حوار مع الأستاذ الدكتور مازن المبارك
د. محمد حسان الطيان
الأستاذ الدكتور مازن المبارك أحد أعلام العربيَّة المعاصرين، وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق، يمثِّل تاريخًا طويلاً في الجهاد في سبيل العربية وتحت رايتها؛ عِلمًا وتعليمًا، وتأليفًا وتحقيقًا، ومشاركةً فعَّالة في مختلف أوْجه النشاط المعرفي، وهو إلى هذا وذاك من أقدم كُتَّاب مجلة الوعي الإسلامي، فضلاً عمَّا قدَّم للمكتبة العربية من نفائس المصنَّفات والمُحقَّقات.
أجرى الحوار معه الدكتور محمد حسان الطيان، مُنسق مقرَّرات اللغة العربية في الجامعة العربية المفتوحة بالكويت، والعضو المراسل بمجمع اللغة العربية بدمشق، وكان ذلك في يوم الأحد 27 شعبان عام 1431 الموافق 8 آب من صيف عام 2010 في بيته الكائن بالمِزَّة بدمشق.
د. الطيان:
اسمح لي يا سيدي أن أستهلَّ هذا اللقاء بسؤالكم عن البدايات، أين كانت النشأةُ؟ وما تأثيرها في تكوينكم العلمي؟
د. المبارك:
كانت النشأة في بيت والدي الشيخ عبدالقادر المبارك، وهو أحد مؤسسي مجمع اللغة العربية بدمشق، وأحد أساطين اللغة وأعاجيبها ونوادرها في النصف الأوَّل من القرن العشرين، وقد توفِّي سنة 1945 وعُمري لا يتجاوز الخامسة عشرة، فتولَّى رعايتي وتعليمي أخي الشيخ محمد المبارك، وكان لهذه النشأة أثرٌ بالغ في إرشادي وتعليمي، كما أنَّ الأيام الأولى التي أدْرَكتُها، كان فيها عدد كبير من المعلمين الذين يَعُدُّون الطلاب أبناءَهم، فيُشرفون على تربيتهم، ويُولُونهم رعايتهم من جميع النواحي، وكان من لُطف الله بي أني أدركتُ نفرًا من هؤلاء المعلِّمين في كلِّ مرحلة من مراحل تعليمي، يعني مثلاً: الأستاذ الأفغاني درَّسني في المدرسة الإعدادية، ثم درَّسني في الجامعة، وكان يدور بي على الشُّعَب التي يُدرِّسها؛ لأقرأَ لهم النصَّ الذي يريد تدريسَهم إيَّاه، وهو يقول: انتبهوا على مخارج زميلكم مازن، فلفَت نظري إلى استمرار العناية بمخارج الحروف، وسبب إتقاني مخارجَ الحروف أنَّ والدي - رَحِمه الله - كان قد عيَّن لنا أستاذًا يُقرئنا القرآن فجر كلِّ يومٍ صيفًا وشتاءً، يأتي معه بعد صلاة الفجر، ونَجلس بين يديه واحدًا واحدًا، وواحدةً واحدةً، ذكورًا وإناثًا، كان شيخًا ضريرًا من حُفَّاظ القرآن ومُجَوِّديه، لكلٍّ منَّا صفحة واحدة في اليوم، من أخي محمد المبارك إلى أصغر إخوتي، وممن درَّسني في الجامعة شقيقي الأستاذ محمد المبارك، والأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا، والأستاذ الشيخ بهجت البيطار، والدكتور أمجد الطرابلسي، والأستاذ شفيق جبري، هؤلاء كلهم ممن نَعِمت بالتَّلمذة عليهم في الجامعة.
د. الطيان:
يقودني هذا السؤال إلى سؤال يتعلَّق بأعلام كبارٍ لَقِيتموهم، أو أخَذتم عنهم، راجيًا إيجاز انطباعاتكم عنهم، وقد اختَرت عشرة منهم، تاركًا لكم الخيار في الحديث عمَّن تشاؤون منهم.
1- الشاعر محمد البزم:
د. المبارك:
محمد البزم عرَفته وأنا صغير؛ لأنه كان زميلاً لوالدي، وكانا يَحضُران في بعض المجالسات والمذاكرات العلميَّة.
إذًا هو صديق الوالد؟
د. المبارك:
زميل وليس صديقًا؛ لأنني لَم أرَه في بيتنا، ولَم أرَ والدي في بيته، ولكنهما كانا يَذهبان معًا إلى كثيرٍ من الجلسات العلميَّة، كجلسة الأمير طاهر الجزائري - هذا غير الشيخ طاهر - في زقاق النقيب في حي العمارة، له جلسة أسبوعيَّة وهي جلسة مُذاكرة علميَّة، كثيرًا ما كان يَحضرها الأستاذ البزم.
وحدَثت بيني وبينه صِلة قويَّة، حين أوفَد أحد الأساتذة من ثانوية "جودت الهاشمي"، فكلَّف الأستاذ البزم تدريسنا الأدبَ في صفِّ الكفاءة، وكان آخر عهده بالتدريس، فكنتُ أُساعده في وضْع الدرجات التي يُمليها عليّ؛ لأنه كان قد قلَّ نظرُه، ويتعذَّر عليه الكتابة، فكان يسأل الطلاب، ويقدِّر العلامة، ويقول لي: ضَعْ لأخينا علامة كذا، فأضع له، وبعد مدة وجَدته في الطريق في حالة سيِّئة، فكتبتُ مقالة بعنوان: "كتاب مفتوح إلى وزير المعارف"، طلبتُ فيه إليه أن يُعيِّن أستاذنا البزم مُفتيًا لُغويًّا للإذاعة، بحيث يبقى في بيته؛ لعجزه عن السَّير والذَّهاب، والمذيع يتَّصل به هاتفيًّا؛ ليسأله عن الكلمات التي ستمرُّ في نشرة الأخبار، أو أن يقرأَ عليه نشرة الأخبار، وبذلك تكون الإذاعة أستاذًا لغويًّا لكل السامعين، ويكون مصدرها اللغوي ثقةً: هو الأستاذ محمد البزم.
