فريق منتدى الدي في دي العربي
11-22-2017, 05:18 PM
مذهب اهل السنة في الالفاظ المجملة الجهة والحد
قال شيخ الاسلام رحمه الله: (يقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق، فالله ليس داخلاً في المخلوقات. أم تريد بالجهة ما وراء العالم، فلا ريب أن الله فوق العالم بائن من المخلوقات.
وكذلك يقال لمن قال: إن الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم، أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات، فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل) .
وفي استفصاله في لفظ المتحيز: إن أراد مطلق اللفظ: أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض، فقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر: 67] .
وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات: أي مباين لها منفصل عنها، ليس حالاً فيها فهو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه
وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي ، رحمه الله :
" وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَدَّ يُقَالُ عَلَى مَا يَنْفَصِلُ بِهِ الشَّيْءُ وَيَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ حَالٍّ فِي خَلْقِهِ ، وَلَا قَائِمٍ بِهِمْ ، بَلْ هُوَ الْقَيُّومُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ ، الْمُقِيمُ لِمَا سِوَاهُ ، فَالْحَدُّ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُنَازَعَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ نَفْيِهِ إِلَّا نَفْيُ وُجُودِ الرَّبِّ وَنَفْيُ حَقِيقَتِهِ.
وَأَمَّا الْحَدُّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ، وَهُوَ أَنْ يَحُدَّهُ الْعِبَادُ، فَهَذَا مُنْتَفٍ بِلَا مُنَازَعَةٍ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ، سَمِعْتُ مَنْصُورَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيَّ، سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيَّ يَقُولُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ فَقَالَ: ذَاتُ اللَّهِ مَوْصُوفَةٌ بِالْعِلْمِ، غَيْرُ مُدْرَكَةٍ بِالْإِحَاطَةِ، وَلَا مَرْئِيَّةٍ بِالْأَبْصَارِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ، مِنْ غَيْرِ حَدٍّ وَلَا إِحَاطَةٍ وَلَا حُلُولٍ، وَتَرَاهُ الْعُيُونُ فِي الْعُقْبَى، ظَاهِرًا فِي مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَقَدْ حَجَبَ الْخَلْقَ عَنْ مَعْرِفَةِ كُنْهِ ذَاتِهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ بِآيَاتِهِ، فَالْقُلُوبُ تَعْرِفُهُ، وَالْعُيُونُ لَا تُدْرِكُهُ، يَنْظُرُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُ بِالْأَبْصَارِ، مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا إِدْرَاكِ نِهَايَةٍ." .
انتهى من "شرح العقيدة الطحاوية" (1/263-264) .
وينظر جواب السؤال رقم : (127681) .
ثانيا :
لفظ " الجهة " أيضا من الألفاظ المجملة ، فمن قصد بها إثبات جهة العلو لله تعالى ، فهو إطلاق صحيح ، ومن قصد بها حصر الله تعالى في جهة ، بحيث إنه يحيط به شيء من مخلوقاته : فإطلاقه الجهة على الله بهذا المعنى باطل .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" جاء في بعض كتب أهل الكلام يقولون: لا يجوز أن يوصف الله بأنه في جهة مطلقا، وينكرون العلو ظنا منهم أن إثبات الجهة يستلزم الحصر.
وليس كذلك، لأننا نعلم أن ما فوق العرش عدم لا مخلوقات فيه، ما ثم إلا الله، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته أبدا
فالجهة إثباتها لله فيه تفصيل، أما إطلاق لفظها نفيا وإثباتا فلا نقول به؛ لأنه لم يرد أن الله في جهة، ولا أنه ليس في جهة، ولكن نفصل، فنقول: إن الله في جهة العلو؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للجارية: (أين الله؟) وأين يستفهم بها عن المكان؛ فقالت: في السماء. فأثبتت ذلك، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (أعتقها، فإنها مؤمنة) .
فالجهة لله ليست جهة سفل، وذلك لوجوب العلو له فطرة وعقلا وسمعا، وليست جهة علو تحيط به؛ لأنه تعالى وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو موضع قدميه؛ فكيف يحيط به تعالى شيء من مخلوقاته؟! .
فهو في جهة علو لا تحيط به، ولا يمكن أن يقال: إن شيئا يحيط به، لأننا نقول: إن ما فوق العرش عدم ليس ثم إلا الله - سبحانه -" .
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (10/ 1131) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" يُقَالُ لِمَنْ نَفَى الْجِهَةَ: أَتُرِيدُ بِالْجِهَةِ أَنَّهَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ؟ فَاَللَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ . أَمْ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ؟ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَات ِ .
وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ قَالَ : اللَّهُ فِي جِهَةٍ: أَتُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ؟ أَوْ تُرِيدُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ دَاخِلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ؟ فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّلَ فَهُوَ حَقٌّ ، وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِيَ فَهُوَ بَاطِلٌ " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (3/ 42) .
فمن قال : إن الله لا تحده الجهات ، وعنى بذلك أنه سبحانه مباين من خلقه ، وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته : فهذا حق .
وإن قصد نفي علو الله تعالى واستوائه على عرشه وفوقيته على خلقه : فهذا باطل.
ولذلك لما قال الإمام الطحاوي رحمه الله في "عقيدته"
" لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات " .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله معلقا عليه :
" مراده الجهات الست المخلوقة، وليس مراده نفي علو الله واستوائه على عرشه، لأن ذلك ليس داخلاً في الجهات الست، بل هو فوق العالم ومحيط به، وقد فطر الله عباده على الإيمان بعلوه سبحانه، وأنه في جهة العلو " .
انتهى من "التعليقات الأثرية على العقيدة الطحاوية" (ص 16) بترقيم الشاملة .
وقال ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية :
"أَذْكُرُ بَيْنَ يَدَيِ الْكَلَامِ عَلَى عِبَارَةِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ مُقَدِّمَةً، وَهِيَ: أَنَّ النَّاسَ فِي إِطْلَاقِ مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: فَطَائِفَةٌ تَنْفِيهَا، وَطَائِفَةٌ تُثْبِتُهَا، وَطَائِفَةٌ تُفَصِّلُ، وَهُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِلسَّلَفِ، فَلَا يُطْلِقُونَ نَفْيَهَا وَلَا إِثْبَاتَهَا إِلَّا إِذَا بُيِّنَ مَا أُثْبِتَ بِهَا فَهُوَ ثَابِتٌ، وَمَا نُفِيَ بِهَا فَهُوَ مَنْفِيٌّ. لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرِي نَ قَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ فِيهَا إِجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ، كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الِاصْطِلَاحِيّ َةِ، فَلَيْسَ كُلُّهُمْ يَسْتَعْمِلُهَا فِي نَفْسِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ. وَلِهَذَا كَانَ النُّفَاةُ يَنْفُونَ بِهَا حَقًّا وَبَاطِلًا، وَيَذْكُرُونَ عَنْ مُثْبِتِيهَا مَا لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَبَعْضُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا يُدْخِلُ فِيهَا مَعْنًى بَاطِلًا، مُخَالِفًا لِقَوْلِ السَّلَفِ، وَلِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالْمِيزَانُ. وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ بِنَفْيِهَا وَلَا إِثْبَاتِهَا، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، وَإِنَّمَا نَحْنُ مُتَّبِعُونَ لَا مُبْتَدِعُون ...
ثم قال :
" وَقَوْلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَات ِ) هُوَ حَقٌّ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ: أَنَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ. فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَات ِ) وَقَوْلُهُ: (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ) عُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَحْوِيهِ شَيْءٌ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ، كَمَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ، الْعَالِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ.
لَكِنْ بَقِيَ فِي كَلَامِهِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِطْلَاقَ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ - مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ وَالِاحْتِمَالِ - كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى، وَإِلَّا تَسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَأَلْزَمَ بِالتَّنَاقُضِ فِي إِثْبَاتِ الْإِحَاطَةِ وَالْفَوْقِيَّة ِ وَنَفْيِ جِهَةِ الْعُلُوِّ، وَإِنْ أُجِيبَ عَنْهُ بِمَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا نَفَى أَنْ يَحْوِيَهُ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَالِاعْتِصَامُ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْلَى.
الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: (كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَات ِ) يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مَا مِنْ مُبْتَدَعٍ إِلَّا وَهُوَ مَحْوِيٌّ وَفِي هَذَا نَظَرٌ. فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ مَحْوِيٌّ بِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ، فَمَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْعَالَمَ لَيْسَ فِي عَالَمٍ آخَرَ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ أَرَادَ أَمْرًا عَدَمِيًّا، فَلَيْسَ كُلُّ مُبْتَدَعٍ فِي الْعَدَمِ، بَلْ مِنْهَا مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي غَيْرِهِ، كَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي الْكُرْسِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُنْتَهَى الْمَخْلُوقَاتِ ، كَالْعَرْشِ. فَسَطْحُ الْعَالَمِ لَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ ، قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ: بِأَنَّ (سَائِرَ) بِمَعْنَى الْبَقِيَّةِ، لَا بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، وَهَذَا أَصْلُ مَعْنَاهَا، وَمِنْهُ (السُّؤْرُ) ، وَهُوَ مَا يُبْقِيهِ الشَّارِبُ فِي الْإِنَاءِ. فَيَكُونُ مُرَادُهُ غَالِبَ الْمَخْلُوقَاتِ ، لَا جَمِيعَهَا، إِذِ السَّائِرُ عَلَى الْغَالِبِ أَدَلُّ مِنْهُ عَلَى الْجَمِيعِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيْرُ مَحْوِيٍّ - كَمَا يَكُونُ أَكْثَرُ الْمَخْلُوقَاتِ مَحْوِيًّا، بَلْ هُوَ غَيْرُ مَحْوِيٍّ - بِشَيْءٍ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَلَا نَظُنُّ بِالشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مِمَّنْ يَقُولُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ بِنَفْيِ النَّقِيضَيْنِ، كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ، بَلْ مُرَادُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُفْتَقِرًا إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، الْعَرْشِ أَوْ غَيْرِهِ" انتهى من "شرح العقيدة الطحاوية" (1/262) وما بعدها .
والله تعالى أعلم .
موقع الإسلام سؤال وجواب بتصرف
قال الشيخ في تعليقه على مصرع التصوف البقاعي
في التصريح بنفي الاتصال والانفصال معا في آن واحد، وعن ذات واحدة خلل منطقي. فهما يتقابلان تقابل السلب والإيجاب، فيلزم من انتفاء أحدهما ثبوت الآخر. وفيهما أيضا إجمال واشتباه، فقد يعني بالانفصال أنه سبحانه بائن من خلقه مستو على عرشه، ليس كمثله شيء. وهذا حق يؤمن به من أسلم قلبه لله، ووحده توحيدا صادقا في ربوبيته وآمن بأسمائه وصفاته كما هي في القرآن والسنة.
وقد يعني بالانفصال أنه سبحانه لا يتصل بالعالم صلة خلق أو تدبير، أو علم منه سبحانه، أعني نفي كونه خالقا عليما يدبر الأمر, أو أنه سبحانه ليس لإرادته، أو قدرته أثر في مقادير الوجود، وغير ذلك مما يدين به الفلاسفة، ومرادهم منه =
(1/30)
قلت: فكيف بمن يصرح بأنه 1 عين كل شيء؟ قال: "والرضى بالكفر كفر". قلت: فكيف بمن يصوب كل كفر، وينسب ذلك التصويب إلى نقل الله تعالى له عن نبيه هود عليه السلام؟
ويقول: إن الضلال أهدى من الهدى؛ لأن الضال حائر، والحائر دائر
__________
= نفى الخالق القادر المريد المختار. وهذا كف ر يجحد بالربوبية والإلهية.
وكذلك الاتصال: فقد يراد به أن سبحانه يدبر الكون، ويصرف الليل والنهار، ويسخر الشمس والقمر، ويحيط علمه بكل شيء كليا كان أو جزئيا، وتشمل قدرته كل شيء، وغير هذا مما يشهد بكمال الربوبية. وهذا حق لا يتم الإيمان إلا به. وقد يعني به مفهومه الصوفي، أي: إنه سبحانه حال في كل شيء، أو متحد بكل شيء، أو إنه عين كل شيء، أو إنه هو الوجود الساري في كل موجود، ومن يدين بهذا فهو زنديق، أو مجوسي، أو بتعبير أدق: صوفي. فالصوفية مرادفة لكل ما يناقض الإيمان الحق، والتوحيد الحق. لذا يجب على كل من يخبر عن الله أو صفاته أو أسمائه أن يلتزم حدود ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر الرسول به عن ربه. وإلا تزندق، أو تمجس كالصوفية، وألحد كالفلاسفة، وضل كالمتكلمين, ألم تر إلينا نحن البشر كيف نعيب فلانا بأنه لم يكن دقيق التعبير عن المذهب الفلسفي أو الأخلاقي، أو الفنى لفلان، أولم يكن مهذبا فيما تحدث به عن فلان، أوخاطب به فلانا، بل قد نذهب في مذمته كل مذهب، حتى نتهمه بالعي والفهاهة والسفه، فكيف -ولله المثل الأعلى- نطلق للقلم العنان فيما يكتب عن الله، مما يصوره له الأفن والوهم عن ذات الله وصفاته؟ وكيف نستبيح -سادرين- الإخبار عن الله سبحانه بما لا يجب، وما لا يرضي، وما لم يخبر به عن نفسه. ونصف هذه الجرأة الكافرة بأنها حرية فكرية أو تجاوب مع العقل، أو استيحاء من الذوق!! ولقد كان من نتائج هذه الحرية المزعومة -والحق أنها عبودية للوهم وللشيطان- أن آمن بعض الناس برب لا يوصف إلا بالسلب، أي: بالعدم نعتوه ربا. أو برب هو عين العبد. أو بإله يجب أن يعبد في كل شي؛ لأنه عين كل شي، فلتمجد العبودية ربوبية الله، بما يحب سبحانه وحده أن تمجد به.
قال شيخ الاسلام رحمه الله: (يقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق، فالله ليس داخلاً في المخلوقات. أم تريد بالجهة ما وراء العالم، فلا ريب أن الله فوق العالم بائن من المخلوقات.
وكذلك يقال لمن قال: إن الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم، أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات، فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل) .
وفي استفصاله في لفظ المتحيز: إن أراد مطلق اللفظ: أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض، فقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر: 67] .
وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات: أي مباين لها منفصل عنها، ليس حالاً فيها فهو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه
وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي ، رحمه الله :
" وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَدَّ يُقَالُ عَلَى مَا يَنْفَصِلُ بِهِ الشَّيْءُ وَيَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ حَالٍّ فِي خَلْقِهِ ، وَلَا قَائِمٍ بِهِمْ ، بَلْ هُوَ الْقَيُّومُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ ، الْمُقِيمُ لِمَا سِوَاهُ ، فَالْحَدُّ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُنَازَعَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ نَفْيِهِ إِلَّا نَفْيُ وُجُودِ الرَّبِّ وَنَفْيُ حَقِيقَتِهِ.
وَأَمَّا الْحَدُّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ، وَهُوَ أَنْ يَحُدَّهُ الْعِبَادُ، فَهَذَا مُنْتَفٍ بِلَا مُنَازَعَةٍ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ، سَمِعْتُ مَنْصُورَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيَّ، سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيَّ يَقُولُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ فَقَالَ: ذَاتُ اللَّهِ مَوْصُوفَةٌ بِالْعِلْمِ، غَيْرُ مُدْرَكَةٍ بِالْإِحَاطَةِ، وَلَا مَرْئِيَّةٍ بِالْأَبْصَارِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ، مِنْ غَيْرِ حَدٍّ وَلَا إِحَاطَةٍ وَلَا حُلُولٍ، وَتَرَاهُ الْعُيُونُ فِي الْعُقْبَى، ظَاهِرًا فِي مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَقَدْ حَجَبَ الْخَلْقَ عَنْ مَعْرِفَةِ كُنْهِ ذَاتِهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ بِآيَاتِهِ، فَالْقُلُوبُ تَعْرِفُهُ، وَالْعُيُونُ لَا تُدْرِكُهُ، يَنْظُرُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُ بِالْأَبْصَارِ، مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا إِدْرَاكِ نِهَايَةٍ." .
انتهى من "شرح العقيدة الطحاوية" (1/263-264) .
وينظر جواب السؤال رقم : (127681) .
ثانيا :
لفظ " الجهة " أيضا من الألفاظ المجملة ، فمن قصد بها إثبات جهة العلو لله تعالى ، فهو إطلاق صحيح ، ومن قصد بها حصر الله تعالى في جهة ، بحيث إنه يحيط به شيء من مخلوقاته : فإطلاقه الجهة على الله بهذا المعنى باطل .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" جاء في بعض كتب أهل الكلام يقولون: لا يجوز أن يوصف الله بأنه في جهة مطلقا، وينكرون العلو ظنا منهم أن إثبات الجهة يستلزم الحصر.
وليس كذلك، لأننا نعلم أن ما فوق العرش عدم لا مخلوقات فيه، ما ثم إلا الله، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته أبدا
فالجهة إثباتها لله فيه تفصيل، أما إطلاق لفظها نفيا وإثباتا فلا نقول به؛ لأنه لم يرد أن الله في جهة، ولا أنه ليس في جهة، ولكن نفصل، فنقول: إن الله في جهة العلو؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للجارية: (أين الله؟) وأين يستفهم بها عن المكان؛ فقالت: في السماء. فأثبتت ذلك، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (أعتقها، فإنها مؤمنة) .
فالجهة لله ليست جهة سفل، وذلك لوجوب العلو له فطرة وعقلا وسمعا، وليست جهة علو تحيط به؛ لأنه تعالى وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو موضع قدميه؛ فكيف يحيط به تعالى شيء من مخلوقاته؟! .
فهو في جهة علو لا تحيط به، ولا يمكن أن يقال: إن شيئا يحيط به، لأننا نقول: إن ما فوق العرش عدم ليس ثم إلا الله - سبحانه -" .
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (10/ 1131) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" يُقَالُ لِمَنْ نَفَى الْجِهَةَ: أَتُرِيدُ بِالْجِهَةِ أَنَّهَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ؟ فَاَللَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ . أَمْ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ؟ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَات ِ .
وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ قَالَ : اللَّهُ فِي جِهَةٍ: أَتُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ؟ أَوْ تُرِيدُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ دَاخِلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ؟ فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّلَ فَهُوَ حَقٌّ ، وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِيَ فَهُوَ بَاطِلٌ " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (3/ 42) .
فمن قال : إن الله لا تحده الجهات ، وعنى بذلك أنه سبحانه مباين من خلقه ، وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته : فهذا حق .
وإن قصد نفي علو الله تعالى واستوائه على عرشه وفوقيته على خلقه : فهذا باطل.
ولذلك لما قال الإمام الطحاوي رحمه الله في "عقيدته"
" لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات " .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله معلقا عليه :
" مراده الجهات الست المخلوقة، وليس مراده نفي علو الله واستوائه على عرشه، لأن ذلك ليس داخلاً في الجهات الست، بل هو فوق العالم ومحيط به، وقد فطر الله عباده على الإيمان بعلوه سبحانه، وأنه في جهة العلو " .
انتهى من "التعليقات الأثرية على العقيدة الطحاوية" (ص 16) بترقيم الشاملة .
وقال ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية :
"أَذْكُرُ بَيْنَ يَدَيِ الْكَلَامِ عَلَى عِبَارَةِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ مُقَدِّمَةً، وَهِيَ: أَنَّ النَّاسَ فِي إِطْلَاقِ مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: فَطَائِفَةٌ تَنْفِيهَا، وَطَائِفَةٌ تُثْبِتُهَا، وَطَائِفَةٌ تُفَصِّلُ، وَهُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِلسَّلَفِ، فَلَا يُطْلِقُونَ نَفْيَهَا وَلَا إِثْبَاتَهَا إِلَّا إِذَا بُيِّنَ مَا أُثْبِتَ بِهَا فَهُوَ ثَابِتٌ، وَمَا نُفِيَ بِهَا فَهُوَ مَنْفِيٌّ. لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرِي نَ قَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ فِيهَا إِجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ، كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الِاصْطِلَاحِيّ َةِ، فَلَيْسَ كُلُّهُمْ يَسْتَعْمِلُهَا فِي نَفْسِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ. وَلِهَذَا كَانَ النُّفَاةُ يَنْفُونَ بِهَا حَقًّا وَبَاطِلًا، وَيَذْكُرُونَ عَنْ مُثْبِتِيهَا مَا لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَبَعْضُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا يُدْخِلُ فِيهَا مَعْنًى بَاطِلًا، مُخَالِفًا لِقَوْلِ السَّلَفِ، وَلِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالْمِيزَانُ. وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ بِنَفْيِهَا وَلَا إِثْبَاتِهَا، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، وَإِنَّمَا نَحْنُ مُتَّبِعُونَ لَا مُبْتَدِعُون ...
ثم قال :
" وَقَوْلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَات ِ) هُوَ حَقٌّ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ: أَنَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ. فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَات ِ) وَقَوْلُهُ: (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ) عُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَحْوِيهِ شَيْءٌ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ، كَمَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ، الْعَالِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ.
لَكِنْ بَقِيَ فِي كَلَامِهِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِطْلَاقَ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ - مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ وَالِاحْتِمَالِ - كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى، وَإِلَّا تَسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَأَلْزَمَ بِالتَّنَاقُضِ فِي إِثْبَاتِ الْإِحَاطَةِ وَالْفَوْقِيَّة ِ وَنَفْيِ جِهَةِ الْعُلُوِّ، وَإِنْ أُجِيبَ عَنْهُ بِمَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا نَفَى أَنْ يَحْوِيَهُ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَالِاعْتِصَامُ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْلَى.
الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: (كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَات ِ) يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مَا مِنْ مُبْتَدَعٍ إِلَّا وَهُوَ مَحْوِيٌّ وَفِي هَذَا نَظَرٌ. فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ مَحْوِيٌّ بِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ، فَمَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْعَالَمَ لَيْسَ فِي عَالَمٍ آخَرَ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ أَرَادَ أَمْرًا عَدَمِيًّا، فَلَيْسَ كُلُّ مُبْتَدَعٍ فِي الْعَدَمِ، بَلْ مِنْهَا مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي غَيْرِهِ، كَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي الْكُرْسِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُنْتَهَى الْمَخْلُوقَاتِ ، كَالْعَرْشِ. فَسَطْحُ الْعَالَمِ لَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ ، قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ: بِأَنَّ (سَائِرَ) بِمَعْنَى الْبَقِيَّةِ، لَا بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، وَهَذَا أَصْلُ مَعْنَاهَا، وَمِنْهُ (السُّؤْرُ) ، وَهُوَ مَا يُبْقِيهِ الشَّارِبُ فِي الْإِنَاءِ. فَيَكُونُ مُرَادُهُ غَالِبَ الْمَخْلُوقَاتِ ، لَا جَمِيعَهَا، إِذِ السَّائِرُ عَلَى الْغَالِبِ أَدَلُّ مِنْهُ عَلَى الْجَمِيعِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيْرُ مَحْوِيٍّ - كَمَا يَكُونُ أَكْثَرُ الْمَخْلُوقَاتِ مَحْوِيًّا، بَلْ هُوَ غَيْرُ مَحْوِيٍّ - بِشَيْءٍ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَلَا نَظُنُّ بِالشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مِمَّنْ يَقُولُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ بِنَفْيِ النَّقِيضَيْنِ، كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ، بَلْ مُرَادُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُفْتَقِرًا إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، الْعَرْشِ أَوْ غَيْرِهِ" انتهى من "شرح العقيدة الطحاوية" (1/262) وما بعدها .
والله تعالى أعلم .
موقع الإسلام سؤال وجواب بتصرف
قال الشيخ في تعليقه على مصرع التصوف البقاعي
في التصريح بنفي الاتصال والانفصال معا في آن واحد، وعن ذات واحدة خلل منطقي. فهما يتقابلان تقابل السلب والإيجاب، فيلزم من انتفاء أحدهما ثبوت الآخر. وفيهما أيضا إجمال واشتباه، فقد يعني بالانفصال أنه سبحانه بائن من خلقه مستو على عرشه، ليس كمثله شيء. وهذا حق يؤمن به من أسلم قلبه لله، ووحده توحيدا صادقا في ربوبيته وآمن بأسمائه وصفاته كما هي في القرآن والسنة.
وقد يعني بالانفصال أنه سبحانه لا يتصل بالعالم صلة خلق أو تدبير، أو علم منه سبحانه، أعني نفي كونه خالقا عليما يدبر الأمر, أو أنه سبحانه ليس لإرادته، أو قدرته أثر في مقادير الوجود، وغير ذلك مما يدين به الفلاسفة، ومرادهم منه =
(1/30)
قلت: فكيف بمن يصرح بأنه 1 عين كل شيء؟ قال: "والرضى بالكفر كفر". قلت: فكيف بمن يصوب كل كفر، وينسب ذلك التصويب إلى نقل الله تعالى له عن نبيه هود عليه السلام؟
ويقول: إن الضلال أهدى من الهدى؛ لأن الضال حائر، والحائر دائر
__________
= نفى الخالق القادر المريد المختار. وهذا كف ر يجحد بالربوبية والإلهية.
وكذلك الاتصال: فقد يراد به أن سبحانه يدبر الكون، ويصرف الليل والنهار، ويسخر الشمس والقمر، ويحيط علمه بكل شيء كليا كان أو جزئيا، وتشمل قدرته كل شيء، وغير هذا مما يشهد بكمال الربوبية. وهذا حق لا يتم الإيمان إلا به. وقد يعني به مفهومه الصوفي، أي: إنه سبحانه حال في كل شيء، أو متحد بكل شيء، أو إنه عين كل شيء، أو إنه هو الوجود الساري في كل موجود، ومن يدين بهذا فهو زنديق، أو مجوسي، أو بتعبير أدق: صوفي. فالصوفية مرادفة لكل ما يناقض الإيمان الحق، والتوحيد الحق. لذا يجب على كل من يخبر عن الله أو صفاته أو أسمائه أن يلتزم حدود ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر الرسول به عن ربه. وإلا تزندق، أو تمجس كالصوفية، وألحد كالفلاسفة، وضل كالمتكلمين, ألم تر إلينا نحن البشر كيف نعيب فلانا بأنه لم يكن دقيق التعبير عن المذهب الفلسفي أو الأخلاقي، أو الفنى لفلان، أولم يكن مهذبا فيما تحدث به عن فلان، أوخاطب به فلانا، بل قد نذهب في مذمته كل مذهب، حتى نتهمه بالعي والفهاهة والسفه، فكيف -ولله المثل الأعلى- نطلق للقلم العنان فيما يكتب عن الله، مما يصوره له الأفن والوهم عن ذات الله وصفاته؟ وكيف نستبيح -سادرين- الإخبار عن الله سبحانه بما لا يجب، وما لا يرضي، وما لم يخبر به عن نفسه. ونصف هذه الجرأة الكافرة بأنها حرية فكرية أو تجاوب مع العقل، أو استيحاء من الذوق!! ولقد كان من نتائج هذه الحرية المزعومة -والحق أنها عبودية للوهم وللشيطان- أن آمن بعض الناس برب لا يوصف إلا بالسلب، أي: بالعدم نعتوه ربا. أو برب هو عين العبد. أو بإله يجب أن يعبد في كل شي؛ لأنه عين كل شي، فلتمجد العبودية ربوبية الله، بما يحب سبحانه وحده أن تمجد به.