الإمام السيوطي: عصره وبيئته ووظائفه
أ. د. محمد جبر الألفي
عصر الإمام السيوطي:
وُلد السيوطي بالقاهرة في مستهلِّ رجب سنة 849هـ[1] الموافق 3 من أكتوبر 1445م[2]، وتوفِّي رحمه الله في 19 من جمادى الأولى سنة 911هـ[3]، الموافق 18 من أكتوبر 1505م[4]، فكانت حياتُه في النصف الثاني من القرن التاسعِ والعقدِ الأول من القرنِ العاشر الهجري؛ حيث كانت مصر قِبْلَةَ الأنظار بعد أن صارت مقرًّا للخلافة العباسية التي سقطَت على أيدي التَّتار في بغداد، وجرى التنافُس بين سلاطين المماليك في إقامةِ البناء الفكري؛ فأنشأوا المدارسَ والمكتبات وكرَّموا الشيوخَ والعلماء والقُضاة، وأخذوا بأيدي الطلاب، وعقدوا في قصورهم حلقاتِ العلم، ورتَّبوا للأساتذة والمعيدين والمؤلِّفين والطلاب الأجورَ والمرتَّبات وقدَّموا لهم المِنَح والهدايا، فنشطَت الحركةُ الفكرية وواصلَت طريقها بمعزلٍ عمَّا كان يعتري البلاد في فتراتٍ كثيرة من الفوضى السياسية التي كانت تصاحب خَلْع السلاطين وعَزْل الوُلاة[5].
بيئته:
وكانت نشأة السيوطي في بيئةٍ علميَّة فاضلة؛ فوالده الإمام العلاَّمة كمال الدين السيوطي، تولَّى قضاء أسيوط، ثم قَدم القاهرةَ فأخذ العلمَ عن مشاهير عصره؛ مثل العلامة القاياتي والشيخ باكير، والحافظِ ابن حجَر والشيخ محمد الجيلاني والشيخ عز الدين القدسي.
ولما أُجيز بالإفتاء والتدريس أفتى ودرَّس وناب في الحُكم عن جماعة، وولِيَ درس الفقه بالجامع الشيخوني، وخطَب بالجامع الطولوني، وأَمَّ بالخليفة المستكفِي بالله، وكان له عدد من التصانيف، وقد توفِّي سنة 855هـ[6].
وكان الشيخ كمال الدين يتوسَّم في وليده الخيرَ ويأمل في أن يُواصل المسيرةَ، فكان يحمله إلى الصالحين يبرِّكون عليه، ويصحبه وهو طِفل إلى مجالسِ العلماء، وأسند وصايتَه إلى جماعةٍ؛ منهم العلامة كمال الدين بن الهمام، الذي أحسن رعايته ولحظه بنظرِه[7]، فحفظ القرآنَ العظيم وله من العمر دون ثماني سنين[8]، "ثم تفرَّغ للمتونِ التي كان ينبغي حفظُها قبل الالتحاقِ بالمدارس النظامية؛ فحفظ العمدةَ[9] ومنهاج الفقه[10] والأصول[11] وألفية ابن مالك[12]"[13].
اشتغاله بالعلم:
وفي مستهلِّ سنة أربعٍ وستين شرع في الاشتغالِ بالعلم، فاختار جماعةً من مشاهير علماء عصره يتلقَّى عن كلٍّ منهم ما نبغ فيه من العلوم والفنون.
فلازم في الفقه: شيخَ الإسلام علم الدين البلقيني إلى أن مات، فلازم والده حتى مات، فلزم شيخَ الإسلام شرف الدين المناوي، وأخذ الفرائض: عن العلامة فَرَضِي زمانِه الشيخ شهاب الدين الشارمساحي، ودرس الحديثَ والعربية: على الشيخ الإمام العلامة تقي الدين الشمني الحنفي[14]، ولزم في التفسير والأصول والعربية والمعاني وغيرها: الشيخ العلامة محيي الدين الكافيجي، وحضر عند الشيخ سيف الدين الحنفي دروسًا عديدة في الكشَّاف والتوضيح وحاشيته عليه، وتلخيص المفتاح والعضد[15].
ولم يكتف السيوطيُّ بالأخذ عن علماء مصر، بل سافر إلى بلادِ الشام والحجازِ واليمن والهند والمغرب والتكرور[16].
ويبدو أن السيوطيَّ بعد أن استخرجَ ما في جَعْبَةِ علماء عصره، قرَّر أن يكتفي بما سمعه منهم، ليتفرَّغ للاطِّلاع بنفسه على أمَّهات الكتب، ويُعمل فكرَه فيها بالاختصار أو الشرح أو التعليق[17]، فانكبَّ على خزائن الكتب ينهلُ منها بهمَّةٍ عالية وعقليَّة ناقدة وبصيرة نافذة، ولعل أهم هذه الخزائن التي أفادَ منها السيوطيُّ: المكتبة المحمودية[18] التي أُلحقَت بالمدرسة المحمودية التي أنشاها الأمير جمال الدين الأستادار سنة 797 هـ، وأودَعَ بها نفائسَ الكتب، وألَّف السيوطي فيها: "بَذْل المجهود لخزانة محمود"[19].
وظائفه:
بعد أن أُجيز السيوطيُّ بالتدريس، ثم بالإفتاء شَرَع في التصنيف سنة 866 هـ[20]، وأفتَى من مستهلِّ سَنة 871 هـ[21]، وعقد إملاء الحديث من مستهلِّ سنة 872 هـ[22]، ودرَّس بجامع ابنِ طولون[23]، وبالشيخونية[24]، وتولَّى مشيخةَ الصوفية بتربة برقوق[25]، واستقرَّ في مشيخة البيبرسية بعد الجلال البكري[26]، وفي سنة 902 هـ عيَّنَه الخليفةُ المتوكِّل قاضيًا على القُضاة في سائرِ ممالك الإسلام، يولِّي منهم من يشاء ويعزِل من يشاء، ولكنَّ القضاةَ اعترضوا على إنشاء هذه الوظيفة، وأقنعوا الخليفةَ بالعدول عنها[27]، فاعتزل السيوطيُّ الحياةَ العامَّة، واعتكف في منزله بجزيرةِ الروضة حتى مات[28].
[1] السيوطي: "حسن المحاضرة"، بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الحلبي 1967 جـ 1 ص 336.
[2] دائرة المعارف الإسلامية، المجلد 13، ص 27.
[3] ابن العماد: "شذرات الذهب في أخبار من ذهب"، القاهرة 1351هـ جـ 8 ص 55.
[4] في دائرة المعارف الإسلامية، مجلد 13 ص 27: "وتوفي السيوطي في 18 جمادى الأولى سنة 911 هـ (17 أكتوبر سنة 1505م)".
[5] انظر في كل ذلك: سعيد عاشور: "المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك"، دار النهضة العربية، القاهرة 1962.
[6] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 441/ 442.
[7] نجم الدين الغزي: "الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة"، بيروت 1945، جـ ص 226.
[8] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 336.
[9] "عمدة الأحكام"؛ للإمام الحافظ المقدسي، طبع بشرحٍ لابن دقيق العيد يسمَّى: "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام"، مطبعة السنة المحمدية 1374 هـ 1955م.
[10] "المنهاج، في فقه الشافعية"؛ للنووي، طبع عدة طبعات، وترجم إلى الفرنسية، وقام بشرحه والتعليق عليه وتخريج أحاديثه وإعراب مشكله عددٌ كبير من علماء المذهب.
[11] "منهاج الأصول"؛ للقاضي البيضاوي، شرحه جمعٌ من العلماء، وطُبع مع شرحه: "نهايةُ السول"؛ للإسنوي، و"سلَّم الوصول"؛ للشيخ بخيت بالمطبعة السلفية 1343 هـ.
[12] "ألفية ابن مالك"، في النحو، وهي وشروحها المطبوعة أشهر من أن تعرف.
[13] السيوطي: "حسن المحاضرة" جـ 1 ص 336.
[14] في حسن المحاضرة، جـ 1 ص 337: "تقي الدين الشلبي" والتصحيح من نفس المرجع: ص 474.
[15] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 336 - 338.
[16] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 338، وقد ذكر في ص 339: أن عدَّة شيوخه في الرواية سماعًا وإجازةً نحو مائة وخمسين، أوردهم في معجم الشيوخ الكبير: "حاطب ليل وجارف سيل"، وفي المعجم الصغير: "الملتقى"، نفس المرجع: ص 344.
[17] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 339.
[18] السخاوي: "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع"، القاهرة 1353 هـ وما بعدها جـ 4 ص 66.
[19] نشر بتحقيق فؤاد السيد، مجلة معهد المخطوطات العربية، م 4، ج 1، مايو 1958.
[20] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 337/ 338.
[21] السيوطي: "حسن المحاضرة"، جـ 1 ص 338.
[22] نفس المرجع السابق، وكان إملاء الحديث قد انقطع بمصر بعد وفاة الحافظ ابن حجر.
[23] السخاوي: "الضوء اللامع"، جـ 4 ص 66 - 69.
[24] السخاوي: "الضوء اللامع"، جـ 4 ص 66 - 69.
[25] السخاوي: "الضوء اللامع"، جـ 4 ص 66 - 69.
[26] السخاوي: "الضوء اللامع"، جـ 4 ص 66 - 69.
[27] ابن إياس: "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، تحقيق محمد مصطفى زيادة، القاهرة 1404 هـ 1984 م، جـ 2 ص 307.
[28] ابن العماد: "شذرات الذهب"، جـ 8 ص 53.