فريق منتدى الدي في دي العربي
11-14-2017, 05:33 AM
الدَّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْم (التَّوَّابِ)[1]:
التَّوَّابُ فِي اللُّغَةِ مِنْ صِيَغ المُبَالَغةِ، فِعْلُهُ تَابَ يَتُوبُ تَوْبًا وتَوْبَةً، والتَّوْبَةُ الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيءِ إِلي غَيْرِهِ، وَتَرْكُ الذَّنْبِ عَلَى أَجْمَلِ الوُجُوهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ وُجُوهِ الاعْتِذَارِ، فَإِنَّ الاعْتِذَارَ عَلَى ثَلاثةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أنْ يَقُولَ الُمعْتَذِرُ لَمْ أَفْعَلْ، أَوْ يَقُولَ فَعَلْتُ لأَجْلِ كَذَا أَوْ يَقُولَ: فَعَلْتُ وَأَسَأْْتُ وَقَدْ أَقْلَعْتُ وَلاَ رابِعَ لِذَلِكَ، وَهَذَا الأَخِيرُ هُوَ التَّوْبَةُ[2]، وَالتَّائِبُ يُقَالُ لِبَاذِلِ التَّوْبَةِ وَلِقَابِل التَّوْبَةِ، فَالعَبْدُ تَائِبٌ إِلَى الله، والله تَائِبٌ عَلَى عَبْدِهِ[3]، وَالتَّوْبَةُ لاَزِمَةٌ لِجَمِيعِ المُذْنِبِينَ وَالعَاصِينَ صَغُرَ الذَّنْبُ أَوْ كَبُرَ، وَلَيْسَ لأِحَدٍ عُذْرٌ فِي تَرْكِ التَّوْبَةِ بَعْدَ ارْتِكَابِ المعصيةِ؛ لأنَّ المعاصِي كُلَّها تَوَعَّدَ اللهُ عليْهَا أهْلَهَا[4].
*
والتَّوَّابُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عَبادِهِ حاَلًا بَعْدَ حالٍ، فَمَا مِنْ عَبْدٍ عَصَاهُ وبَلَغَ عصيانهُ مَدَاهُ ثُمَّ رَغِب فِي التَّوْبَةِ إليهِ إلَّا فَتَحَ لَهُ أبْوَابَ رحمَتِهِ، وفَرِحَ بعودَتِه وتَوْبَتِهِ، مَا لَمْ تُغَرْغِرِ النفسُ أو تَطْلُعِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَي رضي الله عنه مَرْفُوعًا: "إن الله عَزَّ وَجَل يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسيءُ اللَّيْلِ حَتي تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا"[5]، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَال: "إِنَّ الله يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْد مَا لَمْ يُغَرغِرْ"[6]، ولو أَنَّ إنسَانًا اتَّبع هَوَاهُ أَوِ استَجَابَ لشيطانِهِ، وتَمادَى في جُرْمِهِ وَعِصْيَانِهِ، فَقَتَلَ مِائَةَ نَفَسٍ، وارْتَكَبَ كُلَّ إثْمٍ، وأرادَ التَّوْبَةَ والغُفْرَانَ تابَ عليهِ التَّوَّابُ، وبدَّلَ لهُ عَدَدَ مَا فَاتَ مِنَ السَّيِّئَاتِ بِنَفْسِ أعدَادِهَا حَسَنَاتٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]، ورَوَي الترمذيُّ، وَحَسَّنَهُ الألبانِيُّ منْ حديثِ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَالَ الله: يَا ابْنَ آدَمَ إنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاء ثُمَّ اسْتَغْفَرتَني غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرةً"[7].
*
هَذَا فَضْلًا عَنْ فَرَحِ التَّوَّابِ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ وَعَوْدَتهِ إِلَى رَبِّهِ، فَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: "لله أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَة أَحَدكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إذَا وَجَدَهَا"[8]، إنَّ المُذْنِبَ مُخْطِئٌ فِي جَنْبِ الله وعِظَمُ الذَّنْبِ يُقَاسُ بِعظَمِ مَنْ أَخطَأْتَ فِي حَقِّهِ، فَلَوْ قَبِلَ الله تَوْبَةَ المُذْنِبِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ القَبُولِ فَقَطْ كَرَمٌ بَالِغٌ ومِنَّةٌ مِنَ الله عَلَى عَبْدِهِ، فَمَا بالُنَا وَهُوَ يَقْبَلُ توبَةَ المُذْنِبِ بِعَفْوٍ جَدِيدٍ وَفَرَحٍ شَدِيدٍ، وَيَجْعَلُ فِي مُقَابِلِ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ أَجْرًا كَبِيرًا.
*
وَيَذْكُرُ ابْنُ الْقَيِّمِ أنَّ تَوْبَةَ العَبْدِ إِلى رَبِّهِ مَحْفُوفَةٌ بِتَوْبَةٍ مِنَ الله عَلَيْهِ قَبْلَهَا وَتَوْبَةٍ مِنْهُ بَعْدَهَا، فَتَوْبَتُهُ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِنَ الله: سَابِقَةٍ وَلاَحِقَةٍ، فَإِنَّهُ تَابَ عَلَيْهِ أَوَّلًا إِذْنًا وَتَوْفِيقًا وَإِلْهَامًا، فَتَابَ العَبْدُ فَتَابَ الله عَلَيْهِ ثَانِيًا قَبُولاً وَإِثَابَةً، قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِم سَبَقَتْ تَوْبَتَهُمْ، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي جعَلَتْهُم تَائِبِينَ، فَكَانَتْ سَبَبًا وَمُقْتَضًى لِتَوْبَتِهِم، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا تَابُوا حَتَّى تَابَ الله عَلَيْهِمْ، وَالحُكْمُ يَنْتَفِي لاِنْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، فَالعَبْدُ تَوَّابٌ، فَتَوْبَةُ العَبْدِ رُجُوعُهُ إِلَى سَيِّدِهِ بَعْدَ الإِبَاقِ، وَتَوْبَةُ الله نَوْعَانِ: إِذْنٌ وَتَوْفِيقٌ، وَقَبُولٌ وَإِمْدَادٌ [9]، قَالَ ابْنُ القَيَّمِ:
وكَذَلِكَ التَّوَّابُ مِنْ أَوْصَافِهِ
وَالتَّوْبُ فِي أَوْصَافِهِ نَوْعَانِ
إِذْنٌ بِتوْبَةِ عَبْدِهِ وَقَبُولُها
بَعْدَ المَتَابِ بِمِنَّةِ المَنَانِ
*
قَالَ أَبُو حَامِدٍ[10]: "التَّوَّابُ هُوَ الذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ تَيْسِيرُ أَسْبَابِ التَّوْبَةِ لِعِبَادِه مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى بِمَا يُظْهِرُ لَهُمْ مِنْ آيَاتِهِ، وَيَسُوقُ إِلَيْهِمْ مِنْ تَنْبِيهَاتِهِ، وَيُطْلِعُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَخْوِيفَاتِهِ وَتَحْذِيرَاتِهِ، حَتَّى إِذَا اطَّلَعُوا بِتَعْرِيفِهِ عَلَى غَوَائِلِ الذُّنُوبِ اسْتَشْعَرُوا الخَوْفَ بِتَخْوِيفِهِ فَرَجَعُوا إِلَى التَّوْبَةِ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ".
*
وُرُودُهُ فِي القُرْآنِ الكريمِ:
وَرَدَ الاسْمُ فِي القُرْآنِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً، مِنْهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 37].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 160].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾ [النور: 10].
وَقَوْلُهُ: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 3].
*
مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى[11]:
قَالَ قَتَادَةُ: "﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾: إِنَّ الله هُوَ الوَهَّابُ لِعِبَادِهِ الإِنَابَةَ إِلَى طَاعَتِهِ، المُوَفِّقُ مَنْ أَحبَّ تَوْفِيقَهُ مِنْهُمْ لِمَا يُرضِيهِ عَنْهُ"[12].
*
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾: أَيْ يَتُوبُ عَلَى العِبَادِ، والتَّوَّابُ مِنَ النَّاسِ الذِي يَتُوبُ مِنَ الذَّنْبِ"[13].
*
وَقَالَ ابنُ جَرَيرٍ: "﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾: إِنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ هُوَ (التَّوَّابُ) عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ المُذْنِبِينَ مِنْ ذُنُوبِهِ، التَّارِكُ مُجَازَاتِهِ بِإِنَابَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ بَعْدَ مَعْصِيَتِهِ بِمَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِهِ.
*
وَقَدْ ذَكَرْنَا أنَّ مَعْنَى (التَّوْبَةِ) مِنَ العَبْدِ إِلَى رَبِّهِ إِنَابَتُهُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَوْبَتُهُ إِلَى مَا يُرْضِيهِ بِتَرْكِهِ مَا يُسْخِطُهُ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مُقِيمًا مِمَّا يَكْرَهُهُ ربُّهُ، فَكَذَلِكَ تَوْبَةُ الله عَلَى عَبْدِهِ هُوَ أَنْ يَرْزُقَهُ ذَلِكَ ويؤُوُبُ مِنْ غَضَبِهِ عَلَيْهِ إِلَى الرِّضَا عَنْهُ، وَمِنَ العُقُوبَةِ إِلَى العَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُ"[14].
*
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: "قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ﴾ [غافر: 3].
أَيْ: يَقْبَلُ رُجُوع عَبْدِهِ إِلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا قِيلَ: التَّوْبَةُ كَأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى الطَّاعَةِ، وَتركُ المَعْصِيَةِ"[15].
*
وَبِنَحْوِهِ قَالَ الزَّجَّاجِيُّ، ثُمَّ قَالَ: "فَجَاءَ تَوَّابٌ عَلَى أَبْنِيَةِ المُبَالَغَةِ لِقَبُولِهِ تَوْبَةَ عِبَادِهِ، وَتكْرِيرِ الفِعْلِ مِنْهُم دُفْعَةً بَعْدَ دُفْعَةٍ، وَوَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ، وَقَبُولِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّنْ يَشَاءُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ جَاءَ عَلَى أَبْنِيَةِ المُبَالَغَةِ.
*
فَالعَبْدُ يَتُوبُ إِلَى الله عز وجل ويُقْلِعُ عَنْ ذُنُوبِهِ، وَاللهُ يَتُوبُ عَلَيْهِ، أَيْ: يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، فَالعَبْدُ تَائِبٌ، وَاللهُ تَوَّابٌ"[16].
*
وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: "(التَّوَّابُ): هُوَ الذِي يَتُوبُ عَلَى عَبْدِهِ وَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُ كُلَّمَا تَكَرَّرَتِ التَّوْبَةُ تَكَرَّرَ القَبُولُ، وَهُوَ حَرْفٌ يَكُونُ لاَزِمًا وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: تَابَ اللهُ عَلَى العَبْدِ بِمَعْنَى وفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ فَتَابَ العَبْدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118].
*
وَمَعْنَى التَّوْبَةِ: عَوْدُ العَبْدِ إِلَى الطَّاعَةِ بَعْدَ المَعْصِيَةِ"[17].
وَقَالَ الحُلَيمِيُّ: "(التَّوَّابُ) وَهُوَ المُعِيدُ إِلَى عَبْدِهِ فَضْلَ رَحْمَتِهِ إِذَا هُوَ رَجَعَ إِلَى طَاعَتِهِ، وَنَدِمَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَلاَ يُحْبِطُ بِمَا قَدَّمَ مِنْ خَيْرٍ، وَلاَ يَمْنَعُهُ مَا وَعَدَ المُطِيعِينَ مِنَ الإِحْسَانِ"[18].
*
وَقَالَ البَيْهَقِيُّ: "هُوَ الذِي يَتُوبُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عَبِيدِهِ"[19].
*
وَفِي المقَصِدِ الأَسَنْى: "(التَّوَّابُ) هُوَ الذِي يَرْجِعُ إِلَى تَيْسِيرِ أَسْبَابِ التَّوْبَةِ لِعِبَادِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، بِمَا يُظهِر لَهُمْ مِنْ آيَاتِهِ، وَيَسُوقُ إِلَيْهِم مِنْ تَنْبِيهَاتِهِ، وَيُطْلِعُهم عَلَيْهِ مِنْ تَخْوِيفَاتِهِ وَتَحْذِيرَاتِهِ، حَتَّى إِذَا اطَّلَعُوا بِتَعْرِيفِهِ عَلَى غَوَائِلِ الذُّنُوبِ، اسْتَشْعَرُوا الخَوْفَ بِتَخُوِيفِهِ فَرَجَعُوا إِلَى التَّوْبَةِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِم فَضْلُ الله تَعَالَى بِالقَبُولِ"[20].
*
ثمرة الإيمان باسم الله التواب:
1- اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَوَ (التَّوَّابُ) الذِي لَمْ يَزَلْ يَتُوبُ عَلَى التَّائِبِينَ، وَيَغْفِرُ ذنوبَ المُنِيبِينَ، فَكُلُّ مَنْ تَابَ إِلَى الله تَوْبَةً نَصُوحًا تَابَ الله عَلَيْهِ وَقَبِلَهُ.
فَهُوَ التَّائِبُ عَلَى التَّائِبِينَ أَوَّلًا بِتَوْفِيقِهِم للِتَّوْبَةِ، وَالإِقْبَالِ بِقُلُوبِهِم إِلَيْهِ.
وَهُوَ التَّائِبُ عَلَى التَّائِبِينَ بَعْدَ تَوْبَتِهِم قَبُولًا لَهَا وَعَفْوًا عَنْ خَطَايَاهُم[21].
فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُوَفِّقُ عِبَادَهُ للِتَّوْبَةِ، وَيَقْبَلُهَا مِنْهُم وَيُثِيبَهُم عَلَيْهَا، فَسُبْحَانَ التَّوَّابِ الرَّحِيمِ، الجَوَادِ الكريمِ.
*
قَالَ الأُقْلِيشيُّ: "سَمَّي الله سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ تَوَّابًا؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ التَّوْبَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَمُيَسِّرُ أَسْبَابَهَا لَهُم، وَالرَّاجِعُ بِهِم مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي يَكْرَهُ إِلَى الطَّرِيقِ الَّتِي يَرْضَى.
*
وَسَمَّي نَفْسَهُ أَيْضًا (تَوَّابًا) لِقَبُولِهِ تَوْبَةَ مَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ.
وَمِنَ القِسْمِ الأَوَّلِ قَوْلُه تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118].
وَمِنَ القِسْمِ الثَّانِي قَوْلُه تَعَالَى: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 39].
فَبِهَذَيْنِ القِسْمَينِ سَمَّي نَفْسَهُ تَوَّابًا.
*
وَلَقَدْ جَهِلَ المُعْتَزِلِيُّ الحَقِيقَةَ فَأَنْكَرَ القِسْمَ الأَوَّلَ، وَهُوَ خَلْقُ التَّوْبَةِ فِي قَلْب العَبْدِ، وَهَذَا مَطْمُوسُ القَلْبِ عَنْ طَرِيقِ القَصْدِ.
وَلَمَّا كَانَت المَعَاصِي مُتَكَرَّرَةً مِنْ عِبَادِهِ، جَاءَ بِصِيغَةِ المُبَالَغَةِ، لِيُقَابِلَ الخَطَايَا الكَبِيرَةَ بِالتَّوْبَةِ الوَاسِعَةِ"[22].
*
وَقَالَ ابْنُ الحَصَّارِ: "قَالَ الله العَظِيمُ: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ﴾ [التوبة: 117].
*
فَقَالَ فِي الآيَةِ الأُولَي: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ﴾ [التوبة: 117]. تَصْرِيحٌ بِتَوْبَتِهِ عَلَى الإِطْلاَقِ عَلَى مَنْ وَاقَعَ الذَّنْبَ، أَوْ كَانَتْ مِنْهُ مُخَالَفَةٌ وَعِصْيَانٌ.
*
فَتَوْبَةُ الله عَلَى العَبْدِ قَدْ يُرَادُ بِهَا تَجْدِيدُ التَّوْبَةِ وَتَوَالِيهَا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [النساء: 136].
*
مَعْنَاهُ جَدِّدُوا الإِيمَانَ وَاسْتَدِيمُوهُ وَاثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6].
*
وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ (التَّوَّابُ) مُبَالَغَةٌ؛ لِكَثْرَةِ مَنْ يَتُوبُ عَلَيْهِ، وَلِتَكْرِيرِهِ ذَلِكَ فِي الشَّخْصِ الوَاحِدِ حَتَّى يَقْضِيَ عُمْرَهُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ وَصْفَهُ سُبْحَانَهُ ب*(التَّوَّابِ) خَلْقُهُ التَّوْبَةَ للِعَبْدِ وَقَبُولُهَا مِنْهُ، كَمَا قَالَ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25]، أَيْ: يَقْبَلُ تَوْبَتَهُم، كَمَا قيِلَ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ تَوَّابٌ"[23].
*
2- اللهُ تَعَالَى هُوَ المُتَفَرِّدُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ مِنْ عِبَادِهِ، لاَ يُشْرِكُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَالخَطَايَا إِلَّا هُوَ.
قَالَ القُرْطُبيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ كَلاَمَ الأُقْلِيشِيِّ وَابْنِ الحَصَّارِ: "وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ قُدْرةٌ عَلَى خلْقِ التَّوْبَةِ فِي قَلْبِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ المُنْفَرِدُ بِخَلْقِ الأَعْمَالِ وَحْدَهُ[24] خِلاَفًا للِمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ قَالَ بقَوْلِهِم.
وَكَذَلِكَ لَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَةَ مَنْ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَلاَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ.
*
قَالَ ابْنُ الحَصَّارِ: "وَقَدْ كَفَرَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى بِهَذَا الأَصلِ العَظِيمِ فِي الدِّينِ، اتَّخَذَوا أَحْبَارَهُم وَرُهْبَانَهُم أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله عز وجل، وَجَعَلُوا لِمَنْ أَذْنَبَ أَنْ يَأْتِيَ الحَبْرَ أَوِ الرَّاهِبَ فَيُعْطِيهِ شَيْئًا، وَيَحطُّ عَنْهُ الذَّنْبَ!! ﴿ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 140]"[25].
*
وَهُوَ مَا يُسَمَّي ب (صُكُوكِ الغُفْرانِ)!! وَهِي مِنْ ضَلَالَاتِهم الكَثِيرَةِ الَّتِي أَضَلُّوا بِهَا النَّاسَ وَأَكَلُوا بِهَا أَمْوَالَهُم بِالبَاطِلِ دُهُورًا طَوِيلَةً كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 34].
*
فَلَيْسَ لأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ الله تَعَالَى - مَلَكًا كَانَ أَوْ رَسُولًا - سُلْطَانٌ فِي مَحْوِ الذَّنْبِ أَوْ سَتْرِهِ، أَوْ تَلَقِّي الاعْتِرَافَ بِالذَّنْبِ، سِوَي الرَّبِّ التَّوَّابِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إلَّا الشَّفَاعَةَ وَهِيَ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأذَنَ الله لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى مِنْ عِبَادِهِ.
*
وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا يَقَولُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 135].
*
وَفِي الدُّعَاءِ الذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَِبِي بَكْرٍ: "اللَّهُمَّ إِنَّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا - أَوْ كَثِيرًا - وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكِ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ"[26].
*
وَفِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ وَهَذَا الدُّعَاءِ إِقْرَارُ الوَحْدَانِيَةِ لَهُ فِي التَّوْبَةِ، إِذْ مَعْنَاهُمَا أَنَّهُ لاَ يَفْعَلُ هَذَا إِلَّا أَنْتَ فَافْعَلْهُ لِي.
*
اقتران اسم الله التواب بأسمائه الأخرى سبحانه:
اقْتِرَانُ اسْمِهِ (التَّوَّابِ) بِ (الَّرحِيمِ):
قَالَ قَتَادَةُ: "﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104]: إِنَّ الله هُوَ الوَهَّابُ لِعِبَادِهِ الإِنَابَةَ إِلَى طَاعَتِهِ، المُوَفِّقُ مَنْ أَحبَّ تَوْفِيقَهُ مِنْهُمْ لِمَا يُرضِيهِ عَنْهُ (الرَّحِيمُ) بِهِم أَنْ يُعَاقِبَهُم بَعْدَ التَّوْبَةِ، أَوْ يَخْذُلَ مَنْ أَرَادَ مِنْهُم التَّوْبَةَ وَالإِنَابَةَ، وَلاَ يَتُوبُ عَلَيْهِ"[27].
*
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَعْنَى (التَّوَّابِ) الذِي تَقَدَّمَ: "وَأَمَّا قَوْلُهُ (الرَّحِيمُ) فَإِنَّهُ يَعْنِى: أَنَّهُ المُتفَضِّلُ عَلَيْهِ مَعَ التَّوْبَةِ بِالرَّحْمَةِ وَرَحْمَتُهُ إِيَّاهُ إِقَالَةُ عَثْرَتِهِ، وَصَفْحُهُ عَنْ عُقُوبَةِ جُرْمِهِ"[28].
*
وَقَالَ شِهَابُ الدِّينِ الأَلُوسِيُّ: "وَجَمَعَ بَيْنَ وَصْفَيِ كَوْنِهِ تَوَّابًا وَكَوْنِهِ رَحِيَمًا، إِشَارَةً إِلَى مَزِيدِ الفَضْلِ، وَقَدَّمَ (التَّوَّابَ) لِظُهُورِ مُنَاسَبَتِهِ لِمَا قَبْلَهُ.
