هل أنت معاقب؟
هشام محمد سعيد قربان
يا عزيزي القارئ المبجل، لا تقلق ولا تَخف من هذا العنوان؛ فقائله عبدٌ مذنب فقير ومقصِّر، ويحب أن يكون مبشِّرًا لا منفرًا، إنما هي تذكِرة رَقيقة ومؤدبة من محبٍّ ومشفق، ومناسبتها حاضِرة وواضحة؛ كما لا يخفى شريف علمكم، فلقد حلَّ بساحتنا ضَيف عزيز، هو موسم من مواسم الطَّاعات والقربات، وزمن شَريف وفاضِل، ترِقُّ فيه القلوب، فتنيب وتتوب، وتؤوب لعلَّام الغيوب.
إنَّ الحديث المنضبِط بالحكمة عن عقوبة المعاصي لا يتعارَض مع سؤال رَحمة أرحم الرَّاحمين، فهو - تقدَّس وعزَّ في علاه - مَن دعا الموحِّدين المسرفين ألَّا يقنطوا من رحمته، وأخبرنا بأنَّ رحمته سبقَت غضبه، وأنه يمدُّ يده بالليل ليَتوب مسيءُ النَّهار، ويمدها بالنهار ليتوب مُسيء الليل، فما أرحمه من ربٍّ! ولا يهلك على ربِّنا الرحيم الغفور والتوَّاب الكريم، إلَّا مُعرِضٌ محروم، ومتكبِّرٌ هالك.
لعلَّ البعض يستغرب السؤالَ في العنوان، ويرى أنَّ من تدركه بعضُ عقوبة الله لا مَحالة يدري بها، ويحسُّ أثرها، لكن صاحبنا نَسي كيف تُسكِر الغفلة المتلبسَ بها، ونسيان من نسي ربَّه لنفسه ومصالحها، فقد تَخفى العقوبة - كما أسلفنا - تارة بسبَب الجهل والغفلة، وتارة بسبب الكِبر والهوى، وما حال الأخسرين أعمالًا في أواخر سورة الكهف بخفيٍّ ولا مجهول، ومن رحمة الله التي لا تَخفى بهؤلاء الضالِّين الغافلين - ونحن منهم - إرسالُ الرسل وأتباعهم من العلماء الوعَّاظ والناصحين.
أنقل لكم في سِياق محاولة الإجابة على سؤال البَحث قصَّةً مؤثِّرة من أخبار من قبلنا، ذات مغزًى وعبرة، أشتمُّ في أعطافها عبيرَ الوحي والحكمة، وأكرِّر ما قرَّرتُ آنفًا أنني مبشِّر نفسي وغيري بسعة رحمة الله، وأدعو ربي وأسأله أن يبصِّرنا بحالنا، وينقذنا من غَفلتنا، ومن أجمل صوَر الرحمة تنبيه الواقِعِ في شَرَك العقوبة وهو غافل واهم.
نقل العلَّامة ابن الجوزي رحمه الله في مصنَّفه المشهور: "صيد الخاطر" قصَّةً من أخبار مَن قبلنا، تقصُّ حوارًا بين الله وعبدٍ من عبيده:
العبد مخاطبًا اللهَ عزَّ وجل:
• يا ربي، كم أعصيك وأنت لا تعاقبني!
الله مجيبًا عبده السائل:
• يا عبدي، كم أعاقبك وأنت لا تدري!
العبد يخاطب الله مستغربًا:
• يا ربي، كيف تعاقبني وأنا لا أدري؟
الله يجيب سؤالَ عبده:
• ألم أحرِمْك لذَّة مناجاتي؟!
تبيِّن القصَّةُ علامةً ظاهرة من علامات العقوبة الخفيَّة، يحتاجها ولا يستغني عنها كلُّ مَن يحرص على تفقُّد صحَّة قلبه وتحسس إيمانه في كلِّ حين، وخصوصًا في هذا الموسم الفاضل.
إنَّ هذه العلامة على عقوبة الله الخفيَّة للعبد هي الحرمان من لذَّة وبركة مناجاة العبد لربه، والحرمان من اللذَّة القلبيَّة للعبادة والطاعة؛ بحيث يحرم المصلِّي من لذَّة الصلاة، وانشراحِ الصدر، والأنس بالله وقربه؛ فلا يجِد حلاوةً في ذِكره وورده.
وقد تحرم الصَّائمَ ذنوبُه من اللذَّة والفرحة التي يَشهدها حوله وهي تخالِط روح غيره وكيانهم، وكذا قد يُعاقب العاصي بحرمانه من لذَّةِ ومتاع وبركة كثير من العبادات، فتصبح جوفاء خاوية من لذَّة التعبُّد وشرف الخشوع.
إن الذُّنوب تورِث القلوب قسوةً ووحشة حتى تَصدأ وتظلم، ولقد حذَّرنا ربُّنا من الرَّان الذي يغشى القلوب، ووصف لنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم كيف تنكت المعاصي والغفلة نكاتًا سوداء في القلب، حتى يَنقلب حاله، ولا تنفعه موعظة، ويبتعد عن مواطن الرَّحمة.
ألا ما أحرانا وما أحوجنا يا أحبَّتي في هذه الأيام والليالي الفاضلة إلى تفقُّد قلوبنا، والبحث عن لذَّة العبادة فيها وأثرها في حياتنا! ولنسائل أنفسنا:
• لِمَ يخشع غيرنا، ولا نخشع؟
• لم يجد غيرنا لذَّةً في صلاته وصومه ونسكه، ولا نجد مثلها؟
• لم لا تشرِق وجوهنا بأنوار البشر والطاعة؟
• لم لا نُحِسُّ السكينة والراحة في أنفسنا؟
هل نحن مُعاقبون بمثل تلك العقوبة الخفيَّة؛ بالحرمان من لذَّة المناجاة وراحة الطاعة؟
فمتى نفيق؟
ألا تستحثنا عجَلة هذه الأيام الفاضلة وسرعة انقضائها مقارنة بغيرها؟
إنَّ المَخرج من هذا كله، وعلاج القلب في كلِّ حين، ودرب النأي به عن العقوبة - هو الذِّكر والاستغفار والتوبة، والدعاء في مواطنه، والإلحاح به، وصِدق اللجأ إلى الله، ومحاسبة النَّفس، ومحو السيئات بإتباعها الحسنات، وصدقةُ السرِّ، ومسحُ رأس اليتيم، وفضائل العبادات، والانطراح والتذلُّل بين يديه، وتذكُّر ما سلف من جهلنا وتقصيرنا، والندم والتحسر عليه، والخوف من مآله، واحتقار العمل أمام جنابِ الله، ولومُ النَّفس، وتجنُّب تزكيتها، وحسن الظن به، ومصاحبة الأخيار؛ فهم القوم لا يَشقى بهم جليسهم، والمرء مع مَن أحبَّ، وهو أرحم الراحمين.