فريق منتدى الدي في دي العربي
03-07-2016, 03:23 PM
دراسة في الإشكالات المتعلقة بالمقاصد الشرعية الخمسة
د. نعمان جغيم
أصل هذا المقال بحث منشور في مجلة جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية، العدد 4، 2015، وقد أجريت عليه بعض التعديلات
مقدمة
نص الغزالي على أن مقاصد الشارع من الخلق خمسة، هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وقد تبع جمهور الأصوليين الغزالي في حصر تلك المقاصد في الخمسة المذكورة، واعترض بعضهم على ذلك الحصر، وزاد عليها مقاصد أخرى. وقد أثيرت في القديم والحديث إشكالات حول تلك المقاصد الخمسة، سواء من حيث عددها، أو من حيث ترتيبها.
ويسعى هذا البحث إلى عرض تلك الإشكالات ومناقشتها. أما منهج البحث فيقوم على عرض ما ذُكر من إشكالات حول تلك المقاصد قديما وحديثا، ومناقشته. ولا حاجة للحديث في هذه المقدمة عن الدراسات السابقة؛ لأن البحث كله يدور حول مراجعة بعض تلك الدراسات ومناقشة ما ورد فيها. وقد قسمت البحث إلى مطلبين وخاتمة.
المطلب الأول: قضية الحصر في خمسة
نص الغزالي في المستصفى، والرازي في المحصول، والآمدي في إحكام الأحكام في أصول الأحكام، وغالب الأصوليين، على حصر الضروريات في خمسة، هي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال. وهذه المقاصد الخمسة عدّها بعض المعاصرين هي المقاصد العامة للشريعة الإسلامية.
وعند النظر في كلام الأصوليين في سبب هذا الحصر نجد تعليلين: أحدهما: ما ذكره الآمدي من أنه نتيجة النظر إلى واقع الحياة، حيث إنها تغطي جميع جوانب الحياة الإنسانية، ولا يوجد شيء من ضرورات الحياة يخرج عنها، حيث يقول: "والحصر في هذه الخمسة الأنواع إنما كان نظرا إلى الواقع، والعلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة." ويمكن القول إن هذه الخمسة تجمع الأصول التي تقوم عليها حياة الإنسان. فالدين يمثّل الجانب الروحي للإنسان ومنهج الهداية الذي يحقق به الغاية من وجوده في هذا الكون، وحفظ النفس يمثّل حفظ الجانب المادي للإنسان، وحفظ النسل يمثّل جانب الاستمرار في حياة البشرية، وحفظ العقل يمثّل حفظ أداة الإدراك وتصريف شؤون الحياة ومناط التكليف، وحفظ المال يمثل حفظ المصدر المادي لحياة الإنسان. ولا تخرج الأمور الأخرى عن هذه الجوانب الأساسية في حياة الإنسان.
والتعليل الثاني: هو ربطها بالعقوبات الحدية الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية على الاعتداء على هذه الأصول. ومن أمثلة ربطها بتلك العقوبات قول الإمام الغزالي: "ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوِّت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب القصاص؛ إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب؛ إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا؛ إذ به حفظ النسل والأنساب، وإيجاب زجر الغُصَّاب والسُّرّاق؛ إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معاش الخلق، وهم مضطرون إليها." وكذلك ما ورد في كلام المرداوي في شرحه على التحرير، حيث أشار إلى من ربطها بالعقوبات الحدية في قوله: "وقد أُشير إلى هذه الأربعة بقوله تعالى: (على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان بفترينه) (الممتحنة: 12)."
وبناء على ربط هذه المقاصد الخمسة بالعقوبات المنصوصة زاد بعضهم حفظ العِرْض ليقابل عقوبة القذف. قال المرداوي: "وَزَاد الطوفي من أَصْحَابنَا فِي "مختصره" سادسا هو: العِرْض، وتَبعهُ في "جمع الجوَامِع"، وشراحه، والبرماوي، وغيرهم، والدَّليل عليه ما في الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم قال في خُطبَته في حجَّة الوداع: "إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام" الحَدِيث. والأحاديث في ذلك كثيرة وأحْكَام حفظه شهيرة في الشَّرْع، فهُوَ من الضروريات المعْلُومَة في الدّين وحفظه بحَدّ القَذْف أيضا."
وقد ذهب البوطي مذهبا آخر في تعليل حصرها، وهو النظر إلى الأحكام الشرعية التي جاءت لحفظ تلك الكليات، حيث يقول: "والدليل على انحصار مقاصد الشرع في هذه الخمسة الاستقراء. فقد دل تتبُّع جزئيات الأحكام الشرعية المختلفة على أنها كلها تدور حول حفظ هذه الكليات الخمسة."
وقد وردت على هذا الحصر –قديما وحديثا- عدة اعتراضات. وممن اعترض على ذلك الحصر ابن تيمية، حيث قال: "وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية ودنيوية، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدّين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وأحوال القلوب وأعمالها كمحبة الله وخشيته وإخلاص الدّين له والتوكل عليه والرجاء لرحمته ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه، حفظًا للأحوال السنية، وتهذيب الأخلاق. ويتبين أنّ هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح."
كما اعترض بعض المعاصرين على هذا الحصر، ورأوا أنه يغلب فيه الاهتمام بالجانب الفردي في حياة الإنسان، وأنه ينبغي أن يضاف إلى الضروريات ما يتعلق بالحياة الاجتماعية؛ فأضاف النبهاني حفظ الدولة، وحفظ الأمن، وحفظ الكرامة الإنسانية، لتصير الضروريات عنده ثمانية وليست خمسة. ويرى القرضاوي أن المقاصد المذكورة لا تستوعب ما يتعلق بالقيم الاجتماعية، مثل الحرية والمساواة والإخاء والتكافل وحقوق الإنسان، وأنه ينبغي إضافة تلك القيم. وتحدث علال الفاسي عن وحدة الأمة وإزالة الفوارق بين أفرادها، وحق الكرامة، وحقوق المرأة، والحريات بأنواعها، واستقلال القضاء عن السياسة. واقترح الشيخ محمد الغزالي إضافة الحرية والعدالة والمساواة. واقترح الخمليشي إضافة العدل وحقوق الفرد وحريته. واقترح عزالدين بن زغيبة إضافة الحرية لتكون هي المقصد السادس.
وعند النظر في التقسيم الخماسي الذي ذكره المتقدمون والاعتراضات التي اعترض بها المعترضون والإضافات التي اقترحوها، نجد أن المسألة تتعلق في جوهرها بتصور تلك المقاصد الخمسة وكيفية النظر إليها. وستتم مناقشة قضية الحصر في تلك الخمسة من خلال الإجابة عن الأسئلة الآتية:
هل تلك الخمسة هي كليات تتضمن جزئيات كثيرة منها الضروري والحاجي والتحسيني؟ أم أن المراد بها أصول تلك المقاصد الخمسة فقط؟
وهل أوصاف الضروري والحاجي والتحسيني تتعلق بعين تلك المقاصد الخمسة؟ أم أن تلك الخمسة هي المقاصد التي قصدت الشريعة إلى رعايتها، أما وصف الضروري أو الحاجي أو التحسيني فهو متعلق بوسائل حفظها ورعايتها؟
أما عن السؤال الأول فإنا إذا نظرنا في كلام الغزالي –وهو من أوائل من تحدث عن هذه الضروريات الخمسة- نجده يصفها بأنها أصول المقاصد التي جاءت الشريعة لرعايتها، كما يصفها بأنها واقعة في رتبة الضرورات. يقول الغزالي: "فكلّ ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة." ويقول: "وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح." وتعبيره عنها بالأصول قد يعني أن غيرها يرجع إليها، وبذلك تكون كليات تضم تفصايل كثيرة، منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما هو تحسيني. وقد يراد بكونها الأصول أنها جوهر مصالح الإنسان وهي القدر الضروري، وما زاد عنه فهو خادم له ومكمل له.
كما نجد الشاطبي يعبّر عنها أحيانا بالضروريات، ويعبر عنها أحيانا أخرى بالأصول الكلية، فيقول: "الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال."
فإذا نظرنا إلى تلك المقاصد الخمسة على أنها كليات تشمل جزئيات منها الضروري ومنها الحاجي ومنها التحسيني، فإن الفرق بين القول بالحصر فيها والقول بالزيادة عليها يصير إلى مسألة التفصيل والاختصار. فمن آثر الاختصار يحصر أصول مصالح الإنسان في تلك الخمسة، وما عداها فهو مندرج تحت تفاصيلها وما يخدمها من وسائل. ولذلك نجد العلماء الذين اعترضوا على إضافة العِرض للمقاصد الخمسة يعللون اعتراضهم بأنه داخل في تلك الخمسة ولا يخرج عنها يقول البوطي: "وقد آثرنا الاستغناء عنه؛ لأن حفظ العرض داخل في الحقيقة ضمن حفظ أحد الكليات الخمسة عند التحقيق، وانفكاكهما في بعض الجزئيات لا يخدش عموم التلازم." وما قيل في العرض يقال في الأمور الأخرى التي اقترح بعض المعاصرين إضافتها؛ لأنها عند التحقيق نجد أنها داخلة ضمن تلك الكليات الخمسة.
أما المعترضون على الحصر في تلك الخمسة فإنهم قصدوا بإضافاتهم التفصيل، وإبراز احتياجات العصر وجوانب الخلل والتقصير في واقع حياة المسلمين.
أما إذا أُرِيد بحفظ النفس مجرّد حفظ الجسم من التّلف أو العطب، وبحفظ العقل مجرد حفظ أداة التَّعُّقل من التّلف أو العطل، وبحفظ النسل مجرد حفظ الأنساب من الاختلاط والضياع، وذلك على أساس الربط بين الضروريات والعقوبات الدنيوية المنصوصة في القرآن والسنة، فإن ذلك الحصر يكون محلّ نظر؛ لأن ضروريات الحياة ليست محصورة في تلك الأمور، ويصحُّ أن ترد عليه الاعتراضات التي أوردها المتقدِّمون والمعاصرون، مثل اقتراح ما يتعلق بلوازم الحياة الاجتماعية من عدل وحرية ومساواة.
أما عن السؤال الثاني، وهو: هل أوصاف الضروري والحاجي والتحسيني تتعلق بعين تلك المقاصد الخمسة أم بوسائل حفظها ورعايتها؟ فيرى البوطي أن مراتب الضروري والحاجي والتحسيني تتعلق بوسائل حفظ تلك الأصول الخمسة، حيث يقول: "ومقاصد الشارع في خلقه تنحصر في حفظ خمسة أمور: الدين، النفس، العقل، النسل، المال... ثم إن وسيلة حفظ هذه الأمور الخمسة تندرج في ثلاثة مراحل حسب أهميتها. وهي ما أطلق عليه علماء الأصول اسم: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات." وقد سمّى تلك المقاصد الخمسة كليات، ولكن الظاهر من كلامه أنه لا يقصد بالكلي هنا ما يتضمن جزئيات كثيرة، وإنما يقصد به أنها أصول المصالح الشرعية التي جاءت أحكام الشريعة لخدمتها، حيث يقول: "كليات المصالح المعتبرة شرعا متدرجة حسب الأهمية في خمس مراتب، وهي حفظ: الدين، النفس، العقل، النسل، المال. فما به يكون حفظ الدين مُقدَّم على ما يكون به حفظ النفس عند تعارضهما..." ويظهر من هذا أنه يقصد بكلية حفظ الدين أصل الإيمان الصحيح، أما تفاصيل الشرائع الدينية فيجعلها من وسائل حفظ الدين، ويصنفها إلى المراتب الثلاث: الضروري والحاجي والتحسيني. ومع ذلك نجده أحيانا يعبِّر عن تلك الكليات الخمس بأنها ضرورية، مثل قوله: "مثال ذلك ما لو تعارضت ضرورة حفظ النفس مع بعض الحاجيات كمشروعية الأكل من الحلال بالنسبة لمن أشرف على الهلاك، وليس في متناوله إلا الحرام. فلو ألغينا الحاجي لم يخلّ ذلك بالضروري وهو حفظ النفس."
ومعنى ذلك أن هذه الخمسة هي الأصول الكلّية التي ترجع إليها مصالح الإنسان، وهي الجوانب الأساسية التي تقوم عليها الحياة الراشدة للإنسان، وأن أصل وجودها ضروري لوجود الحياة البشرية وقيامها بوظيفة العبودية، وزوالها أو اختلالها اختلالا كبيرا يؤدي إلى تلاشي الحياة الإنسانية أو اختلالها. أما تحقُّقُ تلك الجوانب الخمسة في الحياة البشرية فيكون على مراتب ثلاثة، هي: مرتبة الضرورة، ومرتبة الحاجة، ومرتبة التحسين، ولكلّ مرتبة من هذه المراتب وسائل؛ فلتحقيق مرتبة الضروري وسائل، هي الوسائل الضرورية، ولتحقيق مرتبة الحاجي وسائل، هي الوسائل الحاجية، ولتحقيق مرتبة التحسين وسائل، هي الوسائل التحسينية. فالذي يوصف بالضروري هو أصلها الذي لا تقوم الحياة ولا تستقيم بدونه، أما تحقُّقُها في الواقع فيكون على المراتب الثلاث. والعبادات والعادات والمعاملات والجنايات التي وضعت لتحقيق تلك الكليات الخمسة وخدمتها، منها ما هو واقع في مرتبة الضروري، أي أنه وسيلة تحقيق مرتبة الضرورة في تلك الكليات الخمسة، ومنها ما هو حاجي، أي أنه وسيلة تحقيق مرتبة الحاجي في تلك الكليات الخمسة، ومنها ما هو تحسيني، أي أنه وسيلة تحقيق مرتبة التحسيني في تلك الكليات الخمسة. وهذه الضروريات والحاجيات والتحسينيات المتعلقة بالعبادات والعادات والمعاملات والجنايات تسمى وسائل باعتبار كونها وسائل لحفظ تلك الأصول الكلية الخمسة التي هي العناصر الأساسية المكونة للحياة البشرية. وهي من جهة أخرى مقاصد باعتبار النظر إلى كون الشارع قاصدا إلى تشريعها.
وبالنظر فيما سبق يتبين أن الضروريات نوعان: أحدهما: أصول الكليات الخمسة التي قصد الشارع إلى حفظها، وهي أصل الدين والنفس والنسل والعقل والمال. والثاني: الوسائل الضرورية لحفظ تلك الأصول. فصارت الضروريات هي أصول هذه الكليات الخمسة مع ما هو ضروري لحفظها من العبادات والعادات والمعاملات والجنايات. أما الحاجيات والتحسينيات فهي متعلقة فقط بوسائل حفظ تلك الأصول الخمسة من عبادات وعادات ومعاملات وجنايات.
وهناك أمر ثالث له دور في الاختلاف في تحديد الضروريات، هو عدم وجود حدّ واضح يفصل بين الضروريات والحاجيات، وذلك يجعل حصر الضروريات محلاًّ للاختلاف في التقدير؛ لأنه لم يرد عن الشارع حصر للضروريات، ولكن ورد ذكر أن الضرورات تبيح المحظورات، ووردت نماذج من الضرورات، مثل إباحة النطق بالكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان في حال الوقوع تحت العذاب، وأكل الميتة في المخمصة. وبسبب عدم وجود حدود دقيقة بين الضروريات والحاجيات، فإن منها ما يكون محلّ اتفاق بين أهل العلم، ومنها ما يكون محلّ اختلاف؛ لأن الضروريات في الأصل غير محددة بأعيانها ولكن بأوصافها، والأوصاف تكون أحيانا خاضعة للتقدير والاجتهاد، فتكون محلّ اختلاف. وخير مثال على ذلك اختلافهم في حفظ العرض، حيث رفعه بعضهم إلى مرتبة الضرورات، ونزل به بعضهم إلى مرتبة الحاجي. يقول ابن عاشور: "وأما عدّ حفظ العرض في الضروري فليس بصحيح، والصواب أنه من قبيل الحاجي، وأن الذي حمل بعض العلماء –مثل تاج الدين السبكي في جمع الجوامع- على عده في الضروري هو ما رأوه من ورود حدّ القذف في الشريعة، ونحن لا نلتزم الملازمة بين الضروري وبين ما في تفويته حدّ، ولذلك لم يعدّه الغزالي وابن الحاجب ضروريا." ومن أمثلة ذلك أيضا أننا نجد الشاطبي وغيره يجعل أركان الإسلام من صلاة وصوم من ضرورات حفظ الدين، في حين يجعلها البوطي من حاجيات حفظ الدين وليس من ضروراته.
وقد حاول الدكتور جمال الدين عطية أن يقوم بعملية تحديد للضروريات والحاجيات، والتحسينيات، ولكنه أقرّ بأن الأمر نسبيّ، وأن الكثير من تلك العناصر محلّ خلاف حول المرتبة التي يوضع فيها.
المطلب الثاني: الإشكالات المتعلقة بالترتيب
من أوائل من نصّ على الكليات الخمسة أبو حامد الغزالي في كتابه المستصفى، حيث يقول: "ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة." ومع أن الغزالي لم ينص صراحة على التزام هذا الترتيب، إلا أن الظاهر أنه يرى ترتيبها بهذه الصورة.
وبعد الغزالي نجد من الأصوليين الذين تحدثوا عن الترتيب بين هذه الضروريات الخمسة من سار على هذا الترتيب الذي ذكره الغزالي في المستصفى، ومنهم الكمال بن الهمام في التحرير، حيث رتبها كالآتي: الدين، النفس، العقل، النسل، المال. وأكد شارحه ذلك الترتيب بقوله: "وتسمى هذه بالكليات الخمس، وكل منها دون ما قبله. وحصر المقاصد في هذه ثابت بالنظر إلى الواقع وعادات الملل والشرائع بالاستقراء. وزاد الطوفي والسبكي حفظ العرض بحد القذف."
ونص الآمدي على ترتيبها بالصورة الآتية: الدين، ثم النفس، ثم النسب، ثم العقل، ثم المال. حيث قدّم النسب على العقل. وعلل الآمدي تقديم حفظ النسب على حفظ العقل بقوله: "وعلى هذا أيضا يكون المقصود في حفظ النسب أولى من المقصود في حفظ العقل والمال، لكونه عائدا إلى حفظ النفس."
وقد تبع ابن الحاجب في مختصره الآمدي في ترتيبها، حيث قال: "والدينية على الأربعة، وقيل بالعكس، ثم مصلحة النفس، ثم النسب، ثم العقل، ثم المال." وعلل الأصفهاني في شرحه لمختصر ابن الحاجب تقديم النسل على العقل بما يشبه تعليل الآمدي، حيث قال: "ثم النسب يرجح على العقل؛ لأن حفظ النسب أشد تعلقا ببقاء النفس من حفظ العقل."
وقد ذكر الدكتور جمال الدين عطية في كتابه نحو تفعيل مقاصد الشريعة، على وجه الاستشكال، أن الأصوليين لم يتفقوا على تصنيف معيَّن، بل إن بعضهم يذكرها بترتيبات مختلفة في مواضع مختلفة من مؤلفاته أو حتى في مؤلَّف واحد. وبناء على ذلك صنَّف الأصوليين من حيث ترتيبهم تلك الضروريات إلى مجموعات: إحداها: ترى تأخير الدين في الترتيب على النفس والمال والنسب والنسل والعرض والعقل كلّها أو بعضها، والثانية: ترى تأخير العقل عن المال والنسل والعرض كلّها أو بعضها، والثالثة: ترى تأخير النسب والعرض على المال.
وهذا التصنيف الذي قام به للأصوليين إلى هذه المجموعات قائم على افتراض أن جميع أولئك الأصوليين قصدوا الترتيب عند ذكرها وإنْ لم يُعللوا سبب ذلك الترتيب. والواقع أن الكثير من الأصوليين لم يقصدوا عند ذكرهم للضروريات ترتيبها، وإنما قصدوا مجرد تعدادها؛ ولذلك تجد الواحد منهم يذكرها بترتيبات مختلفة في مواضع مختلفة من مؤلفاته. وسبب ذلك أن سياق حديثهم عنها كان في معرض ذكرها لا في معرض الموازنة والترجيح بينها، فيذكورنها كيفما اتفق. أما الذين ذكروها في معرض الموازنة والترجيح، مثل الآمدي وابن الحاجب وابن السبكي، فقد نصُّوا على الترتيب ومثلوا له وذكروا تعليلات لما اختاروه من ترتيب.
وقد وُجِدت –قديما وحديثا- اعتراضات على الترتيب الذي ذكره الغزالي. ومن ذلك ما ذكره الآمدي من أن من المتقدمين من ذهب إلى تقديم حفظ النفس على حفظ الدين، بناء على قاعدة تقديم حقّ الآدمي على حقّ الله تعالى؛ لأن حقوق العباد قائمة على المشاحّة وحقّ الله تعالى قائم على المسامحة، ولأن العبد يتضرّر بفوات حقِّه أما الله تعالى فمُنزَّه عن التضرُّر.
كما أشار ابن الحاجب إلى اعتراض بعض المتقدمين على ذلك الترتيب بجعل الدين في الرتبة الأخيرة، حيث يقول: "والدينية على الأربعة، وقيل العكس، ثم مصلحة النفس، ثم النسب، ثم العقل، ثم المال." دون أن يسمي من ذهب إلى هذا الترتيب، كما لم يذكر تعليلهم ذلك التأخير.
ومن المعاصرين الذين اعترضوا على الترتيب المعهود عند الأصوليين الدكتور جمال الدين عطية الذي وزّع حفظ الدين –بناء على تفريقه بين الدين والتدين- على الدوائر الأربع لمقاصد الشريعة؛ فجعَله متأخرا عن حفظ النفس وحفظ العقل في مجال الفرد، على اعتبار أنه يجب أولا المحافظة على النفس التي تقوم بها الأفعال، ثم على العقل الذي به التكليف، ثم على التدين. وجعله في المرتبة الخامسة في المقاصد المتعلقة بالأسرة، وجعله في المرتبة الرابعة في المقاصد المتعلقة بالأمة.
وكذلك الدكتور علي جمعة، حيث ذكر أن الترتيب الذي يراه متوافقا مع احتياجات العصر يكون على الصورة الآتية: حفظ النفس، ثم العقل، ثم الدين، ثم النسل، ثم المال.
ويعلل هذا الترتيب بقوله: "حيث إنه يجب المحافظة أولا على النفس التي تقوم بها الأفعال، ثم على العقل الذي به التكليف، ثم نحافظ على الدين الذي به العبادة وقوام العالم، ثم نحافظ بعد ذلك على ما يترتب على حفظ العقل والذات والدين، وهو المحافظة على النسل الناتج عن الإنسان، وما يتعلق أو يندرج تحت هذا العنوان الكلي من المحافظة على العرض وحقوق الإنسان وكرامته، ثم بعد ذلك نحافظ على قضية الملك، وهي التي بها عمارة الدنيا عند تداولها." وقد مهّد لهذا التعليل بكلام خطابي، حيث وصف ترتيب المتقدمين بأنه: "قد أدى دوره في وقتهم، واستوعب جميع المسائل القائمة أو المحتملة في أوانهم، إلا أنه في العصر الحاضر ... أصبح من الضروري إعادة تشغيل هذه الكليات الخمس، ولكن بطريقة أكثر فاعلية مع مقتضيات ومتطلبات هذا العصر." وهو كلام لا يثبت عند التمحيص؛ لأن القيم الشرعية لا تتغير بتغير العصر، وهو قول ناتج عن الغفلة عن إدراك سبب ترتيب المتقدمين لها بتلك الصورة.
وفضلا عن الاعتراضات السابقة، يوجد اعتراض آخر على ذلك الترتيب يقوم على حديث "من قتل دون ماله ودون عرضه". ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ». وفي الرواية التي عند أبي داود زيادة، فعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».
وعند النظر في تعليلات أولئك المعترضين على الترتيب الشائع بين الأصوليين (ترتيب الغزالي والآمدي)، حيث لم يجعلوا الدين في الرتبة الأولى، بل جعلوه في رتبة متأخرة، يتبين أن ذلك يرجع إلى أمور: أحدها: النظر إلى جانب الوجود والتحصيل في تلك المقاصد. والثاني: الظن بأن المراد بالترتيب هو تقديم مطلق حفظ الدين على ما بعده من نفسٍ ونسلٍ وعقلٍ ومالٍ. والثالث: استعمال مصطلح الدين بالمعنى الأخص، وهو إقامة الشعائر التعبدية التي جاء بها الإسلام. وفيما يأتي عرض ومناقشة تلك الإشكالات. مع الإشارة إلى أن المناقشة لا تتعرض للخلاف الحاصل حول ترتيب النسل والعقل؛ لأن الخلاف فيها هيِّن وقيمته العملية قليلة. وإنما تتركز المناقشة على تقديم الدين أو تأخيره في الترتيب.
أولا: اعتماد معيار الوجود والتحصيل في الترتيب
من الأسباب التي جعلت البعض يقولون بتقديم النفس على الدين أو بتقديم النفس والعقل على الدين، ظنُّهم أن مناط الترتيب هو السَّبْقُ في الوجود، حيث يكون وجود النفس أوّلا، ونُضجُ العقل ثانيا، ثم بعد ذلك يوجد التديّن، فلا وجود للتديُّن دون وجود النفس والعقل. أو ظنّهم أن مناط الترتيب هو التقديم في التحصيل، حيث يُحصِّل الإنسان أسباب بقاء النفس، ويُحصِّل العقل، ثم بعد ذلك يتديَّن، فلا يمكن التديُّن مع هلاك النفس أو مع عدم وجود العقل أو عدم نضجه. وهذا التصوّر هو الذي جعل الدكتور علي جمعة والدكتور جمال الدين عطية يفرقان بين الدين والتديُّن كما سيأتي بيانه.
والواقع أن ظنهم الذي بنوا عليه ذلك الإشكال غير صحيح؛ لأن الأصوليين عندما رتبوا هذه الضروريات لم ينظروا إلى معيار الوجود والتحصيل، بل نظروا إلى الترجيح بينها حسب الأهمية عند التعارض. ولم يكن قصدهم من ذلك الترتيب أن الإنسان يبدأ أوّلاً بتحصيل الدين وحفظه، ثم تحصيل النفس وحفظها، ثم تحصيل النسل وحفظه، ثم تحصيل العقل وحفظه، ثم تحصيل المال وحفظه. فتلك الكليات جميعها مطلوبة التحصيل والحفظ، فإذا وقع تعارضٌ بين بعضها بحيث يتعذَّر الجمعُ بينها ظهرت الحاجة إلى الترجيح، ويكون الترجيح وفق الترتيب الذي ذكروه، وهو قائم على معيار الأهمية. ولو أننا أخذنا بمعيار السَّبْق في الوجود فإن ترتيب الدين سيكون آخر شيء؛ فلا نقدم فقط حفظ النفس والعقل على الدين، بل نقدم أيضا النسل لأنه ضروري لاستمرار النفس التي تتديَّن، ونقدم أيضا المال لأنه ضروري لوجود الحياة واستمرارها.
ثانيا: الظن بأن المقصود من الترتيب تقديم مطلق الدين على ما بعده من المقاصد
إن مما أسهم في إثارة الإشكالات المتعلقة بالترتيب الظنُّ بأن المقصود بتقديم الدين في الترتيب هو تقديم مطلق حفظ الدين على حفظ ما بَعْدَهُ في الترتيب من نفسٍ ونسلٍ وعقلٍ ومالٍ، وكذلك مطلق حفظ النفس على ما هو بعدها في الترتيب، وهكذا. ولما كان ملعوما في أحكام الشريعة تقديم حفظ النفس أو أجزاء منها على حفظ بعض الأمور المتعلقة بالدين، نتج عن ذلك استشكال الترتيب المشهور عند الأصوليين.
ولكن الأمر ليس كذلك؛ فالمراد بتقديم الدين تقديمُ حفظ أصل الدين، وهو ما يُبْقي الإنسان في دائرة الإيمان، على أصل النفس عند التعارض، فإذا خُيِّر الإنسان بين الكفر وحفظ النفس، وجب تقديم حفظ الإيمان على حفظ النفس. وليس المراد تقديم جميع ما يتعلق بحفظ الدين على جميع ما يتعلق بحفظ النفس، بل إن حفظ أصل النفس مُقدَّم على حفظ فروع الدين، وذلك ثابت معروف في الشريعة. وكذلك الأمر في تقديم أصل حفظ النسل والمال على بعض فروع الدين. وقد أشار الآمدي إلى هذا عندما قال: "أن يكون مقصود إحدى العلتين حفظ أصل الدين، ومقصود الأخرى ما سواه من المقاصد الضرورية. فما مقصوده حفظ أصل الدين يكون أولى نظرا إلى مقصوده وثمرته من نيل السعادة الأبدية في جوار رب العالمين." وقال: "وأما التخفيف عن المسافر والمريض فليس تقديما لمقصود النفس على مقصود أصل الدين، بل على فروعه، وفروع أصلٍ غيرُ أصلِ الشيء." فالذي يُقدَّم على غيره بإطلاق هو أصل الدين، وليس مطلق فروع الدين.
وكون حفظ أصل الدين مُقدما على أصل النفس أمر لا شكّ فيه في الشريعة، ويدل عليه مدح القرآن الكريم للذين ضحوا بأنفسهم في سبيل حفظ أصل دينهم في قصة أصحاب الأخدود (سورة البروج: 4-11). وأمرُه عزّ وجلّ المضطهدين في دينهم القادرين على الهجرة بأن يهاجروا، وتوعُّده الذين تتوفاهم الملائكة منهم على الكفر بالعذاب: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (*) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (*) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء: 97-99). وكذلك ربطه عزّ وجلّ إباحة النطق بكلمة الكفر في حال الإكراه بشرط كون القلب مطمئنا بالإيمان: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (*) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (النحل: 106-107).
وتفصيل معيار الترجيح أن أمور الدين منها ما يقع في مرتبة الضرورة، ومنها ما يقع في مرتبة الحاجة، ومنها ما يقع في مرتبة التحسين. وما يتعلق بالنفس فيه ما يقع في مرتبة الضرورة، وفيه ما يقع في مرتبة الحاجة، وفيه ما يقع في مرتبة التحسين. وهكذا بالنسبة للكليات الأخرى. ففي إطار الضروريات تقدم الضروريات المتعلقة بالدين على الضروريات المتعلقة بالنفس وغيرها؛ أما إذا كانت المصلحة المتعلقة بالنفس ضرورية وما يعارضها من مصلحة متعلقة بالدين حاجية فقط فتُقدَّم مصلحة النفس على المصلحة المتعلقة بالدين. وهذا المعيار يجيب عن حُجج القائلين بتقديم النفس على الدين.