*
وَقِيلَ: فِي ذِكْرِ (الرَّحِيمِ) بَعْدَهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ لَيْس عَلَى سَبِيلِ الوُجُوبِ - كَمَا زَعَمَتْ المُعْتَزِلَةُ - بَلْ عَلَى سَبيِلِ التَّرَحُم وَالتَّفَضُلِ، وَأَنَّهُ الذِي سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، فَيَرْحَمُ عَبْدَهُ فِي عَيْنِ غَضَبِهِ، كَمَا جَعَلَ هُبوطَ آدَمَ سَبَبَ ارْتِفَاعِهِ، وَبُعْدَهُ سَبَبَ قُرْبِهِ، فَسُبْحَانَهُ مِنْ تَوَّابٍ مَا أَكْرَمَهُ وَمَنْ رَحِيمٍ مَا أَعْظَمَهُ"[29].
*
فَيَتَحَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ:
أ- أَنَّ الله تَعَالَى رَحِيمٌ بِعِبادِهِ فَلاَ يُعَاقِبُهم بَعْدَ التَّوْبَةِ.
ب- أَنَّهُ تَعَالَى لاَ يَخْذُلُ وَلاَ يَرُدُّ مَنْ جَاءَ مِنْهُم تَائِبًا، وَلَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُهُ عَنَانَ السَّمَاءِ وَمِلءَ الأَرْضِ.
ج- أَنَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ عَبْدَهُ وَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُ فِي عَيْنِ غَضَبِهِ؛ لأَِنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى تَسْبِقُ غَضَبَهُ.
د- أَنَّ قَبُولَهُ لِتَوْبَةِ عِبَادِهِ تَفَضُّلٌ مِنْهُ عَلَيْهِم، وَهُوَ مُقْتَضَى رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِهِم.
*
اقْتِرَانُ (التَّوَّابِ) بـ (الحَكِيمِ):
فَيَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾ [النور: 10]: "يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُم أَيُهَا النَّاسُ وَرَحْمَتُهُ بِكُم، وَأَنَّهُ عَوَّادٌ عَلَى خَلْقِهِ بِلُطْفِهِ وَطَوْلِهِ (حَكِيمٌ) فِي تَدْبِيرِهِ إِيَّاهُمْ وَسِيَاسَتِهِ لَهُم، لَعَاجَلَكُم بِالعُقُوبَةِ عَلَى مَعَاصِيكُم، وَفَضَحَ أَهْلَ الذُّنُوبِ مِنْكُم بِذُنُوبِهِم، وَلَكِنَّهُ سَتَرَ عَلَيْكُم ذُنُوبَكُم وَتَرَكَ فَضِيحَتَكُم بِهَا عَاجِلًا؛ رَحْمَةً مِنْهُ بِكُم وَتَفَضُّلًا عَلَيْكُم.
*
فَاشْكُرُوا نِعَمَهُ، وَانْتَهُوا عَنِ التَّقدُّمِ عَمَّا عَنْهُ نَهَاكُم عَنْ مَعَاصِيهِ وَتَرَكَ الجَوَابَ فِي ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِ المُرَادَ مِنْهُ"[30].
*
وَقَالَ البَغَوِيُّ فِي الآيَةِ نَفْسِهَا: "جَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ، يَعْنِى: لَعَاجَلَكُم بِالعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّهُ سَتَرَ عَلَيْكُم وَرَفَعَ عَنْكُمُ الحَدَّ بِاللِّعَانِ، وَأَنَّ الله تَوَّابٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ يَرْجِعُ عَنِ المَعَاصِي بِالرَّحْمَةِ، حَكِيمٌ فِيمَا فَرَضَ مِنَ الحُدُودِ"[31].
*
وَقَالَ الأَلُوسِيُّ: "جَوَابُ "لَوْلَا" مَحْذُوفٌ لِتَهْوِيلِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَا تُوجَدُ عِبَارَةٌ تُحِيطُ بِبَيَانِهِ، وَهَذَا الحَذْفُ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِم، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَوْلَا تَفَضُّلُهُ تَعَالَى عَلَيْكُم وَرَحْمَتُهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُبَالِغٌ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ (حَكِيمٌ) فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا شَرَعَ لَكُم مِنْ حُكْمِ اللِّعَانِ، لَكَانَ مِمَّا لَا يُحِيطُ بِهِ نِطَاقُ البَيَانِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَشْرَعْ لَهُم ذَلِكَ، لَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ حَدُّ القَذْفِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ صِدْقُهُ؛ لأَنَّهُ أَعْرَفُ بِحَالِ زَوْجَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَفْتَرِي عَلَيْهَا لاشْتِرَاكِهِمَا فِي الفَضَاحَةِ، وَبَعْدَ مَا شَرَعَ لَهُم لَوْ جَعَلَ شَهَادَاتِهِ مُوجِبَةً لِحَدِّ الزنَا عَلَيْهَا لَفَاتَ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَلَوْ جَعَلَ شَهَادَاتِهَا مُوجِبَةً لِحَدِّ القَذْفِ عَلَيْهِ لَفَاتَ النَّظَرُ لَهُ، وَلَا رَيْبَ فِي خُرُوجِ الكُلِّ عَنْ سُنَنِ الحِكْمَةِ وَالفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، فَجَعَلَ شَهَادَاتِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ الجَزْمِ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا حَتْمًا دَارِئَةً لِمَا تَوَجَّهَ إِليْهِ مِنَ الغَائِلَةِ الدُّنْيَويَّةِ، وَقَدِ ابْتُلِيَ الكَاذِبُ مِنْهُمَا فِي تَضَاعِيفِ شَهَادَاتِهِ مِنَ العَذَابِ بِمَا هُوَ أَتَمُّ مِمَّا دَرَأتْهُ عِنْهَا وَأَطَمُّ.
*
وَفِي ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الحِكَمِ البَالِغَةِ وَأَثَارِ التَفَضُّلِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَا يَخْفى، أَمَّا عَلَى الصَّادِقِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الكَاذِبِ فَهُوَ إِمْهَالُهُ وَالسَّتْرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَدَرْءُ الحَدِّ عَنْهُ وَتَعْرِيضُهُ للِتَّوْبَةِ حَسْبَمَا يُنَبِئُ عَنْهُ التَّعَرُّضُ لِعُنْوَانِ تَوَّابِيَّتِهِ تَعَالَى.
*
فَسُبْحَانَهُ مَا أَعَظْمَ شَأْنَهُ، وَأَوْسَعَ رَحْمَتَهُ، وَأَدَقَّ حِكْمَتَهُ، قَالهُ شَيْخُ الإِسْلاَمِ"[32].
*
فَيَتَحَصَّلُ مِمَّا سَبَقَ:
أ- أَنَّ الله عز وجل لَا يُعَاجِلُ أَهْلَ المَعَاصِي بِالعُقُوبَةِ، بَلْ يُمهِلُهُم الفُرْصَةَ للِتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ، وَهَذَا مِنْ حِكْمَتِهِ.
ب- أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْضَحُ أَهْلَ الذُّنُوبِ ابْتِدَاءً، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْنًا لَهُم عَلَى تَوْبَتِهم.
ج- أَنَّهُ شَرَعَ مِنَ الحُدُودِ وَالكَفَّارَاتِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ عَنْ عِبَادِهِ الذُّنُوبَ وَالسَّيِّئَاتِ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ.
*
هل يصح تسمية الله تعالى بـ (التائب):
لاَ يَصِحُّ تَسْمِيَةُ اللهِ تَعَالَى بـ (التَّائِبِ):
لأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَسْمِيَةُ الله تَعَالَى بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لُغَةً.
*
قَالَ الزَّجَّاجِيُّ: "فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَفَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الله عَزَّ وَجَلَّ (تَائِبٌ) عَلَى عِبَادِهِ، أَيْ: يَقْبَلُ تَوْبَتَهُم، كَمَا قِيلَ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ (تَوَّابٌ)؟
*
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لَنَا أَنْ نُطْلِقَ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الصَّفَاتِ إِلَّا مَا أَطْلَقَهُ جَمَاعَةُ المُسْلِمِينَ، وَجَاءَ فِي الكِتَابِ وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ مُحْتَمَلًا.
*
وَقَدْ قَالَ الله عز وجل: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 117]، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25]؛ فَقَدْ جَاءَ الفِعْلُ مِنْهُ عَلَى فَعَلَ يَفْعَلُ.
*
وَمَا نُطِقَ منهُ بِفَعَلَ يَفْعَلُ، فَاسْمُ الفَاعِلِ مِنْهُ قِيَاسًا فَاعِلٌ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبَ زَيْدٌ يَضَرِبُ فَهُوَ ضَارِبٌ، وَذَهَبَ يَذْهَبُ فَهُوَ ذَاهِبٌ، فَكَذَلِكَ يُقَالَ قِيَاسًا: تَابَ زَيْدٌ يَتُوبُ فَهُوَ تَائِبٌ.
*
فَإِنْ كَانَتِ الأُمَّةُ تُطْلِقُ ذَلِكَ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ فَقِيَاسُهُ فِي اللُّغَةِ مُسْتَقيِمٌ، وَإِنْ لَمْ تُطْلِقْ ذَلِكَ عَلَى الله عز وجل فَلاَ يَجُوزُ الإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ جَائِزًا.
*
عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ لله عَزَّ وَجَلَّ (تَوَّابٌ) لِمُبَالَغَةِ الفِعْلِ، وَكَثْرَةِ قَبُولِهِ تَوْبَةَ عِبَادِهِ، وَلِكَثْرَةِ مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ، وَتَرَدُّدُ هَذَا الفِعْلِ وَتَكْرَارُهُ وَقَبُولُهُ مِنْهُم لَيَدُلَّ عَلَى هَذَا المَعْنَى، فَلَا يُجَاوِزُ هَذَا.
*
وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَاتِهِ عز وجل مَا لا يُنْطَقُ بِاسْمِ الفِعْلِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ [الفرقان: 1]، وَقَوْلِهِ: ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]، وَلَمْ يَقُلْ: مُتَبَارِكٌ! كَمَا قِيلَ: تَعَالَى فَهُوَ مُتَعَالٍ، وَالوَزْنُ وَالتَّقْدِيرُ فِي العَرَبِيَّةِ وَاحِدٌ.
*
وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا نُطِقَ بِاسْمِ الفَاعِلِ، كَقَوْلِكَ: اللهُ المُؤمِنُ المُهَيْمِنُ، وَلَا تَقُولُ: آمَنَ الله وَلَا هَيْمَنَ، وَإِنَّمَا نَسْعَى فِي صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مَا أَطْلَقَتْهُ الأُمَّةُ وَجَاءَ فِي التَّنْزِيلِ وَنُمْسِكُ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ"[33].
*
وَهَذَا كَلَامٌ سَلِيمٌ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مُقَدِّمةِ هَذَا الكِتَابِ المُبَارَكِ بِتَفْصِيلٍ.
أَمَّا مَا جَاءَ فِي "مُفْرَدَاتِ" الرَّاغِبِ: فَالعَبْدُ تَائِبٌ إِلَى الله، وَاللهُ تَائِبٌ عَلَى عَبْدِهِ[34].
فَهُوَ مِنْ بَابِ الإِخْبَارِ، لَا مِنْ بَابِ التَّسْمِيَةِ.
*
مع التوبة:
التَّوْبَةُ هِيَ تَرْكُ الذَّنْبِ عَلَى أَجْمَلِ الوُجُوهِ:
وَهُوَ أَبْلَغُ وُجُوهِ الاعْتِذَارِ، فَإِنَّ الاعْتِذَارَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
إِمَّا أَنْ يَقُولَ المُعْتَذِرُ: لَمْ أَفْعَلْ.
أَوْ يَقُولَ: فَعَلْتُ لِأَجْلِ كَذَا.
أَوْ: فَعَلْتُ وَأَسَأْتُ وَقَدْ أَقْلَعْتُ، وَلاَ رَابِعَ لِذَلِكَ. وَهَذَا الأَخِيرُ هُوَ "التَّوْبَةُ".
وَالتَّوْبَةُ فِي الشَّرْعِ: تَرْكُ الذَّنْبِ لِقُبْحِهِ، وَالنَّدَمُ عَلَى مَا فَرُطَ مِنْهُ، وَالعَزِيمَةُ عَلَى تَرْكِ المُعَاوَدَةِ، وَتَدَارُكِ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُتَدَارَكَ مِنَ الأَعْمَالِ بِالإِعَادَةِ.
فَمَتَي اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الأَرْبَعُ فَقَدْ كَمُلَ شَرَائِطُ التَّوْبَةِ[35].
*
التَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ:
لاَ يَصِحُّ أَنْ يَنْفَكَّ مِنْهَا فِي حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ، وَأَفْضَلُ النَّاسِ هُمْ أَحْسَنُهُم قِيَامًا بِهَا وَبِحَقِّهَا، فَإِذَا تَخَلَّى عَنْهَا العَبْدُ صَارَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ.
*
قَالَ ابْنُ القيَّمِ رحمه الله: وَمَنْزِلُ (التَّوْبَةِ) أَوَّلُ المَنَازِل، وَأَوْسَطُهَا، وَآخِرُهَا، فَلَا يُفَارِقُهُ العَبْدُ السَّالِكُ، وَلَا يَزَالُ فِيهِ إِلَى المَمَاتِ، وَإِنِ ارْتَحَلَ بِهِ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ وَنَزَلَ بِهِ، فَالتَّوْبَةُ هِي بِدَايَةُ العَبْدِ وَنِهَايَتُهُ، وَحَاجَتُهُ إِلَيْهَا فِي النَّهَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ، كَمَا أَنَّ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا فِي البِدَايَةِ كَذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وَهَذِهِ الآيَةُ فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ، خَاطَبَ الله بِهَا أَهْلَ الإِيمَانِ وَخِيَارَ خَلْقِهِ أَنْ يَتُوبُوا إِلَيْهِ، بَعْدَ إِيمَانِهم وَصَبْرِهِم، وَهِجْرَتِهِم وَجِهَادِهِم، ثُمَّ عَلَّقَ الفَلَاحَ بِالتَّوْبَةِ تَعْلِيقَ المُسَبِّبِ بِسَبَبِهِ، وَأَتَى بِأَدَاةِ "لَعَلَّ" المُشِعرةَ بِالتَّرَجِّي إِيذَانًا بِأَنَّكُم إِذَا تُبْتُمْ كُنْتُمْ عَلَى رَجَاءِ الفَلَاحِ، فَلاَ يَرْجُو الفَلَاحَ إِلَّا التَّائِبُونَ، جَعَلَنَا الله مِنْهُم.
*
قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]؛ قَسَّمَ العِبَادَ إِلَى تَائِبٍ وَظَالِمٍ وَمَا ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ أَلْبَتَّةَ، وَأَوْقَعَ اسْمَ "الظالِمِ" عَلَى مَنْ لَمْ يَتُبْ، وَلاَ أَظْلَمَ مِنْهُ، لِجَهْلِهِ بِرَبَّهِ وَبِحَقِّهِ، وَبِعَيْبِ نَفْسِهِ وَآفَاتِ أَعْمَالِهِ.
*
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ،, تُوبُوا إِلَى الله، فَوَاللهِ إِنِّي لأَتُوبُ إلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً"، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَعُدُّونَ لَهُ فِي المَجْلِسِ الوَاحِدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: "رَبّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَليَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُورُ" مِائَةَ مَرَّةٍ، وَمَا صَلَّى صَلَاةً قَطُّ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ [النصر: 1] إِلَى آخِرِهَا، إِلَّا قَالَ فِيهَا: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُم اغْفِرْ لِي"، وَصَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُم عَمَلُهُ"، قَالَوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغمَّدَنِيَ الله بِرحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ".
*
فَصَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَى أَعْلَمِ الخَلْقِ بِاللهِ وَحُقُوقِهِ، وَعَظَمَتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ جَلاَلُهُ مِنَ العُبُودِيَّةِ، وَأَعْرَفُهُم بِالعُبُودِيَّةِ وَحُقُوقِهَا وَأَقْوَمُهُم بِهَا[36].
*
فَالتَّوْبَةُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا أَحَدٌ حَتَّى الأَنْبِيَاءُ (صَلَوَاتُ الله عَلَيْهم):
لأَنَّهَا لَيْسَتْ نَقْصًا، بَلْ هِي مِنَ الكَمَالِ الذِي يُحِبُّهُ الله وَيَرْضَاهُ وَيَأمُرُ بِهِ.
وَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمَيةَ رحمه الله عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 117]، وَالتَّوْبَةُ إِنَّمَا تَكُونُ عَنْ شَيءٍ يَصْدُرُ مِنَ العَبْدِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ مِنَ الكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ؟
فَأَجَابَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَةَ:
"الحَمْدُ لله، الأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِم مَعْصُومُونَ مِنَ الإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ، كِبَارِهَا وَصِغَارِهَا، وَهُمْ بِمَا أَخْبَرَ الله بِهِ عَنْهُم مِنَ التَّوْبَةِ يَرْفَعُ دَرَجَاتِهِم، وَيُعْظِم حَسَنَاتِهِم، فَإِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ نَقْصًا، بَلْ هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الكَمَالاتِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الخَلْقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [الأحزاب: 72، 73]، فَغَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ هِي التَّوْبَةُ، ثُمَّ التَّوْبَةُ تَتَنَوعُ كَمَا يُقَالُ: حَسَنَاتُ الأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ المُقَرَّبِينَ.
*
وَاللهُ تَعَالَى قَدْ أخَبَر عِنْ عَامَّةِ الأَنْبِياءِ بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ: عَنْ آدَمَ، وَنَوحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى وَغَيْرِهِم، فَقَالَ آدَمُ: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]، وَقَالَ نوحٌ: ﴿ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47]، وَقَالَ الخَلِيلُ: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41]، وَقَالَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 128] وَقَالَ مُوسَى: ﴿ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 155، 156]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143].
*
وَقَدْ ذَكَرَ الله سُبْحَانَهُ تَوْبَةَ داود وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَاللهُ تَعَالَى: ﴿ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]، وَفِي أَوَاخِرِ مَا أَنْزَلَ الله عَلَى نَبيِّهِ: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1 - 3].
*
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ: "اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِب، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالبَرَدِ وَالمَاءِ البَارِدِ".
*
وَفِي الصَّحِيحِ؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الاسْتِفْتَاحِ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ".
*
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرِ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، عَلاَنِيَتَهُ وَسِرَّهُ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ".
*
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وجَهلِي وَإِسْرافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجَدِّي، وَخَطئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمَتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرَتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنّي أَنْتَ المُقَدّمُ، وَأَنْتَ المُؤخِّرُ، لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ"، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
*
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19]، فَتَوْبَةُ المُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُم هُوَ مِنْ أَعْظَمِ حَسَنَاتِهِم، وَأَكْبَرِ طَاعَتِهم، وَأَجَلِّ عِبَادَاتِهِم الَّتِي يَنَالُونَ بِهَا أَجَلَّ الثَّوَابِ، وَيَنْدَفِعُ بِهَا عَنْهُم مَا يَدْفَعُهُ مِنَ العِقَابِ.
*
فَإِذَا قَالَ القَائِلُ: أَيُّ حَاجَةٍ بِالأَنْبِيَاءِ إِلَى العِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ؟ كَانَ جَاهِلًا؛ لِأَنَّهُم إِنَّمَا نَالُوا مَا نَالُوهُ بِعِبَادَتِهم وَطَاعَتِهم، فَكَيْفَ يُقالُ: إِنَّهُم لَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا؟! فَهِيَ أَفْضَلُ عِبَادتِهِم وَطَاعَتِهم.
*
وَإِذَا قَالَ القَائِلُ: فَالتَّوْبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ ذَنْبٍ، وَالاسْتِغْفَارُ كَذَلِكَ؟
قِيلَ لَه: الذَّنْبُ الذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ هُوَ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَوْبَةٌ، فَأَمَّا مَا حَصَلَ مِنْهُ تَوْبَةٌ فَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَفْضَلَ مِنْهُ قَبْلَ الخَطِيئَةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ داود بَعْدَ التَّوْبَةِ أَحْسَنَ مِنْهُ حَالًا قَبْلَ الخَطِيئَةِ، وَلَوْ كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنَ الكُفْرِ وَالكَبَائِرِ: فَإِنَّ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ هُمْ خِيَارُ الخَلِيقَةِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا صَارُوا كَذَلِكَ بِتَوْبَتِهِم مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ وَالذُّنُوبِ، وَلَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ التَّوْبَةِ نَقْصًا وَلَا عَيْبًا، بَلْ لَمَّا تَابُوا مِنْ ذَلِكَ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانُوا أَعْظَمَ إِيمَانًا، وَأَقْوَى عِبَادَةً وَطَاعَةً مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُم فَلَمْ يَعْرِفِ الجَاهِليَةَ كَمَا عَرِفُوهَا.
*
وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَابِ: "إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الإِسْلاَمِ عُروةً عُروةً إِذَا نَشَأَ فِي الإِسْلاَمِ مِنْ لَمْ يَعْرِفِ الجَاهِلِيَّةَ".
وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 68 - 70].
*
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ اللهَ يُحَاسِبُ عَبْدَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيعْرِضُ عَلَيْهِ صِغَارَ الذُّنُوبِ وَيُخَبِّأُ عَنْهُ كِبَارَهَا فَيَقُولُ: فَعَلْتَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبَّ! وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِهَا أَنْ تَظْهَرَ، فَيَقُولُ: إِنّي قَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ، وَأَبْدَلْتُكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَهُنَالِكَ يَقُولُ: رَبِّ إِنَّ لِي سَيِّئَاتٍ مَا أَرَاهَا بَعْدُ".
