القاتل الذي حيرني أمره
مصطفى محمود شيخون
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد:
فطالما حيَّرني أمرُ هذا القاتل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في القصة المعروفة بـ(قاتل المائة نفس)، والقصة رواها الإمام مسلم في صحيحه؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتَل تسعة وتسعين نفسًا، فسَأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا؛ فقتَلَه فكمَّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحُول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإنَّ بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء.
فانطلق حتى إذا نَصَفَ الطريقَ أتاه الموت، فاختصمَتْ فيه ملائكةُ الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملَكٌ في صورة آدميٍّ، فجعلوه بينهم، فقال: قِيسوا ما بين الأرضَيْن، فإلى أيتهما كان أدنى، فهو له، فقاسُوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضَتْه ملائكة الرحمة)).
قال قتادة: فقال الحسن: ذُكِرَ لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره.
القصة لو لم يذكرها المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق إلا حقًّا، ولا يُبلِّغ إلا وحيًا عن ربه سبحانه، لَقُلنا: إن هذا خيال.
ولكن القصة لها أبعاد عجيبة في سياقها وكلماتها وأحداثها وأشخاصها، ولها فوائد كثيرة، ولكني سأتحدث عن نقطتين فقط:
النقطة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى كما أنه غفور رحيم، هو أيضًا حَكَم عدل، ولولا أن هذا القاتل - التائب - يستحق المغفرةَ لسببٍ ما، ما غفر الله له.
ولكن مَا الفرق بين (قاتل المائة نفس) وبين (قابيل) الذي قتل نفسًا واحدة؟!
﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [المائدة: 27 - 31].
(قاتل المائة نفس) يُمثل نَموذجًا، و(قابيل) يُمثل نَموذجًا؛ الأول نَموذج للنفس اللوَّامة التي تلوم صاحِبَها على فعل الشر أو عدم فعل الخير، والثاني نَموذج للنفس الأمَّارة بالسوء التي لا تتوب من قريب.
وكل واحد من البشر إما أن يكون الأقرب إلى (قاتل المائة نفس)؛ القاتل التائب، أو أقرب إلى (قابيل)؛ القاتل الخاسر.
فحينما تُذنب فتتوب، فأنت قريب من (قاتل المائة نفس) التائبِ المختوم له بالسعادة، وحينما تعصي وتتمادى في العصيان، وتُصِّر ولا ترجع وتتوب إلى الله، فأنت قريب من (قابيل) الخاسرِ المختوم له بالشقاوة.
النقطة الثانية: ذلك الرجل الذي نشأ في بيئة سيئة، أو مجتمع مليء بالمجرمين والفاسدين والقاتلين، كانت السبب وراء هذه الجرائم الـ 99 في حياته الماضية قبلَ أن يسأل الراهبَ ويقتله، وهي التي قادته إلى امتهان هذه المهنة البشعة، فالسبب هو المجتمع غير الناصح، واللامُبالي بهذه الجرائم؛ فلم ينصحه ناصح، ولم ينهَهُ مشفق، ولم يدعُهُ داعٍ، فبيئة المرء التي يعيش فيها لها أكبرُ الأثر على سلوكه وعلاقته بالله جل جلاله، فالإنسان كالشجرة؛ إذا نبتَتْ في أرض سوء أخرجت ثمرًا خبيثًا، وإن نبتت في أرض طيبة آتت أُكُلَها طيبًا بإذن الله.
وختامًا: أسأل الله تعالى أن ينفعنا جميعًا بما نقول، وبما نقرأ ونكتب، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل والنية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.