ومما ذكروه أيضا لتأييد تقديم النفس على الدين الرُّخص التي أعطيب للمسافر في ترك الصوم والقصر من الصلاة، والرخصة للمريض في ترك الصوم والصلاة بالكيفية التي يقدر عليها، وتقديم إنقاذ الغريق على الصلاة في وقتها، وجواز ترك الجمعة للقيام على المريض أو حفظ المال. وقد أجاب الآمدي على ذلك بأن التقديم لم يكن على أصل الدين بل على فروعه. وأجاب عن مسائل الترخيص في ترك الصوم وصلاة الجماعة وتقديم إنقاذ الغريق بأن ذلك ليس تركا مطلقا، بل هو ترك إلى بدل، حيث يقضي الصوم، ويصلي الظهر بدلا من الجمعة، ويقضي الصلاة بعد الفراغ من إنقاذ الغريق. فحفظ النفس من الغرق أو الحرق أو الصائل ضروري، وأداء الصلاة من ضرورات الدين أيضا، ولكن ترك إنقاذ الغريق أو الحريق يؤدي إلى ضياع أصل النفس، أما تأخير الصلاة فلا يؤدي إلى ضياع الدين من أصله، فيصلِّيها بعد الفراغ من ذلك الشاغل القاهر، ولذلك دخلت ضمن قاعدة دفع أعظم الضررين. وكذلك الأمر في إباحة النطق بكلمة الكفر في حال الإكراه والقلبُ مطمئنٌّ بالإيمان، فليس في ذلك مساس بأصل الدين ولا تضييع له، وكل ما في الأمر هو الإتيان بفعل مُحرَّم يخدش الدين لكنه لا يهدمه من أصله ما دام قلب صاحبه مطمئنا بالإيمان. وعلى عكس ذلك فإنه لو كان التخيير بين الخروج من الدين حقيقة وبين القتل أو غيره من الأذى الشديد، فلا شك أن الشريعة توجب التضحية بالنفس حفاظا على أصل الدين.
أما عن رخص الصلاة والصوم للمسافر والمريض فليس فيها شيءٌ من تضييع الدين وعدم حفظه، فما كان منها إلى بدل فواضح أنه لا تضييع فيه، بل هو مجرّد تغيير لوقت العبادة، وما كان فيه تخفيف كالقصر فإن الشارع أقام فيه الصلاة الناقصة عن أصلها مقام الأصل وجعلها مجزئة، فلا تضييع في ذلك.
أما الإشكال الذي يثيره حديث من قُتل دون ماله أو عِرضه، فإنه مدفوع من جهتين: إحداهما: أن المدافع عن نفسه أو ماله أو أهله لم يقصد إلى ترجيح المال أو العرض على النفس، وإنما قصد الدفاع، وهو بدفاعه قد يتمكن من حَرْز ماله وردِّ العدوان عن ماله أو نفسه أو عِرضه دون أن يُقْتَلَ، وذاك قصدُه في الأصل. فإن حصل وقُتِل فله أجر الشهادة بذلك. فليس هنا ترجيح مُسْبَق بين الأمرين قام بناء على الموازنة بينهما، وإنما هناك اندفاع من المعتَدَى عليه للدفاع عن ماله أو عِرضه، وهذا حقٌّ مشروع، فإذا مات من أجل ذلك الدفاع أكرمه الشارع بأجر الشهادة.
والوجه الثاني: أن الترجيح بهذه المعايير إنما هو ترجيح إجمالي إرشادي وليس لازما بإطلاق، وقد يقع الاختلاف في بعض تفاصيله بناء على الاختلاف في تقدير مراتب المصالح، أو بناء على عوامل خارجية تجعل للإنسان الخيار بين تقديم الأعلى رتبة، أو تقديم الأدنى رتبة إذا كان مستعدا للتضحية. ومن ذلك الإكراه على النطق بالكفر؛ فللإنسان أن يختار الصبر على الأذى أو الشهادة في سبيل الله دون النطق بكلمة الكفر، وقد يختار النطق بكلمة الكفر حفاظا على نفسه من العذاب الشديد أو الهلاك. وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول البوطي: "غير أنه يُستثنى ... ما لو كان أحد المنكرين ضروريا عائدا إلى حفظ النفس والثاني حاجيا عائدا إلى حفظ الدين، فمع أنه يجوز إهمال الحاجي المتعلق بالدين حفظا لضرورة حفظ النفس ... إلا أنه يُستحب تقديم جانب الدين وإن استلزم التضحية بضروريات النفس، وذلك إعزازا لجانب الدين الذي هو أساس القيم كلها، كما لو أُكرِه على النطق بكلمة الكفر، وكان في سكوته عنها تلفه وهلاكه."
ثالثا: التفريق بين الدين والتديُّن
ما ذهب إليه الدكتور جمال الدين عطية من التفريق بين الدين والتدين ليس له وجه ظاهر؛ لأن التديُّن لا يكون إلا بوجود الدين الصحيح، كما أنه لا فائدة من وجود نصوص الدين الصحيحة إذا لم يكن الناس يعملون بها. إن حفظ الدين يتطلب حفظ أصول الدين ونصوصه من الضياع والتحريف، إذْ بضياع نصوص الدين يضيع الدين كليا أو جزئيا، كما أنه بتحريف نصوص الدين وتعاليمه يضيع الدين في نفوس الناس، وينقلب تديُّن الناس إلى ممارسة منحرفة لا تمثل حقيقة الدين الصحيح. كما أن الدين لا يكون محفوظا إذا لم يلتزم به الناس التزاما صحيحا وكاملا، فإذا كانت أصول الدين ونصوصه محفوظة في القراطيس دون أن تصبح واقعا عمليا في نفوس الناس فإن ذلك يكون تضييعا لها؛ لأن الدين ما أُنْزِل إلا ليكون واقعا عمليا في حياة الناس يهديهم سبيل الرشاد في جميع مناحي الحياة.
والعلماء المتقدمون عندما تحدثوا عن حفظ الدين لم يقصروا ذلك على حفظ نصوصه من الضياع والتحريف، بل عنوا حفظ الدين في نفوس المسلمين بالالتزام به على الوجه الصحيح المقيم للحياة الدنيا والـمُنْجي يوم القيامة. وحفظ الدين بهذا المعنى مطلوب على مستوى الفرد وعلى مستوى الأسرة وعلى مستوى الأمة. فالفرد يجب عليه أن يبذل جهدا لحفظ الدين في نفسه وفي محيطه، والأسرة من وظائفها المساعدة على حفظ الدين في نفوس أفرادها بتعليمه وتوفير البيئة المناسبة للالتزام به، والمجتمع من وظائفه حفظ الدين في نفوس أفراده بتوفير البيئة الصالحة لذلك.
خاتمة
تناول هذا البحث عرض ومناقشة أهم الإشكالات التي أورِدَت على المقاصد الشرعية الخمسة. وقد توصلت الدراسة إلى أن الأصوليين القدامى لما حصروا المقاصد في تلك الخمسة نظروا إلى الجوانب الأساسية التي تقوم عليها حياة الإنسان في هذا الكون فوجدوا أنها ترجع إلى تلك الأصول الخمسة. وأن وصفهم إياها بالضروريات لا يعني حصر آحاد الضروريات فيها، وإنما المراد بذلك أنها أصل الضروريات، ويتم تحقيقها من خلال وسائل متعددة تتوزع على ثلاث مراتب، هي: الضروري والحاجي والتحسيني. وما اقترحه بعض المعاصرين من الزيادات لمرتبة الضروري يمكن إرجاعه إلى الوسائل الضرورية أو الحاجية لتحقيق تلك الأصول. كما توصل البحث إلى أن حصر آحاد الضروريات –خاصة في الوسائل- مسألة قابلة للاختلاف في التقدير؛ لأن الضرورات لم تحدد في الشريعة بأعيانها، بل بأوصافها. وتوصل البحث إلى أن ما ذكره المتقدمون من تقديم الدين على جميع المقاصد الأخرى سليم من حيث الأصل، وأن ما أثاره المعترضون قائم على التباس في معايير الترتيب.
المراجع
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات، تحقيق عبد الله دراز (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت).
أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، مكتب التحقيقات بدار إحياء التراث العربي (بيروت: دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، ط1، د.ت).
أبو عبد الله، شمس الدين محمد بن محمد المعروف بابن أمير حاج، التقرير والتحبير (بيروت: دار الكتب العلمية، 1403هـ/ 1983م).
أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع الفتاوى، جمع عبد الرحمن القاسم (الرياض: وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، 1386هـ).
تاج الدين بن عبد الوهاب بن علي السبكي، جمع الجوامع في أصول الفقه، علق عليه ووضع حواشيه عبد المنعم خليل إبراهيم، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1424هـ/ 2003م).
جمال الدين عطية: نحو تفعيل مقاصد الشريعة (دمشق: دار الفكر للطباعة والنشر، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1424هـ/ 2003م).
عبد المجيد النجار، مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 2006).
عز الدين بن زغيبة، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية (القاهرة: دار الصفوة، 1417هـ/ 1996م).
علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، تحقيقد. عبد الرحمن الجبرين، د. عوض القرني، د. أحمد السراح، (الرياض: مكتبة الرشد، ط1، 1421هـ/ 2000م).
علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط5، 1993).
علي بن محمد الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، تعليق عبد الرزاق عفيفي (الرياض: دار الصميعي للنشر والتوزيع، ط1، 1424هـ/ 2003م).
علي جمعة محمد، المدخل (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1417هـ/ 1996م).
فخر الدين محمد بن عمر الرازي، المحصول في علم أصول الفقه، تحقيق طه جابر العلواني (بيروت: مؤسسة الرسالة، د. ت).
لحرش أسعد المحاسن، "ترتيب المقاصد الضرورية بين المتقدمين والمعاصرين وأهميتها للمفتي"، مقال منشور في مجلة "المسلم المعاصر"، عدد 145/ 146، ديسمبر 2012. مأخوذ من موقع المجلة:
<h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
(<h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
)
محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي (ماليزيا: دار الفجر، عمان: دار النفائس، ط1، 1420هـ/ 1999م).
محمد سعد بن أحمد اليوبي، مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، (الرياض: دار الهجرة للنشر والتوزيع، 1418هـ/ 1998م).
محمد سعيد رمضان البوطي، ضوابط المصحلة في الشريعة الإسلامية، (د.م: مؤسسة الرسالة، د. ت).
محمود بن عبد الرحمن شمس الدين الأصفهاني، بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب، تحقيق محمد مظهر بقا (السعودية: دار المدني، ط1، 1406هـ / 1986م).
ملحوظة: لم تظهر هوامش البحث في هذه النسخة بسبب خلل فني لا أعرفه. ولذلك فقد أرفقت نسخة من البحث تتضمن هوامشه
الملفات المرفقة <h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
دراسة في الإشكالات المتعلقة بالمقاصد الشرعية الخمسة.pdf‏ (<h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
) (480.2 كيلوبايت)
د. نعمان جغيم
أصل هذا المقال بحث منشور في مجلة جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية، العدد 4، 2015، وقد أجريت عليه بعض التعديلات
مقدمة
نص الغزالي على أن مقاصد الشارع من الخلق خمسة، هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وقد تبع جمهور الأصوليين الغزالي في حصر تلك المقاصد في الخمسة المذكورة، واعترض بعضهم على ذلك الحصر، وزاد عليها مقاصد أخرى. وقد أثيرت في القديم والحديث إشكالات حول تلك المقاصد الخمسة، سواء من حيث عددها، أو من حيث ترتيبها.
ويسعى هذا البحث إلى عرض تلك الإشكالات ومناقشتها. أما منهج البحث فيقوم على عرض ما ذُكر من إشكالات حول تلك المقاصد قديما وحديثا، ومناقشته. ولا حاجة للحديث في هذه المقدمة عن الدراسات السابقة؛ لأن البحث كله يدور حول مراجعة بعض تلك الدراسات ومناقشة ما ورد فيها. وقد قسمت البحث إلى مطلبين وخاتمة.
المطلب الأول: قضية الحصر في خمسة
نص الغزالي في المستصفى، والرازي في المحصول، والآمدي في إحكام الأحكام في أصول الأحكام، وغالب الأصوليين، على حصر الضروريات في خمسة، هي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال. وهذه المقاصد الخمسة عدّها بعض المعاصرين هي المقاصد العامة للشريعة الإسلامية.
وعند النظر في كلام الأصوليين في سبب هذا الحصر نجد تعليلين: أحدهما: ما ذكره الآمدي من أنه نتيجة النظر إلى واقع الحياة، حيث إنها تغطي جميع جوانب الحياة الإنسانية، ولا يوجد شيء من ضرورات الحياة يخرج عنها، حيث يقول: "والحصر في هذه الخمسة الأنواع إنما كان نظرا إلى الواقع، والعلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة." ويمكن القول إن هذه الخمسة تجمع الأصول التي تقوم عليها حياة الإنسان. فالدين يمثّل الجانب الروحي للإنسان ومنهج الهداية الذي يحقق به الغاية من وجوده في هذا الكون، وحفظ النفس يمثّل حفظ الجانب المادي للإنسان، وحفظ النسل يمثّل جانب الاستمرار في حياة البشرية، وحفظ العقل يمثّل حفظ أداة الإدراك وتصريف شؤون الحياة ومناط التكليف، وحفظ المال يمثل حفظ المصدر المادي لحياة الإنسان. ولا تخرج الأمور الأخرى عن هذه الجوانب الأساسية في حياة الإنسان.
والتعليل الثاني: هو ربطها بالعقوبات الحدية الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية على الاعتداء على هذه الأصول. ومن أمثلة ربطها بتلك العقوبات قول الإمام الغزالي: "ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوِّت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب القصاص؛ إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب؛ إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا؛ إذ به حفظ النسل والأنساب، وإيجاب زجر الغُصَّاب والسُّرّاق؛ إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معاش الخلق، وهم مضطرون إليها." وكذلك ما ورد في كلام المرداوي في شرحه على التحرير، حيث أشار إلى من ربطها بالعقوبات الحدية في قوله: "وقد أُشير إلى هذه الأربعة بقوله تعالى: (على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان بفترينه) (الممتحنة: 12)."
وبناء على ربط هذه المقاصد الخمسة بالعقوبات المنصوصة زاد بعضهم حفظ العِرْض ليقابل عقوبة القذف. قال المرداوي: "وَزَاد الطوفي من أَصْحَابنَا فِي "مختصره" سادسا هو: العِرْض، وتَبعهُ في "جمع الجوَامِع"، وشراحه، والبرماوي، وغيرهم، والدَّليل عليه ما في الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم قال في خُطبَته في حجَّة الوداع: "إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام" الحَدِيث. والأحاديث في ذلك كثيرة وأحْكَام حفظه شهيرة في الشَّرْع، فهُوَ من الضروريات المعْلُومَة في الدّين وحفظه بحَدّ القَذْف أيضا."
وقد ذهب البوطي مذهبا آخر في تعليل حصرها، وهو النظر إلى الأحكام الشرعية التي جاءت لحفظ تلك الكليات، حيث يقول: "والدليل على انحصار مقاصد الشرع في هذه الخمسة الاستقراء. فقد دل تتبُّع جزئيات الأحكام الشرعية المختلفة على أنها كلها تدور حول حفظ هذه الكليات الخمسة."
وقد وردت على هذا الحصر –قديما وحديثا- عدة اعتراضات. وممن اعترض على ذلك الحصر ابن تيمية، حيث قال: "وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية ودنيوية، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدّين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وأحوال القلوب وأعمالها كمحبة الله وخشيته وإخلاص الدّين له والتوكل عليه والرجاء لرحمته ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه، حفظًا للأحوال السنية، وتهذيب الأخلاق. ويتبين أنّ هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح."
كما اعترض بعض المعاصرين على هذا الحصر، ورأوا أنه يغلب فيه الاهتمام بالجانب الفردي في حياة الإنسان، وأنه ينبغي أن يضاف إلى الضروريات ما يتعلق بالحياة الاجتماعية؛ فأضاف النبهاني حفظ الدولة، وحفظ الأمن، وحفظ الكرامة الإنسانية، لتصير الضروريات عنده ثمانية وليست خمسة. ويرى القرضاوي أن المقاصد المذكورة لا تستوعب ما يتعلق بالقيم الاجتماعية، مثل الحرية والمساواة والإخاء والتكافل وحقوق الإنسان، وأنه ينبغي إضافة تلك القيم. وتحدث علال الفاسي عن وحدة الأمة وإزالة الفوارق بين أفرادها، وحق الكرامة، وحقوق المرأة، والحريات بأنواعها، واستقلال القضاء عن السياسة. واقترح الشيخ محمد الغزالي إضافة الحرية والعدالة والمساواة. واقترح الخمليشي إضافة العدل وحقوق الفرد وحريته. واقترح عزالدين بن زغيبة إضافة الحرية لتكون هي المقصد السادس.
وعند النظر في التقسيم الخماسي الذي ذكره المتقدمون والاعتراضات التي اعترض بها المعترضون والإضافات التي اقترحوها، نجد أن المسألة تتعلق في جوهرها بتصور تلك المقاصد الخمسة وكيفية النظر إليها. وستتم مناقشة قضية الحصر في تلك الخمسة من خلال الإجابة عن الأسئلة الآتية:
هل تلك الخمسة هي كليات تتضمن جزئيات كثيرة منها الضروري والحاجي والتحسيني؟ أم أن المراد بها أصول تلك المقاصد الخمسة فقط؟
وهل أوصاف الضروري والحاجي والتحسيني تتعلق بعين تلك المقاصد الخمسة؟ أم أن تلك الخمسة هي المقاصد التي قصدت الشريعة إلى رعايتها، أما وصف الضروري أو الحاجي أو التحسيني فهو متعلق بوسائل حفظها ورعايتها؟
أما عن السؤال الأول فإنا إذا نظرنا في كلام الغزالي –وهو من أوائل من تحدث عن هذه الضروريات الخمسة- نجده يصفها بأنها أصول المقاصد التي جاءت الشريعة لرعايتها، كما يصفها بأنها واقعة في رتبة الضرورات. يقول الغزالي: "فكلّ ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة." ويقول: "وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح." وتعبيره عنها بالأصول قد يعني أن غيرها يرجع إليها، وبذلك تكون كليات تضم تفصايل كثيرة، منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما هو تحسيني. وقد يراد بكونها الأصول أنها جوهر مصالح الإنسان وهي القدر الضروري، وما زاد عنه فهو خادم له ومكمل له.
كما نجد الشاطبي يعبّر عنها أحيانا بالضروريات، ويعبر عنها أحيانا أخرى بالأصول الكلية، فيقول: "الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال."
فإذا نظرنا إلى تلك المقاصد الخمسة على أنها كليات تشمل جزئيات منها الضروري ومنها الحاجي ومنها التحسيني، فإن الفرق بين القول بالحصر فيها والقول بالزيادة عليها يصير إلى مسألة التفصيل والاختصار. فمن آثر الاختصار يحصر أصول مصالح الإنسان في تلك الخمسة، وما عداها فهو مندرج تحت تفاصيلها وما يخدمها من وسائل. ولذلك نجد العلماء الذين اعترضوا على إضافة العِرض للمقاصد الخمسة يعللون اعتراضهم بأنه داخل في تلك الخمسة ولا يخرج عنها يقول البوطي: "وقد آثرنا الاستغناء عنه؛ لأن حفظ العرض داخل في الحقيقة ضمن حفظ أحد الكليات الخمسة عند التحقيق، وانفكاكهما في بعض الجزئيات لا يخدش عموم التلازم." وما قيل في العرض يقال في الأمور الأخرى التي اقترح بعض المعاصرين إضافتها؛ لأنها عند التحقيق نجد أنها داخلة ضمن تلك الكليات الخمسة.
أما المعترضون على الحصر في تلك الخمسة فإنهم قصدوا بإضافاتهم التفصيل، وإبراز احتياجات العصر وجوانب الخلل والتقصير في واقع حياة المسلمين.
أما إذا أُرِيد بحفظ النفس مجرّد حفظ الجسم من التّلف أو العطب، وبحفظ العقل مجرد حفظ أداة التَّعُّقل من التّلف أو العطل، وبحفظ النسل مجرد حفظ الأنساب من الاختلاط والضياع، وذلك على أساس الربط بين الضروريات والعقوبات الدنيوية المنصوصة في القرآن والسنة، فإن ذلك الحصر يكون محلّ نظر؛ لأن ضروريات الحياة ليست محصورة في تلك الأمور، ويصحُّ أن ترد عليه الاعتراضات التي أوردها المتقدِّمون والمعاصرون، مثل اقتراح ما يتعلق بلوازم الحياة الاجتماعية من عدل وحرية ومساواة.
أما عن السؤال الثاني، وهو: هل أوصاف الضروري والحاجي والتحسيني تتعلق بعين تلك المقاصد الخمسة أم بوسائل حفظها ورعايتها؟ فيرى البوطي أن مراتب الضروري والحاجي والتحسيني تتعلق بوسائل حفظ تلك الأصول الخمسة، حيث يقول: "ومقاصد الشارع في خلقه تنحصر في حفظ خمسة أمور: الدين، النفس، العقل، النسل، المال... ثم إن وسيلة حفظ هذه الأمور الخمسة تندرج في ثلاثة مراحل حسب أهميتها. وهي ما أطلق عليه علماء الأصول اسم: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات." وقد سمّى تلك المقاصد الخمسة كليات، ولكن الظاهر من كلامه أنه لا يقصد بالكلي هنا ما يتضمن جزئيات كثيرة، وإنما يقصد به أنها أصول المصالح الشرعية التي جاءت أحكام الشريعة لخدمتها، حيث يقول: "كليات المصالح المعتبرة شرعا متدرجة حسب الأهمية في خمس مراتب، وهي حفظ: الدين، النفس، العقل، النسل، المال. فما به يكون حفظ الدين مُقدَّم على ما يكون به حفظ النفس عند تعارضهما..." ويظهر من هذا أنه يقصد بكلية حفظ الدين أصل الإيمان الصحيح، أما تفاصيل الشرائع الدينية فيجعلها من وسائل حفظ الدين، ويصنفها إلى المراتب الثلاث: الضروري والحاجي والتحسيني. ومع ذلك نجده أحيانا يعبِّر عن تلك الكليات الخمس بأنها ضرورية، مثل قوله: "مثال ذلك ما لو تعارضت ضرورة حفظ النفس مع بعض الحاجيات كمشروعية الأكل من الحلال بالنسبة لمن أشرف على الهلاك، وليس في متناوله إلا الحرام. فلو ألغينا الحاجي لم يخلّ ذلك بالضروري وهو حفظ النفس."
ومعنى ذلك أن هذه الخمسة هي الأصول الكلّية التي ترجع إليها مصالح الإنسان، وهي الجوانب الأساسية التي تقوم عليها الحياة الراشدة للإنسان، وأن أصل وجودها ضروري لوجود الحياة البشرية وقيامها بوظيفة العبودية، وزوالها أو اختلالها اختلالا كبيرا يؤدي إلى تلاشي الحياة الإنسانية أو اختلالها. أما تحقُّقُ تلك الجوانب الخمسة في الحياة البشرية فيكون على مراتب ثلاثة، هي: مرتبة الضرورة، ومرتبة الحاجة، ومرتبة التحسين، ولكلّ مرتبة من هذه المراتب وسائل؛ فلتحقيق مرتبة الضروري وسائل، هي الوسائل الضرورية، ولتحقيق مرتبة الحاجي وسائل، هي الوسائل الحاجية، ولتحقيق مرتبة التحسين وسائل، هي الوسائل التحسينية. فالذي يوصف بالضروري هو أصلها الذي لا تقوم الحياة ولا تستقيم بدونه، أما تحقُّقُها في الواقع فيكون على المراتب الثلاث. والعبادات والعادات والمعاملات والجنايات التي وضعت لتحقيق تلك الكليات الخمسة وخدمتها، منها ما هو واقع في مرتبة الضروري، أي أنه وسيلة تحقيق مرتبة الضرورة في تلك الكليات الخمسة، ومنها ما هو حاجي، أي أنه وسيلة تحقيق مرتبة الحاجي في تلك الكليات الخمسة، ومنها ما هو تحسيني، أي أنه وسيلة تحقيق مرتبة التحسيني في تلك الكليات الخمسة. وهذه الضروريات والحاجيات والتحسينيات المتعلقة بالعبادات والعادات والمعاملات والجنايات تسمى وسائل باعتبار كونها وسائل لحفظ تلك الأصول الكلية الخمسة التي هي العناصر الأساسية المكونة للحياة البشرية. وهي من جهة أخرى مقاصد باعتبار النظر إلى كون الشارع قاصدا إلى تشريعها.
وبالنظر فيما سبق يتبين أن الضروريات نوعان: أحدهما: أصول الكليات الخمسة التي قصد الشارع إلى حفظها، وهي أصل الدين والنفس والنسل والعقل والمال. والثاني: الوسائل الضرورية لحفظ تلك الأصول. فصارت الضروريات هي أصول هذه الكليات الخمسة مع ما هو ضروري لحفظها من العبادات والعادات والمعاملات والجنايات. أما الحاجيات والتحسينيات فهي متعلقة فقط بوسائل حفظ تلك الأصول الخمسة من عبادات وعادات ومعاملات وجنايات.
وهناك أمر ثالث له دور في الاختلاف في تحديد الضروريات، هو عدم وجود حدّ واضح يفصل بين الضروريات والحاجيات، وذلك يجعل حصر الضروريات محلاًّ للاختلاف في التقدير؛ لأنه لم يرد عن الشارع حصر للضروريات، ولكن ورد ذكر أن الضرورات تبيح المحظورات، ووردت نماذج من الضرورات، مثل إباحة النطق بالكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان في حال الوقوع تحت العذاب، وأكل الميتة في المخمصة. وبسبب عدم وجود حدود دقيقة بين الضروريات والحاجيات، فإن منها ما يكون محلّ اتفاق بين أهل العلم، ومنها ما يكون محلّ اختلاف؛ لأن الضروريات في الأصل غير محددة بأعيانها ولكن بأوصافها، والأوصاف تكون أحيانا خاضعة للتقدير والاجتهاد، فتكون محلّ اختلاف. وخير مثال على ذلك اختلافهم في حفظ العرض، حيث رفعه بعضهم إلى مرتبة الضرورات، ونزل به بعضهم إلى مرتبة الحاجي. يقول ابن عاشور: "وأما عدّ حفظ العرض في الضروري فليس بصحيح، والصواب أنه من قبيل الحاجي، وأن الذي حمل بعض العلماء –مثل تاج الدين السبكي في جمع الجوامع- على عده في الضروري هو ما رأوه من ورود حدّ القذف في الشريعة، ونحن لا نلتزم الملازمة بين الضروري وبين ما في تفويته حدّ، ولذلك لم يعدّه الغزالي وابن الحاجب ضروريا." ومن أمثلة ذلك أيضا أننا نجد الشاطبي وغيره يجعل أركان الإسلام من صلاة وصوم من ضرورات حفظ الدين، في حين يجعلها البوطي من حاجيات حفظ الدين وليس من ضروراته.
وقد حاول الدكتور جمال الدين عطية أن يقوم بعملية تحديد للضروريات والحاجيات، والتحسينيات، ولكنه أقرّ بأن الأمر نسبيّ، وأن الكثير من تلك العناصر محلّ خلاف حول المرتبة التي يوضع فيها.
المطلب الثاني: الإشكالات المتعلقة بالترتيب
من أوائل من نصّ على الكليات الخمسة أبو حامد الغزالي في كتابه المستصفى، حيث يقول: "ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة." ومع أن الغزالي لم ينص صراحة على التزام هذا الترتيب، إلا أن الظاهر أنه يرى ترتيبها بهذه الصورة.
وبعد الغزالي نجد من الأصوليين الذين تحدثوا عن الترتيب بين هذه الضروريات الخمسة من سار على هذا الترتيب الذي ذكره الغزالي في المستصفى، ومنهم الكمال بن الهمام في التحرير، حيث رتبها كالآتي: الدين، النفس، العقل، النسل، المال. وأكد شارحه ذلك الترتيب بقوله: "وتسمى هذه بالكليات الخمس، وكل منها دون ما قبله. وحصر المقاصد في هذه ثابت بالنظر إلى الواقع وعادات الملل والشرائع بالاستقراء. وزاد الطوفي والسبكي حفظ العرض بحد القذف."
ونص الآمدي على ترتيبها بالصورة الآتية: الدين، ثم النفس، ثم النسب، ثم العقل، ثم المال. حيث قدّم النسب على العقل. وعلل الآمدي تقديم حفظ النسب على حفظ العقل بقوله: "وعلى هذا أيضا يكون المقصود في حفظ النسب أولى من المقصود في حفظ العقل والمال، لكونه عائدا إلى حفظ النفس."
وقد تبع ابن الحاجب في مختصره الآمدي في ترتيبها، حيث قال: "والدينية على الأربعة، وقيل بالعكس، ثم مصلحة النفس، ثم النسب، ثم العقل، ثم المال." وعلل الأصفهاني في شرحه لمختصر ابن الحاجب تقديم النسل على العقل بما يشبه تعليل الآمدي، حيث قال: "ثم النسب يرجح على العقل؛ لأن حفظ النسب أشد تعلقا ببقاء النفس من حفظ العقل."
وقد ذكر الدكتور جمال الدين عطية في كتابه نحو تفعيل مقاصد الشريعة، على وجه الاستشكال، أن الأصوليين لم يتفقوا على تصنيف معيَّن، بل إن بعضهم يذكرها بترتيبات مختلفة في مواضع مختلفة من مؤلفاته أو حتى في مؤلَّف واحد. وبناء على ذلك صنَّف الأصوليين من حيث ترتيبهم تلك الضروريات إلى مجموعات: إحداها: ترى تأخير الدين في الترتيب على النفس والمال والنسب والنسل والعرض والعقل كلّها أو بعضها، والثانية: ترى تأخير العقل عن المال والنسل والعرض كلّها أو بعضها، والثالثة: ترى تأخير النسب والعرض على المال.
وهذا التصنيف الذي قام به للأصوليين إلى هذه المجموعات قائم على افتراض أن جميع أولئك الأصوليين قصدوا الترتيب عند ذكرها وإنْ لم يُعللوا سبب ذلك الترتيب. والواقع أن الكثير من الأصوليين لم يقصدوا عند ذكرهم للضروريات ترتيبها، وإنما قصدوا مجرد تعدادها؛ ولذلك تجد الواحد منهم يذكرها بترتيبات مختلفة في مواضع مختلفة من مؤلفاته. وسبب ذلك أن سياق حديثهم عنها كان في معرض ذكرها لا في معرض الموازنة والترجيح بينها، فيذكورنها كيفما اتفق. أما الذين ذكروها في معرض الموازنة والترجيح، مثل الآمدي وابن الحاجب وابن السبكي، فقد نصُّوا على الترتيب ومثلوا له وذكروا تعليلات لما اختاروه من ترتيب.
وقد وُجِدت –قديما وحديثا- اعتراضات على الترتيب الذي ذكره الغزالي. ومن ذلك ما ذكره الآمدي من أن من المتقدمين من ذهب إلى تقديم حفظ النفس على حفظ الدين، بناء على قاعدة تقديم حقّ الآدمي على حقّ الله تعالى؛ لأن حقوق العباد قائمة على المشاحّة وحقّ الله تعالى قائم على المسامحة، ولأن العبد يتضرّر بفوات حقِّه أما الله تعالى فمُنزَّه عن التضرُّر.
كما أشار ابن الحاجب إلى اعتراض بعض المتقدمين على ذلك الترتيب بجعل الدين في الرتبة الأخيرة، حيث يقول: "والدينية على الأربعة، وقيل العكس، ثم مصلحة النفس، ثم النسب، ثم العقل، ثم المال." دون أن يسمي من ذهب إلى هذا الترتيب، كما لم يذكر تعليلهم ذلك التأخير.
ومن المعاصرين الذين اعترضوا على الترتيب المعهود عند الأصوليين الدكتور جمال الدين عطية الذي وزّع حفظ الدين –بناء على تفريقه بين الدين والتدين- على الدوائر الأربع لمقاصد الشريعة؛ فجعَله متأخرا عن حفظ النفس وحفظ العقل في مجال الفرد، على اعتبار أنه يجب أولا المحافظة على النفس التي تقوم بها الأفعال، ثم على العقل الذي به التكليف، ثم على التدين. وجعله في المرتبة الخامسة في المقاصد المتعلقة بالأسرة، وجعله في المرتبة الرابعة في المقاصد المتعلقة بالأمة.
وكذلك الدكتور علي جمعة، حيث ذكر أن الترتيب الذي يراه متوافقا مع احتياجات العصر يكون على الصورة الآتية: حفظ النفس، ثم العقل، ثم الدين، ثم النسل، ثم المال.
ويعلل هذا الترتيب بقوله: "حيث إنه يجب المحافظة أولا على النفس التي تقوم بها الأفعال، ثم على العقل الذي به التكليف، ثم نحافظ على الدين الذي به العبادة وقوام العالم، ثم نحافظ بعد ذلك على ما يترتب على حفظ العقل والذات والدين، وهو المحافظة على النسل الناتج عن الإنسان، وما يتعلق أو يندرج تحت هذا العنوان الكلي من المحافظة على العرض وحقوق الإنسان وكرامته، ثم بعد ذلك نحافظ على قضية الملك، وهي التي بها عمارة الدنيا عند تداولها." وقد مهّد لهذا التعليل بكلام خطابي، حيث وصف ترتيب المتقدمين بأنه: "قد أدى دوره في وقتهم، واستوعب جميع المسائل القائمة أو المحتملة في أوانهم، إلا أنه في العصر الحاضر ... أصبح من الضروري إعادة تشغيل هذه الكليات الخمس، ولكن بطريقة أكثر فاعلية مع مقتضيات ومتطلبات هذا العصر." وهو كلام لا يثبت عند التمحيص؛ لأن القيم الشرعية لا تتغير بتغير العصر، وهو قول ناتج عن الغفلة عن إدراك سبب ترتيب المتقدمين لها بتلك الصورة.
وفضلا عن الاعتراضات السابقة، يوجد اعتراض آخر على ذلك الترتيب يقوم على حديث "من قتل دون ماله ودون عرضه". ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ». وفي الرواية التي عند أبي داود زيادة، فعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».
وعند النظر في تعليلات أولئك المعترضين على الترتيب الشائع بين الأصوليين (ترتيب الغزالي والآمدي)، حيث لم يجعلوا الدين في الرتبة الأولى، بل جعلوه في رتبة متأخرة، يتبين أن ذلك يرجع إلى أمور: أحدها: النظر إلى جانب الوجود والتحصيل في تلك المقاصد. والثاني: الظن بأن المراد بالترتيب هو تقديم مطلق حفظ الدين على ما بعده من نفسٍ ونسلٍ وعقلٍ ومالٍ. والثالث: استعمال مصطلح الدين بالمعنى الأخص، وهو إقامة الشعائر التعبدية التي جاء بها الإسلام. وفيما يأتي عرض ومناقشة تلك الإشكالات. مع الإشارة إلى أن المناقشة لا تتعرض للخلاف الحاصل حول ترتيب النسل والعقل؛ لأن الخلاف فيها هيِّن وقيمته العملية قليلة. وإنما تتركز المناقشة على تقديم الدين أو تأخيره في الترتيب.
أولا: اعتماد معيار الوجود والتحصيل في الترتيب
من الأسباب التي جعلت البعض يقولون بتقديم النفس على الدين أو بتقديم النفس والعقل على الدين، ظنُّهم أن مناط الترتيب هو السَّبْقُ في الوجود، حيث يكون وجود النفس أوّلا، ونُضجُ العقل ثانيا، ثم بعد ذلك يوجد التديّن، فلا وجود للتديُّن دون وجود النفس والعقل. أو ظنّهم أن مناط الترتيب هو التقديم في التحصيل، حيث يُحصِّل الإنسان أسباب بقاء النفس، ويُحصِّل العقل، ثم بعد ذلك يتديَّن، فلا يمكن التديُّن مع هلاك النفس أو مع عدم وجود العقل أو عدم نضجه. وهذا التصوّر هو الذي جعل الدكتور علي جمعة والدكتور جمال الدين عطية يفرقان بين الدين والتديُّن كما سيأتي بيانه.
والواقع أن ظنهم الذي بنوا عليه ذلك الإشكال غير صحيح؛ لأن الأصوليين عندما رتبوا هذه الضروريات لم ينظروا إلى معيار الوجود والتحصيل، بل نظروا إلى الترجيح بينها حسب الأهمية عند التعارض. ولم يكن قصدهم من ذلك الترتيب أن الإنسان يبدأ أوّلاً بتحصيل الدين وحفظه، ثم تحصيل النفس وحفظها، ثم تحصيل النسل وحفظه، ثم تحصيل العقل وحفظه، ثم تحصيل المال وحفظه. فتلك الكليات جميعها مطلوبة التحصيل والحفظ، فإذا وقع تعارضٌ بين بعضها بحيث يتعذَّر الجمعُ بينها ظهرت الحاجة إلى الترجيح، ويكون الترجيح وفق الترتيب الذي ذكروه، وهو قائم على معيار الأهمية. ولو أننا أخذنا بمعيار السَّبْق في الوجود فإن ترتيب الدين سيكون آخر شيء؛ فلا نقدم فقط حفظ النفس والعقل على الدين، بل نقدم أيضا النسل لأنه ضروري لاستمرار النفس التي تتديَّن، ونقدم أيضا المال لأنه ضروري لوجود الحياة واستمرارها.
ثانيا: الظن بأن المقصود من الترتيب تقديم مطلق الدين على ما بعده من المقاصد
إن مما أسهم في إثارة الإشكالات المتعلقة بالترتيب الظنُّ بأن المقصود بتقديم الدين في الترتيب هو تقديم مطلق حفظ الدين على حفظ ما بَعْدَهُ في الترتيب من نفسٍ ونسلٍ وعقلٍ ومالٍ، وكذلك مطلق حفظ النفس على ما هو بعدها في الترتيب، وهكذا. ولما كان ملعوما في أحكام الشريعة تقديم حفظ النفس أو أجزاء منها على حفظ بعض الأمور المتعلقة بالدين، نتج عن ذلك استشكال الترتيب المشهور عند الأصوليين.
ولكن الأمر ليس كذلك؛ فالمراد بتقديم الدين تقديمُ حفظ أصل الدين، وهو ما يُبْقي الإنسان في دائرة الإيمان، على أصل النفس عند التعارض، فإذا خُيِّر الإنسان بين الكفر وحفظ النفس، وجب تقديم حفظ الإيمان على حفظ النفس. وليس المراد تقديم جميع ما يتعلق بحفظ الدين على جميع ما يتعلق بحفظ النفس، بل إن حفظ أصل النفس مُقدَّم على حفظ فروع الدين، وذلك ثابت معروف في الشريعة. وكذلك الأمر في تقديم أصل حفظ النسل والمال على بعض فروع الدين. وقد أشار الآمدي إلى هذا عندما قال: "أن يكون مقصود إحدى العلتين حفظ أصل الدين، ومقصود الأخرى ما سواه من المقاصد الضرورية. فما مقصوده حفظ أصل الدين يكون أولى نظرا إلى مقصوده وثمرته من نيل السعادة الأبدية في جوار رب العالمين." وقال: "وأما التخفيف عن المسافر والمريض فليس تقديما لمقصود النفس على مقصود أصل الدين، بل على فروعه، وفروع أصلٍ غيرُ أصلِ الشيء." فالذي يُقدَّم على غيره بإطلاق هو أصل الدين، وليس مطلق فروع الدين.
وكون حفظ أصل الدين مُقدما على أصل النفس أمر لا شكّ فيه في الشريعة، ويدل عليه مدح القرآن الكريم للذين ضحوا بأنفسهم في سبيل حفظ أصل دينهم في قصة أصحاب الأخدود (سورة البروج: 4-11). وأمرُه عزّ وجلّ المضطهدين في دينهم القادرين على الهجرة بأن يهاجروا، وتوعُّده الذين تتوفاهم الملائكة منهم على الكفر بالعذاب: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (*) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (*) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء: 97-99). وكذلك ربطه عزّ وجلّ إباحة النطق بكلمة الكفر في حال الإكراه بشرط كون القلب مطمئنا بالإيمان: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (*) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (النحل: 106-107).
وتفصيل معيار الترجيح أن أمور الدين منها ما يقع في مرتبة الضرورة، ومنها ما يقع في مرتبة الحاجة، ومنها ما يقع في مرتبة التحسين. وما يتعلق بالنفس فيه ما يقع في مرتبة الضرورة، وفيه ما يقع في مرتبة الحاجة، وفيه ما يقع في مرتبة التحسين. وهكذا بالنسبة للكليات الأخرى. ففي إطار الضروريات تقدم الضروريات المتعلقة بالدين على الضروريات المتعلقة بالنفس وغيرها؛ أما إذا كانت المصلحة المتعلقة بالنفس ضرورية وما يعارضها من مصلحة متعلقة بالدين حاجية فقط فتُقدَّم مصلحة النفس على المصلحة المتعلقة بالدين. وهذا المعيار يجيب عن حُجج القائلين بتقديم النفس على الدين.
ومما ذكروه أيضا لتأييد تقديم النفس على الدين الرُّخص التي أعطيب للمسافر في ترك الصوم والقصر من الصلاة، والرخصة للمريض في ترك الصوم والصلاة بالكيفية التي يقدر عليها، وتقديم إنقاذ الغريق على الصلاة في وقتها، وجواز ترك الجمعة للقيام على المريض أو حفظ المال. وقد أجاب الآمدي على ذلك بأن التقديم لم يكن على أصل الدين بل على فروعه. وأجاب عن مسائل الترخيص في ترك الصوم وصلاة الجماعة وتقديم إنقاذ الغريق بأن ذلك ليس تركا مطلقا، بل هو ترك إلى بدل، حيث يقضي الصوم، ويصلي الظهر بدلا من الجمعة، ويقضي الصلاة بعد الفراغ من إنقاذ الغريق. فحفظ النفس من الغرق أو الحرق أو الصائل ضروري، وأداء الصلاة من ضرورات الدين أيضا، ولكن ترك إنقاذ الغريق أو الحريق يؤدي إلى ضياع أصل النفس، أما تأخير الصلاة فلا يؤدي إلى ضياع الدين من أصله، فيصلِّيها بعد الفراغ من ذلك الشاغل القاهر، ولذلك دخلت ضمن قاعدة دفع أعظم الضررين. وكذلك الأمر في إباحة النطق بكلمة الكفر في حال الإكراه والقلبُ مطمئنٌّ بالإيمان، فليس في ذلك مساس بأصل الدين ولا تضييع له، وكل ما في الأمر هو الإتيان بفعل مُحرَّم يخدش الدين لكنه لا يهدمه من أصله ما دام قلب صاحبه مطمئنا بالإيمان. وعلى عكس ذلك فإنه لو كان التخيير بين الخروج من الدين حقيقة وبين القتل أو غيره من الأذى الشديد، فلا شك أن الشريعة توجب التضحية بالنفس حفاظا على أصل الدين.
أما عن رخص الصلاة والصوم للمسافر والمريض فليس فيها شيءٌ من تضييع الدين وعدم حفظه، فما كان منها إلى بدل فواضح أنه لا تضييع فيه، بل هو مجرّد تغيير لوقت العبادة، وما كان فيه تخفيف كالقصر فإن الشارع أقام فيه الصلاة الناقصة عن أصلها مقام الأصل وجعلها مجزئة، فلا تضييع في ذلك.
أما الإشكال الذي يثيره حديث من قُتل دون ماله أو عِرضه، فإنه مدفوع من جهتين: إحداهما: أن المدافع عن نفسه أو ماله أو أهله لم يقصد إلى ترجيح المال أو العرض على النفس، وإنما قصد الدفاع، وهو بدفاعه قد يتمكن من حَرْز ماله وردِّ العدوان عن ماله أو نفسه أو عِرضه دون أن يُقْتَلَ، وذاك قصدُه في الأصل. فإن حصل وقُتِل فله أجر الشهادة بذلك. فليس هنا ترجيح مُسْبَق بين الأمرين قام بناء على الموازنة بينهما، وإنما هناك اندفاع من المعتَدَى عليه للدفاع عن ماله أو عِرضه، وهذا حقٌّ مشروع، فإذا مات من أجل ذلك الدفاع أكرمه الشارع بأجر الشهادة.
والوجه الثاني: أن الترجيح بهذه المعايير إنما هو ترجيح إجمالي إرشادي وليس لازما بإطلاق، وقد يقع الاختلاف في بعض تفاصيله بناء على الاختلاف في تقدير مراتب المصالح، أو بناء على عوامل خارجية تجعل للإنسان الخيار بين تقديم الأعلى رتبة، أو تقديم الأدنى رتبة إذا كان مستعدا للتضحية. ومن ذلك الإكراه على النطق بالكفر؛ فللإنسان أن يختار الصبر على الأذى أو الشهادة في سبيل الله دون النطق بكلمة الكفر، وقد يختار النطق بكلمة الكفر حفاظا على نفسه من العذاب الشديد أو الهلاك. وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول البوطي: "غير أنه يُستثنى ... ما لو كان أحد المنكرين ضروريا عائدا إلى حفظ النفس والثاني حاجيا عائدا إلى حفظ الدين، فمع أنه يجوز إهمال الحاجي المتعلق بالدين حفظا لضرورة حفظ النفس ... إلا أنه يُستحب تقديم جانب الدين وإن استلزم التضحية بضروريات النفس، وذلك إعزازا لجانب الدين الذي هو أساس القيم كلها، كما لو أُكرِه على النطق بكلمة الكفر، وكان في سكوته عنها تلفه وهلاكه."
ثالثا: التفريق بين الدين والتديُّن
ما ذهب إليه الدكتور جمال الدين عطية من التفريق بين الدين والتدين ليس له وجه ظاهر؛ لأن التديُّن لا يكون إلا بوجود الدين الصحيح، كما أنه لا فائدة من وجود نصوص الدين الصحيحة إذا لم يكن الناس يعملون بها. إن حفظ الدين يتطلب حفظ أصول الدين ونصوصه من الضياع والتحريف، إذْ بضياع نصوص الدين يضيع الدين كليا أو جزئيا، كما أنه بتحريف نصوص الدين وتعاليمه يضيع الدين في نفوس الناس، وينقلب تديُّن الناس إلى ممارسة منحرفة لا تمثل حقيقة الدين الصحيح. كما أن الدين لا يكون محفوظا إذا لم يلتزم به الناس التزاما صحيحا وكاملا، فإذا كانت أصول الدين ونصوصه محفوظة في القراطيس دون أن تصبح واقعا عمليا في نفوس الناس فإن ذلك يكون تضييعا لها؛ لأن الدين ما أُنْزِل إلا ليكون واقعا عمليا في حياة الناس يهديهم سبيل الرشاد في جميع مناحي الحياة.
والعلماء المتقدمون عندما تحدثوا عن حفظ الدين لم يقصروا ذلك على حفظ نصوصه من الضياع والتحريف، بل عنوا حفظ الدين في نفوس المسلمين بالالتزام به على الوجه الصحيح المقيم للحياة الدنيا والـمُنْجي يوم القيامة. وحفظ الدين بهذا المعنى مطلوب على مستوى الفرد وعلى مستوى الأسرة وعلى مستوى الأمة. فالفرد يجب عليه أن يبذل جهدا لحفظ الدين في نفسه وفي محيطه، والأسرة من وظائفها المساعدة على حفظ الدين في نفوس أفرادها بتعليمه وتوفير البيئة المناسبة للالتزام به، والمجتمع من وظائفه حفظ الدين في نفوس أفراده بتوفير البيئة الصالحة لذلك.
خاتمة
تناول هذا البحث عرض ومناقشة أهم الإشكالات التي أورِدَت على المقاصد الشرعية الخمسة. وقد توصلت الدراسة إلى أن الأصوليين القدامى لما حصروا المقاصد في تلك الخمسة نظروا إلى الجوانب الأساسية التي تقوم عليها حياة الإنسان في هذا الكون فوجدوا أنها ترجع إلى تلك الأصول الخمسة. وأن وصفهم إياها بالضروريات لا يعني حصر آحاد الضروريات فيها، وإنما المراد بذلك أنها أصل الضروريات، ويتم تحقيقها من خلال وسائل متعددة تتوزع على ثلاث مراتب، هي: الضروري والحاجي والتحسيني. وما اقترحه بعض المعاصرين من الزيادات لمرتبة الضروري يمكن إرجاعه إلى الوسائل الضرورية أو الحاجية لتحقيق تلك الأصول. كما توصل البحث إلى أن حصر آحاد الضروريات –خاصة في الوسائل- مسألة قابلة للاختلاف في التقدير؛ لأن الضرورات لم تحدد في الشريعة بأعيانها، بل بأوصافها. وتوصل البحث إلى أن ما ذكره المتقدمون من تقديم الدين على جميع المقاصد الأخرى سليم من حيث الأصل، وأن ما أثاره المعترضون قائم على التباس في معايير الترتيب.
المراجع
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات، تحقيق عبد الله دراز (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت).
أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، مكتب التحقيقات بدار إحياء التراث العربي (بيروت: دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، ط1، د.ت).
أبو عبد الله، شمس الدين محمد بن محمد المعروف بابن أمير حاج، التقرير والتحبير (بيروت: دار الكتب العلمية، 1403هـ/ 1983م).
أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع الفتاوى، جمع عبد الرحمن القاسم (الرياض: وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، 1386هـ).
تاج الدين بن عبد الوهاب بن علي السبكي، جمع الجوامع في أصول الفقه، علق عليه ووضع حواشيه عبد المنعم خليل إبراهيم، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1424هـ/ 2003م).
جمال الدين عطية: نحو تفعيل مقاصد الشريعة (دمشق: دار الفكر للطباعة والنشر، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1424هـ/ 2003م).
عبد المجيد النجار، مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 2006).
عز الدين بن زغيبة، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية (القاهرة: دار الصفوة، 1417هـ/ 1996م).
علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، تحقيقد. عبد الرحمن الجبرين، د. عوض القرني، د. أحمد السراح، (الرياض: مكتبة الرشد، ط1، 1421هـ/ 2000م).
علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط5، 1993).
علي بن محمد الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، تعليق عبد الرزاق عفيفي (الرياض: دار الصميعي للنشر والتوزيع، ط1، 1424هـ/ 2003م).
علي جمعة محمد، المدخل (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1417هـ/ 1996م).
فخر الدين محمد بن عمر الرازي، المحصول في علم أصول الفقه، تحقيق طه جابر العلواني (بيروت: مؤسسة الرسالة، د. ت).
لحرش أسعد المحاسن، "ترتيب المقاصد الضرورية بين المتقدمين والمعاصرين وأهميتها للمفتي"، مقال منشور في مجلة "المسلم المعاصر"، عدد 145/ 146، ديسمبر 2012. مأخوذ من موقع المجلة:
<h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
(<h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
)
محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي (ماليزيا: دار الفجر، عمان: دار النفائس، ط1، 1420هـ/ 1999م).
محمد سعد بن أحمد اليوبي، مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، (الرياض: دار الهجرة للنشر والتوزيع، 1418هـ/ 1998م).
محمد سعيد رمضان البوطي، ضوابط المصحلة في الشريعة الإسلامية، (د.م: مؤسسة الرسالة، د. ت).
محمود بن عبد الرحمن شمس الدين الأصفهاني، بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب، تحقيق محمد مظهر بقا (السعودية: دار المدني، ط1، 1406هـ / 1986م).
ملحوظة: لم تظهر هوامش البحث في هذه النسخة بسبب خلل فني لا أعرفه. ولذلك فقد أرفقت نسخة من البحث تتضمن هوامشه
الملفات المرفقة <h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
دراسة في الإشكالات المتعلقة بالمقاصد الشرعية الخمسة.pdf‏ (<h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
) (480.2 كيلوبايت)