السر الأعظم أو سر الأسرار – الجزء السابع والثلاثون

    

تركي السعوديه

مشرف ♥ ♥ المنتديات مراقبه من خلاله
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي العظيم

لا زلنا نبحث وندرس في سورة الرحمن عن السر الأعظم وسر الأسرار، ولا زالت الأسرار تتراءى وتظهر للعيان، ولا زال سعينا يتواصل في سبيل تخليص الإنسان من وساوس وفتنة الشيطان، وهو الأمر الذي وإن تم، سوف يكون نهاية الشر في الإنسان، وحينها سوف تتضح رحمة الله في خلقه، وتتضح عظمة الخالق وحكمتهِ في شؤون عبيده من الإنس والجان ومن المخلوقات جميعاً في هذا العالم أو في أي عالم كان.
مما لا شك فيه ونحن نعيش في زمن الانفتاح، وهو الزمان الذي يصعب أن يكون قد كان قبل هذا الزمان، بمعنى أنَّ هذا الزمان لم يكن لهُ مثيل في تاريخ الإنسان، أن نواجه كبشر تحديات جديدة وغير مسبوقة على الإنسان.
ما يُميز هذا الزمان بالذات عن باقي الأزمان هو التحديات المُتمثلة في اجتهاد كل مجتمع أو شعب على أن يُظهِر أفضل ما عنده امام الأعيان وأمام العالم أجمع من إنس وجان ومن مخلوقات الله في كل الأكوان.
فنحن الآن كمجتمعات بشرية وكتكتلات عرقية نواجه تحد كبير فيما يخص الحفاظ على الهوية واللغة والوطن، والسبب في ذلك يعود إلى طموح الناس بشكل عام، فكل فرد أو عائلة بشرية تسعى إلى تأمين أساسيات العيش الكريم لأفرادها وذلك بغض النظر عن المكان والهوية أو اللغة، والتحد القائم حالياً هو في قدرة المجتمعات أو الأوطان إذا صح التعبير على استدراج وإغواء المٌتميزين من البشر وبغض النظر عن أعراقهِم وجلبهِم إلى تلك الأوطان، لتكون النتيجة فرز المجتمعات والأوطان إلى أوطان للنُخبة من الناس كالأغنياء والعلماء والمُثقفين أو المُتميزين بين شعوبهِم الأصلية، وأوطان للبسطاء والمساكين ومحدودي الدخل ولقليلي الحيلة إن صح التعبير.
إذاً في زماننا الحالي وكنتيجة للانفتاح أصبح الإنسان أما خيارين إثنين لا ثالث لهُما:
الخيار الأول: هو أن يرضى الإنسان إذا كان يعيش في وطن النُخبة ليتعامل على الدوام مع أناس جدد، وأقوام وجنسيات لم تأتي إلى موطنه سوى لتنافسه على وجوده واستقراره في موطنه، وهو بالتالي مهدد على الدوام في وجوده واستقراره كإنسان.
الخيار الثاني: وهو أن يرضى الإنسان على العيش في وطن البسطاء ليتعامل على الدوام مع حُكام ومتنفذين يُمارسون عليه القهر والظُلم والاستعباد لكونهِ من البسطاء، ولكونهِ غير قادر على الانضمام إلى وطن النُخبة لينال الاحترام والتقدير كإنسان.
إذاً الإنسان في كِلا الموطنين مُهدد في وجوده وفي استقراره وكذلك في خصوصياته.
المُشكلة ليست هُنا، فالإنسان في طبيعتهِ يقبل التحدي والمُنافسة، وهذا بسبب كون الخالق العزيز القدير قد خلقهُ للتميُيز وللمنافسة، ولا يخفى على أحد من العالمين بأنَّ الله العزيز القدير عندما خلق الإنسان أول مرَّة جعلهُ يتحدى الملائكة في علمهِ بعلم الأسماء فانتصر، وبعد الملائكة تحدى الجان بروحهِ وبعلم الكِتاب فانتصر كذلك، وبخصوص صراع الإنسان على الأرض فهو في حقيقتهِ صراع بين المُنتصرين ليظهر الأفضل بينهُم، والدليل هُنا هو عدم ظهور مُنافس للإنسان في ملكهِ على الأرض إلى العلن، سواء من الملائكة أو الجان أو من حولهِ من مخلوقات الله على اختلاف أنواعها.