الله أكبر، واللهِ إنها خطة عظيمة جدًّا، ما أحوجَنا اليوم إليها!
د. المبارك:
نحن اليوم أشدُّ حاجةً إليها، المهم أنه استدعاني حين قرَأ المقالة، فذهَبت مع ابنه إلى بيته، وكانت أوَّل مقابلة شخصيَّة خارجة عن نطاق الدرس، قال: ما دعاك إلى ما كتَبتَ؟ قلت له: إني رأيتُك في الطريق وأنت أستاذي فكتبتُها، قال: هل دفَع بك أحد إلى ذلك؟ قلت: لا، قال: أتعرف الصِّلة التي كانت بيني وبين أبيك؟ قلت: لا أعرف سوى شيءٍ واحد، قال: ما هو؟ قلت له: حين جِئتنا أستاذًا في صف الكفاءة في ثانوية جودت الهاشمي، ذهبتُ إلى والدي وقلتُ له: ذهَب أستاذ اللغة العربية وجاءنا أستاذ جديد، قال: من الذي جاءَكم؟ قلت له: اسمه محمد البزم، قال لي: يا مازن، أخْبِر زملاءَكَ أنَّ هذا عالِم؛ فحاولوا أن تستفيدوا منه ما استطعتُم، قال لي: أهكذا قال أبوك؟ قلت له: إي والله يا أستاذ، قال لي: هل تعلم ما كان بيني وبين أخيك؟ قلت له: أعلم أنَّك اعترضتَ على إحدى اللجان التي كان فيها ثلاثة أساتذة عادوا حديثًا من فرنسا، فجعلوهم مُفتِّشين، أو أساتذة للغة العربية، ووضَعوا اسْمك معهم، فرفَضتَ، وعدَدتَهم شُبانًا ناشئين، فاستجابَت الوزارة بحذف اثنين منهم، وأبْقَت أخي معك، فوافَقْتَ، هذا الذي أعْرِفه، قال: أنا أشكرك على ما كتبتَ، ولكني ما كنتُ أنتظر الوفاء من أحدٍ من هذه الأمة، وخصوصًا من هذه العائلة، قلت له يا أستاذ: هل جئتَ بي لتشكرني أو لتشتمني؟ فضَحِك وقال: لا تثريبَ عليك، ماذا تدرس؟ قلت له: أدرس في كلية الآداب، وسأتخصَّص في النحو، قال: إذا شئتَ أن تقرأ عليّ كتاب المغني، فإنك تستطيع أن تبدأ ذلك من الغد، قلت له: والله هذا شرف عظيم، وفُرصه سأغتنمُها، لكن اسمح لي أن أتأخَّر شهرًا؛ حتى أنتهيَ من امتحانات الإجازة - وكنت في السنة الرابعة في كلية الآداب، وأنا أُريد أن أنتهي من الكلية - قال: حسنًا، اتصل بعد الإجازة، وحين سألتُ بعد الإجازة، قالوا لي: إن الرئيس الشيشكلي نقَله حين سَمِع بمرضه إلى المستشفى العسكري، وبَقِي فيه إلى أن توفِّي - رحمة الله عليه.
وأذكر أنه حدَّثني في تلك الجلسة عن كتابه "في الجحيم" الذي ما زال ضائعًا إلى اليوم، ما خرَج إلى النور، ولا نعلم أين بَقِي.
2- الأستاذ علي الطنطاوي:
د. المبارك:
عرَفته منذ كنتُ صغيرًا جدًّا، كان يزورنا مع أنور العطار الشاعر الشامي المعروف، وكان يجلسان طويلاً عند والدي، واستمرَّت صِلتي به إلى قبل وفاته بسنة أو سنتين، حيث زُرته في المملكة السعودية، وسَهِرت عنده سهرة طويلة، ذكَّرته فيها بأيام طفولتي وأيام شبابه - عليه رحمة الله - وما رأيتُ أشدَّ عصبيَّة منه، ولا أكثر ذكاءً، ولا أوسع ثقافةً، كان رجلاً عجيبًا في فِطنته وذكائه، ووفائه وأدبه - رحمة الله عليه - وهذا يحتاج إلى كتابٍ كالكتاب الذي أخرَجته عن أستاذي سعيد الأفغاني.
3- الأستاذ عز الدين التنوخي:
د. المبارك:
عز الدين التنوخي كان يَلفت نظري في ارتجاله الشعرَ وفي كلِّ مناسبة، ولو كنتُ واعيًا في تلك الأيام التي كان يَحضر فيها عند والدي أحيانًا، وفي بيت الأستاذ الشيخ بهجت البيطار، وأحيانًا عندنا في البيت، وأحيانًا في مجمع اللغة العربية، وكان اسمه المجمع العلمي العربي - لو كنتُ واعيًا لتلك الجلسات التي حضَرتُ فيها مع والدي، لسَجَّلت له أشعارًا رائعة، ثم حظيتُ به أستاذًا للبلاغة في كلية الآداب، درَّسنا تهذيبَ الإيضاح بأجزائه الثلاثة، وكان من أصفى الناس قلبًا، لا يَحقد على إنسان، ورافقتُه في رحلة إلى تركيا أيام الرئيس حسني الزعيم؛ إذ أحبَّ أن يقرِّب المسافة بين السوريين والأتراك، فألْغَى مخافر الحدود، وجلَب ضُبَّاطًا أتراكًا؛ لتدريب الجيش السوري، وطلَب إلى جامعة دمشق أن تُرسل بعثة إلى تركيا، فاختارَت عشرين طالبًا، كنتُ واحدًا منهم، وكان على رأس هذه البعثة الأستاذ عز الدين التنوخي، ورافَقنا فيها الأستاذ سعيد الأفغاني، والدكتور عبدالكريم اليافي.
