فريق منتدى الدي في دي العربي
02-28-2016, 12:17 AM
النافذة (قصة)
محمد صادق عبدالعال
لم تكن هي المرةَ الأولى التي أمرُّ فيها بذلك الشارع الكبير، ويلفتُ انتباهي ذلك البيتُ الشاهقُ ذو النافذةِ الواحدة الباسقة، وفيها"شيخ كبير" ينظرُ للمارَّة نظرةً تُثيرُ العَجَب، يبتسمُ فيما لا يستدعي ابتسامًا، ويَكتَئِبُ لما يَفرَحُ له الكثير؛ مما دعاني أن أديمَ النظرَ إليه، وما إن التقَتْ مُقلتي بمقلتَيْه حتى أصابني شيءٌ من الهَلَع، ففَرَرْتُ ولم أُعقِّبْ.
راودَتْني نفسي بالرجوع ثانيةً إليه، وألقيت في روعي مزيدًا من قطرات الجُرْأة، وقلتُ:
• وما يَضيرُني، وكيف يَصِلُ إليَّ أذاه؟
طوفتُ مرة أخرى ناحيةَ البيت، فقال لي أحد المارَّة وقد لاحظ اكتراثي:
• أتعرفُ مَن هذا، ومن يكون؟
• ومَن هذا ومَن يكون؟!
ابتسم: حكيم، ذو فراسة للعابرات، إذا مرَّتْ يرى ما لا يراه النَّاظرون.
ابتسمتُ: أأنت مخبولٌ؟!
وحكمت على الشيخ المطلِّ من نافذته العليا بذلك، ورميتُه بالجنون أو بمسِّ الجنون؛ لكنني لما أطلْتُ النظرَ إليه أحسَسْتُ أنه قريب مني برغم البُعد بينَنا، وكأن أنفاسَه من شهيق وزفير تكادُ تمرُّ عليَّ!
ابتسمت له؛ فابتسم لي، وكانت أسنانُه بيضاءَ من غير سوءٍ ناصعة، تنمُّ عن أنه لم يَمْضَغْ لحمًا قطُّ أو يَنَلْ مما يغيِّر لونَها الناصع؛ فهَشَشْتُ عن رأسي فكرةَ الجنون؛ فثيابُه ولحيتُه البيضاوان برهانان لوقارٍ وسيادةِ دار.
أشار إليَّ ببنانِ سبَّابتِه؛ فانطلقتُ أحومُ حولَ البيت أبحثُ عن مدخلٍ أو مغارةٍ حتى ترفعَني إليه، فإذا بي أرى سُلَّمًا كثيرةً درجاتُه وأعتابُه، وليس له ما يَتَّكئ عليه الصاعدُ والهابطُ، تعجَّبْتُ كيف لمسنٍّ عجوز كهذا أن يقطعَ تلك العَتَبات نزولًا وصعودًا إلا أن يكونَ حذِرًا أو يكون من الهالكين؟!
لم تَدُمْ حيرتي طويلًا حين قال لي:
أهلًا بك بنيَّ، أتابعُك من زمنٍ، فطَغَتْ فرحة الحفاوة على رهبة اللقاء.
• أريد أن أجلسَ معك؛ أتعلَّم منك، وأتأدَّبُ بين يديك.
• ابتسَم! على الرَّحْبِ والسَّعة، حتى فوجئت ببابٍ يعترضُ عروجي إليه، باطنُه هو، وظاهره أنا؛ أصابني جَزَعٌ ويأس، همَمْتُ بالرجوع، فقال لي:
يا ولدي، ليس الصعودُ سهلًا، ولا النظر من تلك النافذة متاحًا للجميع، فهوَّن اشتياقي على حدَّة الضجر، فقلت له:
إذًا أنَّى لي أن أصل إليك وقد ضُرِب هذا الباب؟!
• اذهبْ فأدِّ الحقوق، فإنك لا تؤدِّي.
• سوف أؤدِّي.
• رجاءً لا تُسوِّفْ؛ فما أعيانا غيرُ التسويف.
حقيقةً أحسَسْتُ أني مُقصِّر، ولا أستحقُّ تلك المكانةَ بتقصيري هذا، فرجَعْتُ وداومتُ على الخمسِ المفروضة حضورًا وجماعةً، ثم نسيتُه، ولا أدري كيف نسيتُه برغم لَهْفتي على العروجِ إليه حتى تجاوزْتُ العشرة الأيام، ثم تذكَّرْتُه، فرجعت إليه تسوقُني العزيمةُ وعالي الهمَّة، أُحسُّ خفَّةَ روحٍ ونقاء سريرةٍ، وكأنَّه كان ينتظرُني، لوَّحْتُ بيميني له، فأشار إليَّ: أَنْ تعالَ، وإذا بي أجتازُ خمسَ عتَبات من أصلِ عشْرٍ، وإذ بالباب يُضرَبُ ثانيةً بيني وبينَه، أُبدِي انزعاجي ومللي؛ لعلَّه يفتح لي، أو أن يرضى ليقطعَ عني عَنَتَ الموانعِ والقيود.
• ابتسم! خُلِقْنا من عَجَلٍ أليس كذلك؟
• أقرُّ، هو ذلك!
• سوف ترتقي مرتقًى لم يرتقِه الكثيرُ يا ولدى؛ "فاصبر له غيرَ محتالٍ ولا ضَجِرٍ".
• أصبِرُ بإذن الله، وما عساي الآن أن أفعل؟
• ارجِعْ، فداوِمْ على "البَرْدَيْنِ" أربعين يومًا وليلة، لا تفوتك تكبيرةٌ، وإلَّا تعدْ من جديدٍ.
وقبل أن يَنطلِقَ لساني ويسألَه ما البَرْدَانِ؟ ألجمْتُه بلجامِ العالم، وقلت: أسألُ الناسَ، فسألتُهم، فلمَّا علمتُ، التزمتُ وألزمتُ نفسي بهما؛ وأتمَمْتُ عشرًا تلوَ عشرٍ تلوَ عشرٍ حتى ناهزتُ الثلاثين وأنا خائف، أترقَّبُ ألَّا تفوتَني واحدة، حتى انفرَطَتِ الحبَّاتُ الأربعون انفراطَ المِسبحة، وأوشكتُ على إتمامها إلا من أيامٍ قلائلَ.
وبينما أنا في حديقة غنَّاء تحوط المسجد، أغسلُ عيني من جداولِها الجارية مما شابها، وكدت أستبصر بها؛ حتى انطلقَتْ حولي أسرابٌ من جرادٍ منتشرٍ كأن أحد اللَّاهين واللاعبين قد هيَّج أعشاشها، فجعلتُ أفرُّ منها لما خفتُها، وهي تُلاحِقُني، أفرُّ وهي تلاحقني، استغشَيْت بثيابي وجِلبابي حتى استقرَّت واحدة منهن عند أذني لم أستَطِعْ لها مقاومة، فخفَضْتُ لها جَناحي مخافةَ اللَّسْع.
• يا مسكينُ، أأتممتَ الأربعين؟
• وما شأنك؟ يكفيني رضا ربي، وأداء فرضي المفروض.
• وعدك بالمُرْتقَى بعدَها.
• مَن أنبأك هذا؟
• نبَّأني مَن سبقوك.
• لا أفهم!
• وُعِد به قومٌ آخرون، وما إن أوشكوا على إتمامها حتى أُرسِلَ إليهم طيرٌ أبابيل تحومُ حولَ رؤوسهم والأعناق، حتى يضيعَ الفرضُ، ويبدؤوا من جديدٍ، وهكذا دَوالَيْك؛ ليظلَّ هو الأسمى ومن دونَه الأدنى.
• كيف هذا، إن سَمْتَه ورسمه يدلَّان على صدقه وصوابِ حَدَسه؟!
• أتأخذُ بالمظاهر وأنت الآن بالله عارفٌ، وترى ما لا يراه الآخرون؟!
تشتَّتَ فكري، وتعاقبَتِ الجرادات عليَّ حتى بسقَتِ الشمس عن مشرقِها؛ فارتفعت عني وضاعت التكبيرةُ الأولى.
• ويحكم!
• لم يَعُدْ لديك خيار سوى أن تقتحم عليه أعتابَه، وترتقي مُرتقاه، فما أدَّيْتَ كافٍ، وليس بالقليل.
• والبابُ المضروب بيني وبينَ النافذة؟
• شفَّاف رقيقٌ غيرُ صفيق.
ضربتُ في الأرض حيرانَ لي أُخرَيات تدعوني إلى العودة من جديد، وأُخرَيات تسوقني إلى ما يمكِّنُني من المكانة الرفيعة والعين البصيرة، لم أجد بُدًّا من موافقة الثانية ذات اللَّسْعة المؤلمة.
انطلقتُ إليه، أبحث عنه فلم أجدْه، سألت أحد المارَّة؟
• كان هنا بيت وشيخ ونافذة؟
• أأنت مخبولٌ؟
• تلك أرض مَشاعٌ – فضاء - ما كان فيها يومًا بِناءٌ!
• تعجَّبْتُ، وما يكون فيها؟
• اكتأب، وقال: لَعِب، ولهوٌ، وزينةٌ، وتفاخرٌ، وتكاثرٌ ... حتى اختفى بينَ طيَّات البيوت.