المشكلة إذاً في وعي الإنسان وفي قبولهِ بأخيهِ الإنسان كمخلوق متميز مثله، فيكِف حينها عن محاربة أخيه الإنسان، أي محاربة نفسه وذاته وليس محاربة أي مخلوق آخر غير الإنسان.
كبشر على الأرض إنما نلمس وجود القبول للأمر الواقع فيما يخص انتصار الإنسان وتفوقهِ على المخلوقات جميعاً من قبل بعض المخلوقات الأرضية المحيطة بِنا والتي نطلق عليها الحيوانات الأليفة لكونها ترضى بالرضوخ والانصياع لأوامر الإنسان وهناك أيضاً المخلوقات الأليفة لأننا يجب أن نشمل النباتات الأليفة والطبيعة الأليفة والتي لا تُهدد الإنسان بوجوده بل وتوفر لهُ الغذاء والدواء والأجواء المُريحة والمُناسبة ، وهُناك أيضاً المخلوقات الغير أرضية كالملائكة والتي أقرت بتفوق الإنسان ولحُكم الرحمن فهي تُساعد الإنسان وتدعمه في حكمه واستقراره وفي زعامته على مخلوقات الله جميعاً.
بالمُقابل يشعر الإنسان على الرغم من تفوقهِ على المخلوقات بوجود من لا يقبل بالأمر الواقع من المخلوقات بكونه سيد المخلوقات دون مُنازع وذلك كما أمر الرحمن، من هذهِ المخلوقات الأرضية تلك التي يطلق عليها الإنسان الحيوانات المتوحشة، والنباتات السامة كذلك الطبيعة الموحشة التي تُهدد الإنسان في وجوده والتي تعمل على تهديد حياتهِ والتشكيك في تفوقهِ وزعامته، وهُناك المخلوقات الغير أرضية كبعض الجان مثل الشياطين الملعونين والتي ترفض الإقرار بتفوق الإنسان وبالرضوخ لحُكم الرحمن فهي تسعى إلى تدمير وتحطيم الإنسان بأي شكل كان، وهي بالتالي تُحاربهُ بالخفاء شأنها شأن المخلوقات المتوحشة فلا تواجه الإنسان، بل تستغل الفرص لتهاجمه من حين إلى آخر.
وعندما نُترجم الأمر على أرض الواقع نجد أنَّ الإنسان يرعى ويهتم بل ويُدير شؤون المخلوقات القابلة بتفوقه والراضية بمشيئة الرحمن بخصوصهِ كالحيوانات الأليفة وذلك عن طريق تربيتها ورعايتها، أو كالنباتات الأليفة عن طريق زراعتها وتنشئتها، كذلك الطبيعة الأليفة عن طريق بنائها وتعميرها، وهناك المخلوقات الغير أرضية كالملائكة فإنَّهُ أي الإنسان يُزكيها ويمدحها ويجعلها مُحببة إلى نفسه بل ويهتم بأخبارها ويتجاوب مع وحيها ورسائلها ويقبل التعامل معها بكل وسيلة كانت.
وفيما يخص المخلوقات المتوحشة، فإننا نجد الإنسان يحاربها ويواجهها، كالحيوانات المتوحشة التي يسعى إلى ترويضها وتسخيرها لتقوم بخدمته والرضوخ لأمره وسيادته، أو النباتات السامة التي يقتلعها أو يُحاول تحديد انتشارها، كذلك الطبيعة الموحشة التي يُحاول الابتعاد عنها وتجنبها، وبخصوص المخلوقات الغير أرضية كشياطين الجن الملعونين فإن الإنسان يسعى إلى محاربتهِم عن طريق الدين ليتجنب شرَّهُم وفتنتهُم وتهديدهُم للإنسان ووعيدهم لهُ بالشر والخُسران.
فيما تقدم نُدرك تحديات الإنسان في وجوده على الأرض، وهي تحديات ليست بالهينة أو البسيطة، بل هي تحديات مصيرية وحتمية، فحتى إن تجنبها الإنسان واستسلم لها وقبل بالخُسران كأي جبان، فهي لن ترحمه أو تقبل بهزيمته وخُسرانه، ولن ترضى بغير زوال الإنسان من الوجود.
