المحرم، غير أنك تلبس ملابسك تاعادية، والمحرم يلبس ملابس الإحرام، لكن إذا كنت تنوي الأضحية فلا تقص أظافرك ولا تقص شعرك حتى إذا ما ذبحت ، وانتهيت من الذبح، قص أظافرك واحلق شعرك، كما يفعل الحاج تماما؛ لأن لك بكل شعرة من الأضحية أن تعتق شعرة منك من النار، وبكل ظفر من الأضحية يعتق ما يقابله منك من النار، ولذلك قال صلي الله عليه وسلم: «إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّىَ فَلاَ يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا» [14].
الأضحية هي سنة أبينا إبراهيم عليه السلام سنها لنا الحبيب صلي الله عليه وسلم مشاركة للحجاج، ومشاركة للطائفين العاكفين، وأمرنا أن نأكل منها وأن نطعم القانع والمعتر، قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} [الحج:28].
نأكل من أضحيتنا وهذا من السنة، فقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يأكل من أضحيته، وكان يعطي منها، والأوْلى أن تقسمها ثلاثة أثلاث، ثلثا تتصدق به على المحتاجين، وثلثا تأكله، وثلثا تدخره أو تهدي منه لأحبابك، هذا أكمل الأحوال، لكن إن تصدقت بالكثير أو القليل، فهذا كله مقبول عند الله عز وجل، المهم أن تجمع بين الأكل منها وبين الإطعام، لأن الله قال { {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ}.
حبيبنا المصطفى صلي الله عليه وسلم في حجته نحر مئة من الإبل، نحر منها ثلاثة وستين بعدد سنين عمره، ثم أمر عليا رضي الله عنه أن يذبح الباقي، ثم أمر النبي صلي الله عليه وسلم بقطعة من كل ناقة أو بدنة من هذه البدن التي ذبحها، ووضعها في قدر وأكل منها صلي الله عليه وسلم حتى يكون قد أكل من أضحيته صلي الله عليه وسلم.
إذاً، فالذي لم يقدر له الحج أمامه فرصة، في أن يحسن العمل في الأيام العشر، فرصة في أن يعتبر الأيام العشر معسكرا، يعتكف فيه عن المعاصي، وعما نهى الله عنه، ويكثر فيها من الذكر والشكر والصلاة والصيام والقيام، وتلاوة القرآن وصلة الأرحام.
أمامنا يوم عرفة، فرصة نتقرب إلى الله جل وعلا فيه بأبرك الأعمال بالصيام والقيام والتلاوة والذكر.
أمامنا فرصة، بأن يضحي القادر على التضحية، فيأكل من أضحيته ويطعم عباد الله المحتاجين البؤساء الفقراء، وبهذا نشارك الحجاج أجرهم، ونشارك الحجاج ثوابهم، نسأل الله العلي العظيم أن يوفقنا لصالح الأعمال، وأن يبارك لنا في أعمالنا وأعمارنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، واستغفروا عباد الله ربكم إنه هو الغفور الرحيم.
----------------------------
([1]) ابن خزيمة في صحيحه عن جابر رضي الله عنه 4/263(2840).
([2]) أخرجه مسلم ك صفات المنافقين وأحوالهم باب تحريش الشيطان 4/2166(2812).
([3]) أخرجه مسلم في صحيحه ك البر والصلة والاداب باب تحريم الظن والتجسس والتناجش 4/1985(2563) و باب تحريم التَّحَاسُدِ وَالتَّبَاغُضِ وَالتَّدَابُرِ 4/1383(2559)
([4]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما 7/448 والبيهقي في السنن الكبرى 5/176 . والحاكم في ك التفسير باب تفسير سورة الحج 2/421 وقال صحيح الاسناد ووافقه الذهبي .
([5]) أخرجه أبو داود ك الصوم باب صوم العشر 2/325(2438)، والترمذي ك الصوم باب ماجاء في العمل في أيام العشر .3/130(757). وقال حديث حسن صحيح غريب .كلاهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
([6]) أخرجه أحمد في مسنده 5/235 (22051) وصححه الشيخ شعيب .
([7]) جزء من حديث أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة الانصاري رضي الله عنه ك الصيام باب استحباب ثلاثة أيام من كل شهر 2/818(1126)، وأحمد من حديث أبي قتادة رضي الله عنه 5/296(22535)، وابن حبان في صحيحه ك الصوم باب صوم التطوع ذكر البيان بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «يكفر السنة وما قبلها» يريد ما قبلها سنة واحدة فقط 8/395(3632)، وابن خزيمة في صحيحه ك الصوم باب جماع صوم أيام التطوع 3/288(2087).
([8]) الموطأ ك الحج باب جامع الحج . 1/422 (245)
([9]) ابن ماجه في سننه ك الأضاحي باب الاضاحي هل هي واجبة أم لا 2/1044(3123)
([10]) البخاري ك الأضاحي باب من ذبح الأضاحي بيده 10/18(5558)- ومسلم ك الأضاحي باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة .. 3/1556(1966).
([11]) أخرجه ابن حبان 13/240-241(5919) وابن خزيمة 4/292(2912) في صحيحهما من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه .والحاكم في المستدرك 1/640 وقال حديث صحيح .
([12]) أخرجه الترمذي في سننه ك الأضاحي باب في فضل الأضحية 4/70(1493). قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
([13]) الحاكم في المستدرك من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه 2/422 وقال صحيح الإسناد .
([14]) مسلم ك الاضاحي باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد الحج من حديث أم سلمة 3/1565(1977).
منقول