*
فَالعَبْدُ المُؤْمِنُ إِذَا تَابَ وَبَدَّلَ اللهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ انقَلَبَ مَا كَانَ يَضُرُّهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ بِسَبَبِ تَوْبَتِهِ حَسَنَاتٍ يَنْفَعُهُ اللهُ بِهَا، فَلَمْ تَبْقَ الذُّنُوبُ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُضِرَّةٌ لهُ، بَلْ كَانَتْ توبَتُهُ مِنْهَا مِنْ أَنْفَعِ الأُمُورِ لَهُ، وَالاعْتِبَارُ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ لَا بِنَقْصِ البِدَايَةِ، فَمَنْ نَسِيَ القُرْآنَ ثُمَّ حَفِظَهُ خَيْرًا مِنْ حِفْظِهِ الأَوَّلِ لَمْ يَضُرُّهُ النِّسْيَانُ، وَمَنْ مَرِضَ ثُمَّ صَحَّ وَقَوِيَ لَمْ يَضُرُّهُ المَرَضُ العَارِضُ.
*
وَاللهُ تَعَالَى يَبْتَلِي عبدَهُ المُؤْمنَ بِمَا يَتُوبُ مِنْهُ، لِيحصُلَ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ تَكْمِيلِ العُبُودِيَّةِ والتَّضَرُعِ، والخُشُوعِ للهِ والإنَابَةِ إِلَيْهِ، وَكَمَالِ الحَذَرِ فِي المستقبَلِ والاجتهَادِ فِي العِبَادَةِ مَا لَمْ يَحْصُلْ بدُونِ التَّوْبَةِ، كَمَن ذَاقَ الجُوعَ والعَطَشَ، والمرضَ والفَقْرَ والخَوْفَ، ثُمَّ ذَاقَ الشِّبَعَ والرِّيَّ والعَافِيَةَ والغِنَى والأمنَ، فإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ المَحَبَّةِ لِذَلِكَ وَحَلاَوَتِهِ ولذتِهِ، والرغبَةِ فِيهِ وَشُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، والحَذَرِ أَنْ يَقَعَ فِيمَا حَصَلَ أَوَّلًا مَا لَمْ يَحْصُلِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَقَدْ بُسِطَ الكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ المَوْضِعِ.
*
وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ التَّوْبَةَ لاَ بُدَّ مِنْهَا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، وَلَا يَكْمُلُ أَحدٌ وَيحصُلُ لَهُ كَمَالُ القُرْبِ مِنَ اللهِ، وَيَزُولُ عَنْهُ كُلُّ مَا يَكْرَهُ إلَّا بِهَا.
*
التَّوْبَةُ الشَّرْعِيَّةُ[37]:
قَالَ تَعَالَى ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118]، وَلكِنْ فِي القرآنِ مُعَرَّفًا وَمُنَكَّرًا وَاسْمًا وفعلًا.
*
يُقَالُ: تَابَ يَتُوبُ تَوْبَةً فَهُوَ تَائِبٌ، وَالتَّوْبَةُ: الرجُوعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَفِي الحَدِيثِ: "النَّدْمَةُ تَوْبَةٌ"[38]، وكَذَلِكَ التَّوْبُ مثلُهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: ﴿ وَقَابِلِ التَّوْبِ ﴾ [غافر: 3].
*
وَقَالَ الأَخْفَشُ: "التَّوْبُ جَمْعُ تَوْبَةٍ مثلُ عَزْمَةٍ وعَزْمٍ، وَتَابَ إِلَى الله تَوْبَةً وَمَتَابًا، وَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ وَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ، وَفِي كِتَابِ سِيَبَوَيْه التَّتْوِبَةُ: التَّوْبَةُ، واسْتَتَابَهُ: سَأَلَهُ التَّوْبَةَ، فَمَعْنَي تَوْبَةِ العَبْدِ رُجُوعُهُ مِنَ المُخَالفَةِ إِلَى المُوَافَقَةِ، وَمِنَ المَعْصِيَةِ إِلَى الطَاعَةِ، تَقُولُ: آبَ وَتَابَ وَثَابَ وَنَابَ كُلُّ ذَلِكَ رَجَعَ"[39].
*
قَالَ الحليمِيُّ: "وَهُوَ المُعِيدُ إِلَى عَبْدِهِ فَضْلَ رَحْمَتِهِ إِذَا هُوَ رَجَعَ إِلَى طَاعَتِهِ وَنَدِمَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، فَلَا يُحْبِطُ مَا قَدَّمَ مِنْ خَيْرٍ وَلَا يَمْنَعُهُ مَا وَعَدَ المُطِيعِينَ مِنَ الإِحْسَانِ".
*
وَقَالَ أَبو سُلَيْمَانَ: "التَّوَّابُ: هُوَ الذِي يَتُوبُ عَلَى عِبَادِهِ فَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُم كُلَّمَا تَكَرَّرَتِ التَّوْبَةُ تَكَرَّرَ القَبُولُ، وهُوَ يَكُونُ لَازِمًا وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِحَرْفٍ، يُقَالُ: تَابَ اللهُ عَلَى العَبْدِ بِمَعْنَي وَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ، فَتَابَ العَبْدُ، كَقَوْلِهِ: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118]، وَمَعْنَي التَّوْبَةِ عَوْدَةُ العَبْدِ إِلَى الطَّاعَةِ بَعْدَ المَعْصِيَةِ"[40].
*
وَالتَّوْبَةُ الشَّرْعِيَّةُ: النَّدَمُ عَلَى مَا وَقَعَ التَّفْرِيطُ فِيهِ لِرِعَايَةِ حُقُوقِ اللهِ، وَيَظْهَرُ صِدقُ النَّدَمِ عَلَى الجَوَارِحِ بِالإِقْلاَعِ والانكِفَافِ فِي كُلِّ مَا يتمَكَّنُ بِهِ، فَيَصِلُ رَحِمَهُ الَّتِي كَانَ قَطَعَهَا، وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ الَّتِي كَانَ تَرَكَهَا، وَيَرُدُّ الأموَالَ الَّتِي كَانَ أَخَذَهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ اقْتَرَفَهُ وَخَالَفَ فِيهِ أَمْرَ رَبِّهِ واجتَرَحَهُ، فَهَذَا تَفْسِيرُ تَوْبَةِ العَبدِ مِنَ الذَنبِ، وَأَمَّا تَوْبَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَلَى العبدِ فَقَالَ ابنُ العَرَبِيِّ: ولِعُلمَائِنَا فِي وَصْفِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ تَوَّابٌ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَجُوزُ فِي حَقِّ الربِّ سُبْحَانَهُ فَيُدْعَى بِهِ كَمَا جَاءَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلاَ يُتَأَوَّلُ.
*
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ وَصْفٌ حَقِيقِيٌ للهِ سُبْحَانَهُ - وَتَوْبَةُ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ رُجُوعُهُ بِهِ مِنْ حَالِ المَعْصِيَةِ إلَى حَالِ الطَاعَةِ.
*
وَقَالَ آخرُونَ: تَوبَةُ اللهِ عَلَى العَبْدِ قَبُولُهُ تَوْبَتِهِ، وَذَلِكَ يُحتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: قَبِلتُ تَوبَتَكَ، وَأَنْ يَرجِعَ إِلَى خَلْقِ الإنَابَةِ والرجُوعِ فِي قَلْبِ المُسِيءِ وإِجْرَاءِ الطَاعَاتِ عَلَى جَوَارحِهِ الظَّاهِرَةِ.
*
وَقَالَ الأَقْلِيشِيُّ: سَمَّي اللهُ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ تَوابًا؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ التَّوْبَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، ومُيَسِّرُ أَسبَابِهَا لَهُمْ، والرَّاجِعُ بِهم مِنَ الطريقِ الَّتِي يكره إلى الطريقِ الَّتِي يَرْضى، وسمَّى نفسَه أيضًا توَّابًا لقبوله توبةَ مَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ.
وَمِنَ القِسمِ الأَوْلِ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118].
*
وَمِنَ القِسمِ الثَانِي قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 39]، فَبِهَذَيْنِ القِسْمَيْنِ سَمَّي نَفْسَهُ تَوَّابًا.
*
وَلَقَدْ جَهِلَ المُعتَزِلِيُّ الحَقِيقَةَ فَأَنكَرَ القِسمَ الأَولَ وهُوَ خَلْقُ التَّوْبَةِ فِي قَلبِ العَبْدِ، وَهَذَا مَطمُوسُ القَلبِ عَنْ طَريقِ القَصْدِ، وَلمَّا كَانَتِ المَعَاصِي مُتَكَرِرَةً مِنْ عِبَادِهِ جَاءَ بِصِيَغِ المُبَالغَةِ لِيقَابِلَ الخَطَايَا الكَثِيرَةَ بِالتَّوْبَةِ الوَاسِعَةِ.
*
وَقَالَ ابنُ الحصارِ: "قَالَ اللهُ العَظِيمُ: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ﴾ [التوبة: 117]، وَقَالَ: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ﴾ [التوبة: 118].
*
فَقَولُهُ: فِي تكمِلَةِ الآيَةِ الأُولَي: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ﴾ [التوبة: 117]، تَصْرِيحٌ بتوبَتِهِ عَلَى الإِطْلاَقِ عَلَى مَنْ وَاقَعَ الذَنْبَ وَكَانَتْ مِنْهُ مُخَالَفَةٌ وَعِصْيَانٌ، فتوبَةُ اللهِ عَلَى العَبدِ قَدْ يُرَادُ بِهَا تَجدِيدُ التَّوْبَةِ وتَوَالِيهَا عَلَيهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [النساء: 136]، مَعنَاهُ جَدِّدُوا الإيمَانَ، واستَدِيمُوهُ، وَاثْبُتوُا عَلَيهِ، يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، وَوَصْفُهُ نفسَهُ بِأَنَّهُ التَّوَّابُ مبَالَغَةٌ لكَثْرةِ مَنْ يَتُوبُ عَلَيهِ، ولتَكرِيرِهِ ذَلِكَ فِي الشَّخْصِ الوَاحِدِ حَتَّى يَقْضِيَ عُمْرَهُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ وَصْفَهُ سُبْحَانَهُ بِالتَّوَّابِ خَلقُهُ التَّوْبَةَ للعِبَادِ وقبولُهَا مِنْهُم كَمَا قَالَ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25]: أَيْ يَقْبَلُ تَوبَتَهُم كَمَا قِيلَ لَهُ عز وجل: (تَوَّابٌ).
*
فَقَالَ أَبُو القَاسِمِ الزجَّاجِيُّ: "لَيسَ لَنَا أَنْ نُطِلقَ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ إِلَّا مَا أطلَقَهُ جَمَاعَةُ المُسلِمِينَ أُوْ جَاءَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ مُحْتَمِلًا.
*
وَقَدْ قَالَ اللهُ: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ ﴾ [التوبة: 117]، ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25]، فَقَدْ جَاءَ الفِعْلُ مِنْهُ عَلَى فَعَلَ وَيفْعَلُ، وَمَا نُطِقَ بِهِ بفعل يفعل، فاسمُ الفَاعِلِ منهُ قِياسًا فَاعِلٌ كَقَولِكَ ضَرَبَ يَضْرِبُ فَهُوَ ضَارِبٌ، وَذَهَبَ يَذْهَبُ فَهُوَ ذَاهِبٌ، وَقَتَلَ يَقْتُلُ فَهُوَ قَاتِلٌ، فَكَذَلِكَ يُقَالُ قِيَاسًا: تَابَ فَهُوَ تَائِبٌ، فَإِنْ كَانَتِ الأُمّةُ تُطْلِقُ ذَلِكَ عَلَى اللهِ تَعَالَى فَقِيَاسُهُ فِي اللُّغَةِ مُستَقِيمٌ، وَإِنْ لَمْ تُطلِقْ ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ الإِقَدَامُ عَلَيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ جَائِزًا، وَعَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ للهِ عز وجل: تَوَّابٌ لِمُبَالَغَةِ الفِعْلِ بِكَثْرَةِ قَبُولِهِ تَوْبَةَ عِبَادِهِ لِكَثْرَةِ مَنْ يَتُوبُ إِلَيهِ، ويرددُ هَذَا الفِعلَ، وَتَكْرَارُهُ إِنَّمَا كَانَ لِيَدُلَّ عَلَى هَذَا المَعنَي، فَلاَ يُجِاوِزُ هَذَا.
*
وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَاتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ الفِعْلِ مَا لَمْ يُنطَقْ مِنْهُ باسِمِ الفَاعِلِ، كَقَولِهِ عز وجل: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ [الفرقان: 1]، وَقولِهِ: ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]، وَلَمْ يُقَلْ للهِ عز وجل: مُتَبَارَكٌ كَمَا قِيلَ: تَعَالَى فَهُوَ مُتَعَالٍ، وَالوَزْنُ والتَقدِيرُ فِي العَرَبِيَّةِ وَاحِدٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَاتِهِ مَنْ نُطِقَ منهُ باسِمِ الفَاعِلِ كَقَولِنَا: "اللهُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ" وَلاَ تَقُلْ: آمَنَ اللهُ وَلاَ هَيمَنَ اللهُ، وَإنَّمَا تَنْتَهِي فِي صِفَاتِهِ عز وجل إِلَى مَا أَطْلَقَتْهُ الأُمَّةُ وَجَاءَ فِي التَنزِيلِ، ونُمسِكُ عَمَّا سِوَاهُ.
*
وإِذَا ثَبَتَ هَذَا فاعلَمْ أَنَّهُ لَيسَ لأَِحَدٍ قُدرَةٌ عَلَى خَلْقِ التَّوْبَةِ فِي قَلبِ أَحَدٍ؛ لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ المُنفَرِدُ بخَلقِ الأعمَالِ وَحدَهُ، خِلاَفًا للمُعتزِلَةِ، وَمَنْ قَالَ بقَولِهم، وكذلِكَ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يقبَلَ تَوبَةَ مَنْ أَسرَفَ عَلَى نَفسِهِ، وَلاَ أَنْ يَعفُوَ عَنهُ.
*
قَالَ ابنُ الحَصَّارِ: "وَقَدْ كَفَرتْ اليَهُودُ والنَصَارى بِهَذَا الأَصلِ العظيمِ فِي الدينِ: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 31]، عَزَّ وَجَلَّ، وَجَعَلُوا لِمَنْ أذنَبَ أَنْ يَأْتِيَ الحَبْرَ أَوِ الراهِبَ فيُعْطِيهُ شَيئًا ويحُطَّ عَنهُ الذَنبَ افتراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ.
*
فيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ أَنْ يَعَلَمَ أَنْ لَا تَوَّابَ عَلَى الإِطلاَقِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَأَنْ التَّوْبَةَ الوَاقِعَةَ مِنَ العَبدِ لَيْسَتْ بِمُجَردِ كَسبِهِ دُونَ فِعلِ اللهِ، بَلِ العَبدُ تَابِعٌ فِي ذَلِكَ الفِعْلِ لِقَضَاءِ الرَّبِّ وَفِعْلِهِ الجَارِي عَلَيهِ بِقُدْرَةِ رَبِّهِ، وَلِذلِكَ قَالَ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118]، فَجَعَلَ سَبَبَ تَوبَةَ العبدِ تَوبَةُ اللهِ عَلَيهِ أَوَّلًا، فَالَّذِي يُرْجِعُهُ اللهُ مِنْ طَرِيقِ المَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ لَا يَسْتَبِدُّ هُوَ بِالرُّجُوعِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيهِ.
*
والتَّوْبَةُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ مِنْ غَيرِ خِلَافٍ بَيْنَ المُسلِمِينَ فِي كُلِّ حِينٍ، كَالإِيمَانِ، قَالَ اللُه العَظِيمُ: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وَإِذَا كَانَ سَيِّدُ البشرِ يَتُوبُ إِلَى اللهِ فِي اليَوْمِ مِائةَ مَرَّةٍ، فَكَيفَ بِأَهْلِ الغَفْلَةِ؟! وَإِذَا قِيلَ لَهُ ولصَحْبِهِ الَّذِينَ هُمْ خِيَارُ خَلقِهِ: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 117]، فَجَرَتْ عَلَيهِم هَذِهِ الصِّفَةُ وَهُمْ أَهْلُ الصَّفْوَةِ وَالمَعرِفَةِ، فَكَيفَ بغَيْرِهم الَّذِينَ لاَ يُشَابِهُونَهُم فِي خَيرِهِم؟! فَكَلُّ عَبدٍ مُكَلَّفٍ مفتَقِرٌ إِلَى التَّوْبَةِ؛ لأَنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ هَفْوَةٍ مَا وَحَوْبَةٍ، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]، وَكَمَا أَنَّ الإيمَانَ يَجُبُّ مَا قَبلَهُ مِنَ الآثَامِ، فَكَذَلِكَ التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ.
*
وَفِي التَّائِبِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [الفرقان: 70]، وَكِلَاهُمَا عَمَلُ القَلبِ، فَكَمَا أَنَّ الإِيمَانَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالإِسلَامِ، فَكَذَلِكَ التَّوْبَةُ؛ لأَنَّ التَّوْبَةَ إِيمَانٌ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ عَمَلِ الظَّاهِرِ والبَاطِنِ كَمَا قَالَ: ﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 11]، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الَصَّلَاةَ والزَّكَاةَ؛ لأَنَّهُمَا أَعْظَمُ أَركَانِ الدِّينِ، وإِنَّمَا الوَاجِبُ عَلَيهِم امتِثَالُ جَمِيعِ الأوَامِرِ واجتِنَابِ جَمِيعِ النَّوَاهِي، وَهَذَا حُكْمُ الكَافِرِ إِذَا تَابَ، وَأَمَّا المؤمنُ إذا تابَ فَعَلَيهِ أَنْ يَتَلَافَى مَا كَانَ فَرطَ مِنهُ مِنْ عَمَلٍ بِظَاهِرِهِ وبَاطِنِهِ، فَعَمَلُ البَاطِنِ النَّدَمُ والخَوفُ والعَزمُ عَلَى أَلَّا يَعُودَ، وَعَمَلُ الظَّاهِرِ يختَلِفُ باخْتِلَافِ الذُّنُوبِ، وذَلِكَ مُعَتَبرٌ بِالأوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَمَا يُمْكِنُ تَلافِيهِ فِعْلًا أَوْ قَولًا، وَمَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ إِلَّا بِالعَزْمِ.
*
وَسَواءٌ صَدَرَ ذَلِكَ مِنهُ جَهْلًا أَوْ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، والتَّوْبَةُ لَازِمَةٌ فَعَلَيهِ فِي السَّهْوِ رَدُّ مَا أَتلَفَ وَقَضَاءُ مَا فَرطَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 54]، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 119]، وَكِلَاهُمَا مَكِيٌّ وَتَكَرَّرَ هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾ [النساء: 17]، وَهَذِهِ الآيَةُ مَدَنِيَّةٌ بِاتِفَاقٍ، وَدَخَلَتْ كَلِمَةُ إِنَّمَا فِي أَوَّلِهَا للِحَصْرِ وَدَخَلَتِ الأَلِفُ واللَّامُ للِحَصْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِمَكةَ، فَضَمِنَ اللهُ فِي الآيَاتِ كُلِّهَا تَوبَةَ مَنْ عَمِلَ السُوءَ بجَهَالَةٍ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا وَقَعَت بِشرُوطِهَا، فَإِنَّهَا تَعقُبُ المَغْفِرةَ بِطَرِيقِ الفَضْلِ مِنَ اللهِ لَا بِطَرِيقِ الوُجُوبِ عَلَيهِ، إِذْ لَا يَجِبُ للمَخلُوقِ عَلَى الخَالِقِ شَيءٌ، ثُمَّ تَعَلَمُ أَنَّ مِنْ كُلِّ ذَنبٍ تَصِحُّ التَّوْبَةُ وَيَرجِعُ العَبدُ المُذْنِبُ كَمَنْ لَا ذَنبَ لَهُ، وَوَقَعَ التَعرِيضُ بِإبلِيسَ وَمَنْ كَفَرَ كُفرَهُ، وَسَلَكَ مِثلَ سَبيلِهِ مِنْ أحبَارِ اليَهُودِ والنَّصَارَى، الذِين تَعَمَّدُوا التَّكْذِيبَ، واسْتَمرُّوا عَلَيهِ بِمَا أَتَوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَبَقِيَ مَنْ تَعمَّدَ وَلَمْ يُكَذَّبْ فِي المَشِيئَةِ، وَنَصَّ فِي (النِّسَاءِ) عَلَى أَنَّ آخِرَ أَمَدِ قَبُولِ التَّوْبَةِ المَوتُ وَهُوَ عِندَ المُعَايَنَةِ وَحُضُورِ اليَقِينِ للمُحْتَضِرِ بِأنَّهُ يَمُوتُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَولِهِ الحَقَّ: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ﴾ [غافر: 84، 85]، وَالقُربُ فِي حَقِّ كُلِّ مُكَلَّفٍ مَا لم يُحْتَضَرْ، وَفِي حَقِّ الجَمِيعِ ظُهُورُ الآيَاتِ الَّتِي أَخبَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بظُهَورِهَا، وَعَرَّضَ القُرْآنُ بِهَا، مِنهَا مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَابَ قَبلَ أَنْ تَطلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغرِبِهَا تَابَ اللهُ عَلَيهِ"[41]، وَقَدْ أَتَينَا عَلَى هَذَا المَعنَى فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ - مُستَوفًى[42].
*
كَمَالُ تَوْبَة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ الخَلقِ وأَكْرَمُهُم عَلَى اللهِ، وَهُوَ المُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ الخَلْقِ فِي أَنوَاعِ الطَاعَاتِ، فَهُوَ أَفضَلُ المُحِبِّينَ للهِ، وَأَفضَلُ المُتَوكِّلِينَ عَلَى اللهِ، وَأفضَلُ العَابِدِينَ لَهُ، وأفضَلُ العَارِفِينَ بِهِ، وَأَفضَلُ التَّائبيِنَ إِلَيْهِ، وَتَوبَتُهُ أَكْمَلُ مِنْ تَوبَةِ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَرَ.
