من مستويات النص الأدبي: الوضوح
د. سعد الدين إبراهيم المصطفى
الوُضُوحُ هُوَ اختِيارُ المُفرداتِ البيِّنةِ الدَّالَّةِ علَى المَقصُودِ، والعُدولُ عن كَثرةِ العَواملِ فِي الكَلامِ، وفِي الجُملةِ الواحِدةِ، وتحاشِي استِعمالِ الضَّمائِرِ بكثرةٍ ممَّا يُؤدِّي إلَى التِباسٍ فِي المعانِي، وسَبكُ الجُملِ سَبكاً جليَّاً بِدونِ تَعقيدٍ ولَبْسٍ، والابتِعادُ عنِ الجملِ الاعتراضيَّةِ.
فاللُّغةُ ظاهِرةٌ اجتِماعِيَّةٌ، ولكِنَّ استِخدامَها الحقيقيَّ لا يَتِمُّ إلا بينَ الفَردِ والآخرِينَ، وقد عُنِيَ عِلمُ اللغةِ ببيانِ العلاقاتِ بينَ اللغةِ باعتِبارِها ظاهِرةً اجتِماعِيَّةً، واستِخدامِ الأفرادِ لِهذِهِ اللغةِ. فاللغةُ رُمُوزٌ صَوتِيَّةٌ مُتَّفقٌ علَيها في البيئةِ اللغويَّةِ الواحدةِ، وهيَ حَصِيلةُ الاستِخدامِ المتكرِّرِ لِهذِهِ الرُّموزِ الصَّوتِيَّةِ التي تُؤدِّي المعانيَ المختَلِفةَ. أمَّا الكَلامُ فَهُوَ الكَيفيَّةُ الفَردِيَّةُ لِلاستِخدامِ اللُّغَويِّ.
والمَقصُودَ بِوضوحِ النَّصِّ هو الأسلُوبُ الذي يَضمَنُ سُهولةَ وُصُولِ الفِكرةِ دُونَ أنْ يُؤثِّرَ ذلِكَ علَى بناءِ النصِّ الأدبِيِّ، ويَخرُجُ بِهِ مِن لُغةِ الكِتابةِ الأدبِيَّةِ إلى لُغةِ الكلامِ العادِيِّ المتداولِ، حيثُ إنَّ صِياغةَ النصِّ الأدبيِّ بصورةٍ مُعيَّنةٍ هِيَ التي تُكوِّنُ الإبداعَ الأدبيَّ فيهِ، وفي مُقدِّمةِ تِلكَ المقوِّماتِ حالةُ التَّفاعُلُ التي يُثيرُها النصُّ في ذِهنِ القارئِ، فلِكي تتحقَّقَ حالَةُ التَّفاعُلِ هذِهِ بِالصُّورةِ المطلُوبةِ علَى الكاتِبِ أنْ يُتيحَ لِلقارئِ فُرصةَ المشاركةِ فِي تَكوينِ الفِكرةِ، واكتِشافِ المعانِي والصُّورةِ المختفيةِ وَراءَ النصِّ. فالمطلوبُ من وُضُوحِ النصِّ أنْ يُفهَمَ، وأنْ يكونَ سَهلَ الأسلوبِ، واضِحَ التراكيبِ، فَصيحَ الكَلامِ، سلِسَ العباراتِ.
ومن الوضُوحِ في النصِّ الأدبِيِّ أنْ تَحكمَهُ علاقاتٌ مَنطِقيَّةٌ بحيثُ تُصبِحُ نتائِجُ ومقدماتٌ مرتَبِطةٌ بِبعضِها بعضاً، فالنصُّ الأدبِيُّ كأنَّه عِقدٌ ممتدٌ لا نَشازَ فيهِ، فقد أُحكِمَتْ أفكارُهُ، وصُفِّيَتْ ألفاظُهُ، وتَأتَّى فِيهِ الكاتِبُ ما وَسِعَهُ التأنِّي، غيرَ مُتزيِّدٍ ولا سَهِبٍ، إلا فِي مَوضِعٍ يحتاجُ إلَى الإسهابِ، فيكونُ ضَرباً مِن الضَّرورةِ، أو التَّبيينِ.
فالنَّصُّ الأدبِيُّ الواضِحُ هو الَّذِي لا يكتفِي بِوصفِ أحاسيسِ الأديبِ إزاءَ الآثارِ الأدبيَّة، بل يُحاوِلُ أنْ يُعلِّلَ هذِهِ الأحاسِيسَ وأنْ يَنتَقِلَ مِن التَّذوُّقِ إلَى التَّعليلِ انتِقالاً يُحلِّلُ في تضاعِيفِهِ الأثرَ الأدبيَّ تحليلاً يُوضِّحُ عناصِرَ جمالِهِ وتأثيرِهِ في النُّفُوسِ. وإذا كانَ التذوُّقُ هُو الأساسُ الذي يَقُومُ علَيهِ النصُّ الأدبِيُّ فإنَّ التَّحلِيلَ هُوَ البِناءُ كلُّهُ أو قُلْ هو البِناءُ، فَكُلُّ ظاهِرةٍ أدبيَّةٍ، أو قَصيدةٍ، أو عَملٍ يُعدُّ بِناء مُستَقِلاً بِذاتِهِ، وهذا ممَّا يَنبَغِي أنْ يَقُومَ علَيه البحثُ الأدبيُّ الذي يُشترَطُ أنْ يَكُونَ واضِحاً، وتُعرَفَ دَقائِقُهُ مَعرِفةً تامَّة.
