تفسير قوله تعالى : ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .
السؤال
هل صحيح أن النساء تبعث يوم القيامة ذكورا طبقا للآية : ( ولقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ) ؟ أي إن أول من خلق كان آدم ، وكان ذكرا ، وستأتي النساء يوم القيامة ذكورا طبقا للآية الرجاء التوضيح مع بيان تفسير الاية .
الجواب
الحمد لله.
أولا :
قال الله تعالى في كتابه العزيز : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) الأنعام/ 94 .
فيخبر عز وجل أن الخلق يأتون يوم القيامة فرادى ، واحدا ، واحدا ، حفاة عراة ، غُرْلا غير مختونين ، كما خلقهم الله أول مرة ، فيعرض الواحد منهم على ربه ، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة تمنعه من العذاب ، وقد ترك ما كان أُعطيه من نعيم الدنيا وخلفه وراء ظهره ، من المال والأنعام والأولاد ... إلخ ، وجاء وحيدا لا ناصر له ، قد ضل عنه الشركاء والشفعاء الذين كان يعبدهم من دون الله .
قال القرطبي رحمه الله :
" (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) أي : جِئْتُمُونَا وَاحِدًا وَاحِدًا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مُنْفَرِدًا بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا وَلَدٍ وَلَا نَاصِرٍ مِمَّنْ كَانَ يُصَاحِبُكُمْ فِي الْغَيِّ ، وَلَمْ يَنْفَعْكُمْ مَا عَبَدْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ .
( كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) أَيْ مُنْفَرِدِينَ كما خلقتم. وقيل: عراة كما خرجتم مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ حُفَاةً غُرْلًا بُهْمًا لَيْسَ معهم شي .
(وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ) أَيْ أَعْطَيْنَاكُمْ وَمَلَّكْنَاكُمْ وَالْخَوْلُ: مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْعَبِيدِ وَالنَّعَمِ .
(وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أَيْ خَلْفَكُمْ.
(وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) أَيِ الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ وَجَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ الْأَصْنَامُ شُرَكَاءُ اللَّهِ وَشُفَعَاؤُنَا عِنْدَهُ.
(لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي: لَقَدْ تَقَطَّعَ الْوَصْلُ بَيْنَكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَقَدْ تَقَطَّعَ الْأَمْرُ بَيْنَكُمْ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ.
(وَضَلَّ عَنْكُمْ) أَيْ ذَهَبَ (مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أَيْ تَكْذِبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا “.
"تفسير القرطبي" (7/ 42) .
وقال السعدي رحمه الله :
" (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) أي: بلا مال، ولا أهل، ولا عشيرة، ما معهم إلا الأعمال، التي عملوها، والمكاسب في الخير والشر، التي كسبوها " .
انتهى من "تفسير السعدي" (ص 479)
وهذه الآية لها نظائر في القرآن الكريم ، كقوله تعالى في سورة الكهف : (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا) الكهف/ 48 .
وكقوله تعالى : (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) الأنبياء/ 104
وقد روى البخاري (349) ، ومسلم (2860) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، ثُمَّ قَرَأَ: ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) .
ثانيا :
وأما قول من يقول : إن النساء يأتين يوم القيامة ذكرانا ، لأن أول ما خلق الله كان آدم ، وهو ذكر ، والله يقول : (لَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ): فهو قول غريب لم يقل به أحد من أهل العلم أو الفهم في دين الله ، وإنما هو من تخرصات المتخرصين .
وقد أجمع المسلمون على أن الله تعالى يبعث الخلق جميعا ، فيدخل مؤمنهم الجنة ، ذكرانا وإناثا ، ويدخل كافرهم النار ، ذكرانا وإناثا .
قال تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة/ 72 .
وقال عز وجل : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) الأحزاب/ 35 .
وليس هذا في الجنة فحسب ، كما قد يظن الجاهل ، بل حتى كذلك في موقف الحشر والحساب ، قال عز وجل : ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ)الحديد /12-13.
روى البخاري (6527) ، ومسلم (2859) عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا) قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ فَقَالَ: (الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ) .
ولفظ مسلم : (يَا عَائِشَةُ الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) .
فهذا دليل صريح صحيح على أن الناس يبعثون يوم القيامة على حالتهم التي كانوا عليها في الدنيا : ذكرانا وإناثا .
والنصيحة لك الحرص على ما ينفعك من قراء تفسير مختصر للقرآن الكريم ، مثل "التفسير الميسر" ، أو " مختصر التفسير" الصادر عن مركز تفسير ، ثم بعدهما : "تفسر السعدي" .
مع البعد عن تتبع غرائب المسائل ، وشواذ الأقوال فإنها تضيع الأعمار ولا تنفع الإنسان.
يسر الله أمرك ، وأصلح شأنك ، ووفقك لكل خير .
والله أعلم .
الاسلام سؤال وجواب
.............