*
وَبَهَذِهِ المَغْفِرَةِ نَالَ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ القِيامَةِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "إِنَّ النَاسَ يَوَمَ القِيَامَةِ يَطْلُبُونَ الشَّفَاعَةَ مِنْ آدَمَ، فَيَقولُ: إنِّي نُهِيتُ عَنِ الأَكْلِ مِنَ الشَّجَرِةِ فَأَكَلْتُ مِنْهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، وَيَطْلُبُونَهَا مِنْ نُوحٍ فيقُولُ: إِنِّي دَعَوتُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ دَعْوَةً لَمْ أُومَرْ بِهَا نفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، وَيَطْلُبُونَهَا مِنَ الخَلِيلِ، ثُمَّ مِنْ مُوسَى، ثُمَّ مِنَ المَسِيحِ فيقُولُ: اذهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ عبدٌ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تقدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ"، قَالَ: "فيأتُونِي فَأنْطَلِقُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبَّي خَرَرْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَأحْمَدُ رَبِّي بمحَامِدَ يَفتحُهَا عَلَيَّ لاَ أُحْسِنُهَا الآنَ، فَيقُولُ: أَيْ مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وسَلْ تُعْطَ، واشفَعْ تُشَفَّعْ، فَأقُولُ: أَيْ ربِّ أَمَّتِي! فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فأُدخِلُهُمُ الجَنَّةَ".
*
فَالمَسِيحُ صلواتُ اللهِ عليهِ وسلامُهُ دَلَّهم عَلَى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْبَرَ بكمَالِ عُبُودِيَّتِهِ للهِ، وكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللهِ لَهُ، إِذْ لَيْسَ بينَ المَخْلُوقِينَ والخَالِقِ نَسَبٌ إِلَّا مَحْضَ العُبُودِيَّةِ والافتِقَارِ مِنَ العَبْدِ، وَمَحْضَ الجُودِ والإِحسَانِ مِنَ الرَّبِّ عز وجل.
*
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحيحِينِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ يَدْخُلَ أحدٌ مِنْكُمُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ"، قَالُوا: وَلاَ أَنتَ يَا رسولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغمدَّنِيَ اللهُ برحمةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ".
*
وثَبَتَ عَنْهُ فِي الصحيحِ؛ أَنَّهُ كَانَ يقولُ: "يَأَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى ربِكُم فَوَالَّذِي نَفْسِي بيدهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وأتوبُ إِلَيْهِ فِي اليومِ أكثرَ مِنْ سَبْعِينَ مرةٍ".
*
وثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ؛ أنَّهُ قَالَ: "إِنَّهُ ليُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وإنِّي لأستغفرُ اللهَ فِي اليومِ مائةَ مَرَّةٍ" فَهُوَ صلى الله عليه وسلم لِكَمَال عُبُودِيَّتِهِ للهِ، وكَمَالِ مَحَبَّتِهِ لَهُ، وافتقَارِهِ إِليهِ، وكَمَالِ توبَتِهِ واستغفَارِهِ صَارَ أَفضلَ الخَلْقِ عندَ اللهِ؛ فَإِنَّ الخَيْرَ كلَّهُ مِنَ اللهِ، وليسَ للمخلُوقِ مِنْ نفسِهِ شيءٌ، بَلْ هُوَ فقيرٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، واللهُ غَنِيٌّ عِنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، مُحْسِنٌ إليهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكُلَّمَا ازدَادَ العبدُ تَواضُعًا وعبودِيَّةً ازدَادَ إِلَى اللهِ قُرْبًا ورِفْعَةً، ومِنْ ذَلِكَ تَوبَتُهُ واستغفَارُهُ.
*
وَفِي الحديثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"، رواهُ ابنُ مَاجَه والترمذيُّ[43].
*
معاني إيمانية لاسم الله التواب:
يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تَعَالَى:
"يَا ويلَهُ ظَهِيرًا للشيطانِ عَلَى ربهِ، خصمًا للهِ معَ نفسِهِ، جَبْرِيَّ المعاصِي، قدَرِيَّ الطاعاتِ[44]، عَاجِزُ الرأيِّ، مِضْياعٌ لفرصَتِهِ، قاعدٌ عِنْ مصالِحِهِ، معاتِبٌ لأَقْدَارِ ربهِ، يحتجُّ عَلَى ربِّهِ بِمَا لَا يقبَلُهُ مِنْ عبدِهِ وامرأتِهِ وأمَتِهِ، إذَا احتجُّوا بِهِ عليهِ فِي التهاونِ فِي بعضِ أمرِهِ، فَلَوْ أمرَ أحدَهُم بأمرٍ ففرَّطَ فِيهِ، أَوْ نَهَاهُ عِنْ شيءٍ فارتكَبهُ، وقَالَ: القَدَرُ ساقَنِي إِلَى ذَلِكَ لَمَا قَبِلَ منهُ هَذِهِ الحُجَّةَ، ولبادَرَ إِلَى عقوبَتِهِ.
*
فَإِنْ كَانَ القدرُ حجةً لكَ أيُّهَا الظالِمُ الجَاهِلُ فِي تَرْكِ حقِّ رَبِكَ، فَهَلاَّ كَانَ حجةً لعبدِكَ وأمَتِكَ فِي تَرْكِ بعضِ حَقِّكَ؟ بَلْ إِذَا أَسَاءَ إِليكَ مسيءٌ، وَجَنَى عليكَ جَانٍ، واحتجَّ بالقَدَرِ لاشتدَّ غضبُكَ عَلَيْهِ، وتضاعَفَ جُرمُهُ عندَكَ، ورأيتَ حجتَهُ داحضةً، ثُمَّ تَحْتَجُّ عَلَى ربِّكَ بِهِ، وتراهُ عُذْرًا لِنَفْسِكَ؟! فَمَنْ أَوْلَى بالظُّلْمِ والجَهْلِ ممنْ هَذِهِ حالُهُ؟
*
هَذَا مَعَ تَواتُرِ إِحسانِ اللهِ إِليكَ عَلَى مَدَى الأنفاسِ، أزاحَ عِللكَ، ومَكَّنكَ مِنَ التزودِ إلَى جَنَّتِهِ، وبعثَ إليكَ الدليلَ، وأعطاكَ مؤنةَ السفرِ، ومَا تتزودُ بِهِ، ومَا تحاربُ بِهِ قُطَّاعَ الطريقِ عليكَ فأعطاكَ السمعَ والبصرَ والفؤادَ، وعَرَّفكَ الخيرَ والشرَّ، والنافِعَ والضَّارَّ، وأرسَلَ إليكَ رسولَهُ، وأنزلَ إليكَ كتابَهُ، ويسَّرَهُ للذِّكْرِ والفَهْمِ والعَمَلِ، وأعانَكَ بمَدَدٍ مِنْ جُنْدِهِ الكِرَامِ، يُثَبِّتُونَكَ ويَحْرُسُونَكَ، ويحارِبُونَ عَدُوَّكَ ويطردُونَهُ عَنْكَ، ويُريدُونَ مِنْكَ أَنْ لَا تَمِيلَ إليهِ وَلَا تصالِحَهُ، وهُم يكْفُونَكَ مؤْنَتَهُ وأَنْتَ تَأبي إلَّا مظاهَرَتَهُ عَلَيْهِم، وموالاتِهِ دونَهُم، بَلْ تُظاهِرُهُ وتوالِيهِ دونَ وَليِّكَ الحَقَّ الذِي هُوَ أولَى بِكَ! قَالَ الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ [الكهف: 50] طردَ إبليسَ عِنْ سمائِهِ، وأخرجَهُ مِنْ جَنَّتِهِ، وأبعَدَهُ مِنْ قُرْبِهِ، إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لَكَ، وأَنتَ فِي صُلبِ أبيكَ آدمَ، لِكَرَامَتِكَ عَلَيهِ، فَعَادَاهُ وأبعدَهُ، ثُمَّ وَالَيْتَ عَدُوَّهُ، ومِلْتَ إليهِ وصَالَحْتَهُ، وتتظلَّمُ مَعَ ذَلِكَ وَتَشْتَكِي الطَّرْدَ والإبعَادَ، وتقولُ:
عَوَّدُوني الوصالَ والوَصْلُ عَذْبٌ ♦♦♦ وَرَمَوْنِي بالصَّدِّ والصَّدُّ صَعْبٌ
*
نَعَمْ، وكَيْفَ لاَ يَطْردُ مَنْ هَذِهِ مُعَامَلتُهُ؟ وكيفَ لا يُبْعِدُ عِنْهُ مِنْ كَانَ هَذَا وَصْفُهُ؟ وكيفَ يجعَلُ مِنْ خَاصَّتِهِ وأهلِ قُربِهِ مَنْ حَالُهُ مَعَهُ هَكَذَا؟ قَدْ أفسَدَ مَا بينَهُ وبينَ اللهِ وَكَدَّرَهُ!!
*
أمرَهُ اللهُ بشُكْرِهِ، لاَ لِحَاجَتِهِ إِليهِ، ولكِنْ لينَالَ بِهِ المَزِيدَ مِنْ فضلِهِ، فَجَعَلَ كُفْرَ نِعَمِهِ، والاستعانَةَ بِهَا عَلَى مَسَاخِطِهِ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ صَرْفِهَا عَنْهُ.
*
وأَمَرَهُ بِذِكْرِهِ ليذْكُرَهُ بإحسَانِهِ، فَجَعَلَ نِسْيَانَهُ سَبَبًا لنِسْيَانِ اللهِ لَهُ ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [الحشر: 19]، ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67]، أمَرَهُ بِسُؤالِهِ ليُعْطِيَهُ، فَلَمْ يَسْأَلْهُ، بَلْ أَعَطَاهُ أجَلَّ العَطَايَا بِلاَ سُؤَالٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ، يَشْكُو مَنْ يرحمُهُ إِلى مَنْ لا يرحمُهُ! وَيَتَظَّلمُ ممّن لا يَظْلمُهُ ويَدَعُ مَنْ يُعَادِيهِ وَيَظْلِمُهُ! إِنْ أَنْعَمَ عَلَيهِ بِالصِّحَّةِ والعَافِيَةِ والمَالِ والجَاهِ استعَانَ بِنِعَمِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ! وإِنْ سَلَبَ ذَلِكَ ظَلَّ متسخطاً عَلَى ربِّهِ وهُوَ شَاكِيهِ! لَا يَصْلُحُ لَهُ عَلَى عَافِيَةٍ، ولا عَلَى ابتلاءٍ! العافيةُ تُلقِيهِ إِلَى مَسَاخِطِهِ، والبَلاءُ يدفَعُهُ إلَى كُفْرانِهِ وجُحُودِ نِعْمَتِهِ، وشَكَايَتِهِ إِلَى خَلْقِهِ!
*
دَعَاهُ إلَى بَابِهِ فَمَا وَقَفَ عَلَيْهِ ولَا طَرَقَهُ، ثُمَّ فَتَحَهُ لَهُ فَمَا عَرَّجَ عَلَيْهِ وَلَا ولَجَهُ! أَرَسَلَ إِلَيْهِ رَسُولَهُ يَدْعُوهُ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، فَعَصَى الرَّسُولَ، وَقَالَ: لَا أبيعُ نَاجِزًا بغَائِبٍ، ونَقْدًا بنَسيئَةٍ، وَلَا أَتْرُكُ مَا أَرَاهُ لشَيءٍ سَمِعْتُ بِهِ! ويقُولُ:
خُذْ مَا رَأَيْتَ ودَعْ شيئًا سمعتَ بِهِ ♦♦♦ فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ مَا يُغْنيكَ عَنْ زُحَلِ
*
فَإنْ وافَقَ حَظُّهُ طَاعَةَ الرسولِ أطاعَهُ لنَيْلِ حَظِّهِ، لَا لِرِضَا مُرسِلِهِ، لَمْ يَزَلْ يَتَمَقَّتُ إِلَيْهِ بمعَاصِيهِ، حَتَّى أَعرضَ عَنْهُ، وأَغْلَقَ البَابَ فِي وَجْهِهِ.
*
وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُؤيسُهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، بَلْ قَالَ: مَتَي جِئْتَنِي قَبِلْتُكَ، أَتيْتَنِي ليلًا قبلتُك، وإِنْ أَتَيْتَنِي نَهَارًا قبلتُكَ، وإِنْ تَقربْتَ مِنِّي شِبْرًا تَقَربْتُ منكَ ذِرَاعًا، وإِنْ تقربتَ منِّي ذِرَاعًا تقربتُ مِنْكَ بَاعًا، وإِنْ مشيتَ إِليَّ هرولْتُ إليكَ، ولو لقِيتَني بِقُرابِ الأرضِ خَطَايا ثم لقيتني لا تشركَ بي شيئًا أتيتك بقُرابها مغفرةً، وَلو بَلَغَتْ ذنوبُكَ عنانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ استغفرتَنِي غفرتُ لكَ، وَمَنْ أَعظَمُ مِنِّي جُودًا وكَرَمًا؟
*
عبادِي يُبارزُونَنِي بالعَظَائِمِ، وأَنَا أكلَؤهُم عَلَى فُرُشِهم، إِنِّي والجنُّ والإنسُ فِي نبأٍ عَظِيمٍ: أَخْلُقُ ويُعْبَدُ غَيْرِي، وأَرْزُقُ ويُشْكُرُ سِوَايَ، خَيْرِي إِلَى العِبَادِ نَازِلٌ، وَشَرُّهُم إِلَيَّ صَاعِدٌ، أَتحبَّبُ إِلَيْهِمْ بِنعَمِي، وأَنَا الغنيُّ عَنْهُم، وَيَتَبَغَّضُونَ إِلَيَّ بالمَعَاصِي، وهُم أَفقرُ شيءٍ إِلَيَّ!!
*
مَنْ أقْبَلَ إِلَيَّ تلقَّيتُهُ مِنْ بَعِيدٍ، ومَنْ أَعْرَضَ عَنِّي نادَيتُهُ مِنْ قَرِيبٍ، ومَنْ تَرَكَ لأَِجْلِي أَعطيتُهُ فَوْقَ المَزِيدِ، ومَنْ أَرَادَ رِضَايَ أَردتُ مَا يُرِيدُ، ومَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِي وقُوَّتِي ألنتُ لهُ الحَدِيدَ.
*
أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَستِي، وأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي، وأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي، وأَهْلُ مَعْصِيَتِي لاَ أُقَنِّطُهُم مِنْ رَحْمَتِي، إنْ تَابُوا إِلَيَّ فَأَنَا حَبِيبُهُم، فَإِنِّي أُحِبُّ التَّوَّابِينَ وأُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ، وإِنْ لَمْ يَتُوبُوا إِلَيَّ فَأَنَا طَبِيبُهُم، أبتليهِم بالمصائِبِ؛ لأُطَهَرهُم مِنَ المعايِبِ.
*
مَنْ آثَرنِي عَلَى سِوَايَ آثرتُهُ عَلَى سِوَاهُ، الحسنةُ عِندِي بعَشْرِ أمثالِهَا إِلَى سبعِمائةِ ضعفٍ، إِلَى أَضعافٍ كثيرةٍ، والسَّيِّئَةُ عِندِي بواحِدَةٍ، فَإِنْ نَدِمَ عَلَيْهَا واستغفَرَنِي غَفَرْتُهَا لَهُ.
*
أشكُرُ اليسيرَ مِنَ العَمَل، وأغفرُ الكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ، رحمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، وحِلْمِي سَبَقَ مُؤاخَذَتِي، وعَفْوِي سَبَقَ عُقُوبَتِي، أَنَا أَرْحَمُ بعَبْدِي مِنَ الوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، "للهُ أشدُّ فَرحًا بتوبَةِ عبدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضلَّ راحِلَتَهُ بأرضِ مَهْلَكةٍ دَوِّيةٍ عَلَيْهَا طعامُهُ وشَرَابُهُ، طَلَبَهَا حَتَّى إِذَا أَيِسَ مِنْ حُصُولِهَا، نامَ فِي أَصلِ شجرةٍ ينتَظرُ الموتَ، فاستيقظَ فإِذَا هِي عَلَى رأسِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ خِطامُهَا بالشجرَةِ، فَاللهُ أَفرحُ بتوبةِ عبدِهِ مِنْ هَذَا براحِلَتِهِ".
*
وَهَذِهِ فرحةُ إِحْسَانٍ وبرٍّ ولُطْفٍ، لَا فَرْحَةَ محتاجٍ إِلَى توبَةِ عبدِهِ، منتفعٍ بِهَا، وكذلكَ موالاتُهُ لعبدِهِ إِحسَانًا إِليهِ، ومحبةً لهُ وبِرًّا بهِ، لَا يتكثَّرُ بِهِ مِنْ قِلَّةٍ، ولَا يتعزَّزُ بهِ مِنْ ذلَّةٍ، ولَا ينتَصِرُ بهِ مِنْ غَلَبةٍ، ولَا يعدُّهُ لنائِبَةٍ، ولَا يستعينُ بهِ فِي أَمرٍ ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]، فَنَفى أَنْ يكونَ لَهُ وليٌّ مِنَ الذُّلِّ، واللهُ وليُّ الذينَ آمنوا، وهُم أولياؤُهُ.
*
فَهَذَا شأنُ الرَّبِّ وشأنُ العبدِ، وَهُم يقيمونَ أعذارَ أنفسِهِم، ويحملُونَ ذنوبَهم عَلَى أقدارِهِ[45].
[1] أسماء الله الحسنى للرضواني (2/ 63 - 64).
[2] المفردات (ص: 76)، ولسان العرب (1/ 233)، التعاريف (ص: 74)، وزاد المسير (1/ 70).
[3] المفردات (ص: 76)، وكتاب العين للخليل بن أحمد (8/ 138)، وتفسير أسماء الله الحسنى (ص: 62).
[4] انظر: الرعاية لحقوق الله للمحاسبي (ص: 68)، وإحياء علوم الدين (4/ 2)، وعوارف المعارف (ص: 487).
[5] مسلم في التوبة، باب قبول التوبة (4/ 213) (2759).
[6] الترمذي في الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار (5/ 547) (3537)، وانظر: حُكم الشيخ الألباني على الحديث في صحيح الجامع (4338).
[7] الموضع السابق (5/ 548) (3540).
[8] مسلم في التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها (4/ 2102) (2675).
[9] مدارج السالكين (1/ 312).
[10] المقصد الأسنى (139).
[11] النهج الأسمى (2/ 182-204).
[12] جامع البيان (11/ 41) بسند ٍحسنٍ عنه.
[13] مجاز القرآن (1/ 39).
[14] جامع البيان (1/ 195).
[15] تفسير أسماء الله (ص: 62).
[16] اشتقاق الأسماء (ص: 63).
[17] شأن الدعاء (ص: 90).
[18] المنهاج (1/ 206)، وذكره في الأسماء التي تتبع إثباتَ التدبير له دون ما سواه، ونقَله البيهقي في الأسماء (ص: 78).
[19] الاعتقاد (ص: 64).
[20] (ص: 88)، ونحوه في روح المعاني للألوسي (1/ 237).
[21] تيسير الكريم الرحمن (5/ 300).
[22] الكتاب الأسنى (ورقة 377 ب).
[23] المصدر السابق (ورقة 377ب - 378أ).
[24] وهذا لا يعني أن الإنسان ليست له مشيئة، فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]. فالإنسان فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة واختيار، وقدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع والأسباب، ودل على ذلك الشرع والعقل. انظر: مجموع الفتاوى (30/ 139).
[25] الكتاب الأسنى (378ب - 379أ).
ونحو هذا ما قاله ابن القيم في المدارج (1/ 179): "ولما كانت التوبة هي رجوع العبد إلى الله، ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين، وذلك لا يحصل إلا بهداية الله إلى الصراط المستقيم، ولا تحصل هدايته إلا بإعانته وتوحيده فقد انتظمتها سورة الفاتحة أحسَن انتظام...".
[26] أخرجه البخاري في الأذان (2/ 317)، وفي الدعوات (11/ 131)، ومسلم في الذكر والدعاء (4/ 2078) من طرق، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو، عن أبي بكر؛ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: "قل: اللهم إني ظلمتُ...".
وأخرجه البخاري في التوحيد (13/ 372)، ومسلم (4/ 2078) عن ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب؛ به. وجاءت هذه العبارة أيضًا في دعاء الاستفتاح: "وجهتُ وجهي..."، ودعاء سيِّد الاستغفار.
[27] جامع البيان (11/ 41).
[28] المصدر السابق (1/ 195).
[29] روح المعاني (1/ 238).
[30] جامع البيان (18/ 68).
[31] معالم التنزيل (5/ 56) بهامش تفسير الخازن، وبنحوه مختصرًا قال الخازن في تفسيره، الصفحة نفسها.
[32] روح المعاني (18/ 111) باختصار يسير.
[33] اشتقاق الأسماء (ص: 63 - 64)، وانظر القرطبي (1/ 326).
[34] (ص: 76)، وكذا ما سيأتي من كلام السعدي.
[35] مفردات الراغب الأصفهاني (ص: 76).
[36] مدارج السالكين (1/ 178 - 179).
[37] أسماء الله الحسنى لابن القيم، إعداد عماد بن البارودي (131 - 135).
[38] صحيح: أخرجه ابن ماجه (4252) في الزهد، باب: ذكر التوبة، من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وقال الألباني في صحيح الجامع (6802): صحيح.
[39] الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي (1/ 407).
[40] الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 78).
[41] صحيح: أخرجه مسلم (2703) في الذكْر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار.
[42] الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي (1/ 416).
[43] حسَن: رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وحسَّنه الألباني.
[44] أي: إذا فعَل المعاصي احتجَّ بأنه مجبور عليها، وإنْ فعَل الطاعات نسَبَها لنفسه وقدْرته؟!
