السر الأعظم أو سر الأسرار – الجزء الثامن والثلاثون

    

تركي السعوديه

مشرف ♥ ♥ المنتديات مراقبه من خلاله
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد ابن عبد الله وعلى آله وصحبهِ أجمعين

لا زلنا في سورة الرحمن، ولازالت الأسرار تظهر للعيان، ولازالت رحمة الرحمن محيطه بعباده الذين اتَّقوا وعلى ربِّهِم يتوكلون.
فبعد ما تقدم من شرح وتفسير لآيات سورة الرحمن، وما سبقه حينها من شروحات خاصة بالسر العظيم أو بسر الأسرار، حيث تحدثنا هُناك عن الطاقة بما فيها الطاقة الإيجابية والطاقة السلبية والتي تُمثل في المفهوم الديني الخير والشر.
ولتعريف كل منهما أود أن أقتبس من مقالة سابقة لي بهذا الخصوص، حيث كانت بعنوان (حقيقة الخير والشر بالقرآن) ولقد جاء فيها:
الخير في اللغة هو مصطلح لغوي مصدره اختيار أو يختار والماضي اختار والأمر اختر ، والمقصود من مصطلح الخير هو اختيار الأفضل ، أي أفضل الاختيارات عند الذي يختار هو الخير ، ويأتي مصطلح الخير عادةً في وصف الأمور ذات النهاية السعيدة والمحببة أو المفضلة لدى الناس ، بمعنى إنني عندما أصف عمل ما بأنهُ عمل خير ، فأنني أقصد بأنني على يقين بأن نتيجة هذا العمل سوف تكون جيدة ومحببة ومطلوبة لدى الجميع دون استثناء ، كقولهِ تعالى في سورة الأعراف : قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188).
والمرادف العكسي للخير هو الشر ومصدره من الإشترار أو يشتر والمقصود من مصطلح الشر هو إشترار المرء، أي تهوره وتوحشه وعدم تفكيره أو تغليب غرائزه وتغييب عقله في اختيار الشيء، وبالتالي يسوء اختياره ويضرُّ به ويُلحق به الأذى الشديد.
تُستخدم عادةً كلمة الإشترار في الحيوانات عندما نقول حيوانات مشترة، أي متوحشة ومتهورة ويصعب السيطرة عليها، ولهذا السبب يأتي عادةً مصطلح الشر لوصف الأشياء المكروهة والمُضرَّة والغير محببة لدى الناس كدلالة مؤكدة على كون نتيجة هذا العمل سوف تكون شر، أي لا تصب لصالح المرء بل تضرُّه وتسيء له وبالتالي تكون النتيجة عكس المطلوب تماماً سواء للمرء نفسه أم للجميع ، كقولهِ تعالى في سورة الإسراء : وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83).
مما تقدم نفهم جيداً حرص العديد من الجهات سواء كانت دينية أو فلسفية أو عقائدية على وصف أفكارها بأنها خير وأفكار الأخرين بأنها شر، وذلك للدلالة على أنَّ ما تدعوا له إنما هو الاختيار الصحيح الذي يؤدي بالضرورة إلى النتيجة المطلوبة والتي سوف تصب لصالح الناس، وبأن أفكار الآخرين شريرة للدلالة على أن العمل المخالف لهذهِ الأفكار سوف يكون نتيجته سيئة ومضرَّة لمصلحة الناس .
وبالنتيجة يبقى اختيار الخير أو الشر منوط بالفرد نفسهِ.
أما سعي الإنسان الدائم في الاستعانة بالآخرين لمعرفة الخير والشر إنما يكون بسبب شعوره ويقينه بأهمية هذا الأمر بالنسبة له ، فمعرفة الخير والشر مطلب جميع المخلوقات لكي تستمر في البقاء، أي إنَّهُ موجود في الفطرة وذلك لدى جميع المخلوقات دون استثناء، فالمخلوقات التي تستمر بالبقاء تكون قد عرفت ما هو الخير بالنسبة لها فأخذت به ، وما هو الشر بالنسبة لها فابتعدت عنه ، حيث جاء في سورة الأنبياء قول الله العزيز القدير : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)، انتهى الاقتباس.
بعد أن شرحنا حقيقة الخير والشر بالقرآن، نحاول أن نفهم علاقتها بالوجود والعدم، وأعود وأقتبس بعض ما كتبت ونشرت في هذا الخصوص والني كانت بعنوان (حقيقة الوجود والعدم في القرآن) حيث كتبت فيها ما يلي:
الوجود والعدم هما عبارة عن نقيضين إثنين، وهما يمثلان الخير والشر.
فالخير المجرد من الشر هو أزلي (خير + خير = وجود)، والله كلهُ خير، فالله أزلي لقولهِ تعالى في سورة الإخلاص: بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)).
والشر المجرد من الخير هو النهاية (شر + شر = عدم)، حيث جاءت الدلالة على العدم عند قولهِ سبحانه (لم يكن شيئاً مذكورا) وذلك في سورة الإنسان: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1).
إذاً الأصل في الوجود هو الخير وهو الله سبحانه وتعالى، فالخير لا يمكن فناءه.
ونقيض الوجود هو العدم، والعدم لا يمكن إيجاده إلا بوجود نقيضه الأزلي، ألا وهو الخير أي الله خالق كل شيء سبحانهُ لقولهِ تعالى في سورة آل عمران: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47).
وعليه، فالخير موجود سواء كان هُناك شر (عدم) أو لم يكن هُناك، لأنَّ الله أزلي، فهو الأول والآخر، لقولهِ تعالى في سورة الحديد: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3).
ولكن الشر لا يمكن أن يكون موجود إلا بوجود الخير، فوجود الشر مع الشر إنما يعملان لتدمير بعضهما البعض ليصلا بالنهاية إلى مرحلة العدم، والعدم هو لا موت ولا حياة، لقولهِ تعالى في سورة طه: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (74).
ووجود الخير مع الخير إنما يعملان على بناء بعضهما البعض ليصلى إلى مرحلة الوجود الأزلي أو الخُلد، كقولهِ تعالى في سورة طه: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76).
ونحن كمخلوقات إنما نكون موجودون طالما هناك الخير فينا، فوجودنا على الأرض إنما هو فتنة فُتِنَّا بها لنختار بين الخير والشر، لقولهِ تعالى في سورة الأنبياء: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35).
وفي مرحلة تغلب الشر على أنفسنا ونهاية الخير فينا، فنحن نموت، فالموت هو شر، وإذا كان الإنسان يطلب الخير الأزلي، فإنما يجده بعد الموت، وذلك عندما يتخلص من الشر الموجود في نفسه وبشكل نهائي وكلي.
أما الإنسان الذي يطلب الشر، فإنه سوف يجده بعد الموت كذلك، حيث العذاب والموت المتكرر وإلى الأبد.
جاء تلخيص هذا الأمر في سورة طه لقولهِ تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124).
هذا ملخص حقيقة الوجود والعدم، والله أعلم – (انتهى الاقتباس).
مما تقدم من شرح نفهم بأنَّ السر الأعظم أو سر الأسرار إنما هما في حقيقتهما مدخل إلى الخير الخالص، والذي هو الخلود في جنَّات الرحمن.
إنَّ الإنسان الذي يعرف الله حق المعرفة يكون قد عرف جزء من السر الأعظم بسبب وجود الكثير من البشر الذين لا يعرفون الله كما يعرفهُ الإنسان المؤمن، فالسر هو ذلك الشيء الظاهر لك والمخفي عن الآخرين، أما كونهُ سر أعظم إنما جاء بسبب النتيجة العظيمة التي يمنحها هذا السر للعارفين بهِ، بالمقابل هو الخسارة العظيمة للذين لا يعرفونه.
تبقى مسألة كونه سر أعظم أو سر الأسرار، حيث جاءت صيغة أعظم هُنا لتفضيله عن عظمة باقي الأسرار، وهذا السر الأعظم إنما يتميَّز عن باقي الأسرار بكونهُ وإن ظهر سوف يُطيح بباقي الأسرار، وهو كما قلنا سابقاً عبارة عن مٌفتاح لعلم الأسماء.
إنَّ أهمية علم الأسماء بالنسبة للإنسان تتلخص في عدة نُقاط:
1- هو أول علم علمهُ الخالق جلَّ وعلا للإنسان بصورة مُباشر ومن دون وسيط يُذكر.