محمد صادق عبدالعال
لم تكن هي المرةَ الأولى التي أمرُّ فيها بذلك الشارع الكبير، ويلفتُ انتباهي ذلك البيتُ الشاهقُ ذو النافذةِ الواحدة الباسقة، وفيها"شيخ كبير" ينظرُ للمارَّة نظرةً تُثيرُ العَجَب، يبتسمُ فيما لا يستدعي ابتسامًا، ويَكتَئِبُ لما يَفرَحُ له الكثير؛ مما دعاني أن أديمَ النظرَ إليه، وما إن التقَتْ مُقلتي بمقلتَيْه حتى أصابني شيءٌ من الهَلَع، ففَرَرْتُ ولم أُعقِّبْ.
راودَتْني نفسي بالرجوع ثانيةً إليه، وألقيت في روعي مزيدًا من قطرات الجُرْأة، وقلتُ:
• وما يَضيرُني، وكيف يَصِلُ إليَّ أذاه؟
طوفتُ مرة أخرى ناحيةَ البيت، فقال لي أحد المارَّة وقد لاحظ اكتراثي:
• أتعرفُ مَن هذا، ومن يكون؟
• ومَن هذا ومَن يكون؟!
ابتسم: حكيم، ذو فراسة للعابرات، إذا مرَّتْ يرى ما لا يراه النَّاظرون.
ابتسمتُ: أأنت مخبولٌ؟!
وحكمت على الشيخ المطلِّ من نافذته العليا بذلك، ورميتُه بالجنون أو بمسِّ الجنون؛ لكنني لما أطلْتُ النظرَ إليه أحسَسْتُ أنه قريب مني برغم البُعد بينَنا، وكأن أنفاسَه من شهيق وزفير تكادُ تمرُّ عليَّ!
ابتسمت له؛ فابتسم لي، وكانت أسنانُه بيضاءَ من غير سوءٍ ناصعة، تنمُّ عن أنه لم يَمْضَغْ لحمًا قطُّ أو يَنَلْ مما يغيِّر لونَها الناصع؛ فهَشَشْتُ عن رأسي فكرةَ الجنون؛ فثيابُه ولحيتُه البيضاوان برهانان لوقارٍ وسيادةِ دار.
أشار إليَّ ببنانِ سبَّابتِه؛ فانطلقتُ أحومُ حولَ البيت أبحثُ عن مدخلٍ أو مغارةٍ حتى ترفعَني إليه، فإذا بي أرى سُلَّمًا كثيرةً درجاتُه وأعتابُه، وليس له ما يَتَّكئ عليه الصاعدُ والهابطُ، تعجَّبْتُ كيف لمسنٍّ عجوز كهذا أن يقطعَ تلك العَتَبات نزولًا وصعودًا إلا أن يكونَ حذِرًا أو يكون من الهالكين؟!
لم تَدُمْ حيرتي طويلًا حين قال لي:
أهلًا بك بنيَّ، أتابعُك من زمنٍ، فطَغَتْ فرحة الحفاوة على رهبة اللقاء.
• أريد أن أجلسَ معك؛ أتعلَّم منك، وأتأدَّبُ بين يديك.
• ابتسَم! على الرَّحْبِ والسَّعة، حتى فوجئت ببابٍ يعترضُ عروجي إليه، باطنُه هو، وظاهره أنا؛ أصابني جَزَعٌ ويأس، همَمْتُ بالرجوع، فقال لي:
يا ولدي، ليس الصعودُ سهلًا، ولا النظر من تلك النافذة متاحًا للجميع، فهوَّن اشتياقي على حدَّة الضجر، فقلت له:
إذًا أنَّى لي أن أصل إليك وقد ضُرِب هذا الباب؟!
• اذهبْ فأدِّ الحقوق، فإنك لا تؤدِّي.
• سوف أؤدِّي.
• رجاءً لا تُسوِّفْ؛ فما أعيانا غيرُ التسويف.
حقيقةً أحسَسْتُ أني مُقصِّر، ولا أستحقُّ تلك المكانةَ بتقصيري هذا، فرجَعْتُ وداومتُ على الخمسِ المفروضة حضورًا وجماعةً، ثم نسيتُه، ولا أدري كيف نسيتُه برغم لَهْفتي على العروجِ إليه حتى تجاوزْتُ العشرة الأيام، ثم تذكَّرْتُه، فرجعت إليه تسوقُني العزيمةُ وعالي الهمَّة، أُحسُّ خفَّةَ روحٍ ونقاء سريرةٍ، وكأنَّه كان ينتظرُني، لوَّحْتُ بيميني له، فأشار إليَّ: أَنْ تعالَ، وإذا بي أجتازُ خمسَ عتَبات من أصلِ عشْرٍ، وإذ بالباب يُضرَبُ ثانيةً بيني وبينَه، أُبدِي انزعاجي ومللي؛ لعلَّه يفتح لي، أو أن يرضى ليقطعَ عني عَنَتَ الموانعِ والقيود.
• ابتسم! خُلِقْنا من عَجَلٍ أليس كذلك؟
• أقرُّ، هو ذلك!
• سوف ترتقي مرتقًى لم يرتقِه الكثيرُ يا ولدى؛ "فاصبر له غيرَ محتالٍ ولا ضَجِرٍ".
• أصبِرُ بإذن الله، وما عساي الآن أن أفعل؟
• ارجِعْ، فداوِمْ على "البَرْدَيْنِ" أربعين يومًا وليلة، لا تفوتك تكبيرةٌ، وإلَّا تعدْ من جديدٍ.
وقبل أن يَنطلِقَ لساني ويسألَه ما البَرْدَانِ؟ ألجمْتُه بلجامِ العالم، وقلت: أسألُ الناسَ، فسألتُهم، فلمَّا علمتُ، التزمتُ وألزمتُ نفسي بهما؛ وأتمَمْتُ عشرًا تلوَ عشرٍ تلوَ عشرٍ حتى ناهزتُ الثلاثين وأنا خائف، أترقَّبُ ألَّا تفوتَني واحدة، حتى انفرَطَتِ الحبَّاتُ الأربعون انفراطَ المِسبحة، وأوشكتُ على إتمامها إلا من أيامٍ قلائلَ.
وبينما أنا في حديقة غنَّاء تحوط المسجد، أغسلُ عيني من جداولِها الجارية مما شابها، وكدت أستبصر بها؛ حتى انطلقَتْ حولي أسرابٌ من جرادٍ منتشرٍ كأن أحد اللَّاهين واللاعبين قد هيَّج أعشاشها، فجعلتُ أفرُّ منها لما خفتُها، وهي تُلاحِقُني، أفرُّ وهي تلاحقني، استغشَيْت بثيابي وجِلبابي حتى استقرَّت واحدة منهن عند أذني لم أستَطِعْ لها مقاومة، فخفَضْتُ لها جَناحي مخافةَ اللَّسْع.
• يا مسكينُ، أأتممتَ الأربعين؟
• وما شأنك؟ يكفيني رضا ربي، وأداء فرضي المفروض.
• وعدك بالمُرْتقَى بعدَها.
• مَن أنبأك هذا؟
• نبَّأني مَن سبقوك.
• لا أفهم!
• وُعِد به قومٌ آخرون، وما إن أوشكوا على إتمامها حتى أُرسِلَ إليهم طيرٌ أبابيل تحومُ حولَ رؤوسهم والأعناق، حتى يضيعَ الفرضُ، ويبدؤوا من جديدٍ، وهكذا دَوالَيْك؛ ليظلَّ هو الأسمى ومن دونَه الأدنى.
• كيف هذا، إن سَمْتَه ورسمه يدلَّان على صدقه وصوابِ حَدَسه؟!
• أتأخذُ بالمظاهر وأنت الآن بالله عارفٌ، وترى ما لا يراه الآخرون؟!
تشتَّتَ فكري، وتعاقبَتِ الجرادات عليَّ حتى بسقَتِ الشمس عن مشرقِها؛ فارتفعت عني وضاعت التكبيرةُ الأولى.
• ويحكم!
• لم يَعُدْ لديك خيار سوى أن تقتحم عليه أعتابَه، وترتقي مُرتقاه، فما أدَّيْتَ كافٍ، وليس بالقليل.
• والبابُ المضروب بيني وبينَ النافذة؟
• شفَّاف رقيقٌ غيرُ صفيق.
ضربتُ في الأرض حيرانَ لي أُخرَيات تدعوني إلى العودة من جديد، وأُخرَيات تسوقني إلى ما يمكِّنُني من المكانة الرفيعة والعين البصيرة، لم أجد بُدًّا من موافقة الثانية ذات اللَّسْعة المؤلمة.
انطلقتُ إليه، أبحث عنه فلم أجدْه، سألت أحد المارَّة؟
• كان هنا بيت وشيخ ونافذة؟
• أأنت مخبولٌ؟
• تلك أرض مَشاعٌ – فضاء - ما كان فيها يومًا بِناءٌ!
• تعجَّبْتُ، وما يكون فيها؟
• اكتأب، وقال: لَعِب، ولهوٌ، وزينةٌ، وتفاخرٌ، وتكاثرٌ ... حتى اختفى بينَ طيَّات البيوت.