[45] مدارج السالكين (1/ 192 - 195).
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي
التَّوَّابُ فِي اللُّغَةِ مِنْ صِيَغ المُبَالَغةِ، فِعْلُهُ تَابَ يَتُوبُ تَوْبًا وتَوْبَةً، والتَّوْبَةُ الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيءِ إِلي غَيْرِهِ، وَتَرْكُ الذَّنْبِ عَلَى أَجْمَلِ الوُجُوهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ وُجُوهِ الاعْتِذَارِ، فَإِنَّ الاعْتِذَارَ عَلَى ثَلاثةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أنْ يَقُولَ الُمعْتَذِرُ لَمْ أَفْعَلْ، أَوْ يَقُولَ فَعَلْتُ لأَجْلِ كَذَا أَوْ يَقُولَ: فَعَلْتُ وَأَسَأْْتُ وَقَدْ أَقْلَعْتُ وَلاَ رابِعَ لِذَلِكَ، وَهَذَا الأَخِيرُ هُوَ التَّوْبَةُ[2]، وَالتَّائِبُ يُقَالُ لِبَاذِلِ التَّوْبَةِ وَلِقَابِل التَّوْبَةِ، فَالعَبْدُ تَائِبٌ إِلَى الله، والله تَائِبٌ عَلَى عَبْدِهِ[3]، وَالتَّوْبَةُ لاَزِمَةٌ لِجَمِيعِ المُذْنِبِينَ وَالعَاصِينَ صَغُرَ الذَّنْبُ أَوْ كَبُرَ، وَلَيْسَ لأِحَدٍ عُذْرٌ فِي تَرْكِ التَّوْبَةِ بَعْدَ ارْتِكَابِ المعصيةِ؛ لأنَّ المعاصِي كُلَّها تَوَعَّدَ اللهُ عليْهَا أهْلَهَا[4].
*
والتَّوَّابُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عَبادِهِ حاَلًا بَعْدَ حالٍ، فَمَا مِنْ عَبْدٍ عَصَاهُ وبَلَغَ عصيانهُ مَدَاهُ ثُمَّ رَغِب فِي التَّوْبَةِ إليهِ إلَّا فَتَحَ لَهُ أبْوَابَ رحمَتِهِ، وفَرِحَ بعودَتِه وتَوْبَتِهِ، مَا لَمْ تُغَرْغِرِ النفسُ أو تَطْلُعِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَي رضي الله عنه مَرْفُوعًا: "إن الله عَزَّ وَجَل يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسيءُ اللَّيْلِ حَتي تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا"[5]، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَال: "إِنَّ الله يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْد مَا لَمْ يُغَرغِرْ"[6]، ولو أَنَّ إنسَانًا اتَّبع هَوَاهُ أَوِ استَجَابَ لشيطانِهِ، وتَمادَى في جُرْمِهِ وَعِصْيَانِهِ، فَقَتَلَ مِائَةَ نَفَسٍ، وارْتَكَبَ كُلَّ إثْمٍ، وأرادَ التَّوْبَةَ والغُفْرَانَ تابَ عليهِ التَّوَّابُ، وبدَّلَ لهُ عَدَدَ مَا فَاتَ مِنَ السَّيِّئَاتِ بِنَفْسِ أعدَادِهَا حَسَنَاتٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]، ورَوَي الترمذيُّ، وَحَسَّنَهُ الألبانِيُّ منْ حديثِ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَالَ الله: يَا ابْنَ آدَمَ إنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاء ثُمَّ اسْتَغْفَرتَني غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرةً"[7].
*
هَذَا فَضْلًا عَنْ فَرَحِ التَّوَّابِ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ وَعَوْدَتهِ إِلَى رَبِّهِ، فَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: "لله أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَة أَحَدكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إذَا وَجَدَهَا"[8]، إنَّ المُذْنِبَ مُخْطِئٌ فِي جَنْبِ الله وعِظَمُ الذَّنْبِ يُقَاسُ بِعظَمِ مَنْ أَخطَأْتَ فِي حَقِّهِ، فَلَوْ قَبِلَ الله تَوْبَةَ المُذْنِبِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ القَبُولِ فَقَطْ كَرَمٌ بَالِغٌ ومِنَّةٌ مِنَ الله عَلَى عَبْدِهِ، فَمَا بالُنَا وَهُوَ يَقْبَلُ توبَةَ المُذْنِبِ بِعَفْوٍ جَدِيدٍ وَفَرَحٍ شَدِيدٍ، وَيَجْعَلُ فِي مُقَابِلِ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ أَجْرًا كَبِيرًا.
*
وَيَذْكُرُ ابْنُ الْقَيِّمِ أنَّ تَوْبَةَ العَبْدِ إِلى رَبِّهِ مَحْفُوفَةٌ بِتَوْبَةٍ مِنَ الله عَلَيْهِ قَبْلَهَا وَتَوْبَةٍ مِنْهُ بَعْدَهَا، فَتَوْبَتُهُ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِنَ الله: سَابِقَةٍ وَلاَحِقَةٍ، فَإِنَّهُ تَابَ عَلَيْهِ أَوَّلًا إِذْنًا وَتَوْفِيقًا وَإِلْهَامًا، فَتَابَ العَبْدُ فَتَابَ الله عَلَيْهِ ثَانِيًا قَبُولاً وَإِثَابَةً، قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِم سَبَقَتْ تَوْبَتَهُمْ، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي جعَلَتْهُم تَائِبِينَ، فَكَانَتْ سَبَبًا وَمُقْتَضًى لِتَوْبَتِهِم، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا تَابُوا حَتَّى تَابَ الله عَلَيْهِمْ، وَالحُكْمُ يَنْتَفِي لاِنْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، فَالعَبْدُ تَوَّابٌ، فَتَوْبَةُ العَبْدِ رُجُوعُهُ إِلَى سَيِّدِهِ بَعْدَ الإِبَاقِ، وَتَوْبَةُ الله نَوْعَانِ: إِذْنٌ وَتَوْفِيقٌ، وَقَبُولٌ وَإِمْدَادٌ [9]، قَالَ ابْنُ القَيَّمِ:
وكَذَلِكَ التَّوَّابُ مِنْ أَوْصَافِهِ
وَالتَّوْبُ فِي أَوْصَافِهِ نَوْعَانِ
إِذْنٌ بِتوْبَةِ عَبْدِهِ وَقَبُولُها
بَعْدَ المَتَابِ بِمِنَّةِ المَنَانِ
*
قَالَ أَبُو حَامِدٍ[10]: "التَّوَّابُ هُوَ الذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ تَيْسِيرُ أَسْبَابِ التَّوْبَةِ لِعِبَادِه مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى بِمَا يُظْهِرُ لَهُمْ مِنْ آيَاتِهِ، وَيَسُوقُ إِلَيْهِمْ مِنْ تَنْبِيهَاتِهِ، وَيُطْلِعُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَخْوِيفَاتِهِ وَتَحْذِيرَاتِهِ، حَتَّى إِذَا اطَّلَعُوا بِتَعْرِيفِهِ عَلَى غَوَائِلِ الذُّنُوبِ اسْتَشْعَرُوا الخَوْفَ بِتَخْوِيفِهِ فَرَجَعُوا إِلَى التَّوْبَةِ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ".
*
وُرُودُهُ فِي القُرْآنِ الكريمِ:
وَرَدَ الاسْمُ فِي القُرْآنِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً، مِنْهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 37].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 160].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾ [النور: 10].
وَقَوْلُهُ: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 3].
*
مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى[11]:
قَالَ قَتَادَةُ: "﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾: إِنَّ الله هُوَ الوَهَّابُ لِعِبَادِهِ الإِنَابَةَ إِلَى طَاعَتِهِ، المُوَفِّقُ مَنْ أَحبَّ تَوْفِيقَهُ مِنْهُمْ لِمَا يُرضِيهِ عَنْهُ"[12].
*
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾: أَيْ يَتُوبُ عَلَى العِبَادِ، والتَّوَّابُ مِنَ النَّاسِ الذِي يَتُوبُ مِنَ الذَّنْبِ"[13].
*
وَقَالَ ابنُ جَرَيرٍ: "﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾: إِنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ هُوَ (التَّوَّابُ) عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ المُذْنِبِينَ مِنْ ذُنُوبِهِ، التَّارِكُ مُجَازَاتِهِ بِإِنَابَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ بَعْدَ مَعْصِيَتِهِ بِمَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِهِ.
*
وَقَدْ ذَكَرْنَا أنَّ مَعْنَى (التَّوْبَةِ) مِنَ العَبْدِ إِلَى رَبِّهِ إِنَابَتُهُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَوْبَتُهُ إِلَى مَا يُرْضِيهِ بِتَرْكِهِ مَا يُسْخِطُهُ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مُقِيمًا مِمَّا يَكْرَهُهُ ربُّهُ، فَكَذَلِكَ تَوْبَةُ الله عَلَى عَبْدِهِ هُوَ أَنْ يَرْزُقَهُ ذَلِكَ ويؤُوُبُ مِنْ غَضَبِهِ عَلَيْهِ إِلَى الرِّضَا عَنْهُ، وَمِنَ العُقُوبَةِ إِلَى العَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُ"[14].
*
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: "قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ﴾ [غافر: 3].
أَيْ: يَقْبَلُ رُجُوع عَبْدِهِ إِلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا قِيلَ: التَّوْبَةُ كَأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى الطَّاعَةِ، وَتركُ المَعْصِيَةِ"[15].
*
وَبِنَحْوِهِ قَالَ الزَّجَّاجِيُّ، ثُمَّ قَالَ: "فَجَاءَ تَوَّابٌ عَلَى أَبْنِيَةِ المُبَالَغَةِ لِقَبُولِهِ تَوْبَةَ عِبَادِهِ، وَتكْرِيرِ الفِعْلِ مِنْهُم دُفْعَةً بَعْدَ دُفْعَةٍ، وَوَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ، وَقَبُولِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّنْ يَشَاءُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ جَاءَ عَلَى أَبْنِيَةِ المُبَالَغَةِ.
*
فَالعَبْدُ يَتُوبُ إِلَى الله عز وجل ويُقْلِعُ عَنْ ذُنُوبِهِ، وَاللهُ يَتُوبُ عَلَيْهِ، أَيْ: يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، فَالعَبْدُ تَائِبٌ، وَاللهُ تَوَّابٌ"[16].
*
وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: "(التَّوَّابُ): هُوَ الذِي يَتُوبُ عَلَى عَبْدِهِ وَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُ كُلَّمَا تَكَرَّرَتِ التَّوْبَةُ تَكَرَّرَ القَبُولُ، وَهُوَ حَرْفٌ يَكُونُ لاَزِمًا وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: تَابَ اللهُ عَلَى العَبْدِ بِمَعْنَى وفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ فَتَابَ العَبْدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118].
*
وَمَعْنَى التَّوْبَةِ: عَوْدُ العَبْدِ إِلَى الطَّاعَةِ بَعْدَ المَعْصِيَةِ"[17].
وَقَالَ الحُلَيمِيُّ: "(التَّوَّابُ) وَهُوَ المُعِيدُ إِلَى عَبْدِهِ فَضْلَ رَحْمَتِهِ إِذَا هُوَ رَجَعَ إِلَى طَاعَتِهِ، وَنَدِمَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَلاَ يُحْبِطُ بِمَا قَدَّمَ مِنْ خَيْرٍ، وَلاَ يَمْنَعُهُ مَا وَعَدَ المُطِيعِينَ مِنَ الإِحْسَانِ"[18].
*
وَقَالَ البَيْهَقِيُّ: "هُوَ الذِي يَتُوبُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عَبِيدِهِ"[19].
*
وَفِي المقَصِدِ الأَسَنْى: "(التَّوَّابُ) هُوَ الذِي يَرْجِعُ إِلَى تَيْسِيرِ أَسْبَابِ التَّوْبَةِ لِعِبَادِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، بِمَا يُظهِر لَهُمْ مِنْ آيَاتِهِ، وَيَسُوقُ إِلَيْهِم مِنْ تَنْبِيهَاتِهِ، وَيُطْلِعُهم عَلَيْهِ مِنْ تَخْوِيفَاتِهِ وَتَحْذِيرَاتِهِ، حَتَّى إِذَا اطَّلَعُوا بِتَعْرِيفِهِ عَلَى غَوَائِلِ الذُّنُوبِ، اسْتَشْعَرُوا الخَوْفَ بِتَخُوِيفِهِ فَرَجَعُوا إِلَى التَّوْبَةِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِم فَضْلُ الله تَعَالَى بِالقَبُولِ"[20].
*
ثمرة الإيمان باسم الله التواب:
1- اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَوَ (التَّوَّابُ) الذِي لَمْ يَزَلْ يَتُوبُ عَلَى التَّائِبِينَ، وَيَغْفِرُ ذنوبَ المُنِيبِينَ، فَكُلُّ مَنْ تَابَ إِلَى الله تَوْبَةً نَصُوحًا تَابَ الله عَلَيْهِ وَقَبِلَهُ.
فَهُوَ التَّائِبُ عَلَى التَّائِبِينَ أَوَّلًا بِتَوْفِيقِهِم للِتَّوْبَةِ، وَالإِقْبَالِ بِقُلُوبِهِم إِلَيْهِ.
وَهُوَ التَّائِبُ عَلَى التَّائِبِينَ بَعْدَ تَوْبَتِهِم قَبُولًا لَهَا وَعَفْوًا عَنْ خَطَايَاهُم[21].
فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُوَفِّقُ عِبَادَهُ للِتَّوْبَةِ، وَيَقْبَلُهَا مِنْهُم وَيُثِيبَهُم عَلَيْهَا، فَسُبْحَانَ التَّوَّابِ الرَّحِيمِ، الجَوَادِ الكريمِ.
*
قَالَ الأُقْلِيشيُّ: "سَمَّي الله سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ تَوَّابًا؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ التَّوْبَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَمُيَسِّرُ أَسْبَابَهَا لَهُم، وَالرَّاجِعُ بِهِم مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي يَكْرَهُ إِلَى الطَّرِيقِ الَّتِي يَرْضَى.
*
وَسَمَّي نَفْسَهُ أَيْضًا (تَوَّابًا) لِقَبُولِهِ تَوْبَةَ مَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ.
وَمِنَ القِسْمِ الأَوَّلِ قَوْلُه تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118].
وَمِنَ القِسْمِ الثَّانِي قَوْلُه تَعَالَى: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 39].
فَبِهَذَيْنِ القِسْمَينِ سَمَّي نَفْسَهُ تَوَّابًا.
*
وَلَقَدْ جَهِلَ المُعْتَزِلِيُّ الحَقِيقَةَ فَأَنْكَرَ القِسْمَ الأَوَّلَ، وَهُوَ خَلْقُ التَّوْبَةِ فِي قَلْب العَبْدِ، وَهَذَا مَطْمُوسُ القَلْبِ عَنْ طَرِيقِ القَصْدِ.
وَلَمَّا كَانَت المَعَاصِي مُتَكَرَّرَةً مِنْ عِبَادِهِ، جَاءَ بِصِيغَةِ المُبَالَغَةِ، لِيُقَابِلَ الخَطَايَا الكَبِيرَةَ بِالتَّوْبَةِ الوَاسِعَةِ"[22].
*
وَقَالَ ابْنُ الحَصَّارِ: "قَالَ الله العَظِيمُ: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ﴾ [التوبة: 117].
*
فَقَالَ فِي الآيَةِ الأُولَي: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ﴾ [التوبة: 117]. تَصْرِيحٌ بِتَوْبَتِهِ عَلَى الإِطْلاَقِ عَلَى مَنْ وَاقَعَ الذَّنْبَ، أَوْ كَانَتْ مِنْهُ مُخَالَفَةٌ وَعِصْيَانٌ.
*
فَتَوْبَةُ الله عَلَى العَبْدِ قَدْ يُرَادُ بِهَا تَجْدِيدُ التَّوْبَةِ وَتَوَالِيهَا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [النساء: 136].
*
مَعْنَاهُ جَدِّدُوا الإِيمَانَ وَاسْتَدِيمُوهُ وَاثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6].
*
وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ (التَّوَّابُ) مُبَالَغَةٌ؛ لِكَثْرَةِ مَنْ يَتُوبُ عَلَيْهِ، وَلِتَكْرِيرِهِ ذَلِكَ فِي الشَّخْصِ الوَاحِدِ حَتَّى يَقْضِيَ عُمْرَهُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ وَصْفَهُ سُبْحَانَهُ ب*(التَّوَّابِ) خَلْقُهُ التَّوْبَةَ للِعَبْدِ وَقَبُولُهَا مِنْهُ، كَمَا قَالَ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25]، أَيْ: يَقْبَلُ تَوْبَتَهُم، كَمَا قيِلَ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ تَوَّابٌ"[23].
*
2- اللهُ تَعَالَى هُوَ المُتَفَرِّدُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ مِنْ عِبَادِهِ، لاَ يُشْرِكُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَالخَطَايَا إِلَّا هُوَ.
قَالَ القُرْطُبيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ كَلاَمَ الأُقْلِيشِيِّ وَابْنِ الحَصَّارِ: "وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ قُدْرةٌ عَلَى خلْقِ التَّوْبَةِ فِي قَلْبِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ المُنْفَرِدُ بِخَلْقِ الأَعْمَالِ وَحْدَهُ[24] خِلاَفًا للِمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ قَالَ بقَوْلِهِم.
وَكَذَلِكَ لَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَةَ مَنْ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَلاَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ.
*
قَالَ ابْنُ الحَصَّارِ: "وَقَدْ كَفَرَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى بِهَذَا الأَصلِ العَظِيمِ فِي الدِّينِ، اتَّخَذَوا أَحْبَارَهُم وَرُهْبَانَهُم أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله عز وجل، وَجَعَلُوا لِمَنْ أَذْنَبَ أَنْ يَأْتِيَ الحَبْرَ أَوِ الرَّاهِبَ فَيُعْطِيهِ شَيْئًا، وَيَحطُّ عَنْهُ الذَّنْبَ!! ﴿ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 140]"[25].
*
وَهُوَ مَا يُسَمَّي ب (صُكُوكِ الغُفْرانِ)!! وَهِي مِنْ ضَلَالَاتِهم الكَثِيرَةِ الَّتِي أَضَلُّوا بِهَا النَّاسَ وَأَكَلُوا بِهَا أَمْوَالَهُم بِالبَاطِلِ دُهُورًا طَوِيلَةً كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 34].
*
فَلَيْسَ لأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ الله تَعَالَى - مَلَكًا كَانَ أَوْ رَسُولًا - سُلْطَانٌ فِي مَحْوِ الذَّنْبِ أَوْ سَتْرِهِ، أَوْ تَلَقِّي الاعْتِرَافَ بِالذَّنْبِ، سِوَي الرَّبِّ التَّوَّابِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إلَّا الشَّفَاعَةَ وَهِيَ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأذَنَ الله لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى مِنْ عِبَادِهِ.
*
وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا يَقَولُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 135].
*
وَفِي الدُّعَاءِ الذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَِبِي بَكْرٍ: "اللَّهُمَّ إِنَّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا - أَوْ كَثِيرًا - وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكِ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ"[26].
*
وَفِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ وَهَذَا الدُّعَاءِ إِقْرَارُ الوَحْدَانِيَةِ لَهُ فِي التَّوْبَةِ، إِذْ مَعْنَاهُمَا أَنَّهُ لاَ يَفْعَلُ هَذَا إِلَّا أَنْتَ فَافْعَلْهُ لِي.
*
اقتران اسم الله التواب بأسمائه الأخرى سبحانه:
اقْتِرَانُ اسْمِهِ (التَّوَّابِ) بِ (الَّرحِيمِ):
قَالَ قَتَادَةُ: "﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104]: إِنَّ الله هُوَ الوَهَّابُ لِعِبَادِهِ الإِنَابَةَ إِلَى طَاعَتِهِ، المُوَفِّقُ مَنْ أَحبَّ تَوْفِيقَهُ مِنْهُمْ لِمَا يُرضِيهِ عَنْهُ (الرَّحِيمُ) بِهِم أَنْ يُعَاقِبَهُم بَعْدَ التَّوْبَةِ، أَوْ يَخْذُلَ مَنْ أَرَادَ مِنْهُم التَّوْبَةَ وَالإِنَابَةَ، وَلاَ يَتُوبُ عَلَيْهِ"[27].
*
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَعْنَى (التَّوَّابِ) الذِي تَقَدَّمَ: "وَأَمَّا قَوْلُهُ (الرَّحِيمُ) فَإِنَّهُ يَعْنِى: أَنَّهُ المُتفَضِّلُ عَلَيْهِ مَعَ التَّوْبَةِ بِالرَّحْمَةِ وَرَحْمَتُهُ إِيَّاهُ إِقَالَةُ عَثْرَتِهِ، وَصَفْحُهُ عَنْ عُقُوبَةِ جُرْمِهِ"[28].
*
وَقَالَ شِهَابُ الدِّينِ الأَلُوسِيُّ: "وَجَمَعَ بَيْنَ وَصْفَيِ كَوْنِهِ تَوَّابًا وَكَوْنِهِ رَحِيَمًا، إِشَارَةً إِلَى مَزِيدِ الفَضْلِ، وَقَدَّمَ (التَّوَّابَ) لِظُهُورِ مُنَاسَبَتِهِ لِمَا قَبْلَهُ.
