سد الذرائع في الشريعة الإسلامية
سد الذرائع أصل من أصول السادة المالكية، فلقد أكثروا من العمل بهذا الأصل، حتى نُسب إلى المذهب المالكي أنه المذهب الوحيد الذي قال بالذرائع، والأمر خلاف ذلك كما زعم القرافي: فَلَيْسَ سَدُّ الذَّرَائِعِ خَاصًّا بِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَلْ قَالَ بِهَا هُوَ وأَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَصْلُ سَدِّهَا مُجْمَعٌ عَلَيْه[1].
وقاعدة سد الذرائع تقوم على المقاصد والمصالح، فهي تقوم على أساس أن الشارع ما شرع أحكامه إلا لتحقيق مقاصدها من جلب المصالح ودرء المفاسد، فإذا أصبحت أحكامه تستعمل ذريعة لغير ما شرعت له، ويتوسل بها إلى خلاف مقاصدها الحقيقية، فإن الشرع لا يُقرُّ إفساد أحكامه وتعطيل مقاصده.
وقبل الحديث عن الذريعة، يحسُن بنا الإشارةُ إلى معناها لغةً واصطلاحًا:
الذريعة لغةً واصطلاحًا:
بالرجوع إلى المعاجم اللغوية نجد أن الذريعةَ في اللغة تفيد الوَسيلَة والسَّبَب إلى شيءٍ، يُقال: فلانٌ ذَريعَتي إليكَ؛ أَي: سبَبي ووُصْلَتي الذي أَتَسَبَّبُ به إليكَ[2].
والمراد بها اصطلاحًا: حَسْمُ مَادَّةِ وَسَائِلِ الْفَسَادِ دَفْعًا لَهَا، فَمَتَى كَانَ الْفِعْلُ السَّالِمُ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَسِيلَةً لِلْمَفْسَدَةِ منعنا من ذلك الفعل[3]، ونقل ابنُ حزم عن أبي محمد علي بن أحمد رحمه الله قوله: ذهب قوم إلى تحريم أشياء من طريق الاحتياط، وخوف أن يتذرع منها إلى الحرام البحت[4].
فعماد التعريف في الذريعة أنها هي كل مسألة ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور، وبيان ذلك أن الوسيلة إذا أفضت إلى مفسدة كانت فاسدة، فوجب قطع الذريعة لما ينجم عنها من مفاسد، والوسائل إذا كانت مؤدية إلى مصلحة كانت صالحة، فتكون الذريعة عندئذ غير ممنوعة.
قال القرافي: الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة[5].
فحسب الإمام القرافي أن الأمور ليست بحسب مآل نية الفاعل، وإنما بحسب نتائجها وغاياتها، و هذا ما أقرَّه أبو زهرة فقال: إن أصل سدِّ الذرائع لا يعتبر النية فيه على أنها الأمر الجوهري في الإذن أو المنع، وإنما النظر به إلى النتائج والثمرات[6]، فلما كان المقصد الأساس للشريعة الإسلامية هو إقامة المصالح ودفع المفاسد، فكل ما يؤدي إلى ذلك من ذرائع وأسباب يكون له حكم ذلك المقصد الأصلي.
ومن تأمل مصادر الشريعة ومواردها، علِم أن الشارع الحكيم سدَّ الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها، وهذا سنلحظه من خلال القسم الأول من أقسام الذرائع.
أقسام الذرائع:
وقد قسم علماء أصول الفقه الذرائع خمسة أقسام:
القسم الأول: ما أدى إلى مفسدة مقطوع بها، وهذا القسم أجمعت الأمة على سدِّه ومنعه وحسمه، وقد عبَّر ابنُ القيم عن هذا القسم بقوله: لا يجوز الإتيانُ بفعل يكون وسيلة إلى حرام وإن كان جائزًا[7].
ومن أمثلة هذا القسم - على سبيل المثال - ما يلي:
1 - قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فحرَّم الله تعالى سبَّ آلهة المشركين - مع كون السب حميةً لله وإهانةً لآلهتهم - لكونه ذريعةً إلى سبِّ الله عز وجل فكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أولى من مصلحة سبِّ آلهتهم، وجاء التصريح على المنع لئلا يكون سببًا في فعل الحرام.
2 - ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104]، وذلك أن المسلمين كانوا يقولون: راعنا يا رسول الله، من المراعاة؛ أي: أَرْعِنا سمعَك، وفرغ سمعك لكلامنا، وكانت هذه اللفظة شيئًا قبيحًا بلغة اليهود، وقيل: كان معناها عندهم: اسمع لا سمعت، و قيل: هي من الرعونة[8].
فنهى تعالى المسلمين عن قولها؛ سدًّا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعةً إلى أن يقولها اليهود للنبي تشبُّهًا بالمسلمين، يقصدون بها غيرَ ما يقصده المسلمون، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنًى فاسدًا[9].
3 - وحرم الشارع الطِّيبَ على الْمُحْرِمِ؛ لكونه من أسباب دواعي الوطء، فتحريمه من باب سدِّ الذرائع.
4 - وأمر عليه السلام أن يفرَّق بين الأولاد في المضاجع، فلا ينام الذكر مع الأنثى في فراش واحد؛ لأن ذلك قد يكون بابًا من تلبيس إبليس عليهما، فيتحد الفراش وهما لا يشعران؛ قال عليه السلام: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» [10].
5 - ونهى المرأة عن السفر بغير محرم؛ قطعًا لذريعة الطمع فيها والفجور بها.
القسم الثاني: ملغًى إجماعًا، لأن مفسدته نادرةُ الوقوع؛ لذلك أجمعت الأمة على عدم منعه، وأنه ذريعة لا تُسد ووسيلة لا تُحسم، كالمنع من زراعة العنب خشيةَ الخمر، فإنه لم يقل به أحد، ومنه كذلك المنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا.
القسم الثالث: مختلف فيه بين السدِّ والترك، وذلك كبيوع الآجال، ومثاله كمن باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر، ثم اشتراها بخمسة قبل الشهر، فالإمام مالك يقول: إنه أخرج من يده خمسةً الآن، وأخذ عشرةً آخر الشهر، فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجلٍ توسلاً بإظهار صورة البيع لذلك، والشافعي يقول: ينظر إلى صورة البيع ويحمل الأمر على ظاهره، فيُجوِّز ذلك، وهذه البيوع يقال: إنها تصل إلى ألف مسألة، اختص بها مالك وخالفه فيها الشافعي. وكذلك اختلف في تضمين الصناع؛ لأنهم يؤثرون في السلع بصنعتهم، فتتغير السلع فلا يعرفها ربُّها إذا بيعت، فيضمنون سدًّا لذريعة الأخذ، أم لا يضمنون لأنهم أُجَرَاء، وأصل الإجارة على الأمانة قولان.
وكذلك تضمين حملة الطعام لئلا تمتدَّ أيديهم إليه، وهو كثير في المسائل، فنحن قلنا بسدِّ هذه الذرائع، ولم يقل بها الشافعي[11].
القسم الرابع: الذرائع والوسائل المشروعة المفضية إلى البدعة، وإليه أشار الإمام الشاطبي في الاعتصام بقوله: قد يكون أصل العمل مشروعًا، لكنه يصير جاريًا مجرى البدعة من باب الذرائع[12]، فضرب أمثلة لذلك منها:
1 - أن يكون للمكلَّف طريقان في سلوكه للآخرة، أحدُهما أسهل والآخر صعب، فيأخذ بالطريق الأصعب ويترك الأسهل بناء على التشديد على النفس، كالذي يجد للطهارة ماءين، ساخنًا وباردًا، فيتحرَّى الباردَ الشاقَّ استعماله، بدليل إسباغ الوضوء على المكاره، فهذا لم يعطِ النفسَ حقَّها، وخالف دليلَ رفع الحرج؛ {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
2 - ومن ذلك الاقتصارُ على البشع في المأكل، والخشن في الملبس من غير ضرورة.
3 - ومنه أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الناس كانوا يذهبون إليها، فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة.
فهذه الأمور جائزة أو مندوب إليها، ولكن العلماء كرهوا فعلَها؛ خوفًا من البدعة، لأن اتخاذها سنة، إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها، وهذا شأن السنة، وإذا جرت مَجرى السنن، صارت من البدع بلا شك[13].
القسم الخامس: تجويز الحيل[14] يناقض سدَّ الذرائع، فقد كتَب ابن القيم فصلاً هامًّا، بيَّن فيه الأهمية القصوى لمبدأ سدِّ الذرائع، وانتهى فيه إلى أن سدَّ الذرائع هو أحد أرباع الدين، ثم بنى عليه بحثًا في تحريم الحيلة، معتبرًا إياها رافعةً للتحريم ومسقطة للوجوب [15].
ومن أمثلة الحيل المفضية إلى فتح الذرائع المحرمة:
1 - إبطال حيلة إسقاط الزكاة، وذلك ببيع ما في اليد من النصاب قبلَ حلول الحول، ثم استرداده بعد ذلك، وهذه حيلة محرمة باطلة.
2 - ومن الحيل الباطلة لإسقاط حدِّ السرقة: أن يحفر الحرُّ السقف، ثم يدخل عبده، فيخرج المتاع من السقف.
فهذه الحيل وأمثالها لا يحلُّ لمسلم أن يفتي بها في دين الله، ومن أفتى بها فقد قلب الإسلامَ ظهرًا لبطن، ونقض عُرى الإسلام عروةً عروةً، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ مَرْوَانَ: كَانَتْ امْرَأَةٌ هَاهُنَا بِمَرْوَ، أَرَادَتْ أَنْ تَخْتَلِعَ مِنْ زَوْجِهَا، فَأَبَى زَوْجُهَا عَلَيْهَا، فَقِيلَ لَهَا: لَوْ ارْتَدَدْتِ عَنْ الإِسْلَامِ لَبِنْتِ مِنْهُ، فَفَعَلْت، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، فَقَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا الْكِتَابَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ سَمِعَ بِهِ وَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ حَمَلَهُ مِنْ كُورَةٍ إلَى كُورَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ عَبْدِالْمَلِكِ: إنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ أَبِي رَوْحٍ، حَيْثُ أُمِرَتْ بِالِارْتِدَادِ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ أَبِي غَسَّانَ، فَذَكَرَ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهُوَ مُغْضَبٌ: أَحْدَثُوا فِي الإسلامِ، وَمَنْ كَانَ أَمَرَ بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَهُ، أَوْ فِي بَيْتِهِ لِيَأْمُرَ بِهِ، أَوْ هَوِيَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا أُرى الشَّيْطَانَ كَانَ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا، حَتَّى جَاءَ هَؤُلاءِ فَأَفَادَهَا مِنْهُمْ فَأَشَاعَهَا حِينَئِذٍ، أَوْ كَانَ يُحْسِنُهَا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُمْضِيهَا فِيهِمْ حَتَّى جَاءَ هَؤُلاءِ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: قَالَ شَرِيكٌ - يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِاللَّهِ قَاضِي الْكُوفَةِ - وَذُكِرَ لَهُ كِتَابُ الْحِيَلِ، فَقَالَ: مَنْ يُخَادِعِ اللَّهَ يَخْدَعْهُ[16].
[1] أنوار البروق في أنواع الفروق، (3/ 46).
[2] لسان العرب / تاج العروس (ذرع).
[3] أنوار البروق، (3/ 45).
[4] الأحكام لابن حزم، (6/ 745).
[5] التنقيح، القرافي، (ص: 449).
[6] مالك، أبو زهرة، (ص: 343).
[7] أعلام الموقعين، ابن القيم، (3/ 118).
[8] معالم التنزيل، البغوي، (1/ 132).
[9] أعلام الموقعين، (3/ 119).
[10] صحيح مسلم، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، مسند الإمام أحمد، مسند عبدالله بن عمرو.
[11] أنوار البروق، (3/ 45).
[12] الاعتصام، الشاطبي، (ص: 253).
[13] المرجع السابق.
[14] الحيل: جمع حيلة، وهي الحذق وجودة النظر، والمراد بها هنا ما يكون مخلصًا شرعيًّا، فيسقط واجبًا أو يحل حرامًا، وأطلق عليه لفظ الحيلة؛ لأن المخلص من ذلك لا يدرك إلا بالحذق وجودة النظر.
[15] أعلام الموقعين، (3/ 135 - 159).
[16] المرجع السابق، (3/ 152).
_____________________________________
الكاتب: د. عبدالحكيم درقاوي