4- الدكتور طه حسين:
د. المبارك:
الدكتور طه حسين بَقِيت على صِلة به مدة سنتين تقريبًا، وفي إحدى السنتين كنتُ أحضر عليه أسبوعيًّا حين كان يدرِّس طلاب الدراسات العليا، وكنت أنا الذي أقرأ في الكتاب الذي يُحضِره إلى القاعة، وهو الذي يَشرح ما أقرأ، يُعطيني مرافِقُه - وكان اسمه الدكتور فريد شحاتة - كان يُعطيني الكتاب، ويُعَيِّن لي المكان وأنا أقرأ سطرين، أو ثلاثة أسطر؛ حتى يدق الدكتور على المِنصة، فأسْكُت، فيَشرح، وإذا انتهى شرحًا، يقول: تابِع، كان يَعرفني من صوتي، فبمجرَّد أن أتحدَّث إليه، أو أُلقي السلام عليه، يقول مَن؟ الطالب الشامي.
وكان من أجمل الناس أسلوبًا، ومن أجمل الناس موسيقا كلامٍ، ومن أكثر الناس حفظًا، يُلقي المحاضرة ساعة، وأحيانًا ساعة ونصف الساعة، وأحيانًا ساعتين، يَستريح بينهم خمسَ دقائق، لا يَتلجْلج، ولا يتردَّد، ولا يقف عند استشهاد بيت من أبيات الشعر من أيِّ عصر من العصور، لَم أعثُر له على لحنٍ واحد؛ يعني: كنا نتلذَّذ بأسلوبه والاستماع إليه، وفي مقابل ذلك كان شديد الجبر؛ يعني: إذا استشعَر أنَّ سؤالك له فيه شيء من الاعتراض أو التردُّد في قَبول ما يُلقيه، فالويل لك، وقد حدَث بيني وبينه شيءٌ من هذا القبيل، حين تعرَّض للمنفلوطي وللرافعي، وهاجَم الرافعي هجومًا شنيعًا، ومدَح المنفلوطي، فقَلَبتُ أنا الآية بأسلوب سؤال، وقلت له: عفوًا دكتور، أتعني أنَّ الذي أخَذ عن الغرب وفَهِم ما أخَذ، وتمثَّل ما أخَذ، وأفْهَم ما فَهِم... إلى آخره، هو الرافعي، وأنَّ الذي لَم يَفهم هو المنفلوطي؟ فضَحِك وأضْحَك الناس عليّ، وقال: أهكذا فَهِمت؟ قلت له: نعم، قال: من أين؟ قلت: مما قرأتُ، وبدَأ يُحاورني إلى أن غَضِب حين شَعَر بأنني أُناصر الرافعي، وكأنَّ الرافعي انتصَب من قبره أمامه، وقطَع الدرس، وقال: أتحدَّاك وأتحدَّى مَن تُبَلِّغه، وأتحدَّى مَن يسمع هذا الكلام، وكان المدرَّج مُمتلئًا؛ إذ كانت الأساتذة تَحضر معنا، مع أن عددَنا - معشر طلاب الدراسات العليا - كان قليلاً، فتحدَّى الجميع أن يُلخِّصوا له كتابًا واحدًا من آثار الرافعي، قلت له: حاضر، قال: موعدنا الأربعاء القادم - لأنَّ درْسَه كان كلَّ أربعاء - لَخِّص لي: "أوراق الورد"، أو "رسائل الأحزان"، قلت له: عفوًا يا دكتور، هذه رسائل وجدانيَّة لا تُلَخَّص، ولكني أُلَخِّص لك "تحت راية القرآن"، فقال: لَخِّص ما شئتَ، ثم ضرَب على المِنصَّة، ونَهَض وخرَج من القاعة، فلَحقني الطلاب، وبشَّروني بأني سأكون خارج الجامعة، وسأرجع إلى بلدي عن قريب، ولا يُمكن لي أن أُتابع الدراسة؛ لأنني ورَّطت نفسي، ولَم يكن قد مضى على وجودي في مصر شهر؛ يعني: أني لا أعرف كلَّ هذا الجو - وكان هذا سنة 1955 - فأسْرَعت إليه في رئاسة القسم؛ حيث يجلس يشرب القهوة بين الدَّرسين، قلت له: السلام عليكم، فلم يَرُد، بل قال: مَن؟ الطالب الشامي، قلت له: نعم، أنا يا دكتور، جِئت أسأل ولَم أقِف لأعترض، أنا تلميذكم قبل أن أصِلَ إلى مصر، أنا قرأتُ كلَّ ما كتَب الدكتور طه حسين قبل أن آتي إلى مصر، وأنا الآن جئتُ لأَسْتَزيد، ولَم أجِئ لأردَّ ما قرأتُ؛ ولذلك فأنا أعتذِر عن محاضرة الأسبوع القادم، وأرجو أن ننسى ما حصَل، وأن كذا وأن كذا، قال: لا بأْسَ، لك ما شِئتَ، قلت له: السلام عليكم، فلم يَرد، ووقَع في المحظور زميل مصري اسمه عبدالمحسن طه بدر، فلخَّص رسالة ليستْ للرافعي، وإنما في موضوع آخر، لا علاقة له بالرافعي، ومع ذلك فقد كنَّا في دَرْس الأربعاء نَضحك في أثناء إلقائه؛ لكثرة ما كان يُعَلِّق الدكتور طه من تعليقاتٍ مُضحكة.
وفي إحدى المرات سألَني: ماذا تَدرس؟ قلتُ له: أدرس النحو، قال: هل اطَّلعت على إحياء النحو؟ - وهو كتاب لإبراهيم مصطفى - قلت له: إذا سَمَح أستاذنا أقول له رأيي فيما جاء في مقدمة الكتاب - والذي كتَب المقدمة هو طه حسين طبعًا - فقد بالَغ الكاتب جدًّا في إصراره على تسمية الكتاب إحياء النحو، والكتاب جيِّد ولكنه ليس إحياءً، ولو اطَّلع صاحبه على كتاب الإيضاح في عِلل النحو للزجاجي، لوجَد غير ذلك، طبعًا أنا كنتُ قد بدأتُ بدراسة الإيضاح - وهو موضوع دراستي للماجستير - فقال لي الدكتور طه - رحمة الله عليه -: والله يا بُني، لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، لترَكتُ كثيرًا مما كتَبتُ، ولبدَأتُ بكتابة النحو من الصفر.
5- الأستاذ محمود محمد شاكر:
د. المبارك:
هي كلمة واحدة: ما وجَدت في حياتي رجلاً بعد والدي دخَلت اللغة دَمَه، وفَهِم أسرارها وأسرار التعبير فيها، وفَهِم نصوصَها كما يُريد أصحابُها، مثل محمود شاكر، كانت لنا حلقة نحرص عليها، يَحضرها أحيانًا الدكتور نصر الدين الأسد، ويَحضرها الأستاذ فرحان الفرحان، والدكتور يعقوب الغنيم، والدكتور خالد جمعة، والأستاذ راتب النفاخ، درَسنا عليه بعض قصائد المفضَّليات، فكنا كمَن يَسبح فوق الماء، وكان هو الغوَّاص الذي يُعطينا ما كنا لا نُدركه إلاَّ بسباحته هو وبغَوْصه، واستمرَّت صِلتي به وصِلته بي، وكان يَزورني في دمشق وفي الدوحة، وزارَني في "دُبَي" حين أرسلتُ له دعوة فاعْتَذَر، فقلت له: لا بد أن تأتي، قال لي: أنت في "دُبَي"، قلت له: نعم، قال: أنا سأذهب إلى الكويت، قلت له: متى وصَلت إلى الكويت؟ خَبِّرني كي نَستقبلك بعدها، واستقبلناه بدعوة من السيد جمعة الماجد، وبَقِي عندنا أسبوعًا، زار الكلية وزار المركز الثقافي، وكان في غاية السرور، وكان في تلك الفترة على كرسي، رافَقته ابنته الآنسة "زلفى"، وتمتَّعنا معه أسبوعًا لا ننساه.
6- الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع القاهرة:
د. المبارك:
شوقي ضيف كتبتُ عنه مقالاً طويلاً في الكتاب الذي أصدَروه بمناسبة ذكراه السبعين، بعنوان: رحلتي النحويَّة مع أستاذي الكبير شوقي ضيف، كتبتُ كلَّ ما أعرفه عن دماثته وخُلقه وتواضُعه؛ يعني: أنا أحمد الله أنني في مصر، لَقِيت أُناسًا تعلَّمت منهم الأخلاق والأدب، كما تعلَّمت العلم، مثل: الدكتور شوقي ضيف، والدكتور عبدالحليم النجار، والشيخ علي النجار، ومصطفى السقا، وهؤلاء والله تعلَّمت منهم الأدب والخُلق، قبل أن أتعلَّم العلم.
7- الدكتور أمجد الطرابلسي:
د. المبارك:
الدكتور أمجد الطرابلسي كان الأستاذ الذي أثبَت لنا في بواكير حياتنا أنَّ الفصحى يُمكن أن تكون لغة الدرس، ولغة الحديث اليومي، كان لا يتحدَّث إلينا إلاَّ بلُغة ذات مخارج وصفات معيَّنة، وهذه صفة لُغته المتميزة، وكان يحدِّثنا بما لا يستطيع المعلمون اليوم أن يُحَدِّثوا بمثله: طلاقة لسان، وحلاوة تراكيب، ومن هنا أدَركت فيما بعد قضيَّةً لا أدري إن كان الناس يعرفونها، حين كنتُ طالبًا في الإعدادي والثانوي، وكان الأستاذ البزم يحضر المناسبات الوطنية والقومية والدينيَّة، ويُكلَّف بإلقاء قصائدَ ما سَمِعت الأستاذ البزم يُلقي في حياتي غير مرَّة واحدة، وأمَّا بقيَّة المرَّات كلها، فكان يُناديني قائلاً: خُذ هذه القصيدة، وقل لأمجد أنْ يَقرأها عني، فأَذْهب إلى الأستاذ، وكان أستاذًا معه في التجهيز، فأذهب إلى الأستاذ أمجد، وأقول له: يقول لك الأستاذ البزم أن تُلقي هذه القصيدة عِوَضًا عنه، فكان يخرج إلى المنبر، ويُلقي القصيدة في أكثر من عيد، وفي أكثر من مناسبة، لا يُكلِّف غير أمجد الطرابلسي بقراءة شعره، وكنت أقول في نفسي: لأنه يحبُّه، أو لأنه صديقه، لكن حين أصبحتُ تلميذًا في الكلية لأمجد الطرابلسي، وكنتُ أسمع هذه اللغة، عرَفت لماذا كان الأستاذ يختاره لقراءة شعره.
8- الأستاذ الكبير الأستاذ سعيد الأفغاني:
وقد كتبتُم عنه كتابكم المعروف، ولكن أريد خلاصة رأيكم في الرجل.
د. المبارك:
الأستاذ الأفغاني لَم يترك له تمسُّكه بالحق صاحبًا؛ لذلك بعد أن خرَج على المعاش، قلَّ مَن ذهَب إلى بيته أو زارَه.
د. الطيان:
لقد لاحَظْت ذلك يا سيِّدي، وكان من فضْل الله عليّ أني كنتُ أزوره بين الفَيْنة والأخرى مع الأستاذ يوسف الصيداوي.
د. المبارك:
يوسف الصيداوي كان من أَوْفَى الناس بالأستاذ الأفغاني، أنا كنتُ أزوره باستمرار حين نكون في دمشق، وكان كثيرًا ما يتَّصل عليّ ويقول لي: لا تأتِ يا مازن، أنا أُريد أن آتي، فيأتي إلى بيتي، زارني مرارًا في هذه القاعة وفي الصالون، وفي آخر عُمره كنتُ أستأذن منه وأستقْبِله في الطابق الأرضي عند أهلي؛ حتى لا أكلِّفه صعود الدَّرج - رحمة الله عليه، ما كان أصلبَ الرأي عنده، وما كان أصعبَ إقناعه بأمر من الأمور لا يُريدها!
