مشاهدة النسخة كاملة : حقيقة النفس في القرآن الكريم ومعانيها


فريق منتدى الدي في دي العربي
09-11-2017, 06:51 AM
قبل الحديث عن النفس كما هو مطلب البحث هنا، نُشِير أولًا إلى تعريفِ النفس في اللغة والاصطلاح، وقد ذكر أهل اللغة العربية للنفس كثيرًا من المعاني، بعضها له صلةٌ بما أريد الإشارة إليه، وهو الحديث عن النفس الإنسانية التي تُكوِّن الشخصية وتؤثر في سلوكها، وبعضها الآخر بعيدٌ عمَّا وددتُ الإشارة إليه، وسوف أكتفي هنا بذكر بعض هذه المعاني تحت العنوان التالي:
النفس بين اللغة والاصطلاح وألفاظ القرآن:
بعض تعريفات النفس في اللغة:
أولًا: النفس بمعنى الروح، يقال: خرجت نَفْس فلان؛ أي: روحه[1]، ومنه قولهم: فاضَتْ نَفْسه؛ أي: خرجت روحه[2].

ثانيًا: النفس بمعنى "حقيقة الشيء وجملته، يقال: *** فلانٌ نَفْسه؛ أي: ذاته وجملته، وأهلك نَفْسه؛ أي: أَوقَع الإِهلاك بذاته كلِّها[3]، ومنه قول صاحب الصحاح "والتكبر: هو أن يرى المرء نَفْسه أكبر من غيره"؛ أي: ذاته[4].

ثالثًا: النَّفْس بمعنى "الحسد، والعين، يقال: أصابته نَفْسٌ؛ أي: عَيْن[5]، والنافس العائن.

رابعًا: النفس بمعنى الدم، وذلك أنه إذا فُقِد الدم من الإنسان فَقَد نَفْسه؛ أو لأن النَّفْس تخرج بخروجه، يقال: سالت نفسه، وفي الحديث: ((ما ليس له نفس سائلة لا يُنجِّس الماء إذا مات فيه))[6].

خامسًا: النفس ما يكون به التمييز، والعرب قد تجعل النفس التي يكون بها التمييز نفسين؛ وذلك أن النَّفْس قد تأمره بالشيء وتنهَى عنه، وذلك عند الإقدام على أمر مكروه، فجعلوا التي تأمره نَفْسًا، وجعلوا التي تنهاه كأنها نفس أخرى[7].

سادسًا: النَّفْس بمعنى الأخ[8]، وشاهده قول الله تعالى: ﴿ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ﴾ [النور: 61].

وجمع النفس: أنفُس ونفوس، أما النَّفَس، فهو خروج الهواء ودخوله من الأنف والفم، وجمعه أنفاس، وهو كالغِذاء للنَّفْس؛ لأن بانقطاعه بطلانَها.

تعريف النفس في الاصطلاح:
قال صاحب كتاب التعريفات: "النَّفْس هي الجوهر البخاريُّ اللطيف، الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية، وسماها الحكيم: الروح الحيوانية، فهو جوهرٌ مشرق للبدن، فعند الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن وباطنه، وأما في وقت النوم، فينقطع عن ظاهر البدن دون باطنه"[9].

تعريف النفس عند العلماء المعاصرين:
ذكر العلماء المعاصرون للنفس عدةَ تعريفات؛ منها: أن النفس "هي جوهر الإنسان، ومحرك أوجه نشاطه المختلفة؛ إدراكيةً، أو حركية، أو فكرية، أو انفعالية، أو أخلاقية؛ سواء أكان ذلك على مستوى الواقع، أو على مستوى الفهم، والنفس هي الجزء المقابل للبدن في تفاعلهما وتبادلهما التأثير المستمر والتأثر، مكونين معًا وحدةً متميزة نطلق عليها لفظ (شخصية) تُميز الفرد عن غيره من الناس، وتؤدي به إلى توافقه الخاص في حياته"[10].

