ذكر النعم مؤذن بثبوتها وبقائها واستقرارها، فذكرها وشكرها قيدها؛ فإن النعم قد تنتقل وتزول عن الناس إذا قابلها الناس بالإعراض والنسيان والكفران والجحود للمنعم المتفضل .
والله -تبارك وتعالى- في آيات كثيرة من كتابه يذكرنا بنعمه الظاهرة والباطنة، يذكر عموم الخلق بنعمه، كما في قوله :
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [الزخرف:12-14].
فهذه الفلك، السفن، والمراكب المتنوعة التي نركبها ونتنقل بها، وتحمل الأثقال من بلد إلى بلد، كل ذلك نعم مستفيضة يحتاج العبد أن يستحضر معها هذا المعنى، وأن يستعملها في طاعة الله تبارك وتعالى وما يقرب إليه، أو في أقل الأحوال أن لا يستعملها في مساخطة.
وقال تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].
وخاطب عيسى عليه السلام وهو نبي من أنبياء الله:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً... [المائدة:110].
فإذا كان نبي من الأنبياء يذكره الله بنعمته، فنحن من باب أولى.
كما ذكر الله تبارك وتعالى بني إسرائيل وهي أمة ممتدة اصطفاها الله -تبارك وتعالى- واجتباها في وقت من الأوقات على العالمين، ولكنهم ما قابلوا نعمته بالشكران، فأدى ذلك إلى زوالها عنهم وأورث الله تبارك وتعالى نعمة الكتاب والنبوة إلى هذه الأمة،
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32]، وهم أمة محمد ﷺ.
فالله يخاطبهم في مواضع من كتابه:
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:122].
كما خاطب أهل الإيمان:
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231].
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].
كان الناس في جهالة وعماية لا يدرون ما الكتاب ولا الإيمان، فبعث الله تبارك وتعالى إليهم أشرف رسول، وأنزل عليهم أعظم الكتب، وحباهم، واجتباهم، واصطفاهم على العالمين.
كما أنه -تبارك وتعالى- جمعهم بعد الشتات والفرقة والتطاحن والتناحر، فصاروا أمة واحدة ملتئمة يجتمعون على الحق، ويبذلون في سبيله النفوس والمهج والأموال، فزالت تلك العداوات والشحناء والحروب التي كانت تشرذمهم، كما قال الله -تبارك وتعالى:
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [المائدة:7].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة:11].
كما ذكرهم -تبارك وتعالى- بأن كثرهم بعد القلة:
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:9-11].
لما حاصرهم الأعداء من كل جانب في وقعة الأحزاب، ثم دفع الله عدوهم بلا جهد منهم، ولا قتال، وإنما أرسل عليهم ريحًا، وألقى في قلوبهم الرعب، فأزال عنهم العدو والمخاوف، وحصل ما حصل مما تعرفون، فهذا كله يذكرهم الله تبارك وتعالى به.
وهكذا الأنبياء -عليهم السلام- كانوا يذكرون أقوامهم بنعم الله تبارك وتعالى عليهم كما قال هود عليه السلام لقومه:
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف:69].
وقال صالح عليه السلام لقومه مذكرًا ومنبهًا على نعم الله تبارك وتعالى عليهم:
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74].
وقال شعيب عليه السلام :
وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ [الأعراف:86].
وقال موسى عليه السلام لقومه:
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [إبراهيم: 6].
وقال لهم:
يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:20]
فذكر النعم مطلب شرعي لابد من تحقيقه، وذلك يكون بالقلب باستحضار النعمة، وقيام شكرها في القلب للمنعم -تبارك وتعالى- وكذلك أن تذكر باللسان، أن يتكلم الإنسان، أن يذكر نعمة الله عليه فلا يجحد ذلك،
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، فيذكر من إنعام الله وإفضاله عليه ما يدل على شكره وامتنانه لهذا الإنعام والإفضال، ثم بعد ذلك يتلو هذا الذكر باللسان قيام الجوارح بوظائف العبودية، بالعمل بطاعة الله، والتقرب إليه بكل مستطاع.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار يا رحمن، اللهم بارِكْ لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
لفضيلة الشيخ : د / خالد بن عثمان السبت