2- معرفة الإنسان لعلم الأسماء جعلهُ بمثابة حجَّة لله العزيز القدير يحتج بهِ أمام مخلوقاتهِ أجمعين.
3- كون الله سُبحانه يحتج بعلم الإنسان في مواجهة خلقهِ فهذا يعني بأنَّ في خلقهِ للإنسان تميُّز ومفخرة لله العزيز القدير أمام خلقهِ.
4- ربط الخالق سُبحانه بين معرفة الإنسان بعلم الأسماء كلها وبين استحقاقه ليكون خليفة الله في الأرض.
5- عدم ممارسة الإنسان لوظيفتهِ كخليفة الله في الأرض يعني بالضرورة نسيانه لعلم الأسماء ولا يعني فقدانهِ أو ضياع لعلمهِ.
6- لن تقوم الساعة على البشر قبل أن يُمارس الإنسان وظيفتهُ كخليفة الله في الأرض، وذلك حتى تصدق الآية.
7- من المهام الأساسية في خلافة الإنسان هي إنهائهِ للفساد وسفك الدماء الحاصل بين الناس مما يقود إلى بطلان نبوءة الملائكة.
8- ضرورة حصول المواجهة بين علم الله المُتمثل بعلم الأسماء وبين علوم البشر الوضعية، لتكون النتيجة المنطقية بطلان جميع العلوم والمفاهيم البشرية أمام علم الله الخالق العزيز القدير.
ما تقدم بعض من مكاسب علم الأسماء لدى الإنسان، ويبقى هُناك الكثير ولكن لا يتَّسع المقام لذكرها هُنا.
بعد هذهِ التوطئة نعود إلى سورة الرحمن وإلى آياتهِ العِظام، حيث جاء قولهُ تعالى: فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67).
فكما لا حظنا سابقاً وكما نُلاحظ الآن بأنَّ أداة التعريف (فِيهِمَا) إنما جاءت للرد على السؤال المحذوف تقديره (ماذا فيهما تلكما الجنتان) ليكون الجواب حينها مبتدئاً بقولهِ سُبحانه (فِيهِمَا) ثُم تمَّ بعد ذلك الإخبار بوجود (َعيْنَانِ) وبأنَّ هاتان العينان يتميزان بكونهما (نَضَّاخَتَانِ)، وعلى الرغم من كون وصف عينان نضَّاخَتَّان إنما يُطلق على عينا الماء التي يتم عن طريقهما نضخ أو ضخ الماء عند الحاجة، ولكن في هذهِ الآية الكريمة وفي هذا المقام بالذات كآية عظيمة من آيات الرحمن، فإنَّ الوصف هُنا يتعدى من كونهِ خاص بعين الماء، ليكون مصدر غني ووفير للماء ولكل أنواع الخير والعطاء بل ولكل ما يطلبه الإنسان ويشتهيه في تلك الجنَّتان، فمصدر الخير موجود ولا يتم ضخَّهُ أو نضخه إلا عند الحاجة أو الطلب، وبذلك تكون تلك العينان بمثابة مصدر كل خير وإن لم يكن ظاهر للعيان، فكل مرَّة يشعر بها سُكان الجنتان بحاجتهم إلى نعمة ما من نِعم الرحمن تقوم تلك العينان بالنضخ، فيحصلوا حينها على ما تمنوه من الرحمن.
وهنا يسأل الخالق الديَّان عباده من الإنس والجان، فيقول لهُم: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67)، والجواب الطبيعي والمنطقي من قبل الإنس: نعوذ بالله أن نُكذِب أو ننكُر بأيٍ من نعمك وأفضالك علينا يا ألله.

تابعونا هدانا وهداكم الله، فهناك المزيد إن شاء الله.

ونبقى حامدين لله شاكرين لأنعمهِ ولرسولهِ الكريم محمد عليه الصلاة والسلام.

محمد "محمد سليم" الكاظمي


 
Watching encrypted channels without a card is against the law. Italy Sat forum is for educational purposes only and does not support any type of violation of individual property rights. It does not support or encourage any violation or removal of software rights or copyrights of software and materials protected by copyright. It is prohibited to post illegal or pirated serials. It is also prohibited to publish any materials that violate intellectual or literary property rights. Posts and comments express the point of view of their owner only
عودة
أعلى