*
وَقِيلَ: فِي ذِكْرِ (الرَّحِيمِ) بَعْدَهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ لَيْس عَلَى سَبِيلِ الوُجُوبِ - كَمَا زَعَمَتْ المُعْتَزِلَةُ - بَلْ عَلَى سَبيِلِ التَّرَحُم وَالتَّفَضُلِ، وَأَنَّهُ الذِي سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، فَيَرْحَمُ عَبْدَهُ فِي عَيْنِ غَضَبِهِ، كَمَا جَعَلَ هُبوطَ آدَمَ سَبَبَ ارْتِفَاعِهِ، وَبُعْدَهُ سَبَبَ قُرْبِهِ، فَسُبْحَانَهُ مِنْ تَوَّابٍ مَا أَكْرَمَهُ وَمَنْ رَحِيمٍ مَا أَعْظَمَهُ"[29].
*
فَيَتَحَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ:
أ- أَنَّ الله تَعَالَى رَحِيمٌ بِعِبادِهِ فَلاَ يُعَاقِبُهم بَعْدَ التَّوْبَةِ.
ب- أَنَّهُ تَعَالَى لاَ يَخْذُلُ وَلاَ يَرُدُّ مَنْ جَاءَ مِنْهُم تَائِبًا، وَلَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُهُ عَنَانَ السَّمَاءِ وَمِلءَ الأَرْضِ.
ج- أَنَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ عَبْدَهُ وَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُ فِي عَيْنِ غَضَبِهِ؛ لأَِنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى تَسْبِقُ غَضَبَهُ.
د- أَنَّ قَبُولَهُ لِتَوْبَةِ عِبَادِهِ تَفَضُّلٌ مِنْهُ عَلَيْهِم، وَهُوَ مُقْتَضَى رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِهِم.
*
اقْتِرَانُ (التَّوَّابِ) بـ (الحَكِيمِ):
فَيَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾ [النور: 10]: "يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُم أَيُهَا النَّاسُ وَرَحْمَتُهُ بِكُم، وَأَنَّهُ عَوَّادٌ عَلَى خَلْقِهِ بِلُطْفِهِ وَطَوْلِهِ (حَكِيمٌ) فِي تَدْبِيرِهِ إِيَّاهُمْ وَسِيَاسَتِهِ لَهُم، لَعَاجَلَكُم بِالعُقُوبَةِ عَلَى مَعَاصِيكُم، وَفَضَحَ أَهْلَ الذُّنُوبِ مِنْكُم بِذُنُوبِهِم، وَلَكِنَّهُ سَتَرَ عَلَيْكُم ذُنُوبَكُم وَتَرَكَ فَضِيحَتَكُم بِهَا عَاجِلًا؛ رَحْمَةً مِنْهُ بِكُم وَتَفَضُّلًا عَلَيْكُم.
*
فَاشْكُرُوا نِعَمَهُ، وَانْتَهُوا عَنِ التَّقدُّمِ عَمَّا عَنْهُ نَهَاكُم عَنْ مَعَاصِيهِ وَتَرَكَ الجَوَابَ فِي ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِ المُرَادَ مِنْهُ"[30].
*
وَقَالَ البَغَوِيُّ فِي الآيَةِ نَفْسِهَا: "جَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ، يَعْنِى: لَعَاجَلَكُم بِالعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّهُ سَتَرَ عَلَيْكُم وَرَفَعَ عَنْكُمُ الحَدَّ بِاللِّعَانِ، وَأَنَّ الله تَوَّابٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ يَرْجِعُ عَنِ المَعَاصِي بِالرَّحْمَةِ، حَكِيمٌ فِيمَا فَرَضَ مِنَ الحُدُودِ"[31].
*
وَقَالَ الأَلُوسِيُّ: "جَوَابُ "لَوْلَا" مَحْذُوفٌ لِتَهْوِيلِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَا تُوجَدُ عِبَارَةٌ تُحِيطُ بِبَيَانِهِ، وَهَذَا الحَذْفُ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِم، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَوْلَا تَفَضُّلُهُ تَعَالَى عَلَيْكُم وَرَحْمَتُهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُبَالِغٌ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ (حَكِيمٌ) فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا شَرَعَ لَكُم مِنْ حُكْمِ اللِّعَانِ، لَكَانَ مِمَّا لَا يُحِيطُ بِهِ نِطَاقُ البَيَانِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَشْرَعْ لَهُم ذَلِكَ، لَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ حَدُّ القَذْفِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ صِدْقُهُ؛ لأَنَّهُ أَعْرَفُ بِحَالِ زَوْجَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَفْتَرِي عَلَيْهَا لاشْتِرَاكِهِمَا فِي الفَضَاحَةِ، وَبَعْدَ مَا شَرَعَ لَهُم لَوْ جَعَلَ شَهَادَاتِهِ مُوجِبَةً لِحَدِّ الزنَا عَلَيْهَا لَفَاتَ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَلَوْ جَعَلَ شَهَادَاتِهَا مُوجِبَةً لِحَدِّ القَذْفِ عَلَيْهِ لَفَاتَ النَّظَرُ لَهُ، وَلَا رَيْبَ فِي خُرُوجِ الكُلِّ عَنْ سُنَنِ الحِكْمَةِ وَالفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، فَجَعَلَ شَهَادَاتِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ الجَزْمِ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا حَتْمًا دَارِئَةً لِمَا تَوَجَّهَ إِليْهِ مِنَ الغَائِلَةِ الدُّنْيَويَّةِ، وَقَدِ ابْتُلِيَ الكَاذِبُ مِنْهُمَا فِي تَضَاعِيفِ شَهَادَاتِهِ مِنَ العَذَابِ بِمَا هُوَ أَتَمُّ مِمَّا دَرَأتْهُ عِنْهَا وَأَطَمُّ.
*
وَفِي ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الحِكَمِ البَالِغَةِ وَأَثَارِ التَفَضُّلِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَا يَخْفى، أَمَّا عَلَى الصَّادِقِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الكَاذِبِ فَهُوَ إِمْهَالُهُ وَالسَّتْرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَدَرْءُ الحَدِّ عَنْهُ وَتَعْرِيضُهُ للِتَّوْبَةِ حَسْبَمَا يُنَبِئُ عَنْهُ التَّعَرُّضُ لِعُنْوَانِ تَوَّابِيَّتِهِ تَعَالَى.
*
فَسُبْحَانَهُ مَا أَعَظْمَ شَأْنَهُ، وَأَوْسَعَ رَحْمَتَهُ، وَأَدَقَّ حِكْمَتَهُ، قَالهُ شَيْخُ الإِسْلاَمِ"[32].
*
فَيَتَحَصَّلُ مِمَّا سَبَقَ:
أ- أَنَّ الله عز وجل لَا يُعَاجِلُ أَهْلَ المَعَاصِي بِالعُقُوبَةِ، بَلْ يُمهِلُهُم الفُرْصَةَ للِتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ، وَهَذَا مِنْ حِكْمَتِهِ.
ب- أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْضَحُ أَهْلَ الذُّنُوبِ ابْتِدَاءً، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْنًا لَهُم عَلَى تَوْبَتِهم.
ج- أَنَّهُ شَرَعَ مِنَ الحُدُودِ وَالكَفَّارَاتِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ عَنْ عِبَادِهِ الذُّنُوبَ وَالسَّيِّئَاتِ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ.
*
هل يصح تسمية الله تعالى بـ (التائب):
لاَ يَصِحُّ تَسْمِيَةُ اللهِ تَعَالَى بـ (التَّائِبِ):
لأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَسْمِيَةُ الله تَعَالَى بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لُغَةً.
*
قَالَ الزَّجَّاجِيُّ: "فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَفَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الله عَزَّ وَجَلَّ (تَائِبٌ) عَلَى عِبَادِهِ، أَيْ: يَقْبَلُ تَوْبَتَهُم، كَمَا قِيلَ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ (تَوَّابٌ)؟
*
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لَنَا أَنْ نُطْلِقَ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الصَّفَاتِ إِلَّا مَا أَطْلَقَهُ جَمَاعَةُ المُسْلِمِينَ، وَجَاءَ فِي الكِتَابِ وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ مُحْتَمَلًا.
*
وَقَدْ قَالَ الله عز وجل: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 117]، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25]؛ فَقَدْ جَاءَ الفِعْلُ مِنْهُ عَلَى فَعَلَ يَفْعَلُ.
*
وَمَا نُطِقَ منهُ بِفَعَلَ يَفْعَلُ، فَاسْمُ الفَاعِلِ مِنْهُ قِيَاسًا فَاعِلٌ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبَ زَيْدٌ يَضَرِبُ فَهُوَ ضَارِبٌ، وَذَهَبَ يَذْهَبُ فَهُوَ ذَاهِبٌ، فَكَذَلِكَ يُقَالَ قِيَاسًا: تَابَ زَيْدٌ يَتُوبُ فَهُوَ تَائِبٌ.
*
فَإِنْ كَانَتِ الأُمَّةُ تُطْلِقُ ذَلِكَ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ فَقِيَاسُهُ فِي اللُّغَةِ مُسْتَقيِمٌ، وَإِنْ لَمْ تُطْلِقْ ذَلِكَ عَلَى الله عز وجل فَلاَ يَجُوزُ الإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ جَائِزًا.
*
عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ لله عَزَّ وَجَلَّ (تَوَّابٌ) لِمُبَالَغَةِ الفِعْلِ، وَكَثْرَةِ قَبُولِهِ تَوْبَةَ عِبَادِهِ، وَلِكَثْرَةِ مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ، وَتَرَدُّدُ هَذَا الفِعْلِ وَتَكْرَارُهُ وَقَبُولُهُ مِنْهُم لَيَدُلَّ عَلَى هَذَا المَعْنَى، فَلَا يُجَاوِزُ هَذَا.
*
وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَاتِهِ عز وجل مَا لا يُنْطَقُ بِاسْمِ الفِعْلِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ [الفرقان: 1]، وَقَوْلِهِ: ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]، وَلَمْ يَقُلْ: مُتَبَارِكٌ! كَمَا قِيلَ: تَعَالَى فَهُوَ مُتَعَالٍ، وَالوَزْنُ وَالتَّقْدِيرُ فِي العَرَبِيَّةِ وَاحِدٌ.
*
وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا نُطِقَ بِاسْمِ الفَاعِلِ، كَقَوْلِكَ: اللهُ المُؤمِنُ المُهَيْمِنُ، وَلَا تَقُولُ: آمَنَ الله وَلَا هَيْمَنَ، وَإِنَّمَا نَسْعَى فِي صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مَا أَطْلَقَتْهُ الأُمَّةُ وَجَاءَ فِي التَّنْزِيلِ وَنُمْسِكُ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ"[33].
*
وَهَذَا كَلَامٌ سَلِيمٌ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مُقَدِّمةِ هَذَا الكِتَابِ المُبَارَكِ بِتَفْصِيلٍ.
أَمَّا مَا جَاءَ فِي "مُفْرَدَاتِ" الرَّاغِبِ: فَالعَبْدُ تَائِبٌ إِلَى الله، وَاللهُ تَائِبٌ عَلَى عَبْدِهِ[34].
فَهُوَ مِنْ بَابِ الإِخْبَارِ، لَا مِنْ بَابِ التَّسْمِيَةِ.
*
مع التوبة:
التَّوْبَةُ هِيَ تَرْكُ الذَّنْبِ عَلَى أَجْمَلِ الوُجُوهِ:
وَهُوَ أَبْلَغُ وُجُوهِ الاعْتِذَارِ، فَإِنَّ الاعْتِذَارَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
إِمَّا أَنْ يَقُولَ المُعْتَذِرُ: لَمْ أَفْعَلْ.
أَوْ يَقُولَ: فَعَلْتُ لِأَجْلِ كَذَا.
أَوْ: فَعَلْتُ وَأَسَأْتُ وَقَدْ أَقْلَعْتُ، وَلاَ رَابِعَ لِذَلِكَ. وَهَذَا الأَخِيرُ هُوَ "التَّوْبَةُ".
وَالتَّوْبَةُ فِي الشَّرْعِ: تَرْكُ الذَّنْبِ لِقُبْحِهِ، وَالنَّدَمُ عَلَى مَا فَرُطَ مِنْهُ، وَالعَزِيمَةُ عَلَى تَرْكِ المُعَاوَدَةِ، وَتَدَارُكِ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُتَدَارَكَ مِنَ الأَعْمَالِ بِالإِعَادَةِ.
فَمَتَي اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الأَرْبَعُ فَقَدْ كَمُلَ شَرَائِطُ التَّوْبَةِ[35].
*
التَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ:
لاَ يَصِحُّ أَنْ يَنْفَكَّ مِنْهَا فِي حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ، وَأَفْضَلُ النَّاسِ هُمْ أَحْسَنُهُم قِيَامًا بِهَا وَبِحَقِّهَا، فَإِذَا تَخَلَّى عَنْهَا العَبْدُ صَارَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ.
*
قَالَ ابْنُ القيَّمِ رحمه الله: وَمَنْزِلُ (التَّوْبَةِ) أَوَّلُ المَنَازِل، وَأَوْسَطُهَا، وَآخِرُهَا، فَلَا يُفَارِقُهُ العَبْدُ السَّالِكُ، وَلَا يَزَالُ فِيهِ إِلَى المَمَاتِ، وَإِنِ ارْتَحَلَ بِهِ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ وَنَزَلَ بِهِ، فَالتَّوْبَةُ هِي بِدَايَةُ العَبْدِ وَنِهَايَتُهُ، وَحَاجَتُهُ إِلَيْهَا فِي النَّهَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ، كَمَا أَنَّ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا فِي البِدَايَةِ كَذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وَهَذِهِ الآيَةُ فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ، خَاطَبَ الله بِهَا أَهْلَ الإِيمَانِ وَخِيَارَ خَلْقِهِ أَنْ يَتُوبُوا إِلَيْهِ، بَعْدَ إِيمَانِهم وَصَبْرِهِم، وَهِجْرَتِهِم وَجِهَادِهِم، ثُمَّ عَلَّقَ الفَلَاحَ بِالتَّوْبَةِ تَعْلِيقَ المُسَبِّبِ بِسَبَبِهِ، وَأَتَى بِأَدَاةِ "لَعَلَّ" المُشِعرةَ بِالتَّرَجِّي إِيذَانًا بِأَنَّكُم إِذَا تُبْتُمْ كُنْتُمْ عَلَى رَجَاءِ الفَلَاحِ، فَلاَ يَرْجُو الفَلَاحَ إِلَّا التَّائِبُونَ، جَعَلَنَا الله مِنْهُم.
*
قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]؛ قَسَّمَ العِبَادَ إِلَى تَائِبٍ وَظَالِمٍ وَمَا ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ أَلْبَتَّةَ، وَأَوْقَعَ اسْمَ "الظالِمِ" عَلَى مَنْ لَمْ يَتُبْ، وَلاَ أَظْلَمَ مِنْهُ، لِجَهْلِهِ بِرَبَّهِ وَبِحَقِّهِ، وَبِعَيْبِ نَفْسِهِ وَآفَاتِ أَعْمَالِهِ.
*
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ،, تُوبُوا إِلَى الله، فَوَاللهِ إِنِّي لأَتُوبُ إلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً"، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَعُدُّونَ لَهُ فِي المَجْلِسِ الوَاحِدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: "رَبّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَليَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُورُ" مِائَةَ مَرَّةٍ، وَمَا صَلَّى صَلَاةً قَطُّ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ [النصر: 1] إِلَى آخِرِهَا، إِلَّا قَالَ فِيهَا: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُم اغْفِرْ لِي"، وَصَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُم عَمَلُهُ"، قَالَوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغمَّدَنِيَ الله بِرحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ".
*
فَصَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَى أَعْلَمِ الخَلْقِ بِاللهِ وَحُقُوقِهِ، وَعَظَمَتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ جَلاَلُهُ مِنَ العُبُودِيَّةِ، وَأَعْرَفُهُم بِالعُبُودِيَّةِ وَحُقُوقِهَا وَأَقْوَمُهُم بِهَا[36].
*
فَالتَّوْبَةُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا أَحَدٌ حَتَّى الأَنْبِيَاءُ (صَلَوَاتُ الله عَلَيْهم):
لأَنَّهَا لَيْسَتْ نَقْصًا، بَلْ هِي مِنَ الكَمَالِ الذِي يُحِبُّهُ الله وَيَرْضَاهُ وَيَأمُرُ بِهِ.
وَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمَيةَ رحمه الله عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 117]، وَالتَّوْبَةُ إِنَّمَا تَكُونُ عَنْ شَيءٍ يَصْدُرُ مِنَ العَبْدِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ مِنَ الكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ؟
فَأَجَابَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَةَ:
"الحَمْدُ لله، الأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِم مَعْصُومُونَ مِنَ الإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ، كِبَارِهَا وَصِغَارِهَا، وَهُمْ بِمَا أَخْبَرَ الله بِهِ عَنْهُم مِنَ التَّوْبَةِ يَرْفَعُ دَرَجَاتِهِم، وَيُعْظِم حَسَنَاتِهِم، فَإِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ نَقْصًا، بَلْ هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الكَمَالاتِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الخَلْقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [الأحزاب: 72، 73]، فَغَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ هِي التَّوْبَةُ، ثُمَّ التَّوْبَةُ تَتَنَوعُ كَمَا يُقَالُ: حَسَنَاتُ الأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ المُقَرَّبِينَ.
*
وَاللهُ تَعَالَى قَدْ أخَبَر عِنْ عَامَّةِ الأَنْبِياءِ بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ: عَنْ آدَمَ، وَنَوحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى وَغَيْرِهِم، فَقَالَ آدَمُ: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]، وَقَالَ نوحٌ: ﴿ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47]، وَقَالَ الخَلِيلُ: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41]، وَقَالَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 128] وَقَالَ مُوسَى: ﴿ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 155، 156]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143].
*
وَقَدْ ذَكَرَ الله سُبْحَانَهُ تَوْبَةَ داود وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَاللهُ تَعَالَى: ﴿ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]، وَفِي أَوَاخِرِ مَا أَنْزَلَ الله عَلَى نَبيِّهِ: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1 - 3].
*
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ: "اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِب، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالبَرَدِ وَالمَاءِ البَارِدِ".
*
وَفِي الصَّحِيحِ؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الاسْتِفْتَاحِ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ".
*
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرِ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، عَلاَنِيَتَهُ وَسِرَّهُ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ".
*
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وجَهلِي وَإِسْرافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجَدِّي، وَخَطئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمَتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرَتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنّي أَنْتَ المُقَدّمُ، وَأَنْتَ المُؤخِّرُ، لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ"، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
*
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19]، فَتَوْبَةُ المُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُم هُوَ مِنْ أَعْظَمِ حَسَنَاتِهِم، وَأَكْبَرِ طَاعَتِهم، وَأَجَلِّ عِبَادَاتِهِم الَّتِي يَنَالُونَ بِهَا أَجَلَّ الثَّوَابِ، وَيَنْدَفِعُ بِهَا عَنْهُم مَا يَدْفَعُهُ مِنَ العِقَابِ.
*
فَإِذَا قَالَ القَائِلُ: أَيُّ حَاجَةٍ بِالأَنْبِيَاءِ إِلَى العِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ؟ كَانَ جَاهِلًا؛ لِأَنَّهُم إِنَّمَا نَالُوا مَا نَالُوهُ بِعِبَادَتِهم وَطَاعَتِهم، فَكَيْفَ يُقالُ: إِنَّهُم لَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا؟! فَهِيَ أَفْضَلُ عِبَادتِهِم وَطَاعَتِهم.
*
وَإِذَا قَالَ القَائِلُ: فَالتَّوْبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ ذَنْبٍ، وَالاسْتِغْفَارُ كَذَلِكَ؟
قِيلَ لَه: الذَّنْبُ الذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ هُوَ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَوْبَةٌ، فَأَمَّا مَا حَصَلَ مِنْهُ تَوْبَةٌ فَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَفْضَلَ مِنْهُ قَبْلَ الخَطِيئَةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ داود بَعْدَ التَّوْبَةِ أَحْسَنَ مِنْهُ حَالًا قَبْلَ الخَطِيئَةِ، وَلَوْ كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنَ الكُفْرِ وَالكَبَائِرِ: فَإِنَّ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ هُمْ خِيَارُ الخَلِيقَةِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا صَارُوا كَذَلِكَ بِتَوْبَتِهِم مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ وَالذُّنُوبِ، وَلَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ التَّوْبَةِ نَقْصًا وَلَا عَيْبًا، بَلْ لَمَّا تَابُوا مِنْ ذَلِكَ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانُوا أَعْظَمَ إِيمَانًا، وَأَقْوَى عِبَادَةً وَطَاعَةً مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُم فَلَمْ يَعْرِفِ الجَاهِليَةَ كَمَا عَرِفُوهَا.
*
وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَابِ: "إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الإِسْلاَمِ عُروةً عُروةً إِذَا نَشَأَ فِي الإِسْلاَمِ مِنْ لَمْ يَعْرِفِ الجَاهِلِيَّةَ".
وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 68 - 70].
*
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ اللهَ يُحَاسِبُ عَبْدَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيعْرِضُ عَلَيْهِ صِغَارَ الذُّنُوبِ وَيُخَبِّأُ عَنْهُ كِبَارَهَا فَيَقُولُ: فَعَلْتَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبَّ! وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِهَا أَنْ تَظْهَرَ، فَيَقُولُ: إِنّي قَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ، وَأَبْدَلْتُكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَهُنَالِكَ يَقُولُ: رَبِّ إِنَّ لِي سَيِّئَاتٍ مَا أَرَاهَا بَعْدُ".
