حرمة الدماء
جمال علي يوسف فياض
الحمدُ لله رب العالمين، شرع لنا الشرائع، وأحكم لنا الدين، وجعل التمسُّك به سلامةً للبشرية أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وقَّت وقتًا لقيام يوم الدين، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فينتصر للمظلومين من الظالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، جاء بضرورات خمس، على حفظها قامت شريعة ربِّ العالمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:فأُوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل وتعظيم حرماته، والقيام بطاعته، فقد قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، أما بعد:فإن الناظر في مجتمعاتنا في هذه الآونة الأخيرة يرى حوادث تشيب منها الرؤوس، وتنخلع منها القلوب، تُدْمي القلب، وتُدْمع العين، وتجعل المسلم الغيور على محارم الله يتأسَّف أشدَّ الأسف على ما وصلنا إليه، فقد شاهدنا خلال الأيام الماضية جرائمَ قَتْلٍ للأنفس البريئة بطرق شنيعة؛ ما بين حرق أو شنق، أو ذبح أو غير ذلك، ومن أبشع هذه الجرائم تلك الجريمة التي يُقدِم عليها من يظلم نفسه قبل غيره؛ ألا وهي جريمة قتل النفس "الانتحار"، نسأل الله السلامة والعافية؛ لذا أحببت أن أذكِّر نفسي وحضراتكم بخطورة القتل عمومًا، وقتل النفس خصوصًا, وبيان شؤم هذه الجريمة على صاحبها في الدنيا والآخرة، وسوف ينتظم حديثنا تحت العناصر التالية:أولًا: عقوبة القتل.ثانيًا: خطورة الانتحار.ثالثًا: سُبُل السلامة من تلك الجرائم.وأسأل الله أن يُجنِّبنا وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطَن، وأن يجعل بلادنا آمنةً مطمئنةً.أولًا: عقوبة القتل.القتل من أعظم الكبائر عند الله تعالى، وقد رتَّبَت الشريعة أعظم العقوبات على مرتكب تلك الجريمة الشنعاء، فمن ذلك أن:القتل أعظم الذنوب بعد الشرك بالله تعالى:قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله؛ حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ﴾[الفرقان: 68] الآية، وقال تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [الأنعام: 151] إلى أن قال: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 151] [1].القتل من أكبر الكبائر المهلكة:فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجْتَنِبُوا السَّبع المُوبِقات))، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشِّرْكُ باللهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النفسِ التي حرَّم اللهُ إلا بالحقِّ، وأكلُ الرِّبا، وأكْلُ مالِ اليتيمِ، والتَّولِّي يومَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المحصناتِ المؤمناتِ الغافِلات)) [2].فانظر- رحمك الله- إلى هذا الوصف العظيم "السبع الموبِقات"! يعني: المُهْلِكات، ففزع الصحابة واقشعرَّتْ جلودُهم من ذلك، وقالوا: ما هُنَّ يا رسول الله؟
حرمة المؤمن أعظم حرمة من الكعبة!فعن ابن عباس قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، فقال: ((ما أعظَمَ حُرْمتَكِ))، وفي رواية أبي حازم: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قال: ((مَرْحبًا بكَ من بَيْتٍ، ما أعظمَك وأعظمَ حُرْمتَكَ! ولَلْمُؤمِنُ أعْظَمُ حُرْمةً عند اللهِ منك، إن اللهَ حرَّم منك واحدةً، وحرَّم من المؤمن ثلاثًا: دمَه، ومالَه، وأنْ يُظَنَّ به ظَنَّ السوء)) [3].القتل ورطة عظيمة ومَأْزِق صعب:فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يزال المؤمنُ في فُسْحةٍ من دينِهِ، ما لم يُصِبْ دَمًا حَرامًا)) [4].وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه: إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأمُورِ الَّتِي لا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ.والْمَعْنى أَنه فِي أَي ذَنْب وَقَع كَانَ لَهُ فِي الدِّين وَالشَّرْع مخرج إِلَّا الْقَتْل، فَإِن أمرَه صَعبٌ، ويُوضِّح هَذَا مَا فِي تَمام الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عمر أَنه قَالَ: إِنَّ من ورطات الْأُمُور الَّتِي لَا مخرج لمن أوقع نَفسَه فِيهَا سفك الدَّم الْحَرَام بِغَيْر حِلِّه، والورطات جمع ورطة: وَهِي كل بلَاء لَا يكَاد صَاحبُه يتَخَلَّص مِنْهُ[5].وروى سعيد بن مينا، عن ابن عمر أنه سأله رجلٌ فقال: إني قتلتُ رجلًا، فهل لي من توبةٍ؟ قال: تزوَّد من الماء البارد، فإنك لا تدخلها أبدًا [6].قِتال المسلم كفر!فعن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ))[7].وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألَا إنَّ اللهَ حرَّم عليكم دماءكم وأموالكم، كحُرْمة يومكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلَّغْتُ))، قالوا: نعم، قال: ((اللهُمَّ اشْهَد - ثلاثًا - ويلكم، أو ويحكم، انظروا، لا ترجعوا بعدي كُفَّارًا، يضْرِبُ بعضُكم رِقابَ بعضٍ)) [8]، والمراد أن القتل فِعْلٌ من فِعْلِ الكُفَّار[9].الدماء أول ما يُقْضى فيها بين الناس يوم القيامة!فعن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ)) [10].وهذا الحديث فيه "تَغْلِيظُ أَمْرِ الدِّمَاءِ، وَأَنَّهَا أَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا لِعِظَمِ أَمْرِهَا وَكَثِيرِ خَطَرِهَا، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفًا لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي السُّنَنِ ((أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ صَلَاتُهُ))؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الثَّانِي فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا هذا الحديث فَهُوَ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ [11].وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وَفِي الْحَدِيثِ عِظَمُ أَمْرِ الدَّمِ، فَإِنَّ الْبُدَاءَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْأَهَمِّ، وَالذَّنْبُ يَعْظُمُ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ وَتَفْوِيتِ الْمَصْلَحَةِ، وَإِعْدَامُ الْبِنْيَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ غَايَةٌ فِي ذَلِكَ "[12].مصيبة للقاتل يوم القيامة! اللهم سَلِّم سَلِّم!أتدرون- أيها الأخوة الكِرام- ماذا يحدث للقاتل يوم القيامة؟
أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند حسن عن ابن عباس، أن رجلًا أتاه، فقال: أرأيت رجلًا قتل رجلًا متعمدًا؟ قال: ﴿ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]، قال: لقد أنزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء حتى قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحًا، ثم اهتدى؟ قال: وأنَّى له بالتوبة، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ: رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا، يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا قَاتِلَهُ بِيَمِينِهِ، أَوْ بِيَسَارِهِ، وَآخِذًا رَأْسَهُ بِيَمِينِهِ، أَوْ بِشِمَالِهِ، تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا فِي قُبُلِ الْعَرْشِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، سَلْ عَبْدَكَ فِيمَ قَتَلَنِي؟)) [13].وهذا مذهب عبدالله بن عباس رضي الله عنه في القاتل.والقصاص عقوبة القاتل في الدنيا:قال الله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾[البقرة: 179]، ومعنى الآية "يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم- وهو قتل القاتل- حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المهج وصونها؛ لأنه إذا علم القاتل أنه يُقتَل انكفَّ عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النفوس.قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياةً، فكم من رجل يريد أن يقتل، فتمنعه مخافة أن يُقْتَل.ومن عظمة خطر القتل أنه لو اجتمع جماعةٌ على واحدٍ فقتلوه يُقتلُوا به جميعًا، فمذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يُقتَلُون بالواحد، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غلام قتله سبعة فقتلهم، وقال: لو تمالأ عليه أهلُ صنعاء لقتلتهم، ولا يعرف له في زمانه مخالفٌ من الصحابة، وذلك كالإجماع [14].زوال الدنيا بأسرها أهون على الله من قتل مسلم:فعن عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لزوالُ الدُّنْيا أهْوَنُ عند الله من قَتْل رجلٍ مسلمٍ))[15]."فـهذا الحديث فيه بيان عظم حرمة المسلم، وأن قتله بغير حق أعظم من ذهاب الدنيا برمتها، والمراد أنه تعالى لو أقدر إنسانًا على إذهاب الدنيا برمتها من دون ما فيها من المسلمين فإذهابها ظلمًا وعدوانًا أهونُ في عقاب الله من العقاب على قتل رجل مسلم ظلمًا"[16].