وآخر ما صدَر له كتاب أُوصي بقراءته؛ لأنه يجلو أشياء كثيرة من آرائه، لَم تكن مكتوبة لا في كُتبه ولا في دروسه، كتاب صدَر، كُلِّفت مروة بنت الأستاذ حسن إسماعيل بمراجعته، أصْدَرته دار البشائر منذ ثلاثة أيام، اسمه: "عصارة فكر وتجربة حياة"، وهو مجموع مقالات سعيد الأفغاني التي نُشِرت في العراق والسعودية، والمغرب ومصر وسوريا؛ يعني: حاوَلنا جَمْع ما أمْكَن جَمْعه في كتاب ضخمٍ وجيِّدٍ وجميل.
د. الطيان:
أذكر أني قرأتُ بعضًا من مقالات الأستاذ سعيد الأفغاني، فراعني رُقيُّ الأسلوب الذي يكتب به، دَعْ عنك عِلْمه وتخصُّصه.
د. المبارك:
ستجد في هذا الكتاب التنوُّع؛ يعني: مقالات اجتماعيَّة، مقالات تاريخيَّة، مقالات لُغوية، مقالات نَحْويَّة، ردود على فلان، شكر لفلان؛ يعني: هو كتاب ضخم جدًّا، ومبوَّب بحسب الموضوعات؛ ولذلك أنا أُوصي بقراءته.
د. الطيان:
حين أعْدَدت سؤالي هذا، لَم أكن أتوقَّع أن أحظى بهذا التدفُّق وهذه المعلومات المهمَّة، وأنا أرى أن ما تفضَّلتم به يَصلح أن يكون نواة لكتاب يُعرض لِمَن عرَفتم من الأعلام، ففي ذلك خيرٌ كثير.
د. المبارك:
أدرَكت في مصر أناسًا كثيرين، بعض زملائي المصريين لا يعرفونهم، مثل الأستاذ حسن الزيَّات، والأستاذ عباس محمود العقاد، فأنا جلستُ إليهم، وقد زُرتُ إبراهيم مصطفى صاحب إحياء النحو أكثر من مرة، أمَّا الأستاذ أحمد حسن الزيات، فالفضل في معرفته يعود إلى أستاذي الأفغاني الذي أرسَل إليه رسالة معي، فزُرته وسلَّمتُه الرسالة، وتعرَّف عليّ، وطلَب إليّ ألاَّ أنقطعَ عن زيارته، وأمَّا الأستاذ العقاد، فكان أخي الأستاذ محمد المبارك يَزوره كلَّما جاء إلى القاهرة، فكنتُ أُرافقه، ثم أصبحتْ عادةً لي أن أزورَه، ولو لَم يكن أخي موجودًا؛ لأنه عرَفني، وهكذا سَمَحت لي الظروف أن أتعرَّف إلى كلِّ هؤلاء، فكنتُ في غاية السرور.
واللهِ ما زِلت أذكر حين دخَلت إلى الصالون في بيت الأستاذ أحمد حسن الزيات، ودخَل هو للسلام والاستقبال، كأنني أرى أمامي افتتاحيَّة من افتتاحيَّاته التي يَكتبها في مجلة الرسالة بإشراقها وضيائها، أنت تعرف أسلوبه، كنَّا نقرَأ مقالته، فلا يَهمُّنا ما فيها من فكرٍ بقدر ما تُعجبنا إشراقها وجمال أسلوبها، يدخل الرجل بالقميص الأبيض الناصع، والبذلة الكُحليَّة الغامقة، مع الربطة الحمراء أو الزرقاء المناسبة، والطربوش على رأسه - وهو في بيته - وبحذاء يَلمع كالمرآة في غاية الأناقة، والله هذه قطعة من البيان، لوحة تصويريَّة تتراءَى لي - وهو يتحدَّث - بين منظره وبين المقال، ثم النظارة التي يَختارها؛ لتغطي حواجبه العِرَاض، كنت أُحلِّل كلَّ ذلك قبل أن أعتادَ أساليب التحليل الأدبي.
د. الطيان:
يعني تحقَّقت المقولة التي تقول: الأسلوب هو الرجل.
د. المبارك:
كذلك إذا انتقَلت إلى أسلوب العقاد، تجده إنسانًا لا يهتمُّ بالمظهر، طاولة خشبية متواضعة جدًّا، جدًّا، جدًّا، يستقبلني أحيانًا بالبيجامة، وقد لفَّ على عُنقه شالاً من الصوف، سميكًا كُحْلِي اللون، لا يرفعه لا أدري لماذا؟ يَلفه حول عُنقه، ويترك نصفه على صَدْره، ونصفه الآخر على ظهره، ثم يجلس بنظَّارته، ويُلقي عليك الكلام، وكأنه قائد عسكري يُعطيك أوامر تكليف؛ لتشعر أنَّك لستَ في موضع تستطيع أن تسألَ أو تعترض، بل هو يُقرِّر شيئًا عليك أن تَقبله، كلُّ ذلك بكلام موجَز، لا تستطيع أن تحذفَ منه شيئًا؛ إذ لا فضول في كلامه، على نقيض الدكتور طه حسين؛ إذ تستطيع أن تحذفَ نصف الكلام دون أن يتغيَّر المعنى، ويبدو أن العاهة ذات أثر في هذا، فهو يُكرِّر لتفهم، بينما جُمَل الأستاذ العقاد - رحمه الله - موجزة شديدة، يُلقيها بعنفٍ، وقد كنتُ أحتال في توجيه بعض ما أعْدَدت من أسئلة، دون أن أوَجِّهها مباشرة؛ خشية أن أقعَ معه فيما وقَعت مع طه حسين؛ كيلا يظنَّ أنني أعترض على رأْيٍ من آرائه؛ إذ كنتُ أتحاشى ذلك جدًّا.
