مختصر البداية والنهاية لابن كثير (سنة 148 - 150)
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ أَبو جَعْفَرَ عُمَرَ بْنَ حَفْصٍ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ عَنِ السِّنْدِ , وَوَلَّى عَلَيْهَا هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو التَّغْلِبِيَّ
وَكَانَ سَبَبَ عَزْلِهِ عُمَرَ بْنَ حَفْصٍ عَنْ السِّنْدِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ لَمَّا ظَهَرَ , كَانَ بَعَثَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ الْمُلَقَّبَ بِالْأَشْتَرِ , وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ بِهَدِيَّةٍ , خُيُولٍ عِتَاقٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ بِالسِّنْدِ , فَقَبِلَهَا
فَدَعَوْهُ إِلَى دَعْوَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فِي السِّرِّ
فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ , وَبَايَعَ لَهُ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنَ الْأُمَرَاءِ سِرًّا
فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا , وَلَبِسُوا الْبَيَاضَ .
فَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ بِمَقْتَلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ بِالْمَدِينَةِ , أُسْقِطَ فِي يَدِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ وَأَصْحَابِهِ , وَأَخَذَ فِي الِاعْتِذَارِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ : إِنِّي أَخْشَى عَلَى نَفْسِي .
فَقَالَ : إِنِّي سَأَبْعَثُكَ إِلَى مَلِكٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي جِوَارِ أَرْضِنَا , وَإِنَّهُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنَّهُ مَتَى عَرَفَكَ أَنَّكَ مِنْ سُلَالَتِهِ أَحَبَّكَ .
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ , وَصَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ , فَكَانَ عِنْدَهُ آمِنًا , وَصَارَ عَبْدُ اللَّهِ يَرْكَبُ فِي مَوْكِبٍ مِنَ النَّاسِ , وَيَتَصَيَّدُ فِي جَحْفَلٍ مِنَ الْجُنُودِ , وَانْضَمَّ إِلَيْهِ
وَوَفَدَ عَلَيْهِ طَوَائِفُ مِنَ الزَّيْدِيَّةِ .
وَأَمَّا أَبو جَعْفَرَ , فَإِنَّهُ بَعَثَ يَعْتِبُ عَلَى عُمَرَ بْنِ حَفْصِ نَائِبِ السِّنْدِ
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ : ابْعَثْنِي إِلَيْهِ , وَاجْعَلِ الْقَضِيَّةَ مُسْنَدَةً إِلَيَّ , فَإِنِّي سَأَعْتَذِرُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ , فَإِنْ سَلِمْتُ , وَإِلَّا كُنْتُ فِدَاءَكَ وَفِدَاءَ مَنْ عِنْدَكَ مِنَ الْأُمَرَاءِ .
فَأَرْسَلَهُ سَفِيرًا فِي الْقَضِيَّةِ , فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ , وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ بِعَزْلِهِ عَنِ السَّنَدِ , وَوَلَّاهُ بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ عِوَضًا عَنْ أَمِيرِهَا .
وَلَمَّا وَجَّهَ أَبو جَعْفَرَ هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو إِلَى السِّنْدِ , أَمَرَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ
فَجَعَلَ يَتَوَانَى فِي ذَلِكَ
فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبو جَعْفَرَ يَسْتَحِثُّهُ فِي ذَلِكَ
ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَّ سَفَنَّجًا أَخَا هِشَامِ بْنِ عَمْرٍو لَقِيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ , فَاقْتَتَلُوا , فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ جَمِيعًا , وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَكَانُهُ فِي الْقَتْلَى , فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ .
فَكَتَبَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى أَبي جَعْفَرَ يُعْلِمُهُ بِقَتْلِهِ
فَبَعَثَ يَشْكُرُهُ عَلَى ذَلِكَ , وَيَأْمُرُهُ بِقِتَالِ الْمَلِكِ الَّذِي آوَاهُ , وَيُعْلِمُهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ قَدْ تَسَرَّى بِجَارِيَةٍ هُنَالِكَ , وَأَوْلَدَهَا وَلَدًا أَسْمَاهُ مُحَمَّدًا , فَإِذَا ظَفِرْتَ بِالْمَلِكِ فَاحْتَفِظْ بِالْغُلَامِ .
فَنَهَضَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ , فَقَاتَلَهُ فَغَلَبَهُ وَقَهَرَهُ عَلَى بِلَادِهِ وَأَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ , وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ وَالْأَخْمَاسِ , وَبِذَلِكَ الْغُلَامِ إِلَى أَبي جَعْفَرَ
فَفَرِحَ أَبو جَعْفَرَ بِذَلِكَ , وَبَعَثَ بِذَلِكَ الْغُلَامِ إِلَى الْمَدِينَةِ , وَكَتَبَ إِلَى نَائِبِهَا يُعْلِمُهُ بِصِحَّةِ نَسَبِهِ , وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُلْحِقَهُ بِأَهْلِهِ , يَكُونُ عِنْدَهُمْ لِئَلَّا يَضِيعَ نَسَبُهُ , فَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْأَشْتَرِ .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ : وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ َوَلَّى أَبو جَعْفَرَ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ سِجِسْتَانَ .
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ الْمَهْدِيُّ عَلَى أَبِيهِ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ
فَتَلَقَّاهُ أَبُوهُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْأَكَابِرُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ
وَقَدِمَ نُوَّابُ الْبِلَادِ مِنَ الشَّامِ وَغَيْرِهَا لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ , وَتَهْنِئَتِهِ بِالسَّلَامَةِ وَالنَّصْرِ .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ شَرَعَ أَبو جَعْفَرَ فِي بِنَاءِ الرُّصَافَةِ لِابْنِهِ الْمَهْدِيِّ بَعْدَ مَقْدِمِهِ مِنْ خُرَاسَانَ , وَالرُّصَافَةُ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ , وَجَعَلَ لَهَا سُورًا وَخَنْدَقًا , وَعَمِلَ عِنْدَهَا مَيْدَانًا وَبُسْتَانًا , وَأَجْرَى إِلَيْهَا الْمَاءَ مِنْ نَهْرِ الْمَهْدِيِّ .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : وَفِيهَا جَدَّدَ أَبو جَعْفَرَ لِنَفْسِهِ الْبَيْعَةَ , وَلِوَلَدِهِ الْمَهْدِيِّ مِنْ بَعْدِهِ , وَلِعِيسَى بْنِ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِمَا
وَجَاءَ الْأُمَرَاءُ وَالْخَوَاصُّ فَبَايَعُوا , وَجَعَلُوا يُقَبِّلُونَ يَدَ أَبي جَعْفَرَ , وَيَدَ ابْنِهِ الْمَهْدِيِّ , وَيَلْمَسُونَ يَدَ عِيسَى بْنِ مُوسَى , وَيُشِيرُونَ بِالتَّقْبِيلِ إِلَيْهَا , وَلَا يُقَبِّلُونَهَا .
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ , وَهُوَ نَائِبُ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ
وَعَلَى الْمَدِينَةِ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ
وَعَلَى الْكُوفَةِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ
وَعَلَى الْبَصْرَةِ جَابِرُ بْنُ تَوْبَةَ الْكِلَابِيُّ
وَعَلَى مِصْرَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ .
وَنَائِبُ خُرَاسَانَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ
وَنَائِبُ سِجْسْتَانَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ .
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ .
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ , صَاحِبُ " السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ " الَّتِي جَمَعَهَا فَجَعَلَهَا عَلَمًا يُهْتَدَى بِهِ , وَفَجْرًا يُسْتَجْلَى بِهِ , وَالنَّاسَ كُلُّهُمْ عِيَالٌ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ , كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ .