مشاهدة النسخة كاملة : جارك القريب ولا ولد أمك البعيد


فريق منتدى الدي في دي العربي
02-27-2016, 06:22 AM
جارك القريب ولا ولد أمك البعيد
علاء الدين عوض


إنَّ المستقرئ لكتاب الله ولسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَجد أنَّ ديننا اهتمَّ كثيرًا بالعلاقات الإنسانيَّة والاجتماعية التي بين النَّاس؛ ومن ذلك اهتمام الإسلام بعلاقة الجيرَةِ، واهتمامه بعلاقة الجيران مع بعضهم البعض.
وإنَّ علاقة الجيران ببعضِهم البعض هي التي تبيِّن لك مدى الرُّقيِّ والتحضُّر الذي وصَل إليه المجتمعُ؛ فالمجتمع الرَّاقي والمجتمع الحضاري؛ هو المجتمع الذي يَكون فيه الجيران متواصلين فيما بينهم، متَراحمين فيما بينهم، يُعين القويُّ منهم الضَّعيفَ؛ هذا هو المؤشِّر الذي يُعرف به رقيُّ وتحضُّر المجتمع.
والجار له أهميَّة كبيرة في حياتك؛ فالجار هو أقرَب النَّاس إليك، وهو الذي يغيثك إذا استغثْتَ، وهو الذي يَحفظ عِرضَك في غيبتك، وهو الذي يوجِّه أبناءك إن رأى منهم الخطأ، وهو الذي يَنصُرك إن اعتدى عليك لصٌّ أو ظالِمٌ، وكلمة (جار) في لغَة العرب تعني: النَّاصِر والحَليف والحامي.
لهذا أَوصى الإسلامُ بالجار، وحثَّ على حُسن الجوار، قال الله - تعالى -: ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) [النساء: 36].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما زال جبريلُ يُوصيني بالجار، حتى ظنَنتُ أنَّه سيورِّثُه))؛ متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((واللهِ لا يؤمن، والله لا يؤمِن، والله لا يؤمِن!))، قيل: مَن يا رسول الله؟! قال: ((الذي لا يَأمن جارُه بوائقَه))؛ متفق عليه.
وفي روايةٍ لمسلم: ((لا يَدخل الجنَّةَ مَن لا يأمن جاره بوائقه)).
* البوائق: الشرُّ والأذى والسوء.
ومن حقِّ الجار إطعامه من الطَّعام الذي يُطبَخ في البيت، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا ذَر، إذا طبختَ مرَقةً، فأكثِر ماءها، وتعاهَدْ جيرانَك))؛ رواه مسلم.
وهو عُرْفٌ سودانيٌّ قديم يسمَّى (الضواقة)؛ ولله الحمد، بعضُ الأُسَر السودانيَّة لا زالت تحافِظ على هذه العادة الكريمة.
وقال - صلى الله عليه وسلم - وهو يخاطِب النِّساءَ: ((يا نساءَ المسلمات، لا تحقِرنَّ جارة لجارتها ولو فِرْسِنَ شاة))؛ متفق عليه.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كان يؤمن بالله واليومِ الآخر، فلا يؤذِ جاره)).
وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس المؤمن الذي يَشبَعُ وجارُه جائعٌ إلى جنبه))؛ صححه الألباني.
فهذه الأحاديث كلها تبيِّن لك قيمةَ الجِوار وحق الجار؛ فالجار حقُّه عليك عظيم.
وقد حذَّر الشَّارِعُ من مغبَّة الإساءة للجار، وحذَّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الإساءة إلى الجار، وأسوأ أنواع الإساءة إلى الجار ارتِكابُ المحرَّمات، وإنَّ العرب في جاهليَّتهم وعلى ضلالهم وانحرافِهم وعبادتهم للأوثان - كانوا يعظِّمون حقَّ الجار، حتى قال عنترة الشَّاعر الجاهلي:
وأَغُضُّ طرفي ما بدَت لي جارَتي ••• حتى يُواري جارتي مَأْواها
عنترة لا يَنظر إلى بَنات الجيران، ولا يتلصَّصُ على بَنات الجيران؛ لا بالبابِ ولا بالشباك ولا بالبلكونة، وبعضُ المسلمين الآن لا يتورَّعون عن التلصُّص على الجيران، ولا يَحلو لهم النَّظَر إلَّا إلى نِساء الجيران، ولا يحلو لهم إلَّا الزِّنا بنِساء الجيران والعياذ بالله! وحُرمة الجار ليست كحرمة غيره من النَّاس، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأنْ يَزني الرَّجل بعشر نِسوة أيسَر عليه من أن يَزني بحليلَة جارِه)).
وإنَّ العلاقة بين الجيران يَنبغي أن تكون علاقةً حميمةً؛ فيها تواصُل، وفيها زيارات، ولكن مع مُراعاة الضَّوابط الشرعيَّة! لا يَنبغي أن يَتساهل النَّاسُ في الدخول على الجيران بدون استئذان، ولا يَنبغي التَّساهُل في الدُّخول على نِساء الجيران، ولا يَنبغي التَّساهُل في الخلوة بنِساء الجيران، بعض النَّاس يتَساهلون كثيرًا في هذا الأمر ويقول لك: هذا ابنُ الجيران! روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عُقبة بن عامر - رضي الله عنه -، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إيَّاكم والدُّخولَ على النِّساء))، فقال رجل من الأنصار: يا رسولَ الله، أفرأيتَ الحمو؟ قال: ((الحمْو الموت)).
وفي آخِر مرَّة زرتُ فيها دارَ رعاية فاقدي السند - دار المايقوما - سألتُ الأخصائية الاجتماعية وقلتُ لها: هل لديكم نِسبة من أطفال زنا المحارِم هنا؟ فقالت لي: نسبة الأطفال مِن زنا المحارِم بلغَت 3 %!
وأصبحنا نَسمع عن خِيانات زوجيَّة مع أقرب الأقربين، ومع الجيران، وما كان هذا إلَّا بسبَب الخلوة بالنِّساء والدُّخول عليهنَّ، والتَّساهُل في الدُّخول للبيوت بغير استِئذان!
فالإسلام يعظِّم قضيَّةَ الجيرة، ويحذِّر من الإساءة إلى الجار ومن سوء الجوار.
وإذا تأمَّلتَ في كثيرٍ من المجتمعات، فإنَّك ستجِد مَظاهِرَ القطيعَةِ بين الجيران موجودة، منها:
* أنَّك يمكن أن تَدخل منطقةً تَجد الجيران لا يَعرفون بعضهم البعض! وتَسأَل عن بيتٍ يُقال لك: لا نعرفه!
* وكذلك من مَظاهر القطيعة بين الجيران أنَّك تجِد بعضَ الجيران لا يَزورُ جيرانَه إلَّا في المناسبات.
* ومن مَظاهر القطيعة بين الجيران ما يقَعُ من خُصوماتٍ بين الجيران؛ بسبب خصومات الأطفال مع بعضِهم البعض!
فكلُّ هذه من مَظاهِر قَطيعة الجوار التي لا يَنبغي أن تكون بين الجيران.
ولكن في الجانب الآخَرِ هنالك مَظاهر مشرِّفة في الجيرة وفي حُسن الجوار، منها:
* أنَّ الجار إذا مرِض يَعوده أهلُ الحيِّ وأهلُ المسجد، وإذا سافَر وعلِم بذلك أهلُ المسجِد وأهل الحيِّ ذَهبوا إليه مودِّعين، وإذا عاد جاؤوا إليه مهنِّئين، حامدين اللهَ على سلامته.
* ومن مَظاهر حُسن الجوار الاحتِفاء بالجار الجَديد، والذَّهاب إلى منزله، والتعرُّف عليه.
* وإنَّ من المظاهر المشرِّفة في حُسن الجِوار في تاريخ الإسلام قصَّة أبي حنيفة النُّعمان مع جاره الذي كان يَسكر.
كان لأبي حَنيفة جارٌ بالكوفة إسكافي، يَعمل نهارَه أجمَع، حتى إذا جنَّه اللَّيل رجع إلى منزله، وقد حمل لحمًا فطبخَه، أو سمكةً فيَشويها، ثُمَّ لا يَزال يَشرب، حتى إذا دبَّ الشَّراب فيه غنَّى بصوتٍ وهو يقولُ:
أضاعوني وأي فتًى أضاعوا *** ليوم كريهةٍ وسِدادِ ثغْرِ
فلا يَزال يَشرب ويردِّد هذا البيت حتى يأخُذه النَّوم، وكان أبو حنيفة يَسمع جلَبَتَه كلَّ يوم، وكان أبو حنيفة يصلِّي اللَّيلَ كلَّه، ففقد أبو حنيفة صوتَه، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس منذ ليالٍ، وهو مَحبوس، فصلى أبو حَنيفة صلاةَ الفجْر من غدٍ، وركب بغلتَه، واستأذن على الأمير، قال الأمير: ائذنوا له، وأقْبِلوا به راكبًا، ولا تدَعوه ينزِل حتَّى يطأ البساطَ، ففعلوا، فلم يزل الأميرُ يوسِّع له في مَجلسه، وقال: ما حاجتُك؟ قال: لي جار إسكافيٌّ أخذه العسسُ منذ ليالٍ، يأمر الأميرُ بتخليته، فقال: نعم، وكل مَن أُخِذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمَر بتخليتهم أجمعين، فركب أبو حنيفة والإسكافي يَمشي وراءه، فلمَّا نزَل أبو حنيفة مَضى إليه، فقال: يا فتى، أضَعْناك؟ فقال: لا؛ بل حفظتَ ورعيتَ، جزاك الله خيرًا عن حُرمة الجوار ورعايةِ الحقِّ، وتاب الرَّجلُ ولم يعُد إلى ما كان.
فالجيرة حقُّها عظيمٌ وكبير، وعلى الإنسان أن يَحرِص على حُسن الجوار، يَحرص على ألَّا يُؤذي جيرانَه، ويَحرِص على أن يعامِلَ جيرانَه كما يحبُّ أن يُعامِلوه، وأن يصبِرَ إن ابتلاه الله - عز وجل - بجارٍ يؤذيه، وأن يحتسِبَ الأجرَ.

Adsense Management by Losha