د. الطيان:
9- الأستاذ أحمد راتب النفاخ:
د. المبارك:
عليه رحمة الله، والله فيه مُشابهة في الأخلاق بينه وبين الأستاذ محمود شاكر - عليه رحمة الله - يعني أنا عرَفت الأستاذ راتب؛ لأنه كان قد تقدَّمنا بسنة، فأنا دخلتُ كلية الآداب ولَم يكن فيها سنة رابعة، كان أعلى شيء فيها السنة الثالثة؛ لأنها كانت حديثة التأسيس، أُسِّست سنة 1946، وأنا دخَلت 1948، فكان أعلى الطلاب يمثِّلهم الدكتور صالح الأشتر وهو في السنة الثالثة، وكان في السنة الثانية راتب النفاخ، وعزت حسن، وهذه الطبقة، وكنا في السنة الأولى مازن المبارك، وعبدالكريم الأشتر، وعاصم البيطار؛ يعني: الأستاذ راتب يَسبقني بسنة؛ ولذلك تخرَّج قبلي بسنة، ودرَّس في "درعا"، ثم عُيِّن معيدًا، وأُوفِد بعدي بسنة أو سنتين إلى القاهرة، وكنت على صِلة به منذ كان طالبًا، ثم معيدًا، ثم موفدًا، ورافَقته في القاهرة، ثم كان صديقًا كأحسن ما يكون الصديق، وهو الذي أخَذني إلى محمود شاكر، بَقِيت سنة في مصر لَم أزُر الأستاذ محمود شاكر، ولا عرَفته، وكان الأخ راتب يطلب إلي مرارًا أن أُرافقه في زيارته، إلى أنْ أجبَرني إجبارًا، فذهَبت معه، وكان اللقاء الأول، واستمرَّت الصِّلة.
والحق أنَّ الرجل كان على درجة من العلم لا يحتاج فيها إلى شهادة مني أو من أمثالي، وكثيرًا ما كان بعض الطلاب يسألونني عن تفسير بعض الأبيات، أو القضايا المتَّصلة بالأدب القديم، وكانت ساعة الأستاذ راتب بعد ساعتي، وكان أحيانًا يُجافيني، فكان الطلاب يسألونني عن بعض الأسئلة، فأُجيبهم عما يتَّصل بالنحو وأقول لهم: هذا السؤال الثاني أتركه لزميلي فلان، فهو أعلم به مني.
د. الطيان:
ما شاء الله، جزاكم الله كلَّ خير، هذه شهادة وموقف لا يستطيع مثلي أن يُقيمه، ولكنَّه والله في غاية الروعة، وفي غاية النُّبل، وفي غاية الإنصاف.
10- الدكتور شاكر الفحام:
د. المبارك:
الدكتور شاكر الفحام يا سيِّدي، عرَفته من عام 1952، اشترَكنا في تصحيح الثانوية "البكالوريا"، وأنا شارَكت في تصحيح الثانوية قبل زُملائي بسنة كاملة؛ لأنني كنت الناجح الأوَّل، فكرَّمتني الوزارة - وزارة المعارف، لَم يكن ثَمَّة تعليم عالٍ - ودَعَتني إلى التصحيح، مع أني لَم أكن أستاذًا، بل كنتُ طالبًا متخرِّجًا، ففي تلك السنة كان الأستاذ شاكر الفحام وإحسان النص، وصبري الأشتر وأمثالهم، ما زالوا أساتذة.
حين كنتُ في مصر، أُوفِد قسمٌ منهم عن طريق الاختيار - اختارتْه الوزارة - وقسم عن طريق المسابقة، فجاء إلى مصر الدكتور عبدالكريم الأشتر، والدكتورة عزيزة مريدن، والدكتور عمر الدقاق، والدكتور محمد خير فارس، والدكتور إحسان النص، والدكتور صبري الأشتر، والدكتور شاكر الفحام.
د. الطيان:
المعروف أن د. شاكر درَس الدراسة الجامعيَّة العادية هناك.
د. المبارك:
لَم يكن في سوريا أحدٌ ممن حازُوا شهادة ماجستير ودكتوراه من مصر قبل مازن مبارك؛ لأن الذين أخَذوا قبلي درَسوا أصلاً في مصر، أعني: في الجامعة؛ إذ لَم يكن عندنا جامعة، فزكي المحاسني، وشكري فيصل، وشاكر الفحام، وأنور الرفاعي، هؤلاء درَسوا في مصر؛ لأنه لَم يكن عندنا جامعة، درَسوا بعد البكالوريا، أمَّا أنا فكنتُ أوَّل طالب سوري يحمل الإجازة - يعني البكالوريوس على لَهْجتهم - لذلك حين ذهبْتُ إلى مصر صدَر قرار قَبولي في السنة الثانية من كلية الآداب، ولَمَّا ذهَبت إلى العميد لأحتجَّ، قال لي: وضعناك مع فلان وفلان من حَمَلَة دار المعلِّمين؛ لأنك تَحمل الإجازة، قلت له: هؤلاء طُلاَّبي، أنا الذين أعطيتُهم شهادة دار المُعلِّمين، أما أنا فمعي إجازة بعد دراسة أربع سنوات، قال: أين الشهادة؟ فأبرَزت له الشهادة، والله فخاطَبني بالفرنسية:
vous avez quatre sertafika?
قلت له: نعم، معي أربع سرتفيكات؛ لأنه كان عندنا نظام الشهادات مجموعها يساوي الإجازة، قال لي: ماذا تعني الإجازة؟ قلت له: تعني البكالوريوس أو الليسانس، قال: أنتم السوريين، تُعربون وتَضعون ما شئتُم من المصطلحات وحْدكم، دون أن تُعلمونا بها، وما أدْرَانا أنَّ الإجازة تعني الليسانس؟ خُذ يا بُني، قدِّم لي ظُلامة؛ لأعدِّل لك القرار، وفعلاً جلستُ عنده، وقدَّمت ظُلامة، وبعد ثلاثة أيام عُدِّل القرار، فقُبِلت في الماجستير، فأنا أوَّل سوري يحمل إجازة سوريَّة، ويُقبَل في الجامعة المصرية، ويُتابع الدراسات العليا، أمَّا الذين سبقوني من السوريين، فدراساتهم الجامعيَّة الأصليَّة كانت هناك.
د. الطيان:
يقول الرافعي - رحمه الله -: "ما ذَلَّتْ لُغة شعبٍ إلاَّ ذلَّ، ولا انحطَّت إلاَّ كان أمرُه إلى ذَهاب وإدبار".
كيف تَرون أثر العربية في واقعنا؟ وما مقدار تحقُّق مقولة الرافعي - رحمه الله - اليوم في أُمَّتنا وفي لُغتنا؟
د. المبارك:
والله أنا أرى كلام الأستاذ الرافعي - عليه رحمة الله - صحيحًا، وأرى عكسه صحيحًا أيضًا؛ يعني: ما ذلَّت لغة قوم، إلاَّ ذلُّوا، وأرى أنه ما ذلَّ قوم إلاَّ ذلَّت لُغتهم؛ كما هي حالنا اليوم، فالمعادلة طرديَّة؛ تقوى الأُمَّة، فتَقْوى لُغتها، وتقوى اللغة، فتقوى الأُمَّة؛ لأن اللغة تُعلِّم أبناءها المُروءة، وتُعلِّمهم الأخلاق، وتُقَوِّي الشخصية، وتَبني الفكر، هذه المعاني الآن غائبة عن كثيرٍ من المُثقَّفين، يظنون موضوع اللغة وتمسُّكنا بالفصحى عبارة عن تعصُّب لا لزومَ له، وأنَّ العلم يُمكن أن يكون بأيِّ لُغة، على حين أنَّ الأُمَّة التي تتقدَّم عِلميًّا تتقدَّم لُغتها، وحين تتقدَّم لُغتها تتقدَّم، فهناك معادلة طرديَّة بين اللغة وبين الأُمة، فنحن يمكن أن نُعزَّ بإعزاز اللغة، ويمكن أن تُعز اللغة بإعزازنا، والتاريخ أكبر دليلٍ على ذلك، حين نرى اللغات الأوروبيَّة الحيَّة، ونرى اللغة العربية متى كان عِزُّها؟ أين كان العرب حين كانت العربية عزيزة؟ كيف كان الحكم العربي حين كانت العربية؟ كيف كان العلم العربي الذي نُقِل عن طريق إسبانيا وعن طريق صقلِّية إلى أوروبا؟ وكيف كان العالَم يَخضع للعرب حضاريًّا وسياسيًّا ولُغويًّا؟ ثم انسَحب العرب، وأفَلَت شمسُهم، فانحصَر ظلُّ لُغتهم، وما زِلنا نتراجَع، أو نقف على الأقل، ونحن حين نقف ويتقدَّم غيرنا، فمعنى ذلك أننا تأخَّرنا؛ ولذلك فكلام الرافعي صحيح، نحن عِزُّنا بلُغتنا، وعِزُّ لُغتنا بنا، وأعتقد أنه لولا بقايا الإسلام والتمسُّك بالقرآن، لكنا تأخَّرنا، وتأخَّرت لُغتنا أكثر من ذلك بكثير.
د. الطيان:
تصديقًا لِمَا تتفضَّلون به، زارني في مكتبي بالجامعة دكتور أمريكي يَرطن بالعربية، وعندما اعْتَذَرت منه عن عدم تمكُّني من مخاطبته بالإنجليزية، قال لي: وما الإنجليزية؟ إنها مجرَّد لُغة لِصَّة - أي والله هكذا قال - تَسرِق من هنا وهناك.
فالحقُّ أنها عزَّت بقوَّتهم وتمكُّنهم وتفوُّقهم، ولكن ما السبيل إلى تغيير واقعنا اللغوي الذي نعيشه؟ وكيف لنا أن نرقى بلُغتنا؟
د. المبارك:
لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، والله أنا الآن أُفضِّل أن نوجِّه بعض الجهود إلى إحياء الوعي اللغوي، لا إلى إحياء اللغة نفسها؛ لأنني أرى العاميَّة التي تَطغى في الإعلام وفي الحياة اليوميَّة، وأرى أن ما يُدعى بالمعركة بين الفصحى والعاميَّة، لا حاجة إليه، ولا لزومَ له، كلُّ ما هنالك أنَّ اللغة العامية لا تزول بقرار سياسي، اللغة بصورة عامَّة مِلك الناس، وليست ملك الحاكم، ومن الصعب أن يَصدر قرار فيغيِّر لغة؛ لأن ذلك يحتاج إلى زمنٍ، أهم شيء أن يحبَّ العاميُّ الذي يتحدَّث العامية اللغة الفصحى، وأن يتمنَّى أن يكون من أصحاب اللغة الفصحى، هذا الحب وحْده في هذه المرحلة يكفي، ويَكفيني أن يشعرَ العرب بالحبِّ نحو لُغتهم، حتى ولو لَم يكونوا قادرين على حمايتها، حتى ولو لَم يكونوا قادرين على استعمالها، يَستعملها مَن يستطيع منهم ذلك، لكنَّه يجد التشجيع، ويجد الاحترام، ويجد الإمكان المفتوح له، أمَّا أن نجدَ الصدود والمقاومة من المستغربين العرب، فهذا من أعجب العجب! يعني نحن الآن نجد صدودًا، ونجد مقاومة من كثير من الناس، وهذا بلا شكٍّ لا أعتقد أنه عن سوء نيَّة، بقَدْر ما هو عن جهلٍ، فإذا استطَعنا أن نُحبِّبهم في اللغة العربية، وأن نرغِّبهم فيها وفي أدبها، فقد أفْلَحنا.
يا أخي، إن مثل هؤلاء كالمؤمن الذي يرتكب المعصية، لكنه يعلم أنه لا يَرتكبها مكابرةً لله، ولا تحدِّيًا لله، وإنما يرتكبها؛ لأن نفسه ضَعُفَت، ويتمنَّى ألاَّ يرتكبَها، أنا أريد الآن أن يكون هناك وعي لغوي كالوعي الديني، العامي لا يعرف أصول الفقه، ولا يعرف أحكام الفقه، ومع ذلك لا يرضى أن يشتمَ الدين، ولا يرضى أن يترك الدين، كذلك لو أننا ننشر الوعي الشعبي عند الناس؛ ليُصبح اللحام والبقال والحلاق، يحترمون العربية ويحبون العربية، ويَزدرون المثقَّف الذي لا يحترم العربية، أنا هذا الآن يَكفيني.
د. الطيان:
صدقتُم وقد وجدت فعلاً - في نَشْر ما يسمَّى بجماليات العربية من أفانين الشعر والنثر والطرائف - أكبر الأثر في تحبيب العربية إلى نفوس الناس.