فالوُضُوحُ فِي النصِّ الأدبِيِّ هو الَّذِي يُحيلُهُ إلَى عَملٍ مُتكامِلٍ، وبِناءٍ مُتناسِقٍ، يَسُودُ بينَ أجزائِهِ وفِقراتِهِ المنطِقُ والروابِطُ الذِّهنيَّةُ المُحكَمةُ، كما تَتَوفَّرُ بينَ أجزائِهِ دِقَّةُ العرضِ، فيكونُ لَهُ بدءٌ واضحٌ، ونهايَةٌ واضِحةٌ، فالتَّنسيقُ بينَ أجزاءِ الكَلامِ ضَرورةٌ، كما أنَّ إتقانَ أدواتِ الرَّبطِ بينَ فِقراتِ النصِّ تزِيدُهُ وُضُوحاً، فَكُلُّ كَلِمةٍ وقَولٍ يَكونُ في دوائِرِهِ بِحيثُ لا تَخرُجُ عنه بِحالٍ، وتَتَساوقُ النَّتائِجُ بحيثُ يُسلَّمُ إلَيها دائِماً النصُّ الَّذِي يَسبِقُها، وكأنَّه تَنقادُ إليهِ بأزمَّتِها.
والوُضُوحُ فِي النَّصِّ الأدبِيِّ هو طرِيقُ القِراءةِ، قراءةِ النُّصوصِ الأدبيَّةِ القَديمةِ، وما نُسِجَ علَى نَمطِها فِي العُصُورِ المُختلِفةِ، قِراءةً واعِيةً، معَ حِفظِ الكثيرِ والكثيرِ من تِلكَ النُّصوصِ، وعلَى رَأسِ هذِهِ النُّصوصِ نَصُّ القُرآنِ الكَريمِ، وفِي هذِهِ الحالةِ تتكوَّنُ الملَكةُ القادِرةُ علَى مُحاكاةِ هذِهِ النُّصوصِ، والنَّسجِ علَى مِنوالِها.
ولَقَد حَثَّ ابنُ خَلدُون علَى تعلُّمِ النصِّ الأدبِيِّ الواَضِحِ، لأنَّهُ بِدورِهِ يَصِلُ بِنا إلى تَعلُّمِ قواعِدِ النَّحو، فَقَالَ: " ووَجهُ التَّعلِيمِ لِمَنْ يَبتَغِي هذِهِ الملَكةَ ويَرُومُ تَحصِيلَها، أنْ يأخُذَ نَفسَهُ بِحفظِ كلامِهِم القَديمِ، الجارِي علَى أساليبِهِم، مِن القُرآنِ والحديثِ، وكَلامِ السَّلَفِ ومخاطَباتِ فُحولِ العَربِ في أسجاعِهِم وأشعارِهِم، وكلِماتِ المولَّدينَ أيضاً فِي سائِرِ فنُونِهِم، حتَّى يَتَنَزَّلَ لِكثرةِ حِفظِهِ لِكلامِهِم من المنظُومِ والمنثُورِ، منزِلةَ مَنْ عاشَ بينَهُم، ولُقِّنَ العِبارةَ مِنهُم "[1].
فالنَّصُّ الأدبِيُّ الواضِحُ هُوَ الَّذِي يَتَحقَّقُ فيهِ انتِقاءُ الأَلفاظِ الفَصِيحةِ والمفرداتِ ِ الكريمةِ، وإصابةُ المعانِي، وتَنقِيحُ العباراتِ مع جَودةِ مقاطِعِ الكَلامِ وحُسنِ صَوغِهِ وتألِيفِهِ، ومراعاةُ الفَصلِ والوصلِ، واختيارُ ما لانَ مِن الكلامِ وسَهُلَ.
والوُضُوحُ في النصِّ الأدبِيِّ وُضِعَ لِتزيينِ الكَلامِ وتنميقِهِ لِغرضِ أنْ يَتمكَّنَ البليغُ من ذِهنِ السَّامِعِ بِما يُورِدُهُ من رصفٍ مُستَحسَنٍ فيحرِّكُ أَهواءَ النَّفسِ ويُثيرُ كامِنَ حركاتِها، والغرضُ من الوضُوحِ أنْ يكونَ أشدَّ اتِّصالاً بِالعَقلِ وأقربَ للإدراكِ، فيَستَطيعُ المتعلِّمُ إدراكَ قَواعِدِ النَّحو وتعلُّمِها.
[1] مقدمة ابن خلدون: عبدالرحمن بن محمد بن محمد (ت 808هـ) تحقيق: علي عبدالواحد وافي، دار نهضة مصر، الفجالة بالقاهرة، 1977م، ص487.