*
فَالعَبْدُ المُؤْمِنُ إِذَا تَابَ وَبَدَّلَ اللهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ انقَلَبَ مَا كَانَ يَضُرُّهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ بِسَبَبِ تَوْبَتِهِ حَسَنَاتٍ يَنْفَعُهُ اللهُ بِهَا، فَلَمْ تَبْقَ الذُّنُوبُ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُضِرَّةٌ لهُ، بَلْ كَانَتْ توبَتُهُ مِنْهَا مِنْ أَنْفَعِ الأُمُورِ لَهُ، وَالاعْتِبَارُ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ لَا بِنَقْصِ البِدَايَةِ، فَمَنْ نَسِيَ القُرْآنَ ثُمَّ حَفِظَهُ خَيْرًا مِنْ حِفْظِهِ الأَوَّلِ لَمْ يَضُرُّهُ النِّسْيَانُ، وَمَنْ مَرِضَ ثُمَّ صَحَّ وَقَوِيَ لَمْ يَضُرُّهُ المَرَضُ العَارِضُ.
*
وَاللهُ تَعَالَى يَبْتَلِي عبدَهُ المُؤْمنَ بِمَا يَتُوبُ مِنْهُ، لِيحصُلَ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ تَكْمِيلِ العُبُودِيَّةِ والتَّضَرُعِ، والخُشُوعِ للهِ والإنَابَةِ إِلَيْهِ، وَكَمَالِ الحَذَرِ فِي المستقبَلِ والاجتهَادِ فِي العِبَادَةِ مَا لَمْ يَحْصُلْ بدُونِ التَّوْبَةِ، كَمَن ذَاقَ الجُوعَ والعَطَشَ، والمرضَ والفَقْرَ والخَوْفَ، ثُمَّ ذَاقَ الشِّبَعَ والرِّيَّ والعَافِيَةَ والغِنَى والأمنَ، فإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ المَحَبَّةِ لِذَلِكَ وَحَلاَوَتِهِ ولذتِهِ، والرغبَةِ فِيهِ وَشُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، والحَذَرِ أَنْ يَقَعَ فِيمَا حَصَلَ أَوَّلًا مَا لَمْ يَحْصُلِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَقَدْ بُسِطَ الكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ المَوْضِعِ.
*
وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ التَّوْبَةَ لاَ بُدَّ مِنْهَا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، وَلَا يَكْمُلُ أَحدٌ وَيحصُلُ لَهُ كَمَالُ القُرْبِ مِنَ اللهِ، وَيَزُولُ عَنْهُ كُلُّ مَا يَكْرَهُ إلَّا بِهَا.
*
التَّوْبَةُ الشَّرْعِيَّةُ[37]:
قَالَ تَعَالَى ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118]، وَلكِنْ فِي القرآنِ مُعَرَّفًا وَمُنَكَّرًا وَاسْمًا وفعلًا.
*
يُقَالُ: تَابَ يَتُوبُ تَوْبَةً فَهُوَ تَائِبٌ، وَالتَّوْبَةُ: الرجُوعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَفِي الحَدِيثِ: "النَّدْمَةُ تَوْبَةٌ"[38]، وكَذَلِكَ التَّوْبُ مثلُهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: ﴿ وَقَابِلِ التَّوْبِ ﴾ [غافر: 3].
*
وَقَالَ الأَخْفَشُ: "التَّوْبُ جَمْعُ تَوْبَةٍ مثلُ عَزْمَةٍ وعَزْمٍ، وَتَابَ إِلَى الله تَوْبَةً وَمَتَابًا، وَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ وَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ، وَفِي كِتَابِ سِيَبَوَيْه التَّتْوِبَةُ: التَّوْبَةُ، واسْتَتَابَهُ: سَأَلَهُ التَّوْبَةَ، فَمَعْنَي تَوْبَةِ العَبْدِ رُجُوعُهُ مِنَ المُخَالفَةِ إِلَى المُوَافَقَةِ، وَمِنَ المَعْصِيَةِ إِلَى الطَاعَةِ، تَقُولُ: آبَ وَتَابَ وَثَابَ وَنَابَ كُلُّ ذَلِكَ رَجَعَ"[39].
*
قَالَ الحليمِيُّ: "وَهُوَ المُعِيدُ إِلَى عَبْدِهِ فَضْلَ رَحْمَتِهِ إِذَا هُوَ رَجَعَ إِلَى طَاعَتِهِ وَنَدِمَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، فَلَا يُحْبِطُ مَا قَدَّمَ مِنْ خَيْرٍ وَلَا يَمْنَعُهُ مَا وَعَدَ المُطِيعِينَ مِنَ الإِحْسَانِ".
*
وَقَالَ أَبو سُلَيْمَانَ: "التَّوَّابُ: هُوَ الذِي يَتُوبُ عَلَى عِبَادِهِ فَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُم كُلَّمَا تَكَرَّرَتِ التَّوْبَةُ تَكَرَّرَ القَبُولُ، وهُوَ يَكُونُ لَازِمًا وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِحَرْفٍ، يُقَالُ: تَابَ اللهُ عَلَى العَبْدِ بِمَعْنَي وَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ، فَتَابَ العَبْدُ، كَقَوْلِهِ: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118]، وَمَعْنَي التَّوْبَةِ عَوْدَةُ العَبْدِ إِلَى الطَّاعَةِ بَعْدَ المَعْصِيَةِ"[40].
*
وَالتَّوْبَةُ الشَّرْعِيَّةُ: النَّدَمُ عَلَى مَا وَقَعَ التَّفْرِيطُ فِيهِ لِرِعَايَةِ حُقُوقِ اللهِ، وَيَظْهَرُ صِدقُ النَّدَمِ عَلَى الجَوَارِحِ بِالإِقْلاَعِ والانكِفَافِ فِي كُلِّ مَا يتمَكَّنُ بِهِ، فَيَصِلُ رَحِمَهُ الَّتِي كَانَ قَطَعَهَا، وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ الَّتِي كَانَ تَرَكَهَا، وَيَرُدُّ الأموَالَ الَّتِي كَانَ أَخَذَهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ اقْتَرَفَهُ وَخَالَفَ فِيهِ أَمْرَ رَبِّهِ واجتَرَحَهُ، فَهَذَا تَفْسِيرُ تَوْبَةِ العَبدِ مِنَ الذَنبِ، وَأَمَّا تَوْبَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَلَى العبدِ فَقَالَ ابنُ العَرَبِيِّ: ولِعُلمَائِنَا فِي وَصْفِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ تَوَّابٌ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَجُوزُ فِي حَقِّ الربِّ سُبْحَانَهُ فَيُدْعَى بِهِ كَمَا جَاءَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلاَ يُتَأَوَّلُ.
*
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ وَصْفٌ حَقِيقِيٌ للهِ سُبْحَانَهُ - وَتَوْبَةُ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ رُجُوعُهُ بِهِ مِنْ حَالِ المَعْصِيَةِ إلَى حَالِ الطَاعَةِ.
*
وَقَالَ آخرُونَ: تَوبَةُ اللهِ عَلَى العَبْدِ قَبُولُهُ تَوْبَتِهِ، وَذَلِكَ يُحتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: قَبِلتُ تَوبَتَكَ، وَأَنْ يَرجِعَ إِلَى خَلْقِ الإنَابَةِ والرجُوعِ فِي قَلْبِ المُسِيءِ وإِجْرَاءِ الطَاعَاتِ عَلَى جَوَارحِهِ الظَّاهِرَةِ.
*
وَقَالَ الأَقْلِيشِيُّ: سَمَّي اللهُ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ تَوابًا؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ التَّوْبَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، ومُيَسِّرُ أَسبَابِهَا لَهُمْ، والرَّاجِعُ بِهم مِنَ الطريقِ الَّتِي يكره إلى الطريقِ الَّتِي يَرْضى، وسمَّى نفسَه أيضًا توَّابًا لقبوله توبةَ مَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ.
وَمِنَ القِسمِ الأَوْلِ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118].
*
وَمِنَ القِسمِ الثَانِي قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 39]، فَبِهَذَيْنِ القِسْمَيْنِ سَمَّي نَفْسَهُ تَوَّابًا.
*
وَلَقَدْ جَهِلَ المُعتَزِلِيُّ الحَقِيقَةَ فَأَنكَرَ القِسمَ الأَولَ وهُوَ خَلْقُ التَّوْبَةِ فِي قَلبِ العَبْدِ، وَهَذَا مَطمُوسُ القَلبِ عَنْ طَريقِ القَصْدِ، وَلمَّا كَانَتِ المَعَاصِي مُتَكَرِرَةً مِنْ عِبَادِهِ جَاءَ بِصِيَغِ المُبَالغَةِ لِيقَابِلَ الخَطَايَا الكَثِيرَةَ بِالتَّوْبَةِ الوَاسِعَةِ.
*
وَقَالَ ابنُ الحصارِ: "قَالَ اللهُ العَظِيمُ: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ﴾ [التوبة: 117]، وَقَالَ: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ﴾ [التوبة: 118].
*
فَقَولُهُ: فِي تكمِلَةِ الآيَةِ الأُولَي: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ﴾ [التوبة: 117]، تَصْرِيحٌ بتوبَتِهِ عَلَى الإِطْلاَقِ عَلَى مَنْ وَاقَعَ الذَنْبَ وَكَانَتْ مِنْهُ مُخَالَفَةٌ وَعِصْيَانٌ، فتوبَةُ اللهِ عَلَى العَبدِ قَدْ يُرَادُ بِهَا تَجدِيدُ التَّوْبَةِ وتَوَالِيهَا عَلَيهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [النساء: 136]، مَعنَاهُ جَدِّدُوا الإيمَانَ، واستَدِيمُوهُ، وَاثْبُتوُا عَلَيهِ، يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، وَوَصْفُهُ نفسَهُ بِأَنَّهُ التَّوَّابُ مبَالَغَةٌ لكَثْرةِ مَنْ يَتُوبُ عَلَيهِ، ولتَكرِيرِهِ ذَلِكَ فِي الشَّخْصِ الوَاحِدِ حَتَّى يَقْضِيَ عُمْرَهُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ وَصْفَهُ سُبْحَانَهُ بِالتَّوَّابِ خَلقُهُ التَّوْبَةَ للعِبَادِ وقبولُهَا مِنْهُم كَمَا قَالَ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25]: أَيْ يَقْبَلُ تَوبَتَهُم كَمَا قِيلَ لَهُ عز وجل: (تَوَّابٌ).
*
فَقَالَ أَبُو القَاسِمِ الزجَّاجِيُّ: "لَيسَ لَنَا أَنْ نُطِلقَ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ إِلَّا مَا أطلَقَهُ جَمَاعَةُ المُسلِمِينَ أُوْ جَاءَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ مُحْتَمِلًا.
*
وَقَدْ قَالَ اللهُ: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ ﴾ [التوبة: 117]، ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25]، فَقَدْ جَاءَ الفِعْلُ مِنْهُ عَلَى فَعَلَ وَيفْعَلُ، وَمَا نُطِقَ بِهِ بفعل يفعل، فاسمُ الفَاعِلِ منهُ قِياسًا فَاعِلٌ كَقَولِكَ ضَرَبَ يَضْرِبُ فَهُوَ ضَارِبٌ، وَذَهَبَ يَذْهَبُ فَهُوَ ذَاهِبٌ، وَقَتَلَ يَقْتُلُ فَهُوَ قَاتِلٌ، فَكَذَلِكَ يُقَالُ قِيَاسًا: تَابَ فَهُوَ تَائِبٌ، فَإِنْ كَانَتِ الأُمّةُ تُطْلِقُ ذَلِكَ عَلَى اللهِ تَعَالَى فَقِيَاسُهُ فِي اللُّغَةِ مُستَقِيمٌ، وَإِنْ لَمْ تُطلِقْ ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ الإِقَدَامُ عَلَيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ جَائِزًا، وَعَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ للهِ عز وجل: تَوَّابٌ لِمُبَالَغَةِ الفِعْلِ بِكَثْرَةِ قَبُولِهِ تَوْبَةَ عِبَادِهِ لِكَثْرَةِ مَنْ يَتُوبُ إِلَيهِ، ويرددُ هَذَا الفِعلَ، وَتَكْرَارُهُ إِنَّمَا كَانَ لِيَدُلَّ عَلَى هَذَا المَعنَي، فَلاَ يُجِاوِزُ هَذَا.
*
وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَاتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ الفِعْلِ مَا لَمْ يُنطَقْ مِنْهُ باسِمِ الفَاعِلِ، كَقَولِهِ عز وجل: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ [الفرقان: 1]، وَقولِهِ: ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]، وَلَمْ يُقَلْ للهِ عز وجل: مُتَبَارَكٌ كَمَا قِيلَ: تَعَالَى فَهُوَ مُتَعَالٍ، وَالوَزْنُ والتَقدِيرُ فِي العَرَبِيَّةِ وَاحِدٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَاتِهِ مَنْ نُطِقَ منهُ باسِمِ الفَاعِلِ كَقَولِنَا: "اللهُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ" وَلاَ تَقُلْ: آمَنَ اللهُ وَلاَ هَيمَنَ اللهُ، وَإنَّمَا تَنْتَهِي فِي صِفَاتِهِ عز وجل إِلَى مَا أَطْلَقَتْهُ الأُمَّةُ وَجَاءَ فِي التَنزِيلِ، ونُمسِكُ عَمَّا سِوَاهُ.
*
وإِذَا ثَبَتَ هَذَا فاعلَمْ أَنَّهُ لَيسَ لأَِحَدٍ قُدرَةٌ عَلَى خَلْقِ التَّوْبَةِ فِي قَلبِ أَحَدٍ؛ لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ المُنفَرِدُ بخَلقِ الأعمَالِ وَحدَهُ، خِلاَفًا للمُعتزِلَةِ، وَمَنْ قَالَ بقَولِهم، وكذلِكَ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يقبَلَ تَوبَةَ مَنْ أَسرَفَ عَلَى نَفسِهِ، وَلاَ أَنْ يَعفُوَ عَنهُ.
*
قَالَ ابنُ الحَصَّارِ: "وَقَدْ كَفَرتْ اليَهُودُ والنَصَارى بِهَذَا الأَصلِ العظيمِ فِي الدينِ: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 31]، عَزَّ وَجَلَّ، وَجَعَلُوا لِمَنْ أذنَبَ أَنْ يَأْتِيَ الحَبْرَ أَوِ الراهِبَ فيُعْطِيهُ شَيئًا ويحُطَّ عَنهُ الذَنبَ افتراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ.
*
فيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ أَنْ يَعَلَمَ أَنْ لَا تَوَّابَ عَلَى الإِطلاَقِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَأَنْ التَّوْبَةَ الوَاقِعَةَ مِنَ العَبدِ لَيْسَتْ بِمُجَردِ كَسبِهِ دُونَ فِعلِ اللهِ، بَلِ العَبدُ تَابِعٌ فِي ذَلِكَ الفِعْلِ لِقَضَاءِ الرَّبِّ وَفِعْلِهِ الجَارِي عَلَيهِ بِقُدْرَةِ رَبِّهِ، وَلِذلِكَ قَالَ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118]، فَجَعَلَ سَبَبَ تَوبَةَ العبدِ تَوبَةُ اللهِ عَلَيهِ أَوَّلًا، فَالَّذِي يُرْجِعُهُ اللهُ مِنْ طَرِيقِ المَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ لَا يَسْتَبِدُّ هُوَ بِالرُّجُوعِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيهِ.
*
والتَّوْبَةُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ مِنْ غَيرِ خِلَافٍ بَيْنَ المُسلِمِينَ فِي كُلِّ حِينٍ، كَالإِيمَانِ، قَالَ اللُه العَظِيمُ: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وَإِذَا كَانَ سَيِّدُ البشرِ يَتُوبُ إِلَى اللهِ فِي اليَوْمِ مِائةَ مَرَّةٍ، فَكَيفَ بِأَهْلِ الغَفْلَةِ؟! وَإِذَا قِيلَ لَهُ ولصَحْبِهِ الَّذِينَ هُمْ خِيَارُ خَلقِهِ: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 117]، فَجَرَتْ عَلَيهِم هَذِهِ الصِّفَةُ وَهُمْ أَهْلُ الصَّفْوَةِ وَالمَعرِفَةِ، فَكَيفَ بغَيْرِهم الَّذِينَ لاَ يُشَابِهُونَهُم فِي خَيرِهِم؟! فَكَلُّ عَبدٍ مُكَلَّفٍ مفتَقِرٌ إِلَى التَّوْبَةِ؛ لأَنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ هَفْوَةٍ مَا وَحَوْبَةٍ، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]، وَكَمَا أَنَّ الإيمَانَ يَجُبُّ مَا قَبلَهُ مِنَ الآثَامِ، فَكَذَلِكَ التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ.
*
وَفِي التَّائِبِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [الفرقان: 70]، وَكِلَاهُمَا عَمَلُ القَلبِ، فَكَمَا أَنَّ الإِيمَانَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالإِسلَامِ، فَكَذَلِكَ التَّوْبَةُ؛ لأَنَّ التَّوْبَةَ إِيمَانٌ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ عَمَلِ الظَّاهِرِ والبَاطِنِ كَمَا قَالَ: ﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 11]، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الَصَّلَاةَ والزَّكَاةَ؛ لأَنَّهُمَا أَعْظَمُ أَركَانِ الدِّينِ، وإِنَّمَا الوَاجِبُ عَلَيهِم امتِثَالُ جَمِيعِ الأوَامِرِ واجتِنَابِ جَمِيعِ النَّوَاهِي، وَهَذَا حُكْمُ الكَافِرِ إِذَا تَابَ، وَأَمَّا المؤمنُ إذا تابَ فَعَلَيهِ أَنْ يَتَلَافَى مَا كَانَ فَرطَ مِنهُ مِنْ عَمَلٍ بِظَاهِرِهِ وبَاطِنِهِ، فَعَمَلُ البَاطِنِ النَّدَمُ والخَوفُ والعَزمُ عَلَى أَلَّا يَعُودَ، وَعَمَلُ الظَّاهِرِ يختَلِفُ باخْتِلَافِ الذُّنُوبِ، وذَلِكَ مُعَتَبرٌ بِالأوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَمَا يُمْكِنُ تَلافِيهِ فِعْلًا أَوْ قَولًا، وَمَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ إِلَّا بِالعَزْمِ.
*
وَسَواءٌ صَدَرَ ذَلِكَ مِنهُ جَهْلًا أَوْ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، والتَّوْبَةُ لَازِمَةٌ فَعَلَيهِ فِي السَّهْوِ رَدُّ مَا أَتلَفَ وَقَضَاءُ مَا فَرطَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 54]، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 119]، وَكِلَاهُمَا مَكِيٌّ وَتَكَرَّرَ هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾ [النساء: 17]، وَهَذِهِ الآيَةُ مَدَنِيَّةٌ بِاتِفَاقٍ، وَدَخَلَتْ كَلِمَةُ إِنَّمَا فِي أَوَّلِهَا للِحَصْرِ وَدَخَلَتِ الأَلِفُ واللَّامُ للِحَصْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِمَكةَ، فَضَمِنَ اللهُ فِي الآيَاتِ كُلِّهَا تَوبَةَ مَنْ عَمِلَ السُوءَ بجَهَالَةٍ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا وَقَعَت بِشرُوطِهَا، فَإِنَّهَا تَعقُبُ المَغْفِرةَ بِطَرِيقِ الفَضْلِ مِنَ اللهِ لَا بِطَرِيقِ الوُجُوبِ عَلَيهِ، إِذْ لَا يَجِبُ للمَخلُوقِ عَلَى الخَالِقِ شَيءٌ، ثُمَّ تَعَلَمُ أَنَّ مِنْ كُلِّ ذَنبٍ تَصِحُّ التَّوْبَةُ وَيَرجِعُ العَبدُ المُذْنِبُ كَمَنْ لَا ذَنبَ لَهُ، وَوَقَعَ التَعرِيضُ بِإبلِيسَ وَمَنْ كَفَرَ كُفرَهُ، وَسَلَكَ مِثلَ سَبيلِهِ مِنْ أحبَارِ اليَهُودِ والنَّصَارَى، الذِين تَعَمَّدُوا التَّكْذِيبَ، واسْتَمرُّوا عَلَيهِ بِمَا أَتَوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَبَقِيَ مَنْ تَعمَّدَ وَلَمْ يُكَذَّبْ فِي المَشِيئَةِ، وَنَصَّ فِي (النِّسَاءِ) عَلَى أَنَّ آخِرَ أَمَدِ قَبُولِ التَّوْبَةِ المَوتُ وَهُوَ عِندَ المُعَايَنَةِ وَحُضُورِ اليَقِينِ للمُحْتَضِرِ بِأنَّهُ يَمُوتُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَولِهِ الحَقَّ: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ﴾ [غافر: 84، 85]، وَالقُربُ فِي حَقِّ كُلِّ مُكَلَّفٍ مَا لم يُحْتَضَرْ، وَفِي حَقِّ الجَمِيعِ ظُهُورُ الآيَاتِ الَّتِي أَخبَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بظُهَورِهَا، وَعَرَّضَ القُرْآنُ بِهَا، مِنهَا مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَابَ قَبلَ أَنْ تَطلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغرِبِهَا تَابَ اللهُ عَلَيهِ"[41]، وَقَدْ أَتَينَا عَلَى هَذَا المَعنَى فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ - مُستَوفًى[42].
*
كَمَالُ تَوْبَة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ الخَلقِ وأَكْرَمُهُم عَلَى اللهِ، وَهُوَ المُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ الخَلْقِ فِي أَنوَاعِ الطَاعَاتِ، فَهُوَ أَفضَلُ المُحِبِّينَ للهِ، وَأَفضَلُ المُتَوكِّلِينَ عَلَى اللهِ، وَأفضَلُ العَابِدِينَ لَهُ، وأفضَلُ العَارِفِينَ بِهِ، وَأَفضَلُ التَّائبيِنَ إِلَيْهِ، وَتَوبَتُهُ أَكْمَلُ مِنْ تَوبَةِ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَرَ.