د. المبارك:
هذا طريق ممتاز، ويجب أن يُجمعَ هذا ويُنشر.
د. الطيان:
ينحو بعض الناس وبعض الصحفيين باللائمة على المجامع، ويتَّهمونها بالتقصير في أداء رسالتها، فأين هي من هذه اللغة؟ ماذا فعلتْ من أجلها؟ وما السبيل إلى أن يكون تأثيرها أبلغَ وأوسعَ وأعظم؟
د. المبارك:
والله يا سيدي، نحن لا نُنكر أنَّ المجامع مُقصِّرة، وأن مَجمعنا مُقصِّرٌ، ورسالة المجمع أصبَحت واسعة جدًّا، وبعض الناس الذين يتَّهمونه بالتقصير، يرون ظاهر الأمر دون باطنه، وهذا أيضًا يعود لتقصير المجمع، فمَجمعنا عُمره كذا سنة، ومع ذلك لَم يمضِ على تأسيس مكتب إعلامي فيه سنة واحدة؛ أي: إنَّ ما يحدث في المَجمع لا يَعلم به إلاَّ الذي يعيش داخل المجمع، فالآن فيه ما لا يقلُّ عن اثنتي عشرة لجنة، فيه لجنة فيزياء، وكيمياء، ونبات، وحضارة، وحياة يومية، وكلُّ لجنة وضَعت مئات المصطلحات بعد دراسة وتمحيصٍ، وهذه المصطلحات لَم يَدْرِ بها أحد إلى الآن؛ لأن عندنا رتابة؛ أي: روتين، فهي يجب أن تُعرض على اللجنة، ثم على مجلس المجمع، ثم على المؤتمر السنوي الذي يَحضره أعضاء مجامع اللغة العربية؛ ليناقشوها ويُقِرُّوها، وبعد ذلك تُطبع على شكل مشروع؛ لأخْذ آراء الذين يَطلِعون عليه، ثم يُطبع نهائيًّا، وهذا يحتاج إلى سنة أخرى.
لقد أنْجَز قسم كبير من معجم الفيزياء أو المعجم كله، وكذلك ألفاظ الحضارة، لكن هذا لا يكفي، كذلك لجنة الأصول واللغة العربية تأتيها رسائل وفتاوى، فتُجيب عنها وتَصدر كلمات كثيرة ومصطلحات كثيرة، وتُفصح من العامية ألفاظًا كثيرة، لكنَّها تنتظر حتى تعرض على المَجمع، ثم تعرض على المؤتمر السنوي، ثم تُنشر، وعمَّا قريب أعتقد أن مَجمع دمشق سينشر مجموعة كبيرة من هذه الكتب التي تتضمَّن مثل هذه المصطلحات.
لكن بصورة عامة، فاللغة ليست من الأمور التي يُمكن إصلاحها بين عشيَّة وضحاها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فالمجمع وحْده لا يكفي، أنا أحبُّ أن تكون الجماهير مُلتفَّة حول المجمع؛ يعني: مثلاً أنا حضرتُ في المجمع عشرين محاضرة، ما وجَدت عشرين واحدًا من أساتذة اللغة العربية الجامعيين يحضرون المحاضرات أين هم؟
د. الطيان:
فعلاً أنا أشعر بجفاء بين قسم اللغة العربية، وبين المجمع، لماذا؟
د. المبارك:
هذا بين المثقفين عامَّة، كمثال أنا حضرت المجمع القديم، ففي المجمع القديم لَم يكن هنالك جفوة، كان كثير من التُّجار والصناعيين يَحضرون محاضرات الشيخ عبدالقادر المبارك، والشيخ عبدالقادر المغربي، والأمير مصطفى الشهابي، وأمثال هؤلاء وأمثال كرد علي، وكان هذا يُشَجِّعهم أحيانًا على مدِّ يد العون إلى المجمع، فإمكاناته المادية قليلة جدًّا، أنا في اعتقادي أن المبنى الذي يقوم به المجمع الآن لا يَصلح للمجمع، نحن حتى الآن ليس عندنا قاعة مكتبة في المجمع، فإذا أرادَ عضو المجمع أن يَجلس في قاعة المكتبة ليراجع - كما كنتُ وأنا ابن عضو مجمع أدْخُل مكتبة المجمع، وأُراجع أيام كرد علي، وأيام الشهابي، وأيام حسني سبح، وأيام المجمع القديم - لَم يَجد قاعة يَركن إليها.
د. الطيان:
هل من كلمة ختامية لقُرَّاء المجلة، ولمُحبِّي العربية في كل مكان؟
د. المبارك:
والله أنا أوجِّه نحو حبِّ العربية، وتنشئة الأولاد على حبِّ العربية؛ فهي الرابطة إلى تاريخك العربي، وهي الجِسر إلى كتابك الديني، فلا قرآن بلا عربيَّة، ولا فَهم للإسلام بلا عربية، ولا اتصال بالعرب إلاَّ عن طريق العربيَّة، فسواء كنتَ قوميًّا، أو كنتَ إسلاميًّا، فلا بدَّ أن تكون العربية هي الرابط لك، ومتى ضاعَت، ضاع مستقبلنا، وأنا لستُ أُسرف في التفاؤل، ولكنني متفائل مع شيءٍ من الحذر، وضرورة البقاء في حالة وعي وفِطنة لِمَا يُكتب لهذه الأُمَّة وللُغتها، ولا أرى داعيًا للتشاؤم ولا القنوط؛ فالأُمة في حالة صحوة والحمد لله، والكثيرون يؤمنون أن المستقبل لهذه اللغة.
د. الطيان:
إن شاء الله بجهودكم وجهود أمثالكم، هذه الجهود التي ينبغي أن تُذكر فتُشكر، فجزاكم الله عنَّا وعن العربية خيرَ ما جزَى عالِمًا عن قومٍ، وأستاذًا عن تلامذته، وبارَك الله في حياتكم، ونفَع بكم، ومدَّكم بعونٍ منه - سبحانه، ولكم جزيل الشكر والتقدير يا شيخَنا، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.