حكم هجر الفاسق المستتر بفسقه
أ.د. محمود عبدالعزيز يوسف حجاب
حكم هجر الفاسق المستتر بفسقه
أولاً: يندب للمسلم إذا وقعت منه هفوة أو زلة أن يستر على نفسه ويتوب بينه وبين الله عز وجل، وأن لا يرفع أمره إلى السلطان، ولا يكشفه لأحد كائناً ما كان؛ لأن هذا من إشاعة الفاحشة التي توعد على فاعلها؛ ولأنه هتك لستر الله سبحانه وتعالى، ومجاهرة بالمعصية.[1]
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا هذه القاذورة، فمن ألم فليستتر بستر الله وليتب إلى الله، فإن من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله».[2]
ثانياً: اختلف الفقهاء في حكم هجر المستترين من أهل الفسق والمعصية وغير المجاهرين بما هم عليه؛ وكذلك أهل الأهواء والبدع المستترون ببدعتهم، على ثلاثة أقوال كالآتي:
القول الأول: يجب هجرهم؛ ليكفوا عنها. قال ابن حجر معلقاً على ترجمة البخاري - باب ما يجوز من الهجران لمن عصى: "فتبين هنا السبب المسوغ للهجر؛ هو لمن صدرت منه معصية؛ فيسوغ لمن اطلع عليها منه هجره عليها ليكف عنها".[3]
وقال أبو الحسين الفراء الحنبلي: "لا تختلف الرواية عن أحمد: في وجوب هجر أهل البدع وفساق الملة، وظاهر إطلاقه أنه لا فرق بين المجاهر وغيره في المبتدع الفاسق؛ قال: ولا فرق في ذلك بين ذي رحم والأجنبي إذا كان الحق لله تعالى؛ فأما إذا كان الحق لآدمي كالقذف والسب والغيبة وأخذ ماله غصباً ونحو ذلك نظر: فإن كان الهاجر والفاعل لذلك من أقاربه وأرحامه لم تجز هجرته؛ وإن كان غيره فهل تجوز هجرته أم لا؟ على روايتين".[4]
القول الثاني: لا يهجرون؛ حكاه القاضي أبو يعلى عن ظاهر كلام للإمام أحمد بن حنبل.[5]
القول الثالث: أن فاعل المنكر إن كان مستتراً بذلك وليس معلناً له؛ أنكر عليه سراً وستر عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة»[6]، إلا أن يتعدى ضرره، والمتعدي لا بد من كف عدوانه؛ وإذا نهاه المرء سراً فلم ينته، فعل ما ينكف به من هجر وغيره إذا كان ذلك أنفع في الدين؛ وهو قول تقي الدين ابن تيمية.[7]
قال الخلال في كتاب المجانبة: أبو عبد الله يهجر أهل المعاصي ومن قارف الأعمال الردية، أو تعدى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على معنى الإقامة عليه، أو الإضرار، وأما من سكر أو شرب أو فعل فعلاً من هذه الأشياء المحظورة، ثم لم يكاشف بها، ولم يلق فيها جلباب الحياء، فالكف عن أعراضهم، وعن المسلمين، والإمساك عن أعراضهم، وعن المسلمين أسلم. وكلام الشيخ موفق الدين يقتضي أن لا فرق بين الداعية إلى البدعة وغيره، وظاهره أنه إجماع السلف، وذكر غيره في عيادة المبتدع الداعية روايتين، وترك العيادة من الهجر، واعتبر الشيخ تقي الدين المصلحة، وذكر أيضاً أن المستتر بالمنكر ينكر عليه، ويستر عليه، فإن لم ينته فعل ما ينكف به إذا كان أنفع في الدين، وإن المظهر للمنكر يجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك. وينبغي لأهل الخير أن يهجروه ميتاً إذا كان فيه كف لأمثاله فيتركون تشييع جنازته.[8]
وفي الحديث: «إن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها وإذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة».[9]
وجاء في الأثر: «من أذنب سراً فليتب سراً ومن أذنب علانية فليتب علانية».[10]
[1] راجع: دليل الفالحين 2 / 29، الآداب الشرعية 1 / 267، الأذكار للإمام النووي ص 567، جواهر الإكليل 2 / 289، مغني المحتاج 4 / 150؛ الموسوعة الفقهية 24/ 170.
[2] أخرجه الحاكم وصححه؛ ووافقه الذهبي (4 / 244).
[3] راجع: فتح الباري 10 / 497.
[4] راجع: الآداب الشرعية 1 / 238، غذاء الألباب 9 / 259؛ الموسوعة الفقهية 42 / 175.
[5]راجع: الآداب الشرعية 1 / 233، غذاء الألباب 1 / 260.
[6] متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب؛ باب: لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه برقم (2442) 3 / 128، ومسلم في البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم برقم (2580) 4/ 1996.
[7] راجع: الفتاوى الكبرى لابن تيمية3/ 434، مجموع فتاوى ابن تيمية 28/ 217؛ الموسوعة الفقهية42/ 176
[8] راجع: مجموع فتاوى ابن تيمية 28/ 217؛ غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب للسفاريني 1 / 260؛ الآداب الشرعية والمصالح المرعية لابن مفلح 1 / 333.
[9] أورده شيخ الإسلام في فتاواه ولم أقف على صحته.راجع: مجموع الفتاوى 15/ 286.
[10] راجع: مجموع الفتاوى 15/ 286.
الالوكة
................