بالتالي فقبول بعض البشر بالهزيمة وبالاستسلام إمام المخلوقات المتوحشة سواء كانت أرضية كالحيوانات المتوحشة والنباتات السامة والطبيعة الموحشة أو الغير أرضية كشياطين الجان، إنما يعني قبولهُم بمحاربة الإنسان لأخيه الإنسان بدلاً من محاربة أعداء الإنسان، لعلهُم بذلك ينالوا رضى أعداء الإنسان وأولهُم الشيطان اللعين.
هؤلاء البشر القابلين بهزيمة الإنسان كمخلوق أمام مخلوقات الله جميعاً، هُم من يرفضون تسليح الإنسان بعلم الرحمن أي بعلم الأسماء الذي علَّمهُ الخالق للإنسان ليتحدى بعلمهِ ذلك كائِن من كان من مخلوقات الله في الأكوان، وهم من يسمعون لوساوس الشيطان وفتنتهِ للإنسان فيستبدلون قوة وسلاح الإنسان الحقيقي المُتمثل بعلم الأسماء، بسلاح مُزيف ولا يرقى للتحديات التي يواجهها الإنسان وهو العلوم الوضعية التي يتبجح بها الإنسان المهزوم أمام التحديات التي يواجهها الإنسان.
الدليل العملي والملموس فيما يخص العلوم الوضعية التي أوجدها الإنسان بتعليم وتوجيه من الشيطان، هو في محاولة تلك العلوم دحض حقيقة تميُّز الإنسان، بل رفضها لوجود الخالق سُبحانه الذي ميَّز الإنسان عن باقي مخلوقات الرحمن، وبمجرد قبول الإنسان لهذهِ العلوم فهو يقبل بالهزيمة أمام كل من يُحاربهً من مخلوقات الله، وهو الأمر الذي يجعله يسعى في المقام الأول إلى قتل وتدمير أخاه الإنسان، فهذهِ العلوم الوضعية الشيطانية هي التي دفعت بالإنسان إلى إنتاج أسلحة دمار شامل لم توجه إلا لبني الإنسان، والوحيد الذي يمنع الإنسان من استعمالها في تدمير وإنهاء وجود الإنسان على الأرض هو الله العزيز الوهاب، كما جاء في قولهِ تعالى من سورة المائدة: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)، يذكر الرحمن في هذهِ الآية الكريمة بعض من بني الإنسان الذين استسلموا للشيطان فأخذوا على عاتقهِم قتل الإنسان أينما كان، ولم يقف في وجههِم إلى الآن سوى الرحمن.
إذاً من يسعى إلى عدم تذكر الإنسان لعلم الرحمن الذي علمهُ للإنسان، هم بعض الإنس الجبناء الذين استسلموا أمام عدوهِم الشيطان اللعين ومن والاه من المخلوقات لهزيمة الإنسان.
إن عدم تذكر الإنسان لعلوم الرحمن يُجرده من سلاحهِ الوحيد في محاربة الشيطان اللعين وأعوانه من الإنس والجان، وهؤلاء الجبناء الخونة لجنسهِم من بني الإنسان إنما يسعون كذلك إلى عدم اهتمام الإنسان بالسر الأعظم أو سر الأسرار لكونهِ المفتاح الوحيد لذاكرة الإنسان ليتذكر علوم الرحمن، فيبقى الإنسان حينها مهزوماً مدحورا أمام أعداءه من بعض خلق الله سواء كانوا من الجان أو غير الجان.
هذهِ التوطئة تجعلنا نفهم خصوصية وتفرد بل وعظمة آية فريدة من سورة الرحمن، بل إنها فريدة من بين آيات القرآن لكونها الآية الوحيدة التي أتت على هيئة كلمة واحدة في وسط سور القرآن العظيم، فتفردها وتميزها من بين آيات القرآن تجعلنا نتوقف عندها طويلاً ونتأمل حكمة الخالق العزيز القهَّار في تمييز هذه الآية وجعلها فريدة من بين آيات القرآن، حيث جاء قولهُ تعالى: مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65)، لقد نوهنا سابقاً بأن كل آية من سورة الرحمن عندما يتبعها سؤال الخالق سُبحانه وهو: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، إنما يُقصد بهِ والله أعلم بأنَّ هذهِ الآية إنما تنفرد بمعنى خاص يجعلها وكأنَّها سورة متكاملة من آيات وسور سورة الرحمن، فما بالك عندما تكون هذهِ السورة عبارة عن كلمة واحدة ؟
عندما نتمعن في قولهِ تعالى (مُدْهَامَّتَانِ) ونأخذ بنظر الاعتبار من كونها سورة كاملة المعنى، وبأنَّها ذات أهمية وخصوصية وفرادة تتميز بها عن باقي سور وآيات القرآن، نفهم تفسيرها وتأويلها في عموميتها وليس بخصوصيتها، والمقصود بالعمومية هُنا بأنها تفسر وتشمل بتفسيرها أمور كثيرة ومتعددة وليس شيء محدد.
إن تفسير الآية الكريمة هُنى لا يؤخذ من المعنى المُجرد للكلمة، وإنما يُأخذ من موقعها ومكانتها وفرادتها وصيغتها التي تتحدى العقل والمنطق في سرد آيات وسور القرآن، فعندما نعلم بأن معنى كلمة مُدهَم وهو مصدر كلمة مدهامتان في اللغة العربية حين نقول أدهَم الشيء أي سوَّدهُ، بمعنى أنَّه قام بجعله ذو لون أسود بطريقة ما، فالسماء بالليل سوداء أو إدهام الليل أي جعل الليل أسود اللون بسبب كُثرة وكثافة ألوان نجومهِ، وإدهام الزرع أي ريًّهُ والاعتناء بهِ فأصبح كثيفاً يعتليه السواد لمن ينظر إليه من بعيد، إذا فكُثرة الخير وزيادة البركة في الشيء وعظمة النعمة فيه تجعلهُ غزيراً عظيم العطاء وكثير الخير، وعندما نورد ونُفسِّر معنى مُدهامتان في إطار سورة الرحمن التي تصف الخير والبركة العظيمة في جِنان الرحمن بل وفي جنَّتين كمثال عن جنان الخالق الواحد الأحد سُبحانه، فيأتي المعنى هُنا ليصف وضع الجنتان بأن ما فيها من خير فهو غزير وعظيم ليجعل من كُثرته وكأنَّهُ مُدهامتان في كِلا الجنَّتان، فكل ما يتمنى المرء وجوده في الجنَّتان الخالق سوف يُبارك به ويجعلهُ وفيراً وغزيراً كالزرع الأخضر عندما يُبارك فيهِ الرحمن ليصبح لونه أسود لناظريه من غزارتهِ وبركته، وهكذا هو شأن كل النِعم الموجودة في الجِنتان بل وفي كل الجِنان، وهو الأمر الذي سوف يبقى إلى ما يشاء الرحمن.
فهل هُناك أعظم من رزق الرحمن أو أعظم من وصف الخالق الديَّان للخير الوفير الموجود في الجنَّتان؟
إذا من خلال ما سبق قولهُ في التوطئة نتعلم بألَّا نستهين من قول أو فعل الخالق العزيز في الإنسان، وبعدم استهانتنا بالكلمة التي جاءت في صيغة آية عظيمة من آيات وسور القرآن، والتي جاء بعدها السؤال المُفحِم للإنس والجان بقولهِ تعالى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) ليكون الجواب الطبيعي والمنطقي من قبل الإنس: نعوذ بالله أن نُكذِب أو ننكُر بأيٍ من نعمك وأفضالك علينا يا ألله.

تابعونا فهناك المزيد إن شاء الله.

ونبقى حامدين لله شاكرين لأنعمهِ ولرسولهِ الكريم محمد عليه الصلاة والسلام.

محمد "محمد سليم" الكاظمي
 
Watching encrypted channels without a card is against the law. Italy Sat forum is for educational purposes only and does not support any type of violation of individual property rights. It does not support or encourage any violation or removal of software rights or copyrights of software and materials protected by copyright. It is prohibited to post illegal or pirated serials. It is also prohibited to publish any materials that violate intellectual or literary property rights. Posts and comments express the point of view of their owner only
عودة
أعلى