القاتل إن لم يتُبْ له عذاب مهين يوم القيامة:يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ﴾ [الفرقان: 68، 69]، وقوله تعالى: ﴿ أثامًا.. ﴾ قال قتادة: ﴿ يَلْقَ أَثَامًا ﴾ نكالًا، كنا نحدث أنه وادٍ في جهنم، وقد ورد عن أبي أمامة الباهلي أن ﴿ غَيًّا ﴾ [مريم: 59] و﴿ أثامًا ﴾ بئران في قعر جهنم أجارنا الله منها بمنِّه وكرمه، وقوله: ﴿ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾؛ أي: يكرر عليه ويغلظ، ﴿ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ﴾؛ أي: حقيرًا ذليلًا[17].تلك عشر عقوبات كاملة، ذكرتها لك، الواحدة منها كافية لردع كل إنسان عن القتل، والعقوبات التي تحل على القاتل في الدنيا والآخرة أكثر من هذا؛ ولكن أكتفي بذلك، ونسأل الله السلامة والعافية.ثانيًا: خطورة الانتحار:أيها الكرام، عرفنا مما سبق عقوبة قتل الغير، وعظيم إثمه، وأن الله جل جلاله توعَّده بأشد العقوبات، وقتلُ الإنسان نفسَه أعظمُ من قتل غيره، وهو المسمى بالانتحار، الذي انتشر في زماننا هذا بصور كثيرة؛ مرة بشرب سُمٍّ، أو حبة الغلة، أو بالشنق، أو يُلقي الإنسانُ نفسَه من فوق برج أو عمارة، وغير ذلك.وأسباب هذا الانتحار كثيرة، أهمها: ضعف الإيمان بالله تعالى، وعدم الرضا بقضائه، والجزع، وعدم الصبر عند البلاء، ومنها المشاكل الأسرية أو الاقتصادية؛ كالفقر والبطالة، ومنها كذلك المشاكل الصحية والأمراض المستعصية، ولكن مع كل تلك الأسباب لا يجوز للإنسان العاقل أن يقتُل نفسَه؛ لأن القتل ليس حَلًّا لتلك المشكلات، فلو يعلم المنتحر الذي يقتل نفسه- وهو مدرك لفعله هذا- ماذا رتَّب الله له من العقوبة؛ ما أقْدَم على ذلك، فقد ورد في كتاب الله تعالى، وسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم الترهيب الشديد من هذه الجريمة النكراء، فمن ذلك:أن الله تعالى توعَّد المنتحر بالنار:فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ [النساء: 29، 30].ففي هاتين الآيتين ينهى الله تعالى عن إهلاك النفس، ويتوعَّد من يقتل نفسَه بشديد العذاب، فقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ﴾؛ أي: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ، يَعْنِي: مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، ﴿ عُدْوانًا وَظُلْمًا ﴾، فَالْعُدْوانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَالظُّلْمُ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، ﴿ فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ﴾ نُدْخِلُهُ فِي الْآخِرَةِ، ﴿ نَارًا ﴾ يُصْلَى فِيهَا، ﴿ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ هَيِّنًا [18].من قتل نفسَه بشيء في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة:فعن ثابت بن الضحاك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) [19].وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا)) [20].حرَّم الله الجنة على قاتل نفسه:فقد أخرج الشيخان من حديث جُندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ)) [21].فالانتحارُ كبيرةٌ من الكبائر، نسأل الله السلامة والعافية، وينبغي للأمراء وأهل العلم وكُبراء الناس أن يتركوا صلاة الجنازة على قاتل نفسه زجرًا لغيره وإنكارًا لفعله، ويُصلي عليه عامة الناس، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سَمُرة، قال: «أُتِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم برجُلٍ قتَلَ نفسَه بِمَشاقِصَ، فلم يُصَلِّ عليه»[22].قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ: لَا يُصَلَّى عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ لِعِصْيَانِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ وَالْأَوْزَاعِيِّ... – ثم قال و- النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ؛ زَجْرًا لِلنَّاسِ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِ، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَهَذَا كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ زَجْرًا لَهُمْ عَنِ التَّسَاهُلِ فِي الِاسْتِدَانَةِ، وَعَنْ إِهْمَالِ وَفَائِهِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ))" [23].ثالثًا: أسباب النجاة من هذه الجرائم:أخي الكريم، اعلم- وفَّقني الله وإياك- أن هناك سُبُلًا كثيرة للوقاية من الانتحار، على الإنسان أن يحرص على العمل بها ليقي نفسه من الوقوع في هذه الجريمة النكراء، من هذه السُّبُل:تحقيق الإيمان بالله تعالى:فإن المؤمن قوي الإيمان، دائم الصلة بربِّه، يرجو رحمته، ويخشى عذابه، يعلم أن هذه الدنيا مهما عظمت فهي حقيرة، ولا تستحق التأسُّف على ما فات منها، وأنها ((سِجْنُ المؤمنِ، وجَنَّةُ الكافِرِ))، وأن الآخرة خيرٌ وأبقى، والمؤمن يعلم أن الله يراه فلا يُقدِم على شيء يُغضِبُه، ويسخطه عليه في الدنيا والآخرة.الرضا بالقضاء والقدر:فهذه الدنيا دار بلاء، لا تخلو من مُنغِّصات، فلا يركن المؤمن إليها، وليوطِّن نفسه على الصبر على أقدار الله تعالى، وليتذكر دائمًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((عَجَبًا لأمْرِ المؤمنِ، إنَّ أمْرَه كُلَّه خيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلَّا للمؤمن، إن أصابَتْه سرَّاءُ شكَرَ، فكان خيرًا له، وإنْ أصابَتْه ضرَّاءُ صَبَر، فكان خيرًا له))[24].وقال الله تعالى:﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22، 23] ففي هاتين الآيتين يُبيِّن الله تعالى أن المصائب التي تصيب الخلق، من خيرٍ وشرٍّ، كلها قد كُتبت في اللوح المحفوظ، صغيرها وكبيرها، وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل عنده أفئدةُ أولي الألباب، ولكنه على الله يسير، وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر، فلا ييأسون ويحزنون على ما فاتهم، مما طمحت له أنفسهم وتشوَّفوا إليه؛ لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، لا بد من نفوذه ووقوعه، فلا سبيل إلى دفعه، ولا يفرحون بما آتاهم الله فرح بطر وأشر؛ لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوَّتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومَنِّه، فيشتغلون بشكر من أولى النعم ودفع النقم؛ ولهذا قال: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 23][25].الخروج من الفراغ:أخي الكريم، لا تترك نفسك بلا هدفٍ أو عملٍ، فالفراغ مَقْتلة، وسبب للوساوس والهواجس السيئة، املأ وقتك بكل ما ينفعك في دينك أو دنياك، اشغل نفسك بحفظ القرآن الكريم، أو بتعلُّم سنة نبيك صلى الله عليه وسلم أو تعلم مهارة أو حرفة تتكسب منها ما يحفظك من تطلُّعك إلى ما في يد غيرك.احرص على الصحبة الصالحة:فالصحبةُ الصالحة خيرُ معينٍ على الخروج من وساوس الانتحار، الصحبة الصالحة تجعل للحياة طعمًا حُلْوًا، الصحبة الصالحة تدلُّك على الخير وتُعينك عليه، تخرج معهم للصلاة، لحِلَق العلم، للدعوة إلى الله تعالى، تخرج معهم للتنزُّه، أو لغير ذلك من كل خير. استشارة أهل الخبرة:فعلى الإنسان إذا أصابه اكتئاب أو وسواس بالانتحار، أو انتابه مرضٌ نفسيٌّ أو أرَقٌ أقلق مضجعه أن يستشير أهل الخبرة من الأطباء المتخصِّصين، وكذلك يستشير الإنسان أهل الخير والصلاح من أهله وأصدقائه، فإن ذلك نافعه بفضل الله تعالى.وفي الختام أخي الكريم، اعلم- رحمني الله وإياك- أنه لا سعادة لك، ولا راحة ولا طُمَأْنينة إلا بذكر الله، والإقبال عليه، والانطراح بين يديه، وبَثِّ شكواك إليه، فإنه رحيم، ودود، رؤوف، أرحم بك من نفسك، بل أرحم بك من أُمِّك التي ولدتك.أسأل الله أن يقينا شرَّ الفتن، ما ظهر منها وما بطَن، وأن يحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء، وأن يرزقنا السعادة والطُّمَأْنينة، وراحة البال، إنه ولي ذلك ومولاه، والله أعلى وأعلم، وصلى اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] (تفسير ابن كثير 2/ 377).
[2] (البخاري 2766، ومسلم 145).
[3] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، ح 6280، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 2441.
[4] أخرجه البخاري، ح 6862.
[5] كشف المشكل من حديث الصحيحين 2/ 590.
[6] شرح صحيح البخاري لابن بطال 8/ 492.
[7] أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ح 2635.
[8] أخرجه البخاري، ح 4403.
[9] شرح النووي على مسلم 2 /55.
[10] البخاري، ح 6864، ومسلم، ح 1678.
[11] شرح النووي على مسلم 11/ 167.
[12] الفتح 11 /397.
[13] مسند أحمد، وقال محققوه: حديث صحيح، ح2142.
[14] تفسير ابن كثير 1 /492، 490.
[15] أخرجه النسائي ح3987، وصحَّحه الألباني.
[16] التَّنويرُ شَرْحُ الجَامِع الصَّغِيرِ9/36.
[17] تفسير ابن كثير 6/126.
[18] تفسير البغوي 1/604.
[19] أخرجه مسلم، ح 110.
[20] أخرجه مسلم 109. (يتوجَّأ: يَطْعَنُ، يتحسَّاه: يَشْرَبُهُ فِي تَمَهُّلٍ وَيَتَجَرَّعُهُ).
[21] البخاري ح3463، ومسلم ح 113.
[22] ح 978، ( مشاقص: سِهَامٌ عِرَاضٌ ) .
[23] شرح النووي على مسلم 7 /47.
[24] أخرجه مسلم، ح2999.
[25] تفسير السعدي، ص 842.