من فضلك قم بتحديث الصفحة لمشاهدة المحتوى المخفي
حديث: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها
الشيخ طه محمد الساكت
حديث: مَثَل القائم على حدود الله والواقعِ فيها [1]
عن النُّعمان بن بَشير رضيَ الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَثَلُ القائمِ على حُدود الله والواقعِ فيها، كَمَثَل قومٍ اسْتَهَمُوا على سفينة، فأصابَ بعضُهم أعلاَها، وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلها إذا استقَوا من الماء مرُّوا على مَنْ فَوْقَهم، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نصيبنا خَرْقًا، ولم نُؤْذِ مَنْ فوقنا، فإنْ يتركوهم وما أرادوا هَلَكُوا جميعًا، وإنْ أخذوا على أيديهم نَجَوْا، ونَجَوْا جميعًا))؛ رواه البخاري[2].
المفردات:
الحدُّ: المنع، ومنه سُمِّي البوَّاب الحداد، وكذلك السَّجَّان، والحاجز بين الشيئين؛ لئلا يختلط أحدهما بالآخر، أو لئلا يتعدَّى أحدهما على الآخر، ومنتهى الشيء وغايته؛ لأنه يردُّه ويمنعه عن التمادي، هذا في لسان العرب.
وأما في اصطلاح الشرع: فقد أُطلقت الحدود على العقوبات المُقدَّرة الرادعة عن المحارم المغَلَّظة، كحدود الزنا والسرقة وشرب الخمر، ومن هذا قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِحِبِّه أسامة: ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟!))؛ يعني: في قطع يد المرأة التي سَرَقت، وقصَّتُها في الصحيحين[3].
وأُطلقت على محارم الله ومعاصيه؛ لأنَّ الله منع منها، أو لأنه جعلها نهايات لمَا أباح لعباده، فلا يجوز لهم أن يعتدوها، بل لا ينبغي لهم أن يقربوها؛ لأنَّ من رعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه[4].
من هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إني آخذٌ بحُجَزكم[5]، اتَّقُوا النار، اتَّقُوا الحُدود)) قالها ثلاثًا؛ أخرجه الطبراني والبزَّار[6].
وأُطلقت الحدود كذلك على جملة ما أذن الله لعباده فيه؛ سواء أكلَّفهم إيَّاه أم أباحه لهم، وليس وراء ما حدَّ لهم ممَّا أذن فيه إلا ما حظر ومنع.
وقد تُطلق على جملة ما شَرَع الله لعباده ممَّا أمر ونهى، وأحلَّ وحرَّم، ومنه قوله تعالى في الثناء على المؤمنين الصَّادقين الذين اشترى منهم أنفسم وأموالهم بأنَّ لهم الجنة: ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 112]؛ ونرى أنَّ هذا أنسب المعاني الأربعة هنا، وأوْلاها بالمُراد في هذا الحديث[7].
والقيام على حدود الله: رعايتُها وحفْظُها، وإحلالُ ما أحلَّ، وتحريمُ ما حرَّم منها، ويتمثَّل ذلك جليًّا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير.
والوقوع فيها: التهاون بها والتَّردِّي في مخالفتها.
والاستهام على السفينة: الاقْتراعُ بضرب السِّهام ليأخذَ كلٌّ نصيبَه منها.
وجمهور العلماء على جواز القُرعة والاحتكام إليها، ولذا استدلَّ البخاري بهذا الحديث على القُرعَة بين الشركاء عند القسمة.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرًا أَقْرعَ بين نسائه، فأيَّتُهُنَّ خرج سهمُها خَرَج بها معه[8]، وليس هذا مجال التبسُّط فيها[9].
الأخذ على اليد: المنعُ، يُقال: أخذتُ على يد فلان، إذا منعته عما يريد، كأنك أمسكت يده.
[1] مجلة الأزهر، العدد الثامن، المجلد السابع عشر (1365).
[2] أخرجه البخاري (2493) في كتاب الشركة.
[3] أخرجه البخاري (3475) في كتاب الأنبياء، ومسلم (1688) في الحدود.
[4] كما في الحديث الذي رواه البخاري (52)، ومسلم (1599)، والترمذي (1205) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
[5] المراد: مانعكم وحافظكم من الهَلَكة، وهو من الكنايات البديعة، وأصل الحجزة: مَعْقِد الإزار والسراويل (طه).
[6] أخرجه أحمد 1: 257 (2327) بلفظ: ((أنا فرطكم على الحوض، فمن وَرَدَ أفلح، ويؤتى بأقوام، فَيُؤْخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أيْ ربِّ، فيقال: ما زالوا بعدك يرتدُّون على أعقابهم))؛ وإسناده ضعيف لضعف ليث بن أبي سُلَيْم، وقد جاء بإسناد صحيح مطوَّلًا في "المسند" برقم (2096)، وأخرجه الطبراني في "الكبير" 11: 33 (10953) و"الأوسط" (2874)، ولفظه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني آخذ بُحَجزكم، أقول: اتَّقوا النار، اتَّقوا الحدود، فإذا متُّ تركتكم، وأنا فَرَطكم على الحوض، فمن وَرَدَ فقد أفلح، فيُؤتى بأقوام، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: ربِّ، فيقول: إنهم لم يزالوا بعدك يرتدون على أعقابهم))؛ ورواه البزَّار، كما في "كشف الأستار" 4: 176 (3480)، لكن ليس فيه اللفظة المذكورة: "اتقوا الحدود"، وفي إسناده - كما قال الهيثمي في "المجمع" 10: 364-: ليث بن أبي سُلَيْم، وهو صدوق في نفسه، لكن ضعيف الحديث، لاختلاطه الشديد، وإن كان الهيثمي يتسامح فيوثِّقه، لكن يُعِلُّ حديثه بالتدليس.
ورواه البزار في "مسنده" 1: 314(204) في مسند عمر بن الخطاب، لا ابن عباس رضي الله عنهم، وفيه طول، وأوَّلُهُ: ((إني مُمْسِك بحُجَزكم، هلمَّ عن النار، وأنتم تهافتون فيها... ))؛ وإسناده حسن.
[7] أطلنا بعض الشيء في تفسير بعض الحدود لأهميتها، وكثرة ورودها في الكتاب والسنة، ومن أراد المزيد فليرجع إلى "لسان العرب"، وإلى "جامع العلوم والحكم"؛ لابن رجب [1: 207 - 210] (طه).
[8] أخرجه البخاري (4141)، ومسلم (2770).
[9] وقد وفَّى الكلام على القُرعة وحكمها وكيفيتها ابن القيم في كتبه "الطُرق الحكمية" (طه).
الألوكة
.............