اللسان وأثره الإيجابي أو السلبي على صاحبه
محمد عزت السعيد
ليس من جِرْم (عضْو) صغير الحَجم، عظيم الأثر، خطيرَ الفِعل، كبير الضرر أو النفع من اللِّسان، هو تُرجمان القَلب، ورسولُ المعاني والمشَاعر، عليه يقاسُ المرء ويُوزَن، فيقدَّر ويُكْرم، أو يمتهَن ويحتَقر، يقُود إلى كلِّ خير ونفْعٍ، أو يسُوق إلى كلِّ شَرِّ وضَرر، به تقَاد أُمَم إلى أعْلى الجنَّة، وبه تُسَاق أمَمٌ أخرى إلى الدَّرك الأسْفل من النَّار، ينْطق بالكلمة فترفعُه إلى أعْلى عليين، وينطِق بالأخرى فتهوي به في النَّار سِبعين خَريفًا.
هو من ناحية التشريح عضو عضلي موجود داخل الفم يرتبط بالفك عبر سبع عشرة عضلة تؤمن له حركته وعمله، وله من الأوصاف التشريحية ما يمكنه من التذوق ويساعده على البلع والمضغ، وإنك لتعجب كل العجب كيف أن هذا العضو على صغير حجمه ينقسم إلى أقسام أربعة، فطرفه الأمامي وثلثه الأول لتذوق الحلو من الطعام، وجانبيه لتذوق الحوامض منه، وطرفه الأمامي لتذوق الموالح، وطرفه الخلفي لتذوق المر منه، فما أعجب من سوى! وما أقدر من خلق!
وعليه يعتمد النُّطق والكلام، فهو أداة لنعْمة من أعظم النِّعم، وحاسَّة من أجلّ الحواس، وهو نافذة من نوافذ الإنسان على العَالَم الخارجي، وبدونه ينقطع حبل التواصل مع الآخرين، به يعبِّر عن مكنون صدره، وخفايا نفسه، فمن لا لسان له، فهو الأبكم، الذي لا يملك نطقًا ولا بيانًا، ولعظيم شأنه، وجليل أثره، وكبير نفعه عبَّر به القرآن الكريم عن معانٍ عدة، وأفكار متنوعة، فهو اللغة وهو الثَّناء الجميل وهو الدُّعاء، وقد ذُكر اللسان في القرآن على اختلاف الصِّيغ في خمسة وعشرين موضعًا، ومنها على سبيل المثال قوله تعالى، وَهَ?ذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ???? النحل? فصار شرفًا لأمة العرب أن يتنزل القرآن بلسانهم، وتكتب آياته بلغتهم، ولذا فقد سموا مجامع مفرداتهم، ومخازن كلامِهم، وأعظمَ معاجم لغتهم بلسان العرب.
ولست – كما أسلفت - بصدد تفاصيل أكثر عن دور اللسان من الناحية الوظيفية تذوقًا أو بلعًا أو مضغًا، ولكننا بصدد الحديث عن كونه أداة لكل خير، مفتاحًا لكل نعيم، كما أنه وسيلة لكل شر، وسبيلاً لكل جحيم، يقرأ به الإنسان القرآن أو يذكر الله به ويرطبه به فينال الخير الكثير، فعن عبد الله بن بسر أنَّ رجلًا قال يا رسولَ اللهِ إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به قال : لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذكرِ اللهِ" ويتحدث به إلى الآخرين ويثني به الثناء الجميل، يوضح به الحق، ويطلبُ به الخير، ويُفصح به عن مشَاعر الحبِّ، وجميلِ التقدير، يتودَّد به إلى أهله، ويربي به ولَده، ويعلِّم به الخير، ويكفّ به ألوان الشر، يقول به الحق وينطِقه، ويدفعُ به الزّور والظلم والبهتان والإفْك، فهو مَنجَاة مُنجية، وهو مَهْلَكَة مُهْلِكة؛ وربَّ كلمة أنجت صَاحبها من هلاك محتم، ورب كلمة أوردت صاحبها الموارد المهالك، وقد قيل من قبل: «مقْتَلُ الرَّجُلِ بِيْنَ فكَّيِه». وقالوا: "لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام تفكَّر، فإن كان له قال، وإن كان عليه سكت، وقلبُ الجاهل من وراء لسانه، يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه"
بل إنه هبه الله لأصفيائه من المرسلين والنبين، فقد منَّ الله على أنبيائه به، قال تعالى: {"ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليًا} " لأن الثناء يكون باللسان، ومن هذا الثناء أننا نذكر الأنبياء عليهم -الصلاة والسلام- بالتوقير والتبجيل ونتخذهم قدوة حسنة.
بل إنه أحد المعايير التي جعلها موسى – عليه السلام – بين يدي دعائه لربه يوم أن رجا منه وزارة هارون، قال – تعالى - :" {وأخي هارون هو أفصح مني لسانًا} "
ولعل هذا يذكّرنا بدعاء إبراهيم عليه السلام " {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} " [الشعراء: 84] ، لم يدعُ عليه السلام، أن يكون له مطْلق الذِّكر، ولكنَّه قيده بلسان الصِّدق، فهو لا يبتغي الثناء إلا بالصِّدق، وفي هذا ملحظ لمن يطلب المدح أياً كان بحق أو بباطل.
واللسان كما أنه سبيل لكل خير، فهو طريق لكلِّ شر، وليس أدلَّ على ذلك من توجيه نبينا الكريم لمعاَذ – رضي الله عنه- قال: «قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أخبِرْني بعملٍ يُدخِلُني الجنَّةَ، ويباعدني منَ النَّارِ، قال: لقد سألتَ عن عظيمٍ، وإنَّهُ ليسيرٌ علَى من يسَّرَه اللهُ عليه، تعبدُ اللهَ ولا تشرِكُ بِه شيئًا، وتقيمُ الصَّلاةَ، وتؤتي الزَّكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيتَ، ثمَّ قالَ: ألا أدلُّكَ علَى أبوابِ الخيرِ؟ الصَّومُ جُنَّةٌ، والصَّدَقةُ تطفئُ الخطيئةَ، كَما يطفئُ الماءُ النَّارَ، وصلاةُ الرَّجلِ في جوفِ اللَّيلِ، ثمَّ تلا: تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ الْمَضَاجِعِ) حتَّى بَلغَ: يَعمَلونَ) ثمَّ قال: ألا أُخبِرُك بِرأسِ الأمرِ ، وعمودِه، وذِروَةِ سَنامِه؟ قلت: بلَى، يا رسولَ اللهِ، قال: رأسُ الأمرِ الإسلام، وعمودُه الصَّلاةُ، وذِروةُ سَنامِهِ الجِهادُ، ثمَّ قال: ألا أخبرُك بمِلاكِ ذلِك كلِّه؟ قلتُ: بلَى، يا نبيَّ اللهِ، فأخذَ بلسانِهِ، وقال: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِ علَى وجوهِهِم، أو علَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم» .
بل إنه كان الوسِيلة الفاعلة، والأداة الضاربة في حادث الإفك، حيث هلَك فيه من هلك، ونجَا فيه من نجَا، حيث يخبر ربنا – سبحانه وتعالى - في سورة النور عن أولئك الذين يتلقَّفون خبر السوء فيلوكونه بألسنتهم ويتحدثون به دون بيِّنة من الأمر، فيقول – جل شأنه - : « {إذ تَلَقَّوْنَهُ بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيِّنًا وهو عند الله عظيم} » [النور: 15]
فما أجملَه إن كانَ للخير، وما أسوأه إن كان للشّر، اللهم احفظ علينا ألسنتنا، واجعلها تلهَج بذكرك، وتسبح بحمدك، ولا تفتر عن شكرك، اللهم آمين