معاني النفس في القرآن الكريم:
وردت (النَّفْس) في القرآن الكريم في مواضع عديدة، وتعدَّدت معانيها بحسب سياق الآيات الكريمة الواردة فيها، ومن هذه المعاني:
أولًا: النفس بمعنى الرُّوح، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]؛ أي: تتركون، ويقال: خرجت نَفْسه، خرجت رُوحه، والدليل على أن النفس هي الروح قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ﴾ [الزمر: 42]؛ يريد الأرواح[11].

ومنه قوله تعالى: ﴿ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ﴾ [الأنعام: 93]، ولك أن الكافر إذا احتُضِر بشَّرتْه الملائكة بالعذاب والنكال، والأغلالِ والسلاسل، والجحيم والحميمِ، وغضب الرحمن الرحِيمِ، فتتفرَّق رُوحه في جسده، وتعصى وتأبَى الخروج، فتَضْرِبهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم: ﴿ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الأنعام: 93]؛ أي: اليوم تُهانون غاية الإهانة، كما كنتم تكذِبون على الله، وتستكبرون عنِ اتِّبَاعِ آياته، والانقياد لرسله[12].

ثانيًا: النفس بمعنى الإنسان؛ أي: الشخصية البشرية بكامل هيئتِها، وهي الإنسان بكامل دمه ولحمه وشخصيته، وهذا كثير وغالب في القرآن، فمِن ذلك الآيات التالية:
قال الله تعالى مخاطبًا الناس عامة وبني إسرائيل خاصة، بأن يحذروا يوم الحساب ويعملوا صالحًا، وأن الإنسان يأتي ربه في ذلك اليوم فردًا ولا تنفعه شفاعة الشافعين: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 48]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ﴾ [آل عمران: 145].

وقد شاع استعمالُ النَّفْس في الإنسان خاصة؛ حيث تطلق ويراد بها هذا المركَّب والجملة المشتملة على الجسم والروح[13]، ويظهر هذا في غيرِ ما سَبَق، في قوله تعالى أيضًا: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ﴾ [القصص: 33]، والمقصود هنا الرجلُ الذي ***ه موسى عليه السلام في أرض مصر؛ يعني الرجل القبطي.

ثالثًا: النفس بمعنى القوى المفكرة في الإنسان (العقل):
ومنه قوله تعالى: ﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ [المائدة: 116]؛ قال الطاهر بن عاشور في تفسيره: "والنَّفْس تُطلَق على العقل وعلى ما به الإنسان إنسان، وهي الروح الإنساني، وتطلق على الذات، والمعنى هنا: تعلم ما أعتقده؛ أي: تعلم ما أعلمه؛ لأن النفس مقرُّ العلوم في المتعارف، وإضافة النفس إلى اسمِ الجلالة هنا بمعنى العلم الذي لم يطَّلِع عليه غيره؛ أي: ولا أعلم ما تعلمه؛ أي: مما انفردت بعمله، وقد حسَّنه هنا المشاكلة كما أشار إليه في الكشاف[14].

رابعًا: النفس بمعنى قُوى الخير والشر في الإنسان:
النفس بمعنى قوى الخير والشر لها صفات وخصائص كثيرة؛ منها: القدرة على إدراك الخير والشر، والتمييز بينهما، والاستعداد لهما؛ قال تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 7، 8]، وقال سبحانه: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10]؛ أي: بيَّنا له الطريقين، طريق الخير وطريق الشر، وهناك إلى جانب الاستعدادات الفطرية الكامنة قوةٌ واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان، فمن استخدم هذه القوة في الخير وغلَّبها على الشر، فقد أفلح، ومَن أظلم هذه القوة وجناها وأضعفها، فقد خاب[15]؛ قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10].

حقيقة النفس في القرآن الكريم:
بالنظر في التعريفات السابقة نرى القرآن الكريم يُحدِّث عن النفس، على أنها كائنٌ له وجود ذاتي مستقلٌّ، وبمعنى آخر فإن القرآن يخاطب الإنسان في ذات نفسِه، باعتبار أن النفس هي القوة العاقلة المدركة فيه، فيقول سبحانه: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 7، 8].

ويقول جل شأنه: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30].
ويقول سبحانه: ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ﴾ [يوسف: 53].
ويقول: ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [يوسف: 18].
ويقول سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق: 1].
ويقول سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ [التحريم: 6].

فالنَّفْس هنا وفي مواضع أخرى كثيرةٍ من القرآن، هي الإنسان العاقل المكلف، وهي الإنسان الذي يُتوقَّع منه الخير أو الشر، والهدى أو الضلال، ثم هي الإنسان بجميع مشخصاته جسدًا ورُوحًا.

إذًا فما النفس؟
يقول الدكتور عبدالكريم الخطيب في تفسيره - مجيبًا عن هذا السؤال -: والجواب الذي نعطيه عن هذا السؤال مستمَدٌّ من القرآن الكريم، بعيدًا عن مقولات الفلاسفة وغير الفلاسفة ممن لهم حديث عن النفس، وعلى هذا نقول: يُشخِّص القرآن الكريم النَّفْس ويجعلها الكائن الذي يُمثل الإنسان أمام الله، بل أمام المجتمع أيضًا؛ فال*** الذي يصيب الإنسان هو *** للنفس؛ كما يقول سبحانه: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، ويقول جل شأنه: ﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32]، وفي مقام القصاص تحسب ﴿ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ [المائدة: 45]، وفي مقام التنويه بالإنسان، ودعوته ليلقَى الجزاء الحسن، تُخاطَب النفس وتُدعَى، فيقول سبحانه: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30]، والنفس في القرآن هي الإنسان المسؤول المحاسَب: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾ [آل عمران: 30]، وإن بالفهم الذي يستريح إليه العقل في شأن النفس، هو أنها شيء غير الروح وغير العقل، وأنها هي الذات الإنسانية أو الإنسان المعنوي، إن صح هذا التعبير، إنها تتخلَّق من التقاء الروح بالجسد، إنها التركيبة التي تخلق في الإنسان ذاتيةً يعرِفُ بها أنه ذلك الإنسان بأحاسيسه ووِجدانه ومُدرَكاته، فالنفس هي ذات الإنسان، أو هي مشخصات الإنسان التي تنبئ عن ذاته، ولا نريد أن نذهب إلى أكثر من هذا، وحسبنا أن نُؤمِن بأن الروح مِن أمر الله، فلا سبيل إلى الكشف عنها؛ كما يقول سبحانه: ﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [الإسراء: 85]، وأن النفس جهازٌ خفيٌّ عامل في الإنسان، فهي الإنسان المعنوي، ولهذا كانت موضعَ الخطاب من الله تعالى، كما أنها كانت موضع الحساب والثواب والعقاب[16]، والله أعلم.

شيخ حلقة القرآن الكريم بمسجد السلطان الأشرف


[1] لسان العرب للمؤلف: محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل، جمال الدين، ابن منظور الأنصاري، الرويفعي، الإفريقي، (المتوفى: 711 هـ).
[2] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية؛ للمؤلف: أبو نصر، إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي، (المتوفى: 393هـ).
[3] باختصار وتصريف من لسان العرب.
[4] باختصار من كتاب الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية للمؤلف: أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفى: 393 هـ).
[5] بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز؛ للمؤلف: مجد الدين، أبو طاهر، محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (المتوفى: 817 هـ).
[6] انظر: لسان العرب.
[7] المصدر السابق.
[8] المصدر السابق.
[9] من كتاب التعريفات للمؤلف: علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني، (المتوفى: 816 هـ)، بإيجاز بسيط.
[10] الموسوعة الإسلامية العامة، إشراف الدكتور محمود حمدي زقزوق.
[11] مستفاد من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن للطبري، (المؤلف): أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري (224 - 310 هـ).
[12] تفسير القرآن العظيم (ابن كثير) المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ).
[13] آفات النفس؛ تأليف نعيمة عبدالله البرش، إشراف الدكتور رياض محمود قاسم.
[14] التحرير والتنوير، "تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد"؛ المؤلف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، (المتوفى: 1393 هـ).
[15] في ظلال القرآن، المؤلف: سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي، (المتوفى: 1385هـ).
[16] بتصريف يسير من التفسير القرآني للقرآن، للدكتور عبدالكريم الخطيب.


الشيخ صلاح بن سمير محمد مفتاح

Adsense Management by Losha