*
وَبَهَذِهِ المَغْفِرَةِ نَالَ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ القِيامَةِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "إِنَّ النَاسَ يَوَمَ القِيَامَةِ يَطْلُبُونَ الشَّفَاعَةَ مِنْ آدَمَ، فَيَقولُ: إنِّي نُهِيتُ عَنِ الأَكْلِ مِنَ الشَّجَرِةِ فَأَكَلْتُ مِنْهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، وَيَطْلُبُونَهَا مِنْ نُوحٍ فيقُولُ: إِنِّي دَعَوتُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ دَعْوَةً لَمْ أُومَرْ بِهَا نفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، وَيَطْلُبُونَهَا مِنَ الخَلِيلِ، ثُمَّ مِنْ مُوسَى، ثُمَّ مِنَ المَسِيحِ فيقُولُ: اذهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ عبدٌ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تقدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ"، قَالَ: "فيأتُونِي فَأنْطَلِقُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبَّي خَرَرْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَأحْمَدُ رَبِّي بمحَامِدَ يَفتحُهَا عَلَيَّ لاَ أُحْسِنُهَا الآنَ، فَيقُولُ: أَيْ مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وسَلْ تُعْطَ، واشفَعْ تُشَفَّعْ، فَأقُولُ: أَيْ ربِّ أَمَّتِي! فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فأُدخِلُهُمُ الجَنَّةَ".
*
فَالمَسِيحُ صلواتُ اللهِ عليهِ وسلامُهُ دَلَّهم عَلَى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْبَرَ بكمَالِ عُبُودِيَّتِهِ للهِ، وكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللهِ لَهُ، إِذْ لَيْسَ بينَ المَخْلُوقِينَ والخَالِقِ نَسَبٌ إِلَّا مَحْضَ العُبُودِيَّةِ والافتِقَارِ مِنَ العَبْدِ، وَمَحْضَ الجُودِ والإِحسَانِ مِنَ الرَّبِّ عز وجل.
*
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحيحِينِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ يَدْخُلَ أحدٌ مِنْكُمُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ"، قَالُوا: وَلاَ أَنتَ يَا رسولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغمدَّنِيَ اللهُ برحمةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ".
*
وثَبَتَ عَنْهُ فِي الصحيحِ؛ أَنَّهُ كَانَ يقولُ: "يَأَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى ربِكُم فَوَالَّذِي نَفْسِي بيدهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وأتوبُ إِلَيْهِ فِي اليومِ أكثرَ مِنْ سَبْعِينَ مرةٍ".
*
وثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ؛ أنَّهُ قَالَ: "إِنَّهُ ليُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وإنِّي لأستغفرُ اللهَ فِي اليومِ مائةَ مَرَّةٍ" فَهُوَ صلى الله عليه وسلم لِكَمَال عُبُودِيَّتِهِ للهِ، وكَمَالِ مَحَبَّتِهِ لَهُ، وافتقَارِهِ إِليهِ، وكَمَالِ توبَتِهِ واستغفَارِهِ صَارَ أَفضلَ الخَلْقِ عندَ اللهِ؛ فَإِنَّ الخَيْرَ كلَّهُ مِنَ اللهِ، وليسَ للمخلُوقِ مِنْ نفسِهِ شيءٌ، بَلْ هُوَ فقيرٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، واللهُ غَنِيٌّ عِنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، مُحْسِنٌ إليهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكُلَّمَا ازدَادَ العبدُ تَواضُعًا وعبودِيَّةً ازدَادَ إِلَى اللهِ قُرْبًا ورِفْعَةً، ومِنْ ذَلِكَ تَوبَتُهُ واستغفَارُهُ.
*
وَفِي الحديثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"، رواهُ ابنُ مَاجَه والترمذيُّ[43].
*
معاني إيمانية لاسم الله التواب:
يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تَعَالَى:
"يَا ويلَهُ ظَهِيرًا للشيطانِ عَلَى ربهِ، خصمًا للهِ معَ نفسِهِ، جَبْرِيَّ المعاصِي، قدَرِيَّ الطاعاتِ[44]، عَاجِزُ الرأيِّ، مِضْياعٌ لفرصَتِهِ، قاعدٌ عِنْ مصالِحِهِ، معاتِبٌ لأَقْدَارِ ربهِ، يحتجُّ عَلَى ربِّهِ بِمَا لَا يقبَلُهُ مِنْ عبدِهِ وامرأتِهِ وأمَتِهِ، إذَا احتجُّوا بِهِ عليهِ فِي التهاونِ فِي بعضِ أمرِهِ، فَلَوْ أمرَ أحدَهُم بأمرٍ ففرَّطَ فِيهِ، أَوْ نَهَاهُ عِنْ شيءٍ فارتكَبهُ، وقَالَ: القَدَرُ ساقَنِي إِلَى ذَلِكَ لَمَا قَبِلَ منهُ هَذِهِ الحُجَّةَ، ولبادَرَ إِلَى عقوبَتِهِ.
*
فَإِنْ كَانَ القدرُ حجةً لكَ أيُّهَا الظالِمُ الجَاهِلُ فِي تَرْكِ حقِّ رَبِكَ، فَهَلاَّ كَانَ حجةً لعبدِكَ وأمَتِكَ فِي تَرْكِ بعضِ حَقِّكَ؟ بَلْ إِذَا أَسَاءَ إِليكَ مسيءٌ، وَجَنَى عليكَ جَانٍ، واحتجَّ بالقَدَرِ لاشتدَّ غضبُكَ عَلَيْهِ، وتضاعَفَ جُرمُهُ عندَكَ، ورأيتَ حجتَهُ داحضةً، ثُمَّ تَحْتَجُّ عَلَى ربِّكَ بِهِ، وتراهُ عُذْرًا لِنَفْسِكَ؟! فَمَنْ أَوْلَى بالظُّلْمِ والجَهْلِ ممنْ هَذِهِ حالُهُ؟
*
هَذَا مَعَ تَواتُرِ إِحسانِ اللهِ إِليكَ عَلَى مَدَى الأنفاسِ، أزاحَ عِللكَ، ومَكَّنكَ مِنَ التزودِ إلَى جَنَّتِهِ، وبعثَ إليكَ الدليلَ، وأعطاكَ مؤنةَ السفرِ، ومَا تتزودُ بِهِ، ومَا تحاربُ بِهِ قُطَّاعَ الطريقِ عليكَ فأعطاكَ السمعَ والبصرَ والفؤادَ، وعَرَّفكَ الخيرَ والشرَّ، والنافِعَ والضَّارَّ، وأرسَلَ إليكَ رسولَهُ، وأنزلَ إليكَ كتابَهُ، ويسَّرَهُ للذِّكْرِ والفَهْمِ والعَمَلِ، وأعانَكَ بمَدَدٍ مِنْ جُنْدِهِ الكِرَامِ، يُثَبِّتُونَكَ ويَحْرُسُونَكَ، ويحارِبُونَ عَدُوَّكَ ويطردُونَهُ عَنْكَ، ويُريدُونَ مِنْكَ أَنْ لَا تَمِيلَ إليهِ وَلَا تصالِحَهُ، وهُم يكْفُونَكَ مؤْنَتَهُ وأَنْتَ تَأبي إلَّا مظاهَرَتَهُ عَلَيْهِم، وموالاتِهِ دونَهُم، بَلْ تُظاهِرُهُ وتوالِيهِ دونَ وَليِّكَ الحَقَّ الذِي هُوَ أولَى بِكَ! قَالَ الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ [الكهف: 50] طردَ إبليسَ عِنْ سمائِهِ، وأخرجَهُ مِنْ جَنَّتِهِ، وأبعَدَهُ مِنْ قُرْبِهِ، إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لَكَ، وأَنتَ فِي صُلبِ أبيكَ آدمَ، لِكَرَامَتِكَ عَلَيهِ، فَعَادَاهُ وأبعدَهُ، ثُمَّ وَالَيْتَ عَدُوَّهُ، ومِلْتَ إليهِ وصَالَحْتَهُ، وتتظلَّمُ مَعَ ذَلِكَ وَتَشْتَكِي الطَّرْدَ والإبعَادَ، وتقولُ:
عَوَّدُوني الوصالَ والوَصْلُ عَذْبٌ ♦♦♦ وَرَمَوْنِي بالصَّدِّ والصَّدُّ صَعْبٌ
*
نَعَمْ، وكَيْفَ لاَ يَطْردُ مَنْ هَذِهِ مُعَامَلتُهُ؟ وكيفَ لا يُبْعِدُ عِنْهُ مِنْ كَانَ هَذَا وَصْفُهُ؟ وكيفَ يجعَلُ مِنْ خَاصَّتِهِ وأهلِ قُربِهِ مَنْ حَالُهُ مَعَهُ هَكَذَا؟ قَدْ أفسَدَ مَا بينَهُ وبينَ اللهِ وَكَدَّرَهُ!!
*
أمرَهُ اللهُ بشُكْرِهِ، لاَ لِحَاجَتِهِ إِليهِ، ولكِنْ لينَالَ بِهِ المَزِيدَ مِنْ فضلِهِ، فَجَعَلَ كُفْرَ نِعَمِهِ، والاستعانَةَ بِهَا عَلَى مَسَاخِطِهِ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ صَرْفِهَا عَنْهُ.
*
وأَمَرَهُ بِذِكْرِهِ ليذْكُرَهُ بإحسَانِهِ، فَجَعَلَ نِسْيَانَهُ سَبَبًا لنِسْيَانِ اللهِ لَهُ ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [الحشر: 19]، ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67]، أمَرَهُ بِسُؤالِهِ ليُعْطِيَهُ، فَلَمْ يَسْأَلْهُ، بَلْ أَعَطَاهُ أجَلَّ العَطَايَا بِلاَ سُؤَالٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ، يَشْكُو مَنْ يرحمُهُ إِلى مَنْ لا يرحمُهُ! وَيَتَظَّلمُ ممّن لا يَظْلمُهُ ويَدَعُ مَنْ يُعَادِيهِ وَيَظْلِمُهُ! إِنْ أَنْعَمَ عَلَيهِ بِالصِّحَّةِ والعَافِيَةِ والمَالِ والجَاهِ استعَانَ بِنِعَمِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ! وإِنْ سَلَبَ ذَلِكَ ظَلَّ متسخطاً عَلَى ربِّهِ وهُوَ شَاكِيهِ! لَا يَصْلُحُ لَهُ عَلَى عَافِيَةٍ، ولا عَلَى ابتلاءٍ! العافيةُ تُلقِيهِ إِلَى مَسَاخِطِهِ، والبَلاءُ يدفَعُهُ إلَى كُفْرانِهِ وجُحُودِ نِعْمَتِهِ، وشَكَايَتِهِ إِلَى خَلْقِهِ!
*
دَعَاهُ إلَى بَابِهِ فَمَا وَقَفَ عَلَيْهِ ولَا طَرَقَهُ، ثُمَّ فَتَحَهُ لَهُ فَمَا عَرَّجَ عَلَيْهِ وَلَا ولَجَهُ! أَرَسَلَ إِلَيْهِ رَسُولَهُ يَدْعُوهُ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، فَعَصَى الرَّسُولَ، وَقَالَ: لَا أبيعُ نَاجِزًا بغَائِبٍ، ونَقْدًا بنَسيئَةٍ، وَلَا أَتْرُكُ مَا أَرَاهُ لشَيءٍ سَمِعْتُ بِهِ! ويقُولُ:
خُذْ مَا رَأَيْتَ ودَعْ شيئًا سمعتَ بِهِ ♦♦♦ فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ مَا يُغْنيكَ عَنْ زُحَلِ
*
فَإنْ وافَقَ حَظُّهُ طَاعَةَ الرسولِ أطاعَهُ لنَيْلِ حَظِّهِ، لَا لِرِضَا مُرسِلِهِ، لَمْ يَزَلْ يَتَمَقَّتُ إِلَيْهِ بمعَاصِيهِ، حَتَّى أَعرضَ عَنْهُ، وأَغْلَقَ البَابَ فِي وَجْهِهِ.
*
وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُؤيسُهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، بَلْ قَالَ: مَتَي جِئْتَنِي قَبِلْتُكَ، أَتيْتَنِي ليلًا قبلتُك، وإِنْ أَتَيْتَنِي نَهَارًا قبلتُكَ، وإِنْ تَقربْتَ مِنِّي شِبْرًا تَقَربْتُ منكَ ذِرَاعًا، وإِنْ تقربتَ منِّي ذِرَاعًا تقربتُ مِنْكَ بَاعًا، وإِنْ مشيتَ إِليَّ هرولْتُ إليكَ، ولو لقِيتَني بِقُرابِ الأرضِ خَطَايا ثم لقيتني لا تشركَ بي شيئًا أتيتك بقُرابها مغفرةً، وَلو بَلَغَتْ ذنوبُكَ عنانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ استغفرتَنِي غفرتُ لكَ، وَمَنْ أَعظَمُ مِنِّي جُودًا وكَرَمًا؟
*
عبادِي يُبارزُونَنِي بالعَظَائِمِ، وأَنَا أكلَؤهُم عَلَى فُرُشِهم، إِنِّي والجنُّ والإنسُ فِي نبأٍ عَظِيمٍ: أَخْلُقُ ويُعْبَدُ غَيْرِي، وأَرْزُقُ ويُشْكُرُ سِوَايَ، خَيْرِي إِلَى العِبَادِ نَازِلٌ، وَشَرُّهُم إِلَيَّ صَاعِدٌ، أَتحبَّبُ إِلَيْهِمْ بِنعَمِي، وأَنَا الغنيُّ عَنْهُم، وَيَتَبَغَّضُونَ إِلَيَّ بالمَعَاصِي، وهُم أَفقرُ شيءٍ إِلَيَّ!!
*
مَنْ أقْبَلَ إِلَيَّ تلقَّيتُهُ مِنْ بَعِيدٍ، ومَنْ أَعْرَضَ عَنِّي نادَيتُهُ مِنْ قَرِيبٍ، ومَنْ تَرَكَ لأَِجْلِي أَعطيتُهُ فَوْقَ المَزِيدِ، ومَنْ أَرَادَ رِضَايَ أَردتُ مَا يُرِيدُ، ومَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِي وقُوَّتِي ألنتُ لهُ الحَدِيدَ.
*
أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَستِي، وأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي، وأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي، وأَهْلُ مَعْصِيَتِي لاَ أُقَنِّطُهُم مِنْ رَحْمَتِي، إنْ تَابُوا إِلَيَّ فَأَنَا حَبِيبُهُم، فَإِنِّي أُحِبُّ التَّوَّابِينَ وأُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ، وإِنْ لَمْ يَتُوبُوا إِلَيَّ فَأَنَا طَبِيبُهُم، أبتليهِم بالمصائِبِ؛ لأُطَهَرهُم مِنَ المعايِبِ.
*
مَنْ آثَرنِي عَلَى سِوَايَ آثرتُهُ عَلَى سِوَاهُ، الحسنةُ عِندِي بعَشْرِ أمثالِهَا إِلَى سبعِمائةِ ضعفٍ، إِلَى أَضعافٍ كثيرةٍ، والسَّيِّئَةُ عِندِي بواحِدَةٍ، فَإِنْ نَدِمَ عَلَيْهَا واستغفَرَنِي غَفَرْتُهَا لَهُ.
*
أشكُرُ اليسيرَ مِنَ العَمَل، وأغفرُ الكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ، رحمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، وحِلْمِي سَبَقَ مُؤاخَذَتِي، وعَفْوِي سَبَقَ عُقُوبَتِي، أَنَا أَرْحَمُ بعَبْدِي مِنَ الوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، "للهُ أشدُّ فَرحًا بتوبَةِ عبدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضلَّ راحِلَتَهُ بأرضِ مَهْلَكةٍ دَوِّيةٍ عَلَيْهَا طعامُهُ وشَرَابُهُ، طَلَبَهَا حَتَّى إِذَا أَيِسَ مِنْ حُصُولِهَا، نامَ فِي أَصلِ شجرةٍ ينتَظرُ الموتَ، فاستيقظَ فإِذَا هِي عَلَى رأسِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ خِطامُهَا بالشجرَةِ، فَاللهُ أَفرحُ بتوبةِ عبدِهِ مِنْ هَذَا براحِلَتِهِ".
*
وَهَذِهِ فرحةُ إِحْسَانٍ وبرٍّ ولُطْفٍ، لَا فَرْحَةَ محتاجٍ إِلَى توبَةِ عبدِهِ، منتفعٍ بِهَا، وكذلكَ موالاتُهُ لعبدِهِ إِحسَانًا إِليهِ، ومحبةً لهُ وبِرًّا بهِ، لَا يتكثَّرُ بِهِ مِنْ قِلَّةٍ، ولَا يتعزَّزُ بهِ مِنْ ذلَّةٍ، ولَا ينتَصِرُ بهِ مِنْ غَلَبةٍ، ولَا يعدُّهُ لنائِبَةٍ، ولَا يستعينُ بهِ فِي أَمرٍ ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]، فَنَفى أَنْ يكونَ لَهُ وليٌّ مِنَ الذُّلِّ، واللهُ وليُّ الذينَ آمنوا، وهُم أولياؤُهُ.
*
فَهَذَا شأنُ الرَّبِّ وشأنُ العبدِ، وَهُم يقيمونَ أعذارَ أنفسِهِم، ويحملُونَ ذنوبَهم عَلَى أقدارِهِ[45].
[1] أسماء الله الحسنى للرضواني (2/ 63 - 64).
[2] المفردات (ص: 76)، ولسان العرب (1/ 233)، التعاريف (ص: 74)، وزاد المسير (1/ 70).
[3] المفردات (ص: 76)، وكتاب العين للخليل بن أحمد (8/ 138)، وتفسير أسماء الله الحسنى (ص: 62).
[4] انظر: الرعاية لحقوق الله للمحاسبي (ص: 68)، وإحياء علوم الدين (4/ 2)، وعوارف المعارف (ص: 487).
[5] مسلم في التوبة، باب قبول التوبة (4/ 213) (2759).
[6] الترمذي في الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار (5/ 547) (3537)، وانظر: حُكم الشيخ الألباني على الحديث في صحيح الجامع (4338).
[7] الموضع السابق (5/ 548) (3540).
[8] مسلم في التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها (4/ 2102) (2675).
[9] مدارج السالكين (1/ 312).
[10] المقصد الأسنى (139).
[11] النهج الأسمى (2/ 182-204).
[12] جامع البيان (11/ 41) بسند ٍحسنٍ عنه.
[13] مجاز القرآن (1/ 39).
[14] جامع البيان (1/ 195).
[15] تفسير أسماء الله (ص: 62).
[16] اشتقاق الأسماء (ص: 63).
[17] شأن الدعاء (ص: 90).
[18] المنهاج (1/ 206)، وذكره في الأسماء التي تتبع إثباتَ التدبير له دون ما سواه، ونقَله البيهقي في الأسماء (ص: 78).
[19] الاعتقاد (ص: 64).
[20] (ص: 88)، ونحوه في روح المعاني للألوسي (1/ 237).
[21] تيسير الكريم الرحمن (5/ 300).
[22] الكتاب الأسنى (ورقة 377 ب).
[23] المصدر السابق (ورقة 377ب - 378أ).
[24] وهذا لا يعني أن الإنسان ليست له مشيئة، فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]. فالإنسان فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة واختيار، وقدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع والأسباب، ودل على ذلك الشرع والعقل. انظر: مجموع الفتاوى (30/ 139).
[25] الكتاب الأسنى (378ب - 379أ).
ونحو هذا ما قاله ابن القيم في المدارج (1/ 179): "ولما كانت التوبة هي رجوع العبد إلى الله، ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين، وذلك لا يحصل إلا بهداية الله إلى الصراط المستقيم، ولا تحصل هدايته إلا بإعانته وتوحيده فقد انتظمتها سورة الفاتحة أحسَن انتظام...".
[26] أخرجه البخاري في الأذان (2/ 317)، وفي الدعوات (11/ 131)، ومسلم في الذكر والدعاء (4/ 2078) من طرق، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو، عن أبي بكر؛ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: "قل: اللهم إني ظلمتُ...".
وأخرجه البخاري في التوحيد (13/ 372)، ومسلم (4/ 2078) عن ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب؛ به. وجاءت هذه العبارة أيضًا في دعاء الاستفتاح: "وجهتُ وجهي..."، ودعاء سيِّد الاستغفار.
[27] جامع البيان (11/ 41).
[28] المصدر السابق (1/ 195).
[29] روح المعاني (1/ 238).
[30] جامع البيان (18/ 68).
[31] معالم التنزيل (5/ 56) بهامش تفسير الخازن، وبنحوه مختصرًا قال الخازن في تفسيره، الصفحة نفسها.
[32] روح المعاني (18/ 111) باختصار يسير.
[33] اشتقاق الأسماء (ص: 63 - 64)، وانظر القرطبي (1/ 326).
[34] (ص: 76)، وكذا ما سيأتي من كلام السعدي.
[35] مفردات الراغب الأصفهاني (ص: 76).
[36] مدارج السالكين (1/ 178 - 179).
[37] أسماء الله الحسنى لابن القيم، إعداد عماد بن البارودي (131 - 135).
[38] صحيح: أخرجه ابن ماجه (4252) في الزهد، باب: ذكر التوبة، من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وقال الألباني في صحيح الجامع (6802): صحيح.
[39] الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي (1/ 407).
[40] الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 78).
[41] صحيح: أخرجه مسلم (2703) في الذكْر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار.
[42] الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي (1/ 416).
[43] حسَن: رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وحسَّنه الألباني.
[44] أي: إذا فعَل المعاصي احتجَّ بأنه مجبور عليها، وإنْ فعَل الطاعات نسَبَها لنفسه وقدْرته؟!
[45] مدارج السالكين (1/ 192 - 195).
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي