فريق منتدى الدي في دي العربي
12-01-2017, 07:26 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مقتطفات من كتاب لأنك الله
علي بن جابر الفيفي (<h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
)
فهذه كلمات عن بعض أسماء الله، حرصت أن أجعلها مما يفهمه متوسط الثقافة، ويستطيع قراءته المريض على سريره، والحزين بين دموعه، والمحتاج وسط كروبه، ولدي يقين أن تعلق القلب بالله، وحبه وخوفه ورجاءه، كما أنه سر سعادة الآخرة، فهو سر سعادة الدنيا كذلك، فأردت بهذا الكتاب أن أربت على أكتاف أتعبتها الأوجاع، وأمسح بها على رؤوس صدعتها الآلام، وأردت أن أواري بأحرفي الدموع، وأن أطفئ لهيب الضلوع.
إننا بدون معرفة أسماء الله في صحراء تائهون، تتبدد أيامنا في لهيب تلك الصحراء، ودوامة كثبان القلق النفسي، ولتختار الله: معرفة، وإيماناً، ويقيناً، وعبادة، وخضوعاً، ثم أنساً، وسعادة، وهناء.. أو اختر التيه، والضياع، والاختناق، والشعود بالكآبة، والتمزق النفسي.
في ظلال الصمدية:
الصمد اسم بالغ الهيبة، قوي الحروف، شامخ المعنى، قليل الورود والذكر، ذو جلالة خاصة.
إذا حاصرتك الحاجات، وداهمتك الخطوب، والتفّت من حولك الهموم، وأخذت روحك في الهرب إلى المجهول، فأنت بحاجة إلى أن تصمد إليه.
سيمدك بكل ما تحتاجه لتكون قوياً في هذه الحياة، وتجابه واقعك بشموخ، وتتجاوز عقدك بعزيمة!
الصمد هو أن تصمد إليه الخلائق، أي تلجأ إليه، وهو أجلّ معاني هذا الأسم، هو المقصود في الرغائب، المستغاث به عند المصائب، والمفزوع إليه وقت النوائب.
أحاطك بالاحتياجات لتحيط نفسك بأسمائه وصفاته، وهذا معنى الصمدية.
جاء شيخ أعرابي اسمه الحصين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله النبي: يا حُصينُ: كم إلهًا تعبدُ؟ قال: سبعةٌ في الأرضِ، وإلهٌ في السَّماءِ، قال: فإذا أصابك ضرٌّ من تدعو؟ قال: الَّذي في السَّماءِ، قال: فإذا هلك المالُ من تدعو؟ قال: الَّذي في السَّماءِ، قال: فيستجيبُ لك وحدَه وتشرِكُهم معه، فاترك الذين في الأرض واعبد الذي في السماء، فأسلم الحصين!
لقد اقنتع بسبب معنى الصمدية، لأن من تصمد إليه وقت الرهبة والرغبة هو وحده من يستحق أن تسجد له!
فالإيمان أسهل فكرة في الوجود، لا تحتاج إلى كتب، ولا إلى فلسفة، ولا إلى سبر وتقسيم، هي كلمة قلها بإخلاص، ثم اتركها لتشتت أفكار الزيف.. يختصر القرآن ذلك فيقول: (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ). كلمة "الله" كفيلة وحدها.. بإسكات أكبر أكاذيب الحياة.. فالكافر وهو كافر إذا سمع القرآن يخضع.
امرأة.. يخلو بها فاجر في إحدى الخلوات فيراودها عن نفسها، فيقول يحثها: لا يرانا إلا الكواكب، فردت بشموخ: فأين مكوكبها؟
أين الله؟! إنه قلب صامد إلى الله، يراقبه، متيقن أنه عليم خبير سميع بصير محيط!
وصموده إليه بقلبك تماماً كصمود المصلي إلى الكعبة ليصلي إليها!
هكذا يجب أن يكون القلب، يوزع رغباته في كل الاتجاهات، لكن الاتجاه الأمامي يجب أن يكون لله فقط.
تنقطع الأمطار، وتصبح الدنيا قاحلة على عهد موسى عليه السلام، فيخرج هو وقومه وهم آلاف من الرجال والنساء والولدان، فيرى موسى نملة خرجت رافعة يدها إلى السماء صامدة إلى رب السحاب، فعلم موسى أن هذا الصمود، وهذا الذل لن يعقبه إلا هطول السماء بماء منهمر، فقال لقومه: ارجعوا فقد كُفيتم، فعادوا على صوت الرعود، ورذاذ المطر!
أنصت إلى أولئك الذين تعبث بهم سفينة، أو يرون الموت وهو مقبل عليهم، وتعصف بهم رياح التقلبات سوف تسمعهم بجميع أديانهم يلهجون باسمه: يا الله!
ولهذا تصمد إليه.. لترتاح، ليهدأ لهاثك، لأنك بدونه تركض وتلهث وتتوتر، جعل في داخلك حاجة لأن تقول اسمه، هناك أمن يعم كيانك إن قلت يا الله، فإذا لم تقلها اختياراً، قلتها اضطراراً، وإن لم تذكرها إيماناً ذكرتها قهراً، وإذا لم تكن كلمتك في الرخاء، كانت صرختك في الشدة!
لماذا ننتظر حائجة تردنا إليه؟ ومصيبة تذكرنا باسمه؟ وكارثة نعود بها إلى المسجد؟
ألا يستحق أن نخضع ونلتجئ إليه دون جوائح وكوارث ومصائب؟
عدل بوصلة قلبك باتجاهه ثم سر إليه ولو حبواً على ركبتيك، ستصل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
إذا طلبت من غيره قد لا يجيبك، أو يجيبك ولكن يتأخر في تلبية طلبك، أو يلبيه مع إهانة، وقد لا يهينك ولكن نفسك تنكسر له.. أما الله فيعطي بالليل والنهار، ينصرك على الجميع إن كنت مظلموماً، لا يغلق بابه، يده سحاء الليل والنهار، أكرم الأكرمين، لذلك تصمد إليه كل الخلائق، فكل عارض يعرض إنما هو رسالة تقول لك: لديك رب فالتجئ إليه.
انظر بأي اتجاه شئت، ولكن اجعل في قلبك عينين لا تنظران إلا إلى عظمته!
استمع إلى الجميع، ولكن اصنع في قلبك سمعاً لا يدرك إلا كلامه!
امش إلى حيث شئت، ولكن احفر في قلبك خطوات نهايتها عرش الملك!
إذا أمسكت قلماً فتساءل: هل يرضى الله سبحانه عما سأكتبه في هذه الورقة؟
إذا هممت بكلمة تقولها فتساءل: هل سأقول شيئاً يرضيه؟
إذا وقفت موقفاً تساءل: هل موقفي هذا محبوب عنده أم لا؟
أصمد إليه في كل حين، وإذا ما استيقظت في منتصف الليل فتذكره، خيالاتك سوداء إذا لم تتذكره، عقلك خراب دون أن يمر اسمه على خطراتك، أحلامك مستنقعات، فإذا جاء ذكر الحي الذي لا يموت صارت أنهاراً وأشجاراً وعصافير شادية.
قال الخليفة لابن عمر وهو يطوف حول الكعبة: سلني يا ابن عمر، فنظر إليه بشموخ الصامد إلى الله وقال: من أمر الدنيا أم الآخرة؟ فقال أما الآخر فلله ولكن من شؤون الدنيا، فقال ابن عمر: لم أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسألها من لا يملكها؟!
فالصمود لله يحولك إلى عظيم، لا يبالي بمُلاك التراب.. الدنيا تخصص لا يقبل عليه الصامدون لله..
قال أمير لابن تيمية: سمعنا أنك تريد ملكنا يا ابن تيمية! فرفع ابن تيمية رأسه بشموخ وقال: والله إن ملكك لا يساوي عندي فلسين!
رجل يعرّض وجهه لله آناء الليل، كيف يذل لقطعة خزف أطراف النهار؟!
اللحظة التي تصمد فيها إليه لأجل حاجتك، هي نفسها اللحظة التي تصبح حاجتك ملك يمينك!
لا يستطيع العالم كله أن يمسك بسوء لم يرده الله، ولا يستطيع العالم كله أن يدفع عنك سوءاً قدره الله!
فاجعل وجهك إليه، وألجئ ظهرك إليه، وفوض أمرك إليه..
فهو الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
الحفيظ:
إذا شعرت أن حياتك في خطر، أو أن المرض يهدد صحتك، أو كان ابنك بعيداً عنك وقد خشيت عليه من الضياع أو رفقاء السوء، أو أن مالك الذي جمعته قد بات قاب قوسين أو أدنى من التبدد والتلف فاعلم أنك بحاجة إلى أن تعلم أن من أسماء ربك سبحانه "الحفيظ" وأنه ينبغي عليك أن تجدد إيمانك بهذا الاسم العظيم، وأنه قد جاء الوقت المناسب لتتفكر فيه وتتأمل..
فهو وحده من يحفظ حياتك، ويحفظ صحتك، ويحفظ أبناءك ويحفظ مالك، ويحفظ كل شيء في هذه الحياة!
يحفظ سمعك وبصرك، لذلك ندعوه في الصباح والمساء أن: اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري.
الحفيظ هو من يحفظ سمعك، الذي تسمع به الحرام، ولو شاء لأذهبه في لحظة.
ويحفظ بصرك الذي تنظر به للحرام، ولو شاء لأذهبه في لحظة.
لو لم يثبت قلبك على دينه لتناوشتك الشبهات، وتخطفتك الأهواء
علماء أفنوا أعمارهم بين الكتب والمحابر لم يرد الله أن يحفظ عقائدهم: فكفروا به سبحانه، وبعضهم صار مبتدعاً في الدين، وأنت بعلمك القليل ما زلت تسجد له، لقد حفظ الحفيظ دينك!
الحفيظ هو من يحفظ دينك، لا مجموعة المعلومات التي في رأسك، لا تغتر بعلمك، ولا بحفظك لكتاب الله، ولا باستظهارك لشيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والله ستزيغ إن لم يحفظ الله دينك!!
لأجلك أنت يأمر الحفيظ سبحانه أربعة ملائكة أن يحيطوا بك حتى يحفظوك بأمره من كل ما لم يقدّره عليك.
كيف لا يكون حفيظاً وقد أوكل بك هذا العدد من ملائكته الكرام حتى يصدوا عنك أي طلقة لم يشأ سبحانه أن تخترق جسدك، وأي صخرة لم يرد سبحانه أن تنهي حياتك، بل وأي بعوضة لم يشأ سبحانه أن تؤذي بشرتك!
أتعلم أنه يحفظك في كل لحظة؟ بل في كل لحظة يحفظك مئات المرات!! كيف؟
في هذه اللحظة: حفظ قلبك من التوقف، وشرايينك من الانسداد، وعقلك من الجنون، وكليتك من الفشل، وأعصابك من التلف، ورأسك من الصداع، وعينيك من العمى، وسمعك من الصمم، كل هذا وأكثر حفظه الله في هذه اللحظة.. فكم الحمد لله ينبغي أن نقولها في اللحظة الواحدة؟
إذا خرجت من بيتك وخشيت على اطفالك فقل: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، ستعود –بإذن الله- وهم في أحسن حال، لأنه الحفيظ!
وإذا ألجأتك الظروف أن تترك شيئاً ثميناً في مكان عام أو مكان غير آمن فانزح بقلبك إليه وقل: اللهم احفظه، وثق أن عين الله ستكلؤه إلى أن تعود.
ومن صور حفظ الله أنه سبحانه يدافع عن المؤمنين: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)
تأمل: إنه لا يدفع عنهم الشر، بل يدافعه عنهم! وفي هذه تلميح إلى ضراوة ما سيلاقونه وتعدد أشكاله وتنوع صوره، ولكن الله أعلم بما يوعي أعداؤه، فيدافعهم ويصدهم عن أحبابه.
وفي الحديث القدسي: "من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحربِ".
تخيل: حرباً بين عدو للدعوة والحق والدين، وبين الله!
يتجمع مشركو قريش حول غار فيه رجلان: محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، والإغراءات المالية تدفعهم ل***هما، معها الأحقاد الدفينة، والرغبة في حوزة وسام الظفر بأهم شخصية في تلك المدة..
يتسلل الخوف إلى فؤاد أبي بكر، فينظر إليه صاحبه العظيم ويقول: ما ظنّك باثنين، الله ثالثهما؟
يا أبا بكر، هل تعتقد أننا اثنان؟ كلا بل نحن ثلاثة!!
هنا تتشتت المخاوف، تزول الرعدة، يذوب التوجس:
وإذا العناية لاحظتك عيونها
نم فالمخاوف كلهنّ أمانُ
يقول سبحانه: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
لأجل عباده وأوليائه يلقي بالرعب في قلوب الذين كفروا فتنتفض أطرافهم فرقاً من أولياء الله!
ها هم فتية الكهف يلتجئون إليه ويسألونه الهداية فيلجئهم إلى كهف بلا باب، كهف مفتوح للبشر والهوام والسباع، ولكنه يريد حفظهم فيلقي عليهم أحد جنوده، إنه جندي الرعب!! فلا يقترب من الكهف أحد إلا وانترع الرعب رغبته في التقدم فتراه يهرع خائفاً: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا
يحفظك بالملائكة، إذا قرأت آية الكرسي قبل أن تنام أوكل الله لك ملَكاً يقوم على رأسك يحفظك مما لم يقدره الله عليك.
تخشى من ماذا إذا كان الله معك؟
نبي الله لوط عليه السلام يهجم قومه على بيته يريدون أن يخلعوا باب البيت ويظفروا بضيوفه، وهم ملائكة، يا له من عار أبدي أن يظفر فسقة قومك بضيوفك، فقال بكل ضعف:
لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ
يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: يرحَمُ اللهُ لوطًا ، لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديدٍ.
اختناق.. هذا كل ما في الباب، بعد ذلك اشمخ على مخاوفك وأحزانك، سينجيك الله منها كما أنجى ذا النون بن متّى.
لا هم ولا غم ولا كرب يقارب هم ذي النون يونس عليه السلام، كان في ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، يا لها من حياة بئيسة تلك التي ستقضيها إلى أبد الآبدين في بطن الحوت على تلك الهيئة الكئيبة..
لكنه يواجه ذلك السيل من الكروب بكلمة واحدة: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".
كلنا في هذه الحياة ذو النون، والحياة قد التأمت علينا بكروبها، ولن ينجينها منها إلا: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".
اللطيف:
إذا أراد اللطيف أن يصرف عنك السوء.. جعلك لا ترى السوء، أو جعل السوء لا يعرف إليك طريقاً.. أو جعلكما تلتقيان وتنصرفان عن بعضكما وما مسّك منه شيء!
اسم اللطيف.. ستكتشف لو تأملته أن لا مستحيل في هذه الحياة، وأن الله قادر على كل شيء، وأن أحلامك المستحيلة ستغدو ممكنة التحقق إذا ما طرقت باب اللطيف!
واللطف أصله خفاء المسلك ودقة المذهب، فلن يوصل إليك إحسانه برفق إلا من يصل علمه إلى دقائق الأمور وخفايا النفوس، فالله سبحانه "هو المحسن إلى عباده في خفاء وستر من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون".
وتأتي بلطفه عظائم المقادير والتي تستبعدُ أكثر العقول خيالاً وقوعها، فيجعلها كائنة حاضرة، فلا تنتبه إلا –وبقريب من المعجزات- قد بات بساحتك! لا تعلم كيف أمكنه أن يحدث، وتتيقن أن حولك وقوتك أقل من أن تُحدثه، فتنظر إلى السماء وتقول:
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ).
فإذا أراد اللطيف أن يكرمك جعل من لا ترجو الخير منه هو سبب أعظم العطايا التي تنالك!
وإذا أراد اللطيف أن يعصمك من معصية جعلك تبغضها، أو جعلها صعبة المنال منك، أو أوحشك منها، أو جعلك تقدم عليها فيعرض لك عارض يصرفك به عنها!
وعباد الله يرقبون تلك الألطاف من اللطيف، ويبصرونها ببصائرهم، وكأن كل قضاء ينالهم به بصمة لطفٍ يدركونها وحدهم.
عندما أراد اللطيف أن يخرج يوسف عليه السلام من السجن، لم يدك جدران السجن، لم يأمر مَلَكَاً أن ينزع الحياة من أجساد الظَلَمة، لم يأذن لصاعقة من السماء أن ت***ع القفل الحديدي، فقط.. جعل الملك يرى رؤيا في المنام تكون سبباً خفياً لطيفاً يستنقذ به يوسف الصديق من أصفاد الظلم!
ولما شاء اللطيف أن يعيد موسى عليه السلام إلى أمه لم يجعل حرباً تقوم يتزعمها ثوار بني إسرائيل ضد طغيان فرعون يعود بعدها المظلومون إلى سابق عهدهم، لا.. بل جعل فم موسى لا يستسيغ حليب المرضعات!
بهذا الأمر الخفي يعود موسى إلى أمه بعد أن صار فؤادها فارغاً!
ولما شاء اللطيف أن يخرج رسولنا عليه الصلاة والسلام ومن معه من عذابات شِعب بني هاشم لم يرسل صيحة تزلزل ظلم قريش، فقط أرسل الأرَضَة تأكل أطراف وثيقة الظلم وعبارات التحالف الخبيث! فيصبحون وقد تكسرت من الظلم العُرى، بحشرة لا تكاد ترى!!
تنام فيحب أن تقوم تصلي بين يديه، فيرسل ريحاً هادئة تحرك نافذتك، أو طفلاً من أسرتك يمر ويحدث ضوضاء بجوار غرفتك، أو حاجة شديدة في شرب شيءٍ من الماء، فتستيقظ وتنظر إلى الساعة، وبعد دقائق تكون واقفاً على السجادة تناجيه ولا تعلم أنه هو من أيقظك!
تخطط لمعصيته، تخرج ليلاً، تفاصيل الخطة محكمة، فجأة تمر سيارة من بعيد، فتشك أنت أن أحدهم يراقبك، فتنغّص تلك السيارة المارة فكرة الذنب لديك، فتبرد إرادتك وتعود إلى بيتك، ولا تعلم أنه هو من صرفك بلطفه عن معصيته!
ولا بد للطيف أن يكون عليماً، فكيف يكرمك ويمن عليك ويهديك بلطفٍ من لا يعلم مكامن هذا اللطف؟
يقول الشيخ السعدي: "وهو اللطيف الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا، وأدرك البواطن والخبايا".
ها هي رؤيا من أعظم رؤى البشرية يراها يوسف عليه السلام وهو في حالة تقول كل مؤشراتها الطبيعية باستحالة تحققها! يحكي رؤياه فيقول:
(إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ).
تأويل الرؤيا أن أباه وأمه وأخوته الأحد عشر سيسجدون له إكراماً له!!
كيف وأبوه نبي كريم، كبير في السن، ولا تقضي معهودات الأمور أن يكرّم الصغير الكبير، وأخوته يكرهونه فكيف سيسجدون له، بل إن كرههم دفعهم لإلقائه في البئر..
لكن اللطيف سبحانه يقدر الأقدار، ويصرف الأمور ويخرجه من السجن، ويجعله في منصب رفيع، ثم يقدّر القحط على البلاد، ثم يأتي بإخوته في ثياب الحاجة، وما تزال أقدار اللطيف تلتف لتحقق تلك الرؤيا القديمة، فيعجب يوسف لسجود والديه وإخوته ويقول:
(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).
هذا اختصار للطف الذي سيطر على المشهد ثم يضع التوقيع النهائي فيقول: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ).. نعم إنه اللطيف إذا أراد شيئاً هيأ له أسبابه بكامل اللطف وتام الخفاء، حتى أنه ليقع ما يستحيل في العادة ألا يقع! لأنه الله اللطيف الخبير.
تأمل حبة الخردل.. إنك لا تكاد تراها إن لم تكن محدقاً فيها: انظر إلى حجمها بالنسبة لكفك، ثم بالنسبة لحجم الغرفة مثلاً، ثم بيت، ثم قارن حجمها بدولتك، ثم بالأرض، ثم بالسموات الفسيحة، ثم ثق: إن أرادها الله فسيأتي بها: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ).
وإننا بعد هذا الإبحار الهادئ مع هذا الاسم العظيم، والذي لم نأت إلا على شيء يسير من معناه، وبقي من خبايا معناه ما أتركه لفهمك وتأملك ورجوعك لكتب أهل العلم فيه.
وبعد هذا الإبحار، ألا يستحق هذا اللطيف أن تحبه؟ أن تتأمل عطاياه؟ أن تزيد في قلبك من ذكره ومراقبته ورجائه وخوفه؟
أن تعيش مع هذا الاسم أياماً.. تدعوه به، وترقب ألطافه، وتفيض عيناك لرؤية خفي هداياته وهداياه؟
قل في خشوع: يا خفيّ الألطاف.. نجّنا مما نخاف.
الشافي:
هل رضّتك الأوجاع؟ وأتعبتك الآلام؟ وأشعرك المرض أن الحياة رمادية اللون؟
ما رأيك أن أطلعك على شيء يغسل روحك من أوصابها وأتعابها؟
إنه اسم الله الشافي.. اسم لنفسك المنهكة أن تلتقط أنفاسها قليلاً، لتقرأ عن هذا الاسم الرحيم، هذا الاسم الذي ستعلم بعد أن تتفيأ ظلاله مقدار حاجتك إليه، ومقدار بعدك عنه أيضاً!
الشافي من أسماءه سبحانه التي نحمده عليها، نحمده أن تسمى بهذا الاسم، واتصف بصفة الشفاء، وأن كان هو وحده من يشفي ويعافي أجساد عباده، وهو اسم يفصح عن معناه، ويعكس ظاهره خبايا باطنه.
الحياة حقل أمراض، وأوجاع، وتنهدات، لذلك فقد سمى الله نفسه بالشافي، لتسجد آلامك في محراب رحمته، وتنكس أوجاعك رأسها عند عتبة قدرته.
المرض فضيحة كبرى تُبتلى بها غطرسة البشر! ذبول مفاجئ يفقد فيه الإنسان ازدهاره! نكسة لحيوية ذلك الهَلوع المَنوع..
قدّر الله على هذا الجسد أن تنطفئ نضارته مؤقتاً، حتى يقتنع الإنسان بضعفه، وبأنه لا حول له ولا قوة.
أيها الإنسان، إن حقيقتك الموت، وإن كل شيء فيك يشبه الموت، نومك موت، مرضك موت، انتقالك إلى مرحلة عمرية موت للمرحلة السابقة، فالشباب موت الطفولة، والكهولة موت الشباب، ومع ذلك فإن الوهم يجعلنا نعتقد أننا مخلدون ولهذا يصرخ المرض بأجسادنا، أنها إلى زوال!
روحك وأنت مريض تكون في اجتماعات مغلقة مع الموتى، وبدايات الانهيار الداخلي تنضح بها عيناك وشفتاك وارتجاف في أطرافك الباردة.
ولما يأخذ المرض مداه، وتنغسل أنت من الدنيا جيداً، يأذن الشافي سبحانه للداء بالانصراف عن جسدك، ويأمر الصحة أن تعاود سيرتها الأولى، فإذا باللون الوردي يتصعد على وجنتيك، وتعود ابتسامة أذبلتها أيام الرُخَصاء.
لأنه الشافي: يشفيك بسبب، ويشفيك بأضعف سبب
ويشفيك بأغرب سبب، ويشفيك بما يُرى أنه ليس سبب، ويشفيك بلا سبب!
لا يريد منك سوى العودة إليه، أن تتلمس الطريق المؤدي إليه..
عد إليه بالرضا، عد إليه بالسجود، عد إليه بالتوبة، عد إليه بالاستغفار، عد إليه بالصدقة، عد إليه بالاعتراف..
اطرق بابه ثم ارتقب الشفاء، ليس هناك مشفى في الدنيا يداويك إذا لم يشأ الله ذلك، ليس هناك طبيب في العالم يستطيع أن يشخص مرضك، إلا إذا أراد الله ذلك.
قدرة ملك الملوك على الشفاء لا تحتاج إلى مبضع جرّاح، إنه الملك الذي ينظر من علياء ملكه، فيشفي مريضاً، ويسعد مكروباً، ويعيد مسافراً ويبرئ جريحاً.
يمرضك لتعود إليه فإذا عدت رفع المرض إذ أنه لم يعد للمرض فائدة!
يمرضك لتشعر بالآخرين فإذا شعرت بهم رفع عنك المرض لأنه لم يعد للمرض فائدة!
الشافي الذي لن تحتاج إذا أردت الدخول عليه إلى موعد مسبق، وبطاقة تؤهلك للعلاج..
فقط قل: يا الله، فإذا بأعظم مشفى إلهي تفتح أبوابها، إنها مشفى الرحمة والقدرة واللطف والشفاء.
من الذي يقدر على أن يلأم تلك العظام المتنافرة، ويعيد البسمة إلى ذلك الثغر؟ وينفخ الروح من جديد في جسد انفتحت له أبواب المقبرة؟
الله وحده من يقدر على ذلك!
أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، الذي جاء ربه بقلب سليم، سليم من أي ذرة شرك قد تعتري قلباً ضعيفاً، يقولها عليه السلام فيفهم المؤمن الدرس ولا يلتجئ إلا للحي الذي لا يموت:
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ
هو وحده، لا أحد سواه يشفيني، لن تحتاج إلى غيره إذا أراد شفائك، ولن يفيدك غيره إذا لم يرد!
يرض الجدري جسد أيوب عليه السلام، تتشتت أسرته، تتبعثر أملاكه، أكثر الناس تفاؤلاً يفقد الأمل في شفائه، وهو صابر محتسب! تشتعل الأسقام في جسده وهو منكس الرأس لمولاه، وبعد سنوات البلاء، يند من شفتيه دعاء حيي، دعاء منكس رأسه بذلة، دعاء ممتلئ باليقين:
أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
فإذا بأبواب السماء تنفتح بالرحمة، وإذا بالأوامر العليا تنزل من فوق السماء السابعة لأجل ذلك المهموم المكروب.
تنتهي سنوات العذاب في ساعة، ليأتي عهد الشفاء!
لماذا تثق بكل هؤلاء الموتى الذين يتحركون حولك، وتنسى الحي الذي لا يموت؟
من الذي خدعك وأقنعك أن الشفاء قد يأتي من طريق آخر؟
كيف ضحكت عليك الحياة بهذه السرعة، ونسيت ذلك الذي أخرجك من بطن أمك بدون طبيب، وخلق لك في صدرها رزقاً حسنا، وعلمك وأنت أجهل ما تكون كيف تزم شفتيك على صدرها لترضع؟ أنسيت الذي خلق الرحمة في قلب تلك الإنسانة لتضمك؟ وتعتني بك؟
ها هو سبحانه بالمرض يذكرك بأيامك الأولى، بالمرض يقول لك: عد إلي، فكما خلقتك من عدم فأنا وحدي الذي أرفع عن جسدك السقم!
إذا رضيت عن الله أرضاك الله..
المرض من أقسى اختبارات الرضا، فإذا كانت إجاباتك في هذا الاختبار راضية، كانت النتيجة مرضية بإذن الله.
قد يسأل البعض: كيف أرضى بالمرض وفيه الألم المكروه فطرة؟ يجيب الإمام ابن القيم عن هذا قائلاً:
(لا تنافي في ذلك، فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يحب، ويكرهه من جهة تألمه به، كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه يجتمع فيه رضاه به، وكراهته له).
قل من بين آهاتك ما أمر به نبيك أمّته أن تقول:
رَضيتُ باللهِ ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمَّدٍ نبيًّا.
قلها بقلبك، اجعل قلبك يتنفس الرضا، اجمع يديك واتل اسمه في دعائك، ثم امسح على جسدك.
اجعل المرض بداية عهد جديد تتعرف فيه إلى ربك من خلال اسم الشافي.
الوكيل:
هل تشعر بضعفك؟ وبأن الدنيا بتفاصيلها أكبر منك، وبأنك ريشة في مهب ريح الحياة الصاخبة؟
هل لديك أشياء تخشى عليها، وتريد جمعها في عهدة من لا تضيع لديه الأشياء؟ سواء كانت هذه الأشياء: أبناء أو مالاً أو صحة أو حياة؟
إذاً فاتخذه وكيلاً..
ابدأ بالتعرف من جديد على هذا الاسم الجليل، غص في أغوار معانيه، أرح نفسك من ضعفها، وقلقها واستيحاشها بأن تجعلها تتفيأ ظلال الوكيل.
فهو الذي لا ينبغي أن تتوكل إلا عليه، ولا تلجئ ظهرك إلا إليه، ولا أن تضع ثقتك إلا فيه، ولا أن تعلق آمالك إلا به.
أي عمل تتوكل على فيه انسه تماماً، لأنك إن توكلت على الله فهذا يعني أنك وضعت ثقتك في إتمام هذا العمل بمن يملك الأمور كلها، ومن يجير ولا يجار عليه.
يقول سبحانه: رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا
يأمرك رب المشرق والمغرب أن تتخذه وكيلا، ماذا بعد هذا من راحة وعز وشموخ وضمان للتوفيق؟
فقط يريدك أن تقول بقلبك: أنت وكيلي يا الله!
التوكل يقين قلبي، يحيلك إلى سائر تحت مظلمة عظيمة تقيك من حر الهموم، ومطر المكائد، ورياح الدنيا المقلقة.. المحروم وحده هو من لا يقدّر هذه المظلة ومن لا يحاول السير تحتها.
ما هو الأمر الكبير والكرب الشديد والهم العظيم الذي سيستعصي على رب العزة؟ العزة نفسها هو ربها، كل عزة سمعت بها أو علمتها هو ربها، فكيف يمكن لكروبك أن تصمد أمام إرادة رب العزة والكبرياء والعظمة؟
وأعظم ما تتوكل على الله فيه هو عبادته، أن تتخلى وتتبرأ من حولك وقوتك وتقول بقلبك قبل لسانك:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
لا يتصور أن يأمرك الله أن تعبده، ويأمرك أن تتوكل عليه، فتتوكل عليه في أمر العبادة فيخذلك، فقط أكثِر من الكلمات النبوية الكريمة:
اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
قال ابن القيم:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: تأملك أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين.
ثم يقول: القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولا بد وهما الرياء والكبر، فدواء الرياء بإياك نعبد، ودواء الكبر بإياك نستعين.
أرأيت الصلاة التي فرغت للتو من أدائها، لو لم يعتك الله عليها لما أديتها.
هو رحيم، فقط أنزل حوائجك ببابه، فقط اجعل قلبك منكسراً وكأنه مُخبت تحت العرش، ولو لم تدعه، الرحيم سبحانه يريد هذه الحالة الخاشعة منك، وبعدها ثق بأنه سيقضي حوائجك، ويرفع مرضك، ويخلق الابتسامة على ثغرك.
الله سيحول جميع مشاكلك إلى حلول، وكل آلامك إلى عافية، وكل أحلامك إلى واقع، وكل دموعك إلى ابتسامات..
حتى لو مت، فالحي الذي لا يموت، سيعيد حقك لأبنائك من بعدك، لا تنشغل في لحظة وجعك وغمرة آهاتك بأبنائك من بعدك، فالحي الذي تموت أنت ولا يموت هو سيكون لهم، سيكون معهم، سيرأف بحالهم، سيسعدهم، سيجعل حياتهم أفضل منها وأنت معهم، لأنه الحي الذي لا يموت.
حتى لو يظلمك أحد، توكل عليه!
كم رأيت أبناء تربوا في المساجد ثم ألحدوا، والعياذ بالله؟
وأبناء صرف عليهم الآباء المال والرعاية ثم ضاعوا!
الله وحده يعلم مكان الهداية في قلبك ابنك، ادعه أن يملأه إيماناً، توكل عليه، قل له بخضوع: يا رب، هذا ابني، وأنت ربي وربه، فاهده إليك ودله عليك وأعني على تربيته..
يا رب أنا لن أحسن أن آمره بالصلاة ما لم تعنّي.. وهو لن يحسن أن يصلي ما لم تعنه.
فأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا الله.
توكل عليه في سعادة حياتك، فالحياة جحيم بلا الله!
دعك م حاجاتك وأحلامك وهمومك، دعنا نتخيل أنك إنسان بلا حاجات وبلا أحلام وبلا هموم وبلا أمراض، أنت تحتاج أن تتوكل عليه ليحبك؟
ألست تريده أن يحبك؟
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
إن هذا المعنى لا يمكن لمن لديه أدنى رهافة أن يمر عليه دون أن يخفق فؤاده حنيناً وشوقاً، الله الذي لا إله إلا هو يحبك، هذا سبب كاف جداً أن تسعى إلى التعلق به، وأن تتوكل عليه.
يأتي بعض الناس ليثبطوك، ليهزوا يقينك الداخلي، ليأمروك أن تخشى.. أن تخاف.. أن تغير موقفك أو تحرف وجهة مبادئك، في تلك اللحظة اغسل قلبك بالإيمان وقل:
حسبي الله ونعم الوكيل، لحظتها ستنقلب بنعمه من الله وفضل، ولن يمسك سوء! اقرأ بتدبر:
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وإذا توكلت على الله فلا تعتقد أن المسألة تتعلق بأنك لم تجد غيره لتتوكل عليه، لا أبداً، أنت تتوكل على أعظم ما يمكن أن يتوكل عليه مخلوق.
أتدري لماذا يكفي أن تتوكل على الله؟ هناك سببٌ مقنع جداً، هو كونه يملك السماوات والأرض:
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا
هذا المرض الذي هدك ولم تجد علاجه، أليس في الأرض؟ إذن هو ملك لله، وهو القادر على أن يأمره أن يغادر جسدك!
فلا تتخذ وكيلاً غيره، واحذر أن تلتجئ إلى سواه، سوف يصيبك الوهن، ويتعلق قلبك بشُعب الدنيا، فلا تتكل على غيره وهو الحي، ولا تلتجئ إلى غيره وهو المُقيت.
الحياة مزرعة مليئة بالأمراض والأتعاب والأشباح والخطط والمؤامرات، وبدون رعاية الله ستبتلعك هذه الأفاعي!!
هو حسبك وكافيك ورادّ السوء عنك.. أنت إن لم تحطك رعاية الله من كل جانب هلكت!
وإذا نمت ألجئ ظهرك إليه وفوض أمرك إليه رغبة ورهبة إليه، في كل حين وكل لحظة تذكر: هناك رب أمرك أن تتوكل عليه، وأنت تحتاجه، لا تفرط في هذه الفرصة.
قل: يا الله توكلت عليك..
هل قلتها بقلبك؟ الآن ابتسم، كل تلك الأفاعي انتهت!
اللهم اجعلنا متوكلين عليك، ملتجئين إليك، اغمرنا بالإيمان بك، واجعل هذا الإيمان يغسلنا من التعلق بكل ما هو دونك يا رب.
الشكور:
عش مع الشكور، تأمل ظلال هذا الاسم العظيم، امسح تجعدات الحياة المتعبة بمعاني هذا الاسم الجليل.
سبحانه يشكر عبده على ما قدم من عمل صالح، وهو سبحانه يأمرك بهذا العمل الصالح الذي فيه صلاح دنياك وآخرتك، فإذا عملته، يكون سبحانه المستحق لشكرك، لأنه يسره لك، وأصلح حالك به، ولكنه بكرمه هو من يشكرك عليه!
فهل في الكرم مثل هذا؟ وهل في الجود قريب من هذا؟ كيفك يشكرك؟
هذا سؤال تفنى الأعمار دون الإجابة عنه!
تعمل عملاً صالحاً يستحق أجراً مثله، فيأجرك الله مثله سبعمئة مرة، ويضاعف لمن يشاء!
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ
سبحانه إذا أعطاك أدهشك، وإذا أكرمك أذهلك.. ومن ذا الذي لم يعطه العظيم ويكرمه الكريم؟ نحن في كل لحظة من حياتنا بل في كل جزء من اللحظة نستقبل ما لا يمكن إحصاؤه من العطايا والهبات!
فالصحابة الذين بذلوا أرواحهم وأعمارهم وأموالهم نصرة للدين شكرهم الله بأن جعل الكلام فيهم من علامات النفاق، ورضي عنهم وضاعف أجر أعمالهم، وعدّلهم جميعاً بلا استثناء، وجعلهم خير القرون وقال فيهم:
لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
وكل هذا شيء من شكر الله لما قاموا به من تصديق وجهاد وبذل.
فكما يشكر الكريم من عمل معروفاً، فكذلك سبحانه وله المثل الأعلى يشكر شكراً يليق بكرمه وعزته وعظمته، فهو لا يشكر الأعمال العظيمة فقط بل حتى مثقال الذرة منك يشكره وينميه:
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ
فقد أدخل امرأة الجنة بشق تمرة، وبغياً بأن سقت كلباً، وثالثاً كل حياته ذنوب فأمر أبناءه أن يحرقوه ويذروه بعد موته خوفاً من أن يعذبه الله، فأدخله الجنة بأن خاف منه، ورابعاً ليس له إلا حسنة واحدة لأنه تصدق بها على صاحبه، وخامساً *** مئة نفس! لأنه هاجر إليه..
ومن شكره أن يعجل بثواب المتصدق، فيرزقه بركه ويغدق عليه من نعمه، ويخبرنا عليه الصلاة والسلام:
إن الله يقبل صدقة عبده بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم فلوه.
وهذا من شكره وفرحه سبحانه بطاعة عبده!
إني أعيذك أن تكون تعلقاتك وإراداتك كلها دنيوية، فكثير من الجزاء يدخره الله لك أحوج ما تكون إليه في الآخرة.
ومن أوضح صور الشكر الرباني هو ما اقترن ببر الوالدين من تيسير في العيش والتوفيق في جميع الشؤون، حتى كأن النجاح في الحياة حصر على أصحاب البر، يمكنك أن تستعرض من تعرفهم من الناجحين، ستجد بر الوالدين جامعاً مشتركاً بينهم، ولا بد!
أما إن سألت عن أعظم خير يمكنك فعله، فهو أن تسلم وجهك لله، أن تحيا مسلماً، وتعبد الله مسلماً، وتعامل الناس مسلماً، وتنظر وتتكلم وتشعر مسلماً، ثم تموت مسلماً!
سئل الإمام أحمد: من مات على الإسلام والسنة مات على خير؟
فقال له: اسكت، بل مات على الخير كله!
قيل لأعرابي: إنك تموت! فقال ثم إلى أين؟ قيل إلى الله! فقال: كيف أكره أن أقدِم على الذي لم أر الخير إلا منه؟
شعور عظيم ورجاء بالله كبير ذلك الذي يملأ فؤاد هذا الأعرابي، يقره عليه القرآن الكريم:
وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ
تعبده ستين أو سبعين سنة، أكثرها دون التكليف أو نوم أو في عمل المباحات، ومع ذلك يكافئك عنها بجنة عرضها السماوات والأرض، تسكنها الأبد كله!
فإن كان سبحانه يعطي لا على شيء، فكيف إذا كان هناك شيء؟ كيف إذا فرقت بينك وبين عباده الذين يرزقهم ويتحبب إليهم بالنعم بأن عملت صالحاً يرضاه، عند ذلك لا يجوز لك أن تعتقد أن لن يكرمك الكريم ويشكرك الشكور ويحمدك الحميد سبحانه.
يبذل عيسى عليه السلام عمره له سبحانه، منذ أن نطق كلمته الأولى في المهد وهو عبدٌ لله، فيتآمر ضده شرار بني إسرائيل لي***وه، فيكون شكره له سبحانه من أغرب الشكر، رفعه إليه!
هكذا انتشله من بؤرة الهم والمكائد والقلق، وجعله في سماواته يعيش مع ملائكته وخيار خلقه.
والله هو القادر على انتشالك مما أنت فيه، أعلم جيداً أن لديك من الهموم والكروب ما لا يتناسب مع النجاة منها إلا لفظة "انتشال"، اعمل الخير لينتشلك الله به، كما كان تسبيح يونس سبب انتشاله من بطن الحوت.
إنك تتاجر مع ذي الكرم المتناهي وذي الشكر المتناهي وذي الفضل المتناهي.
ليست هنالك احتمالية خسارة في سوق الله من يسير أمرها، فكن معه ثم ارقب أفضاله وشكره.. لن يتركك، ثق بذلك، لن تسجد لله سجدة إلا ويشكرك عليها شكراً يليق به وبكرمه، فقط كن معه.
اللهم أوزعنا أن نشكر نعمك.. واجعلنا لك ذاكرين، ولنعمك شاكرين، واهدنا لأعمال تجزل لنا عليها الشكر يا شكور يا حميد.
الجبار:
هل هشمتك الظروف؟ وتواطأت ضدك الكروب؟ وتكالبت عليك الأزمات؟
روحك المنكسرة، قلبك المهشم، أنفاسك الضعيفة تحتاج إلى من يجبر التهشم والضعف والانكسار!
من معاني الجبار: أنه يجبر أجساد وقلوب عباده، العيش في كنفه يمدنا بمراهم الصحة وضمادات السعادة، ومسكنات الأوجاع، سمى نفسه بالجبار، ليعلّم عباده أنه هو القادر على جبرها فيلتجئون إليه.
انكسارات الحياة عديدة وبقدر هذه الانكسارات تتفتح أبواب السماء بضمادات الرحمة ومجبرات الود!
شُرع لنا أن نقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني واجبرني.
إذا التهبت نفسك، وإذا احترقت أحلامك، وإذا تصدع بنيان روحك فقل: يا الله..
تتزاحم الآلام في قلب العبد حتى ما يظن أن لها كاشفة، فإذا بالجبار يجبر ذلك القلب، وبعد أشهر ينسى العبد كل آلامه وأوجاعه لأن الله لم يذهبها فحسب بل جبر المكان الذي حطمته، فعاد كأن لم يتهشم بالأمس!
سجّادة توججها إلى القبلة، تقضي على تلك الهموم والكروب في لحظات بإذن الله!
يحبك سبحانه مبتسماً، فيصنع من جميل أقداره ما يعين ثغرك على الافترار، ويجعل الابتسامة تطرد ملامح الكرب عن وجهك.
إذا رأيت منكسراً فاجبر كسره، كن أنت الذي يستخدمك الله لجبر الكسور، لا تنم وجارك جائع، لا تضحك وأخوك يبكي، لا تنعم بدفء بيتك وهناك من هدهدت رياح الشتاء أبدانهم الضعيفة.
كن النافذة التي يتسلل منها الهواء الشفيف على النفوس التي خنقتها أدخنة الحياة الصعبة، تخلّق بخلق الجبر، كن اليد العليا.
يزور النبي ﷺ اليهودي المريض!
يكنس أبو بكر رضي الله عنه بيت العمياء ويطبخ لها طعامها!
يموت خصوم ابن تيمية فيبشرونه بذلك، فيغضب ويذهب مباشرة إلى أهله فيعزيهم ويقول لهم: أنا كوالدكم، لا تحتاجون شيئاً إلا وأخبرتموني!
كانوا منشغلين بالمهمة العظيمة، مهمة جبر القلوب المنكسرة، كان الله يستخدمهم لذلك الشرف العظيم.
قل يا الله.. بيده مفاتيح الفرج، الشفاء له خزينة عظيمة القدر والحجم، أتعلم أين هي تلك الخزينة؟ إنها عند الله!
السعادة كذلك لها خزينة، أتترك من بيده ملكوت كل شيء، وتنصرف إلى عبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا؟
والكلام هنا.. ليس عن طلب العلاج، فهو مشروع، بل حديثنا عن التعلق بالمخلوق ونسيان الخالق!
ينزل رسولنا ﷺ من الطائف محملاً بقدر عظيم من الحزن والحرقة والانكسار، بعد أن أدمى السفهاء عقبيه الشريفتين بالحجارة، يراه ملك الملوك، يرى قلبه المكتظ بالآهات، فيرسل جبريل ومعه ملك الجبال، لينهي تلك الحُرق، يرسله في مهمة خاصة، مهمة تتعلق بدكدكة الجبال الراسية!
فينظر ملك الجبال إلى النبي ﷺ وهو في أحزانه فيقول: أمرني الله أن أمتثل لأمرك يا محمد، فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت!
إذا أراد الله أن يجبر كسرك، أهلَكَ مدينة بأكملها لأجلك!
ولكن محمداً ﷺ يستأني بهم ويعفو عنهم.
هل يستطيع غير الله أن يجبر كسور الروح بمثل هذا؟
يدخلون إلى عينيك ليسرقوا أجمل أحلامك.. ويتسللون إلى قلبك ليمسحوا أروع ذكرياتك! وكلما انطفأ حلم خلق الله لك حلماً أجمل، وكلما بهتت في قلبك ذكرى صنع الله لك ذكرى أروع!
الصلاة.. تردم هوة اليأس في أرواحنا، وسبحان ربي العظيم تخلق فرحاً نجد طعمه في ألسنتنا، وسبحان ربي الأعلى تحلق بنا حول العرش.
دعوات الوالدة دفء في شتاء الحياة، وزيارة الصديق متعة في صخب العيش، وسؤال الجار عنك يلون لوحة نفسك الرمادية.
الحياة مليئة بالمجبّرات، وربنا يريدنا أن نسعد، أن نبتسم، أن نحيا حياة جميلة.
فما الذي يبطئك عن الله؟
ما الذي يجعلك تتأخر عن الانضمام لركب الأواهين الأوابين، الذي يرتلون كلامه في جوف الليل؟
كن في حياتك ساجداً كما كنت في بطن أمك، يكفيك الله رزقك ويجعل أضيق الأماكن أهنأها، ويحيطك برحمته.
كن ساجداً بقلبك، وإن رفعت رأسك.
اهمس بشرايينك: يا جابر المنكسرين اجبر كسري، ثم تأمل في المعجزة وهي تشكل روحك من جديد!
الهادي:
أكلتك الحيرة؟ هل تشعر أن عقلك أعجز من أن يحدد لك الصواب من الخطأ، هل تزاحمت في عقلك مميزات فتاتين لا تدري أيهما تتزوج؟ بل هل تعبت من دروب الضياع وتريد أن يمن الله عليك بأن يدلك على طريق النور والهداية؟
إذاً أنت تحتاج أن تتعرف على هذا الاسم العظيم، أن تسترشد الهادي سبحانه ليوقف في نفسك جيوش الحيرة ويهديك إلى السراط المستقيم!
فهو سبحانه يهديك، فيحرف مسارك عن الضلالة إلى الرشد، وعن الغواية إلى الطريق الأقوم.
يهديك بما تظنه صدفة: يهديك بآية تسمعها في صلاة، ويهديك برؤيا تراها، ويهديك بنصيحة عابرة، ويهديك بكلمة تقع عينك عليها في كتاب، ويهديك بومضة غير مسبوقة بتفكير، ويهديك بظروف تدفعك إلى الصواب، ويهديك بالخوف، ويهديك بالحب، ويهديك بالموت!
وأما سماع القرآن فأصل الهدايات، ومن أعظم ما جعله الله سبباً لهداية عباده، فقد ضمّن فيه كل أسباب الهداية والرشد، قال تعالى:
إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
فيستحيل على عاملٍ بما في القرآن أن يصاب بزيغ أو انحراف أو نكوص!
قد يهديك ثم لا تقوم بواجب تلك الهداية من شكر وعمل بمقتضاها فيسلبها منك، مثل ذلك الرجل الذي آتاه الله آياته:
فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ
وقد يهديك فتشكره وتعمل بمقتضى الهداية فيمن عليك بهداية أخرى فتشكره وتعمل بمقتضاها ثم يفضل عليك بهداية ثالثة ورابعة، ويجعل حياتك هدايات يمسك بعضها ببعض.
هؤلاء فتية الكهف.. هداهم بأن جعلهم مؤمنين، ثم هداهم أيضاً بأن جعلهم صابرين على إيمانهم، ثم هداهم بأن دلهم على طريق النجاة، ثم هداهم بأن هيأ لهم حالاً أنجاهم بها، بأن ضرب على آذانهم في الكهف سينين عددا، قال عنهم سبحانه:
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
فالله يبصر اضطراب الرعب في قلبك، لقد كان يسمع وجيف فؤادك، لقد علم تمثّل الموت عطشاً في نفسك، فأذِن لوميض داخلي أن يشتعل لتحس بالطريق، وتصل بسلام.
يخرج ابن تيمية من بين البيوت وقد ازدحمت الأقوال في رأسه حول تفسير آية، يقرأ عنها عشرات التفاسير، فلا تخلصه تلك التفاسير من ضوضاء الحيرة، فيمرغ وجهه بالتراب ويبكي ويقول:
يا معلم داوود علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.
فيعود وقد تحددت الأقوال الراجحة في عقله بنور الهداية الربانية!
ومن أعظم هداياته إعادة خلقه إليه، ودلالة التائهين عليه، وفتح أبواب التوبة لمن أذبل أرواحهم خريف الحوبة.
يخرج في ظلام الليل ليعصي ملك الملوك، كل جوارحه مندفعة للوصول إلى وحل المعصية، ولكن الله في تلك اللحظة الحاسمة يأمر الهداية أن تصل قلبه قبل أن يصل هو إلى المستنقع، فإذا بكل ما بناه من أحلام سوداء ينهار فجأة، وكل شيء يتطاير من حوله، يلتفت إلى جهة أخرى، ليست جهة المستنقع.. إنها جهة تطل من بين منحنياتها منارة المسجد، فيبدأ عهداً مضيئاً مع الهادي سبحانه.
وقد تكون في غمرة النسيان فيذكرك به، تكون في حومة المعصية فيوقظك، تكون في وسط المستنقع فيطهرك، تكون في داخل الجب فيدلّي إليك حبلاً..
يهديك بحبٍ يغمر فؤادك، أو بخوف يزعزع استقرارك، أو بمرض يذل كبرياءك، أو بحاجة ترغم أنفك، أو بفقر ينقض ظهرك، أو بخواء يعذب روحك.
تخرج من بيتك قاصداً مسجداً وفجأة تغير الطريق إلى مسجد آخر، بعد الصلاة تسمع كلمة يلقيها أحد الدعاة تغير شيئاً كان مستقراً في قرارة نفسك! يغير طريقتك أو حتى طريقك..
والعبد صاحب الروح المرهفة يستنبط هدايات الله سبحانه، ويعلم أن الكون مربوب له سبحانه، وأن الله سبحانه قد يهديه بأي شيء في كونه، وقد يضله والعياذ بالله بأي شيء في كونه!
ولن يضل سبحانه إلا من أغلق قلبه عن الهدى ودين الحق.
إذن: ضياع هذه الحياة إن لم تأتك الهداية من عنده.. أعظم من فظاعة الضياع في تيه الصحراء، سنكون بذلك في غربة أقسى من غربة طائرٍ فقد سربه في فصل الشتاء، فقررت الثلوج أن تبتلع أحلامه المحلقة!
اللهم ارزقنا هداية من عندك تنتشلنا من صحراء التيه، وتوصلنا إليك، وتدخلنا بها جنة عرضها السماوات والأرض.
الغفور:
إذا كنت قد تعبت من ذنوبك وخطاياك وشعرت أن شؤمها قد نغص عليك حياتك، وأن ظلاماً وقتامة قد أطفأت في عينيك بهجة أيامك ولياليك، وأنك ما عدت تستلذ بصلاتك، ودعائك، وعبادتك، فاعلم أن الوقت قد حان لتدلف إلى عالم الأنس والمغفرة، متلمساً معاني الغفران والتجاوز في اسم الله: الغفور.
لأن بلاء الروح بالذنب أعظم بكثير من بلاء الجسد بالمرض، روحك تأن تحت وطأة العصيان، نعم قد يكون جسدك استلذ لحظة المعصية، لكن روحك تجأر إلى الله!
ولو لم يكن هناك جنة ولا نار، الذنوب وحدها جحيم، وحميم، وعذابٌ أليم!
هل تعلم أن كل مصيبة من مرض أو وهم أو حزن أو ألم هي بسبب معاصيك؟
اقرأ قوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ
كان المسلمون يعتقدون أن إسلام حمار عمر بن الخطاب أقرب إلى المعقول من إسلام عمر! لشدة عداوته للإسلام، وكرهه لهذا الدين، ثم يفتح له الغفور أبواب التوبة ليصبح: عمر الفاروق!
خالد بن الوليد يصعد على جبل الرماة في غزوة أحد ويُ*** بسببه عبدالله بن جبير وصحبه الذين كانوا على جبل الرماة، بل يكون السبب في أعظم هزيمة يُمنى بها الجيش الإسلامي بقيادة النبي ﷺ، ويكون السبب في أن يُجرح نبي الله ويشج رأسه وتكسر باعيته وتدخل حِلَق المِغفَر في وجهه الشريف.
ولكن.. يسلم، فيغفر له الغفور، يمسح سبحانه كل تلك الطوام..
ويتحول من السبب الأهم في هزيمة المسلمين في غزوة أحُد إلى: سيف الله المسلول!
وكل تلك الدماء الزكية التي سفكها؟ وحلق المغفر؟ والدماء النبوية الطاهرة؟ كل ذلك غفره الله!
أبو سفيان بن حرب، صفوان بن أمية، عكرمة بن أبي جهل، عمرو بن العاص وغيرهم كثير، كانت ذنوبهم: شركاً بالله، ومحاربة للدين، و***اً للصحابة، ثم يغمرهم الغفور الرحيم بمغفرته ليكونوا صحابة! أتدري ماذا تعني كلمة صحابة؟ تعني أفضل البشر بعد الأنبياء!
الإحساس بالذنوب وهي تحيط بك يجعل روحك تأن، وأفكارك تميل إلى اللون الأسود، وكلماتك متوترة جداً، فإذا ما اقتربتْ منها: أستغفر الله احترق الأنين والسواد والتوتر.
فقد سمى نفسه بالغفور لأنك بلا مغفرة ستحترق، ستلتهمك الغصص، ستشعر بالاختناق الحقيقي، ستدمن البكاء.
إذا ظننت أن ذنبك أعظم، اسمع لربك الذي يعلم كل ذنب سيقترفه عباده من لدن آدم وحتى قيام الساعة، يعلم بتفاصيل تلك الذنوب وخطواتها وشناعة أمرها:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
المهم هو أن تسبق (أستغفر الله) بالإقلاع عن الذنب، أن تتوقف..
كيف تقول: اغفر لي خطئي، وأنت عاكف على الخطأ؟
كيف تُمسح معصيتك، ثم تعود لكتابتها من جديد؟ توقف.. اجعل (أستغفر الله) صادقة، تستحق أن تُفتح لها أبواب السماء.
المفغور لهم.. تدمع عيونهم ولكنهم لا ييأسون من رَوح الله أبداً.. ينامون بالليل في طمأنينة، لأن أغرب توقع هو أن يموتوا؟ وماذا لو ماتوا؟ إنهم بلا ذنوب تجعل الموت شبحاً مرعباً.
ألست مشتاقاً لأن تجد الله غفوراً رحيماً؟ استغفره إذن!!
فالغفور عَلِم أن الذنوب ستفسد عليك حياتك، ستقهر روحك، ستجعل الليل وحشة والنهار ملل، وتفاصيل الحياة وهم، والنوم اختناق، والوحدة بكاء، فقال لك:
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ
يغفر دائماً.. ويغفر بكرم، ويغفر ما لا يغفره بشر، ويغفر بإدهاش!
يغفر ما بين الصلاة والصلاة، وما بين العمرة والعمرة، وما بين رمضان ورمضان، وما بين الحج والحج إذا ما اجتنبت الكبائر!
ويغفر ما لا يغفره البشر:
فيغفر ذنوب بغيٍّ كل حياتي ذنوب ومعاصٍ بأن سقت الكلب ماء!
ويغفر بإدهاش.. كما حصل لمن حضر غزوة بدر فقد اطلع عليهم ربهم وقال لهم:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم!
قال ابن كثير: وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر، فإن هذا الذي لم يكن في بُحيحة القتال، ولا في حومة الوغى، بل كان من النّظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب، وهو يشرب من الحوض، ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس الأعلى.. فما ظنك بمن كان واقفاً في نحر العدو.
ابدأ عهداً جديداً مع اسم الغفور، افرح لأنه يغفر الذنوب، وسارع في الاستغفار، وطلب هذه المغفرة يكون باتباع أوامره واجتناب نواهيه.
ألم تمل من الكربات التي بعضها فوق بعض؟ ألا تشتاق للابتسام الذي يخرج من القلب؟ إذن لماذا لا تستغفرونه؟
القريب:
أتشعر بالوحشة؟ هل خذلك صديقك؟ هل تحس أن بينك وبين أعز الناس حجاباً مستوراً، فلم يعد يفهمك كما كان؟ هل روحك تأن شوقاً إلى حبيب تبث إليه لواعجها؟
لماذا لا تنصرف إلى الذي لا يجفو من أتاه متقرباً؟
الله الذي هو أقرب إليك من حبل الوريد، والذي ستغدو حياتك أنساً وسعادة معه، له اسم عظيم، موغل في الجمال، مكلل بالبهاء.
في الوقت الذي يريدك أن تعلم أنه على العرش استوى، يريدك أن تتيقن أنه أقرب إليك من حبل الوريد!
تضيع دابّة أحدهم فيمشي مبهوتاً فيراه إبراهيم بن أدهم فيسأله فيقول: ضاعت دابتي، فيقف إبراهيم ويقول: يا الله، لن أمشي خطوة حتى تعيد لهذا دابته، فإذا بها تظهر من منحنى الطريق!
يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل، ويذهب ليطرق بابَ أٌبي بن كعب، فيخرج أٌبي، فإذا برسول الله يخبره: أمرني الله أن أقرأ عليك الفاتحة، يقول أٌبي بذهول: وسمّاني؟ فيقول نعم، فيبكي أٌبي!
لا تتوهم أنه بعيد، أو أنه تخفى عليه منك خافية، فأقرب ما تكون إليه وأنت ساجد، تتمتم بـ (سبحان ربي الأعلى)، فإذا بالسماوات تتفتح لتمتمتك، وإذا بالجبار يسمعك!
وقربه سبحانه وتعالى قرب علم وقرب سمع وقرب بصر وقرب إحاطة، لا قرب ذات، لأن ذاته العلية منزهة عن مثل هذا القرب.
ينزل سبحانه وتعالى في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا فيقول:
هل من سائلٍ فأُعطيَه هل من داعي فأستجيبَ له هل من تائبٍ فأتوبَ عليه هل من مستغفِرٍ فأغفرَ له
تأتي امرأة تجادل في زوجها، وعائشة رضي الله عنها في طرف البيت تقول إنها تسمع كلمة وتغيب عنها كلمة، وبعد ذلك الجدل ينزل جبريل على محمد ﷺ أن:
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
يا له من قرب عجيب، وعلم عظيم، وسمع محيط، وبصر نافذ..
استمع إليه وهو يهدئ من روع موسى عليه السلام عندما أعلن خوفه من الذهاب إلى فرعون فقال له:
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ
هذا يكفي.. لأنه معهما يجب ألا يخافا من فرعون، يجب أن يكونا شجاعين بطلين شامخين.
ولله معيّتين: الأولى خاصة بأهل ولايته، وهي معيّة محبة ونصرة وتوفيق، ومعية عامة لجميع خلقه وهي معيّة علم وسمع وبصر وإحاطة.
إذا صفعتك المخاوف فابتسم، وتذكر قربه منك سبحانه.. فكل الأشياء التي تخاف منها، ليست أقرب إليك منه!
وإذا التأمت حولك الخطوب فتفائل! وشتتها بفكرة أنه أقرب إليك من حبل الوريد!
إنه القريب.. فقط حرّك شفتيك بذكره، تتفتح أبواب السماوات لصوتك.
كان يونس عليه السلام في بطن الحوت ينادي:
لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
فكان الصوت الضعيف المنطلق من الظلمات الثلاث يخترق أجواز الفضاء لتسمعه ملائكة السماوات فتقول للرب سبحانه:
صوتٌ معروف، من مكانٍ غير معروف!
يقول الله عز وجل في الحديث القدسي:
من ذكرَني في نفسِهِ ذكرتُهُ في نفسي ، ومن ذكرَني في ملإٍ ذكرتُهُ في ملإٍ خيرٍ منه
لأنه قريب، فقط قل يا الله، يكون الرد بأن يذكر اسمك!
ما أجل أن تتخيل أن ملك الملوك في هذه اللحظة يقول اسمك! يقول: عبدي فلان بن فلان يذكرني!
الدنيا كلها تافهة، لا تساوي مثل هذا التخيل..
قريب لا تحتاج حتى تصل إليه إلا أن يخطر ببالك، أن تشعر بقربه، أن تحس بأنه يراك، ثم تقول: يا الله..
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أي شخص يسألك عن الله فأول شيء تصف به ربك هو أنه قريب منه! النفوس مفطورة على عدم استعدادها لعبادة رب بعيد، لا يسمع دعائها، ولا يرى حاجاتها، فمن أهم الصفات التي تبتدر بها الذي يريد التعرف إلى الله أن تخبره أن ربه "قريب"، هكذا علمك سبحانه أن تخبر عنه!
وهذا القرب علاوة على أنه يجعلك تحبه، وتأنس به وتخشاه، إلا أنه فوق ذلك يجعلك تدمن على استغفاره والتوبة إليه، فالقريب من جهة يستحق أن يُستغفر ويتاب إليه، لأنه بقربه اطلع على كل غدراتك وفجراتك، ومن جهة أخرى فهو قريب قرباً يجعل استغفارك وتوبتك ناجعة، فلن يغفر لك إلا من سمع استغفارك ولن يتوب عليك إلا من علم توبتك، فهو القريب المجيب، وبعد كل هذا تأمل قوله سبحانه:
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ
ألا يستحق أن تحبه؟ في اللحظة التي تغلق الباب على نفسك حتى تعصيه، يدخل لك الأكسجين من تحت الباب حتى لا تموت!
وفي أجواء المحن التي تعيشها الأمة، ومن بين أدخنة الحروب المهلكة التي تمس أفئدة المؤمنين باللأواء، يحتاج المؤمن هناك إلى ثلاث مستويات معرفية باسم القريب:
الأول: معرفة قربه سبحانه إيماناً ويقيناً، ليريح نفسه من عناء الصراخ والاستنجاد بالبشر، فيجد آية في القرآن تقول له بوضوح (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)، يلقي عند أعتابها حُرقات روحه الملكومة، وكل ما سبق يصب في خانة هذا المستوى المهم.
الثاني: ومن بين لهيب القهر، ورؤية تفاصيل الشتات، وتهدم البيوت، وموت الأنفس، يريد رحمة، يبحث عن رحمة، يتمنى رحمة تنهي عذابات خذلان الإخوة، فيقف عند قول الحق سبحانه (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)، ولا يزال العبد ينتقل من إحسان إلى إحسان، وتكون في المقابل رحمة الله أقرب إليه من غيره، حتى تغشاه الرحمة من كل مكان، تنتزعه من أدخنة الموت إلى سحائب الرضا.
الثالث: وتطول الأيام وتتوالى الزفرات، وتشتد البلاءات، ويُحكم الحصار من كل مكان، فترى آية الحق (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، فيربط الله بذلك على قلوب أضناها الانتظار، وأرهقها الاصطبار، فينتظرون هذا النصر القريب من ليل أو نهار.
اللهم يا قريباً ممن دعاك ورجاك، اكتب لنا قُرباً من رحمتك وهدايتك، قُرباً تؤنسنا به، وتذهب عن أرواحنا وعثاءها، وتدخلنا به الجنة.
وبعد.. فقد عرفتَ شيئاً عن بعض أسمائه، فعليك التزود بمعرفة المزيد عنها وعن غيرها، وأن تجعلها نبراس حياتك، وهداية قلبك، ونور أيامك، لتحوز على سعادة الدنيا والآخرة.
ولي رجاء: إن خفف هذا الكتاب عنك ألماً، أو رسم على ثغرك ابتسامة، أو غير حالك إلى الأحسن فلا تنس كاتبه، ومن أفاده، ومن أعانه، ووالديهم وجميع الملسمين من دعوة بظهر الغيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مقتطفات من كتاب لأنك الله
علي بن جابر الفيفي (<h1 dir="rtl" style="text-align:center"><strong><span style="color:#0000cc">:: الأعضاء المسجلين فقط هم من يمكنهم مشاهدة الروابط </span><a href="لايمكنك مشاهده الروابط الا بعد الرج" target="_blank"><span style="color:#0000cc">للتسجيل اضغط هنا</span></a><span style="color:#0000cc"> ::</span></strong></h1>
)
فهذه كلمات عن بعض أسماء الله، حرصت أن أجعلها مما يفهمه متوسط الثقافة، ويستطيع قراءته المريض على سريره، والحزين بين دموعه، والمحتاج وسط كروبه، ولدي يقين أن تعلق القلب بالله، وحبه وخوفه ورجاءه، كما أنه سر سعادة الآخرة، فهو سر سعادة الدنيا كذلك، فأردت بهذا الكتاب أن أربت على أكتاف أتعبتها الأوجاع، وأمسح بها على رؤوس صدعتها الآلام، وأردت أن أواري بأحرفي الدموع، وأن أطفئ لهيب الضلوع.
إننا بدون معرفة أسماء الله في صحراء تائهون، تتبدد أيامنا في لهيب تلك الصحراء، ودوامة كثبان القلق النفسي، ولتختار الله: معرفة، وإيماناً، ويقيناً، وعبادة، وخضوعاً، ثم أنساً، وسعادة، وهناء.. أو اختر التيه، والضياع، والاختناق، والشعود بالكآبة، والتمزق النفسي.
في ظلال الصمدية:
الصمد اسم بالغ الهيبة، قوي الحروف، شامخ المعنى، قليل الورود والذكر، ذو جلالة خاصة.
إذا حاصرتك الحاجات، وداهمتك الخطوب، والتفّت من حولك الهموم، وأخذت روحك في الهرب إلى المجهول، فأنت بحاجة إلى أن تصمد إليه.
سيمدك بكل ما تحتاجه لتكون قوياً في هذه الحياة، وتجابه واقعك بشموخ، وتتجاوز عقدك بعزيمة!
الصمد هو أن تصمد إليه الخلائق، أي تلجأ إليه، وهو أجلّ معاني هذا الأسم، هو المقصود في الرغائب، المستغاث به عند المصائب، والمفزوع إليه وقت النوائب.
أحاطك بالاحتياجات لتحيط نفسك بأسمائه وصفاته، وهذا معنى الصمدية.
جاء شيخ أعرابي اسمه الحصين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله النبي: يا حُصينُ: كم إلهًا تعبدُ؟ قال: سبعةٌ في الأرضِ، وإلهٌ في السَّماءِ، قال: فإذا أصابك ضرٌّ من تدعو؟ قال: الَّذي في السَّماءِ، قال: فإذا هلك المالُ من تدعو؟ قال: الَّذي في السَّماءِ، قال: فيستجيبُ لك وحدَه وتشرِكُهم معه، فاترك الذين في الأرض واعبد الذي في السماء، فأسلم الحصين!
لقد اقنتع بسبب معنى الصمدية، لأن من تصمد إليه وقت الرهبة والرغبة هو وحده من يستحق أن تسجد له!
فالإيمان أسهل فكرة في الوجود، لا تحتاج إلى كتب، ولا إلى فلسفة، ولا إلى سبر وتقسيم، هي كلمة قلها بإخلاص، ثم اتركها لتشتت أفكار الزيف.. يختصر القرآن ذلك فيقول: (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ). كلمة "الله" كفيلة وحدها.. بإسكات أكبر أكاذيب الحياة.. فالكافر وهو كافر إذا سمع القرآن يخضع.
امرأة.. يخلو بها فاجر في إحدى الخلوات فيراودها عن نفسها، فيقول يحثها: لا يرانا إلا الكواكب، فردت بشموخ: فأين مكوكبها؟
أين الله؟! إنه قلب صامد إلى الله، يراقبه، متيقن أنه عليم خبير سميع بصير محيط!
وصموده إليه بقلبك تماماً كصمود المصلي إلى الكعبة ليصلي إليها!
هكذا يجب أن يكون القلب، يوزع رغباته في كل الاتجاهات، لكن الاتجاه الأمامي يجب أن يكون لله فقط.
تنقطع الأمطار، وتصبح الدنيا قاحلة على عهد موسى عليه السلام، فيخرج هو وقومه وهم آلاف من الرجال والنساء والولدان، فيرى موسى نملة خرجت رافعة يدها إلى السماء صامدة إلى رب السحاب، فعلم موسى أن هذا الصمود، وهذا الذل لن يعقبه إلا هطول السماء بماء منهمر، فقال لقومه: ارجعوا فقد كُفيتم، فعادوا على صوت الرعود، ورذاذ المطر!
أنصت إلى أولئك الذين تعبث بهم سفينة، أو يرون الموت وهو مقبل عليهم، وتعصف بهم رياح التقلبات سوف تسمعهم بجميع أديانهم يلهجون باسمه: يا الله!
ولهذا تصمد إليه.. لترتاح، ليهدأ لهاثك، لأنك بدونه تركض وتلهث وتتوتر، جعل في داخلك حاجة لأن تقول اسمه، هناك أمن يعم كيانك إن قلت يا الله، فإذا لم تقلها اختياراً، قلتها اضطراراً، وإن لم تذكرها إيماناً ذكرتها قهراً، وإذا لم تكن كلمتك في الرخاء، كانت صرختك في الشدة!
لماذا ننتظر حائجة تردنا إليه؟ ومصيبة تذكرنا باسمه؟ وكارثة نعود بها إلى المسجد؟
ألا يستحق أن نخضع ونلتجئ إليه دون جوائح وكوارث ومصائب؟
عدل بوصلة قلبك باتجاهه ثم سر إليه ولو حبواً على ركبتيك، ستصل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
إذا طلبت من غيره قد لا يجيبك، أو يجيبك ولكن يتأخر في تلبية طلبك، أو يلبيه مع إهانة، وقد لا يهينك ولكن نفسك تنكسر له.. أما الله فيعطي بالليل والنهار، ينصرك على الجميع إن كنت مظلموماً، لا يغلق بابه، يده سحاء الليل والنهار، أكرم الأكرمين، لذلك تصمد إليه كل الخلائق، فكل عارض يعرض إنما هو رسالة تقول لك: لديك رب فالتجئ إليه.
انظر بأي اتجاه شئت، ولكن اجعل في قلبك عينين لا تنظران إلا إلى عظمته!
استمع إلى الجميع، ولكن اصنع في قلبك سمعاً لا يدرك إلا كلامه!
امش إلى حيث شئت، ولكن احفر في قلبك خطوات نهايتها عرش الملك!
إذا أمسكت قلماً فتساءل: هل يرضى الله سبحانه عما سأكتبه في هذه الورقة؟
إذا هممت بكلمة تقولها فتساءل: هل سأقول شيئاً يرضيه؟
إذا وقفت موقفاً تساءل: هل موقفي هذا محبوب عنده أم لا؟
أصمد إليه في كل حين، وإذا ما استيقظت في منتصف الليل فتذكره، خيالاتك سوداء إذا لم تتذكره، عقلك خراب دون أن يمر اسمه على خطراتك، أحلامك مستنقعات، فإذا جاء ذكر الحي الذي لا يموت صارت أنهاراً وأشجاراً وعصافير شادية.
قال الخليفة لابن عمر وهو يطوف حول الكعبة: سلني يا ابن عمر، فنظر إليه بشموخ الصامد إلى الله وقال: من أمر الدنيا أم الآخرة؟ فقال أما الآخر فلله ولكن من شؤون الدنيا، فقال ابن عمر: لم أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسألها من لا يملكها؟!
فالصمود لله يحولك إلى عظيم، لا يبالي بمُلاك التراب.. الدنيا تخصص لا يقبل عليه الصامدون لله..
قال أمير لابن تيمية: سمعنا أنك تريد ملكنا يا ابن تيمية! فرفع ابن تيمية رأسه بشموخ وقال: والله إن ملكك لا يساوي عندي فلسين!
رجل يعرّض وجهه لله آناء الليل، كيف يذل لقطعة خزف أطراف النهار؟!
اللحظة التي تصمد فيها إليه لأجل حاجتك، هي نفسها اللحظة التي تصبح حاجتك ملك يمينك!
لا يستطيع العالم كله أن يمسك بسوء لم يرده الله، ولا يستطيع العالم كله أن يدفع عنك سوءاً قدره الله!
فاجعل وجهك إليه، وألجئ ظهرك إليه، وفوض أمرك إليه..
فهو الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
الحفيظ:
إذا شعرت أن حياتك في خطر، أو أن المرض يهدد صحتك، أو كان ابنك بعيداً عنك وقد خشيت عليه من الضياع أو رفقاء السوء، أو أن مالك الذي جمعته قد بات قاب قوسين أو أدنى من التبدد والتلف فاعلم أنك بحاجة إلى أن تعلم أن من أسماء ربك سبحانه "الحفيظ" وأنه ينبغي عليك أن تجدد إيمانك بهذا الاسم العظيم، وأنه قد جاء الوقت المناسب لتتفكر فيه وتتأمل..
فهو وحده من يحفظ حياتك، ويحفظ صحتك، ويحفظ أبناءك ويحفظ مالك، ويحفظ كل شيء في هذه الحياة!
يحفظ سمعك وبصرك، لذلك ندعوه في الصباح والمساء أن: اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري.
الحفيظ هو من يحفظ سمعك، الذي تسمع به الحرام، ولو شاء لأذهبه في لحظة.
ويحفظ بصرك الذي تنظر به للحرام، ولو شاء لأذهبه في لحظة.
لو لم يثبت قلبك على دينه لتناوشتك الشبهات، وتخطفتك الأهواء
علماء أفنوا أعمارهم بين الكتب والمحابر لم يرد الله أن يحفظ عقائدهم: فكفروا به سبحانه، وبعضهم صار مبتدعاً في الدين، وأنت بعلمك القليل ما زلت تسجد له، لقد حفظ الحفيظ دينك!
الحفيظ هو من يحفظ دينك، لا مجموعة المعلومات التي في رأسك، لا تغتر بعلمك، ولا بحفظك لكتاب الله، ولا باستظهارك لشيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والله ستزيغ إن لم يحفظ الله دينك!!
لأجلك أنت يأمر الحفيظ سبحانه أربعة ملائكة أن يحيطوا بك حتى يحفظوك بأمره من كل ما لم يقدّره عليك.
كيف لا يكون حفيظاً وقد أوكل بك هذا العدد من ملائكته الكرام حتى يصدوا عنك أي طلقة لم يشأ سبحانه أن تخترق جسدك، وأي صخرة لم يرد سبحانه أن تنهي حياتك، بل وأي بعوضة لم يشأ سبحانه أن تؤذي بشرتك!
أتعلم أنه يحفظك في كل لحظة؟ بل في كل لحظة يحفظك مئات المرات!! كيف؟
في هذه اللحظة: حفظ قلبك من التوقف، وشرايينك من الانسداد، وعقلك من الجنون، وكليتك من الفشل، وأعصابك من التلف، ورأسك من الصداع، وعينيك من العمى، وسمعك من الصمم، كل هذا وأكثر حفظه الله في هذه اللحظة.. فكم الحمد لله ينبغي أن نقولها في اللحظة الواحدة؟
إذا خرجت من بيتك وخشيت على اطفالك فقل: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، ستعود –بإذن الله- وهم في أحسن حال، لأنه الحفيظ!
وإذا ألجأتك الظروف أن تترك شيئاً ثميناً في مكان عام أو مكان غير آمن فانزح بقلبك إليه وقل: اللهم احفظه، وثق أن عين الله ستكلؤه إلى أن تعود.
ومن صور حفظ الله أنه سبحانه يدافع عن المؤمنين: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)
تأمل: إنه لا يدفع عنهم الشر، بل يدافعه عنهم! وفي هذه تلميح إلى ضراوة ما سيلاقونه وتعدد أشكاله وتنوع صوره، ولكن الله أعلم بما يوعي أعداؤه، فيدافعهم ويصدهم عن أحبابه.
وفي الحديث القدسي: "من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحربِ".
تخيل: حرباً بين عدو للدعوة والحق والدين، وبين الله!
يتجمع مشركو قريش حول غار فيه رجلان: محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، والإغراءات المالية تدفعهم ل***هما، معها الأحقاد الدفينة، والرغبة في حوزة وسام الظفر بأهم شخصية في تلك المدة..
يتسلل الخوف إلى فؤاد أبي بكر، فينظر إليه صاحبه العظيم ويقول: ما ظنّك باثنين، الله ثالثهما؟
يا أبا بكر، هل تعتقد أننا اثنان؟ كلا بل نحن ثلاثة!!
هنا تتشتت المخاوف، تزول الرعدة، يذوب التوجس:
وإذا العناية لاحظتك عيونها
نم فالمخاوف كلهنّ أمانُ
يقول سبحانه: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
لأجل عباده وأوليائه يلقي بالرعب في قلوب الذين كفروا فتنتفض أطرافهم فرقاً من أولياء الله!
ها هم فتية الكهف يلتجئون إليه ويسألونه الهداية فيلجئهم إلى كهف بلا باب، كهف مفتوح للبشر والهوام والسباع، ولكنه يريد حفظهم فيلقي عليهم أحد جنوده، إنه جندي الرعب!! فلا يقترب من الكهف أحد إلا وانترع الرعب رغبته في التقدم فتراه يهرع خائفاً: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا
يحفظك بالملائكة، إذا قرأت آية الكرسي قبل أن تنام أوكل الله لك ملَكاً يقوم على رأسك يحفظك مما لم يقدره الله عليك.
تخشى من ماذا إذا كان الله معك؟
نبي الله لوط عليه السلام يهجم قومه على بيته يريدون أن يخلعوا باب البيت ويظفروا بضيوفه، وهم ملائكة، يا له من عار أبدي أن يظفر فسقة قومك بضيوفك، فقال بكل ضعف:
لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ
يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: يرحَمُ اللهُ لوطًا ، لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديدٍ.
اختناق.. هذا كل ما في الباب، بعد ذلك اشمخ على مخاوفك وأحزانك، سينجيك الله منها كما أنجى ذا النون بن متّى.
لا هم ولا غم ولا كرب يقارب هم ذي النون يونس عليه السلام، كان في ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، يا لها من حياة بئيسة تلك التي ستقضيها إلى أبد الآبدين في بطن الحوت على تلك الهيئة الكئيبة..
لكنه يواجه ذلك السيل من الكروب بكلمة واحدة: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".
كلنا في هذه الحياة ذو النون، والحياة قد التأمت علينا بكروبها، ولن ينجينها منها إلا: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".
اللطيف:
إذا أراد اللطيف أن يصرف عنك السوء.. جعلك لا ترى السوء، أو جعل السوء لا يعرف إليك طريقاً.. أو جعلكما تلتقيان وتنصرفان عن بعضكما وما مسّك منه شيء!
اسم اللطيف.. ستكتشف لو تأملته أن لا مستحيل في هذه الحياة، وأن الله قادر على كل شيء، وأن أحلامك المستحيلة ستغدو ممكنة التحقق إذا ما طرقت باب اللطيف!
واللطف أصله خفاء المسلك ودقة المذهب، فلن يوصل إليك إحسانه برفق إلا من يصل علمه إلى دقائق الأمور وخفايا النفوس، فالله سبحانه "هو المحسن إلى عباده في خفاء وستر من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون".
وتأتي بلطفه عظائم المقادير والتي تستبعدُ أكثر العقول خيالاً وقوعها، فيجعلها كائنة حاضرة، فلا تنتبه إلا –وبقريب من المعجزات- قد بات بساحتك! لا تعلم كيف أمكنه أن يحدث، وتتيقن أن حولك وقوتك أقل من أن تُحدثه، فتنظر إلى السماء وتقول:
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ).
فإذا أراد اللطيف أن يكرمك جعل من لا ترجو الخير منه هو سبب أعظم العطايا التي تنالك!
وإذا أراد اللطيف أن يعصمك من معصية جعلك تبغضها، أو جعلها صعبة المنال منك، أو أوحشك منها، أو جعلك تقدم عليها فيعرض لك عارض يصرفك به عنها!
وعباد الله يرقبون تلك الألطاف من اللطيف، ويبصرونها ببصائرهم، وكأن كل قضاء ينالهم به بصمة لطفٍ يدركونها وحدهم.
عندما أراد اللطيف أن يخرج يوسف عليه السلام من السجن، لم يدك جدران السجن، لم يأمر مَلَكَاً أن ينزع الحياة من أجساد الظَلَمة، لم يأذن لصاعقة من السماء أن ت***ع القفل الحديدي، فقط.. جعل الملك يرى رؤيا في المنام تكون سبباً خفياً لطيفاً يستنقذ به يوسف الصديق من أصفاد الظلم!
ولما شاء اللطيف أن يعيد موسى عليه السلام إلى أمه لم يجعل حرباً تقوم يتزعمها ثوار بني إسرائيل ضد طغيان فرعون يعود بعدها المظلومون إلى سابق عهدهم، لا.. بل جعل فم موسى لا يستسيغ حليب المرضعات!
بهذا الأمر الخفي يعود موسى إلى أمه بعد أن صار فؤادها فارغاً!
ولما شاء اللطيف أن يخرج رسولنا عليه الصلاة والسلام ومن معه من عذابات شِعب بني هاشم لم يرسل صيحة تزلزل ظلم قريش، فقط أرسل الأرَضَة تأكل أطراف وثيقة الظلم وعبارات التحالف الخبيث! فيصبحون وقد تكسرت من الظلم العُرى، بحشرة لا تكاد ترى!!
تنام فيحب أن تقوم تصلي بين يديه، فيرسل ريحاً هادئة تحرك نافذتك، أو طفلاً من أسرتك يمر ويحدث ضوضاء بجوار غرفتك، أو حاجة شديدة في شرب شيءٍ من الماء، فتستيقظ وتنظر إلى الساعة، وبعد دقائق تكون واقفاً على السجادة تناجيه ولا تعلم أنه هو من أيقظك!
تخطط لمعصيته، تخرج ليلاً، تفاصيل الخطة محكمة، فجأة تمر سيارة من بعيد، فتشك أنت أن أحدهم يراقبك، فتنغّص تلك السيارة المارة فكرة الذنب لديك، فتبرد إرادتك وتعود إلى بيتك، ولا تعلم أنه هو من صرفك بلطفه عن معصيته!
ولا بد للطيف أن يكون عليماً، فكيف يكرمك ويمن عليك ويهديك بلطفٍ من لا يعلم مكامن هذا اللطف؟
يقول الشيخ السعدي: "وهو اللطيف الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا، وأدرك البواطن والخبايا".
ها هي رؤيا من أعظم رؤى البشرية يراها يوسف عليه السلام وهو في حالة تقول كل مؤشراتها الطبيعية باستحالة تحققها! يحكي رؤياه فيقول:
(إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ).
تأويل الرؤيا أن أباه وأمه وأخوته الأحد عشر سيسجدون له إكراماً له!!
كيف وأبوه نبي كريم، كبير في السن، ولا تقضي معهودات الأمور أن يكرّم الصغير الكبير، وأخوته يكرهونه فكيف سيسجدون له، بل إن كرههم دفعهم لإلقائه في البئر..
لكن اللطيف سبحانه يقدر الأقدار، ويصرف الأمور ويخرجه من السجن، ويجعله في منصب رفيع، ثم يقدّر القحط على البلاد، ثم يأتي بإخوته في ثياب الحاجة، وما تزال أقدار اللطيف تلتف لتحقق تلك الرؤيا القديمة، فيعجب يوسف لسجود والديه وإخوته ويقول:
(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).
هذا اختصار للطف الذي سيطر على المشهد ثم يضع التوقيع النهائي فيقول: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ).. نعم إنه اللطيف إذا أراد شيئاً هيأ له أسبابه بكامل اللطف وتام الخفاء، حتى أنه ليقع ما يستحيل في العادة ألا يقع! لأنه الله اللطيف الخبير.
تأمل حبة الخردل.. إنك لا تكاد تراها إن لم تكن محدقاً فيها: انظر إلى حجمها بالنسبة لكفك، ثم بالنسبة لحجم الغرفة مثلاً، ثم بيت، ثم قارن حجمها بدولتك، ثم بالأرض، ثم بالسموات الفسيحة، ثم ثق: إن أرادها الله فسيأتي بها: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ).
وإننا بعد هذا الإبحار الهادئ مع هذا الاسم العظيم، والذي لم نأت إلا على شيء يسير من معناه، وبقي من خبايا معناه ما أتركه لفهمك وتأملك ورجوعك لكتب أهل العلم فيه.
وبعد هذا الإبحار، ألا يستحق هذا اللطيف أن تحبه؟ أن تتأمل عطاياه؟ أن تزيد في قلبك من ذكره ومراقبته ورجائه وخوفه؟
أن تعيش مع هذا الاسم أياماً.. تدعوه به، وترقب ألطافه، وتفيض عيناك لرؤية خفي هداياته وهداياه؟
قل في خشوع: يا خفيّ الألطاف.. نجّنا مما نخاف.
الشافي:
هل رضّتك الأوجاع؟ وأتعبتك الآلام؟ وأشعرك المرض أن الحياة رمادية اللون؟
ما رأيك أن أطلعك على شيء يغسل روحك من أوصابها وأتعابها؟
إنه اسم الله الشافي.. اسم لنفسك المنهكة أن تلتقط أنفاسها قليلاً، لتقرأ عن هذا الاسم الرحيم، هذا الاسم الذي ستعلم بعد أن تتفيأ ظلاله مقدار حاجتك إليه، ومقدار بعدك عنه أيضاً!
الشافي من أسماءه سبحانه التي نحمده عليها، نحمده أن تسمى بهذا الاسم، واتصف بصفة الشفاء، وأن كان هو وحده من يشفي ويعافي أجساد عباده، وهو اسم يفصح عن معناه، ويعكس ظاهره خبايا باطنه.
الحياة حقل أمراض، وأوجاع، وتنهدات، لذلك فقد سمى الله نفسه بالشافي، لتسجد آلامك في محراب رحمته، وتنكس أوجاعك رأسها عند عتبة قدرته.
المرض فضيحة كبرى تُبتلى بها غطرسة البشر! ذبول مفاجئ يفقد فيه الإنسان ازدهاره! نكسة لحيوية ذلك الهَلوع المَنوع..
قدّر الله على هذا الجسد أن تنطفئ نضارته مؤقتاً، حتى يقتنع الإنسان بضعفه، وبأنه لا حول له ولا قوة.
أيها الإنسان، إن حقيقتك الموت، وإن كل شيء فيك يشبه الموت، نومك موت، مرضك موت، انتقالك إلى مرحلة عمرية موت للمرحلة السابقة، فالشباب موت الطفولة، والكهولة موت الشباب، ومع ذلك فإن الوهم يجعلنا نعتقد أننا مخلدون ولهذا يصرخ المرض بأجسادنا، أنها إلى زوال!
روحك وأنت مريض تكون في اجتماعات مغلقة مع الموتى، وبدايات الانهيار الداخلي تنضح بها عيناك وشفتاك وارتجاف في أطرافك الباردة.
ولما يأخذ المرض مداه، وتنغسل أنت من الدنيا جيداً، يأذن الشافي سبحانه للداء بالانصراف عن جسدك، ويأمر الصحة أن تعاود سيرتها الأولى، فإذا باللون الوردي يتصعد على وجنتيك، وتعود ابتسامة أذبلتها أيام الرُخَصاء.
لأنه الشافي: يشفيك بسبب، ويشفيك بأضعف سبب
ويشفيك بأغرب سبب، ويشفيك بما يُرى أنه ليس سبب، ويشفيك بلا سبب!
لا يريد منك سوى العودة إليه، أن تتلمس الطريق المؤدي إليه..
عد إليه بالرضا، عد إليه بالسجود، عد إليه بالتوبة، عد إليه بالاستغفار، عد إليه بالصدقة، عد إليه بالاعتراف..
اطرق بابه ثم ارتقب الشفاء، ليس هناك مشفى في الدنيا يداويك إذا لم يشأ الله ذلك، ليس هناك طبيب في العالم يستطيع أن يشخص مرضك، إلا إذا أراد الله ذلك.
قدرة ملك الملوك على الشفاء لا تحتاج إلى مبضع جرّاح، إنه الملك الذي ينظر من علياء ملكه، فيشفي مريضاً، ويسعد مكروباً، ويعيد مسافراً ويبرئ جريحاً.
يمرضك لتعود إليه فإذا عدت رفع المرض إذ أنه لم يعد للمرض فائدة!
يمرضك لتشعر بالآخرين فإذا شعرت بهم رفع عنك المرض لأنه لم يعد للمرض فائدة!
الشافي الذي لن تحتاج إذا أردت الدخول عليه إلى موعد مسبق، وبطاقة تؤهلك للعلاج..
فقط قل: يا الله، فإذا بأعظم مشفى إلهي تفتح أبوابها، إنها مشفى الرحمة والقدرة واللطف والشفاء.
من الذي يقدر على أن يلأم تلك العظام المتنافرة، ويعيد البسمة إلى ذلك الثغر؟ وينفخ الروح من جديد في جسد انفتحت له أبواب المقبرة؟
الله وحده من يقدر على ذلك!
أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، الذي جاء ربه بقلب سليم، سليم من أي ذرة شرك قد تعتري قلباً ضعيفاً، يقولها عليه السلام فيفهم المؤمن الدرس ولا يلتجئ إلا للحي الذي لا يموت:
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ
هو وحده، لا أحد سواه يشفيني، لن تحتاج إلى غيره إذا أراد شفائك، ولن يفيدك غيره إذا لم يرد!
يرض الجدري جسد أيوب عليه السلام، تتشتت أسرته، تتبعثر أملاكه، أكثر الناس تفاؤلاً يفقد الأمل في شفائه، وهو صابر محتسب! تشتعل الأسقام في جسده وهو منكس الرأس لمولاه، وبعد سنوات البلاء، يند من شفتيه دعاء حيي، دعاء منكس رأسه بذلة، دعاء ممتلئ باليقين:
أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
فإذا بأبواب السماء تنفتح بالرحمة، وإذا بالأوامر العليا تنزل من فوق السماء السابعة لأجل ذلك المهموم المكروب.
تنتهي سنوات العذاب في ساعة، ليأتي عهد الشفاء!
لماذا تثق بكل هؤلاء الموتى الذين يتحركون حولك، وتنسى الحي الذي لا يموت؟
من الذي خدعك وأقنعك أن الشفاء قد يأتي من طريق آخر؟
كيف ضحكت عليك الحياة بهذه السرعة، ونسيت ذلك الذي أخرجك من بطن أمك بدون طبيب، وخلق لك في صدرها رزقاً حسنا، وعلمك وأنت أجهل ما تكون كيف تزم شفتيك على صدرها لترضع؟ أنسيت الذي خلق الرحمة في قلب تلك الإنسانة لتضمك؟ وتعتني بك؟
ها هو سبحانه بالمرض يذكرك بأيامك الأولى، بالمرض يقول لك: عد إلي، فكما خلقتك من عدم فأنا وحدي الذي أرفع عن جسدك السقم!
إذا رضيت عن الله أرضاك الله..
المرض من أقسى اختبارات الرضا، فإذا كانت إجاباتك في هذا الاختبار راضية، كانت النتيجة مرضية بإذن الله.
قد يسأل البعض: كيف أرضى بالمرض وفيه الألم المكروه فطرة؟ يجيب الإمام ابن القيم عن هذا قائلاً:
(لا تنافي في ذلك، فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يحب، ويكرهه من جهة تألمه به، كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه يجتمع فيه رضاه به، وكراهته له).
قل من بين آهاتك ما أمر به نبيك أمّته أن تقول:
رَضيتُ باللهِ ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمَّدٍ نبيًّا.
قلها بقلبك، اجعل قلبك يتنفس الرضا، اجمع يديك واتل اسمه في دعائك، ثم امسح على جسدك.
اجعل المرض بداية عهد جديد تتعرف فيه إلى ربك من خلال اسم الشافي.
الوكيل:
هل تشعر بضعفك؟ وبأن الدنيا بتفاصيلها أكبر منك، وبأنك ريشة في مهب ريح الحياة الصاخبة؟
هل لديك أشياء تخشى عليها، وتريد جمعها في عهدة من لا تضيع لديه الأشياء؟ سواء كانت هذه الأشياء: أبناء أو مالاً أو صحة أو حياة؟
إذاً فاتخذه وكيلاً..
ابدأ بالتعرف من جديد على هذا الاسم الجليل، غص في أغوار معانيه، أرح نفسك من ضعفها، وقلقها واستيحاشها بأن تجعلها تتفيأ ظلال الوكيل.
فهو الذي لا ينبغي أن تتوكل إلا عليه، ولا تلجئ ظهرك إلا إليه، ولا أن تضع ثقتك إلا فيه، ولا أن تعلق آمالك إلا به.
أي عمل تتوكل على فيه انسه تماماً، لأنك إن توكلت على الله فهذا يعني أنك وضعت ثقتك في إتمام هذا العمل بمن يملك الأمور كلها، ومن يجير ولا يجار عليه.
يقول سبحانه: رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا
يأمرك رب المشرق والمغرب أن تتخذه وكيلا، ماذا بعد هذا من راحة وعز وشموخ وضمان للتوفيق؟
فقط يريدك أن تقول بقلبك: أنت وكيلي يا الله!
التوكل يقين قلبي، يحيلك إلى سائر تحت مظلمة عظيمة تقيك من حر الهموم، ومطر المكائد، ورياح الدنيا المقلقة.. المحروم وحده هو من لا يقدّر هذه المظلة ومن لا يحاول السير تحتها.
ما هو الأمر الكبير والكرب الشديد والهم العظيم الذي سيستعصي على رب العزة؟ العزة نفسها هو ربها، كل عزة سمعت بها أو علمتها هو ربها، فكيف يمكن لكروبك أن تصمد أمام إرادة رب العزة والكبرياء والعظمة؟
وأعظم ما تتوكل على الله فيه هو عبادته، أن تتخلى وتتبرأ من حولك وقوتك وتقول بقلبك قبل لسانك:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
لا يتصور أن يأمرك الله أن تعبده، ويأمرك أن تتوكل عليه، فتتوكل عليه في أمر العبادة فيخذلك، فقط أكثِر من الكلمات النبوية الكريمة:
اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
قال ابن القيم:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: تأملك أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين.
ثم يقول: القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولا بد وهما الرياء والكبر، فدواء الرياء بإياك نعبد، ودواء الكبر بإياك نستعين.
أرأيت الصلاة التي فرغت للتو من أدائها، لو لم يعتك الله عليها لما أديتها.
هو رحيم، فقط أنزل حوائجك ببابه، فقط اجعل قلبك منكسراً وكأنه مُخبت تحت العرش، ولو لم تدعه، الرحيم سبحانه يريد هذه الحالة الخاشعة منك، وبعدها ثق بأنه سيقضي حوائجك، ويرفع مرضك، ويخلق الابتسامة على ثغرك.
الله سيحول جميع مشاكلك إلى حلول، وكل آلامك إلى عافية، وكل أحلامك إلى واقع، وكل دموعك إلى ابتسامات..
حتى لو مت، فالحي الذي لا يموت، سيعيد حقك لأبنائك من بعدك، لا تنشغل في لحظة وجعك وغمرة آهاتك بأبنائك من بعدك، فالحي الذي تموت أنت ولا يموت هو سيكون لهم، سيكون معهم، سيرأف بحالهم، سيسعدهم، سيجعل حياتهم أفضل منها وأنت معهم، لأنه الحي الذي لا يموت.
حتى لو يظلمك أحد، توكل عليه!
كم رأيت أبناء تربوا في المساجد ثم ألحدوا، والعياذ بالله؟
وأبناء صرف عليهم الآباء المال والرعاية ثم ضاعوا!
الله وحده يعلم مكان الهداية في قلبك ابنك، ادعه أن يملأه إيماناً، توكل عليه، قل له بخضوع: يا رب، هذا ابني، وأنت ربي وربه، فاهده إليك ودله عليك وأعني على تربيته..
يا رب أنا لن أحسن أن آمره بالصلاة ما لم تعنّي.. وهو لن يحسن أن يصلي ما لم تعنه.
فأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا الله.
توكل عليه في سعادة حياتك، فالحياة جحيم بلا الله!
دعك م حاجاتك وأحلامك وهمومك، دعنا نتخيل أنك إنسان بلا حاجات وبلا أحلام وبلا هموم وبلا أمراض، أنت تحتاج أن تتوكل عليه ليحبك؟
ألست تريده أن يحبك؟
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
إن هذا المعنى لا يمكن لمن لديه أدنى رهافة أن يمر عليه دون أن يخفق فؤاده حنيناً وشوقاً، الله الذي لا إله إلا هو يحبك، هذا سبب كاف جداً أن تسعى إلى التعلق به، وأن تتوكل عليه.
يأتي بعض الناس ليثبطوك، ليهزوا يقينك الداخلي، ليأمروك أن تخشى.. أن تخاف.. أن تغير موقفك أو تحرف وجهة مبادئك، في تلك اللحظة اغسل قلبك بالإيمان وقل:
حسبي الله ونعم الوكيل، لحظتها ستنقلب بنعمه من الله وفضل، ولن يمسك سوء! اقرأ بتدبر:
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وإذا توكلت على الله فلا تعتقد أن المسألة تتعلق بأنك لم تجد غيره لتتوكل عليه، لا أبداً، أنت تتوكل على أعظم ما يمكن أن يتوكل عليه مخلوق.
أتدري لماذا يكفي أن تتوكل على الله؟ هناك سببٌ مقنع جداً، هو كونه يملك السماوات والأرض:
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا
هذا المرض الذي هدك ولم تجد علاجه، أليس في الأرض؟ إذن هو ملك لله، وهو القادر على أن يأمره أن يغادر جسدك!
فلا تتخذ وكيلاً غيره، واحذر أن تلتجئ إلى سواه، سوف يصيبك الوهن، ويتعلق قلبك بشُعب الدنيا، فلا تتكل على غيره وهو الحي، ولا تلتجئ إلى غيره وهو المُقيت.
الحياة مزرعة مليئة بالأمراض والأتعاب والأشباح والخطط والمؤامرات، وبدون رعاية الله ستبتلعك هذه الأفاعي!!
هو حسبك وكافيك ورادّ السوء عنك.. أنت إن لم تحطك رعاية الله من كل جانب هلكت!
وإذا نمت ألجئ ظهرك إليه وفوض أمرك إليه رغبة ورهبة إليه، في كل حين وكل لحظة تذكر: هناك رب أمرك أن تتوكل عليه، وأنت تحتاجه، لا تفرط في هذه الفرصة.
قل: يا الله توكلت عليك..
هل قلتها بقلبك؟ الآن ابتسم، كل تلك الأفاعي انتهت!
اللهم اجعلنا متوكلين عليك، ملتجئين إليك، اغمرنا بالإيمان بك، واجعل هذا الإيمان يغسلنا من التعلق بكل ما هو دونك يا رب.
الشكور:
عش مع الشكور، تأمل ظلال هذا الاسم العظيم، امسح تجعدات الحياة المتعبة بمعاني هذا الاسم الجليل.
سبحانه يشكر عبده على ما قدم من عمل صالح، وهو سبحانه يأمرك بهذا العمل الصالح الذي فيه صلاح دنياك وآخرتك، فإذا عملته، يكون سبحانه المستحق لشكرك، لأنه يسره لك، وأصلح حالك به، ولكنه بكرمه هو من يشكرك عليه!
فهل في الكرم مثل هذا؟ وهل في الجود قريب من هذا؟ كيفك يشكرك؟
هذا سؤال تفنى الأعمار دون الإجابة عنه!
تعمل عملاً صالحاً يستحق أجراً مثله، فيأجرك الله مثله سبعمئة مرة، ويضاعف لمن يشاء!
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ
سبحانه إذا أعطاك أدهشك، وإذا أكرمك أذهلك.. ومن ذا الذي لم يعطه العظيم ويكرمه الكريم؟ نحن في كل لحظة من حياتنا بل في كل جزء من اللحظة نستقبل ما لا يمكن إحصاؤه من العطايا والهبات!
فالصحابة الذين بذلوا أرواحهم وأعمارهم وأموالهم نصرة للدين شكرهم الله بأن جعل الكلام فيهم من علامات النفاق، ورضي عنهم وضاعف أجر أعمالهم، وعدّلهم جميعاً بلا استثناء، وجعلهم خير القرون وقال فيهم:
لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
وكل هذا شيء من شكر الله لما قاموا به من تصديق وجهاد وبذل.
فكما يشكر الكريم من عمل معروفاً، فكذلك سبحانه وله المثل الأعلى يشكر شكراً يليق بكرمه وعزته وعظمته، فهو لا يشكر الأعمال العظيمة فقط بل حتى مثقال الذرة منك يشكره وينميه:
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ
فقد أدخل امرأة الجنة بشق تمرة، وبغياً بأن سقت كلباً، وثالثاً كل حياته ذنوب فأمر أبناءه أن يحرقوه ويذروه بعد موته خوفاً من أن يعذبه الله، فأدخله الجنة بأن خاف منه، ورابعاً ليس له إلا حسنة واحدة لأنه تصدق بها على صاحبه، وخامساً *** مئة نفس! لأنه هاجر إليه..
ومن شكره أن يعجل بثواب المتصدق، فيرزقه بركه ويغدق عليه من نعمه، ويخبرنا عليه الصلاة والسلام:
إن الله يقبل صدقة عبده بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم فلوه.
وهذا من شكره وفرحه سبحانه بطاعة عبده!
إني أعيذك أن تكون تعلقاتك وإراداتك كلها دنيوية، فكثير من الجزاء يدخره الله لك أحوج ما تكون إليه في الآخرة.
ومن أوضح صور الشكر الرباني هو ما اقترن ببر الوالدين من تيسير في العيش والتوفيق في جميع الشؤون، حتى كأن النجاح في الحياة حصر على أصحاب البر، يمكنك أن تستعرض من تعرفهم من الناجحين، ستجد بر الوالدين جامعاً مشتركاً بينهم، ولا بد!
أما إن سألت عن أعظم خير يمكنك فعله، فهو أن تسلم وجهك لله، أن تحيا مسلماً، وتعبد الله مسلماً، وتعامل الناس مسلماً، وتنظر وتتكلم وتشعر مسلماً، ثم تموت مسلماً!
سئل الإمام أحمد: من مات على الإسلام والسنة مات على خير؟
فقال له: اسكت، بل مات على الخير كله!
قيل لأعرابي: إنك تموت! فقال ثم إلى أين؟ قيل إلى الله! فقال: كيف أكره أن أقدِم على الذي لم أر الخير إلا منه؟
شعور عظيم ورجاء بالله كبير ذلك الذي يملأ فؤاد هذا الأعرابي، يقره عليه القرآن الكريم:
وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ
تعبده ستين أو سبعين سنة، أكثرها دون التكليف أو نوم أو في عمل المباحات، ومع ذلك يكافئك عنها بجنة عرضها السماوات والأرض، تسكنها الأبد كله!
فإن كان سبحانه يعطي لا على شيء، فكيف إذا كان هناك شيء؟ كيف إذا فرقت بينك وبين عباده الذين يرزقهم ويتحبب إليهم بالنعم بأن عملت صالحاً يرضاه، عند ذلك لا يجوز لك أن تعتقد أن لن يكرمك الكريم ويشكرك الشكور ويحمدك الحميد سبحانه.
يبذل عيسى عليه السلام عمره له سبحانه، منذ أن نطق كلمته الأولى في المهد وهو عبدٌ لله، فيتآمر ضده شرار بني إسرائيل لي***وه، فيكون شكره له سبحانه من أغرب الشكر، رفعه إليه!
هكذا انتشله من بؤرة الهم والمكائد والقلق، وجعله في سماواته يعيش مع ملائكته وخيار خلقه.
والله هو القادر على انتشالك مما أنت فيه، أعلم جيداً أن لديك من الهموم والكروب ما لا يتناسب مع النجاة منها إلا لفظة "انتشال"، اعمل الخير لينتشلك الله به، كما كان تسبيح يونس سبب انتشاله من بطن الحوت.
إنك تتاجر مع ذي الكرم المتناهي وذي الشكر المتناهي وذي الفضل المتناهي.
ليست هنالك احتمالية خسارة في سوق الله من يسير أمرها، فكن معه ثم ارقب أفضاله وشكره.. لن يتركك، ثق بذلك، لن تسجد لله سجدة إلا ويشكرك عليها شكراً يليق به وبكرمه، فقط كن معه.
اللهم أوزعنا أن نشكر نعمك.. واجعلنا لك ذاكرين، ولنعمك شاكرين، واهدنا لأعمال تجزل لنا عليها الشكر يا شكور يا حميد.
الجبار:
هل هشمتك الظروف؟ وتواطأت ضدك الكروب؟ وتكالبت عليك الأزمات؟
روحك المنكسرة، قلبك المهشم، أنفاسك الضعيفة تحتاج إلى من يجبر التهشم والضعف والانكسار!
من معاني الجبار: أنه يجبر أجساد وقلوب عباده، العيش في كنفه يمدنا بمراهم الصحة وضمادات السعادة، ومسكنات الأوجاع، سمى نفسه بالجبار، ليعلّم عباده أنه هو القادر على جبرها فيلتجئون إليه.
انكسارات الحياة عديدة وبقدر هذه الانكسارات تتفتح أبواب السماء بضمادات الرحمة ومجبرات الود!
شُرع لنا أن نقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني واجبرني.
إذا التهبت نفسك، وإذا احترقت أحلامك، وإذا تصدع بنيان روحك فقل: يا الله..
تتزاحم الآلام في قلب العبد حتى ما يظن أن لها كاشفة، فإذا بالجبار يجبر ذلك القلب، وبعد أشهر ينسى العبد كل آلامه وأوجاعه لأن الله لم يذهبها فحسب بل جبر المكان الذي حطمته، فعاد كأن لم يتهشم بالأمس!
سجّادة توججها إلى القبلة، تقضي على تلك الهموم والكروب في لحظات بإذن الله!
يحبك سبحانه مبتسماً، فيصنع من جميل أقداره ما يعين ثغرك على الافترار، ويجعل الابتسامة تطرد ملامح الكرب عن وجهك.
إذا رأيت منكسراً فاجبر كسره، كن أنت الذي يستخدمك الله لجبر الكسور، لا تنم وجارك جائع، لا تضحك وأخوك يبكي، لا تنعم بدفء بيتك وهناك من هدهدت رياح الشتاء أبدانهم الضعيفة.
كن النافذة التي يتسلل منها الهواء الشفيف على النفوس التي خنقتها أدخنة الحياة الصعبة، تخلّق بخلق الجبر، كن اليد العليا.
يزور النبي ﷺ اليهودي المريض!
يكنس أبو بكر رضي الله عنه بيت العمياء ويطبخ لها طعامها!
يموت خصوم ابن تيمية فيبشرونه بذلك، فيغضب ويذهب مباشرة إلى أهله فيعزيهم ويقول لهم: أنا كوالدكم، لا تحتاجون شيئاً إلا وأخبرتموني!
كانوا منشغلين بالمهمة العظيمة، مهمة جبر القلوب المنكسرة، كان الله يستخدمهم لذلك الشرف العظيم.
قل يا الله.. بيده مفاتيح الفرج، الشفاء له خزينة عظيمة القدر والحجم، أتعلم أين هي تلك الخزينة؟ إنها عند الله!
السعادة كذلك لها خزينة، أتترك من بيده ملكوت كل شيء، وتنصرف إلى عبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا؟
والكلام هنا.. ليس عن طلب العلاج، فهو مشروع، بل حديثنا عن التعلق بالمخلوق ونسيان الخالق!
ينزل رسولنا ﷺ من الطائف محملاً بقدر عظيم من الحزن والحرقة والانكسار، بعد أن أدمى السفهاء عقبيه الشريفتين بالحجارة، يراه ملك الملوك، يرى قلبه المكتظ بالآهات، فيرسل جبريل ومعه ملك الجبال، لينهي تلك الحُرق، يرسله في مهمة خاصة، مهمة تتعلق بدكدكة الجبال الراسية!
فينظر ملك الجبال إلى النبي ﷺ وهو في أحزانه فيقول: أمرني الله أن أمتثل لأمرك يا محمد، فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت!
إذا أراد الله أن يجبر كسرك، أهلَكَ مدينة بأكملها لأجلك!
ولكن محمداً ﷺ يستأني بهم ويعفو عنهم.
هل يستطيع غير الله أن يجبر كسور الروح بمثل هذا؟
يدخلون إلى عينيك ليسرقوا أجمل أحلامك.. ويتسللون إلى قلبك ليمسحوا أروع ذكرياتك! وكلما انطفأ حلم خلق الله لك حلماً أجمل، وكلما بهتت في قلبك ذكرى صنع الله لك ذكرى أروع!
الصلاة.. تردم هوة اليأس في أرواحنا، وسبحان ربي العظيم تخلق فرحاً نجد طعمه في ألسنتنا، وسبحان ربي الأعلى تحلق بنا حول العرش.
دعوات الوالدة دفء في شتاء الحياة، وزيارة الصديق متعة في صخب العيش، وسؤال الجار عنك يلون لوحة نفسك الرمادية.
الحياة مليئة بالمجبّرات، وربنا يريدنا أن نسعد، أن نبتسم، أن نحيا حياة جميلة.
فما الذي يبطئك عن الله؟
ما الذي يجعلك تتأخر عن الانضمام لركب الأواهين الأوابين، الذي يرتلون كلامه في جوف الليل؟
كن في حياتك ساجداً كما كنت في بطن أمك، يكفيك الله رزقك ويجعل أضيق الأماكن أهنأها، ويحيطك برحمته.
كن ساجداً بقلبك، وإن رفعت رأسك.
اهمس بشرايينك: يا جابر المنكسرين اجبر كسري، ثم تأمل في المعجزة وهي تشكل روحك من جديد!
الهادي:
أكلتك الحيرة؟ هل تشعر أن عقلك أعجز من أن يحدد لك الصواب من الخطأ، هل تزاحمت في عقلك مميزات فتاتين لا تدري أيهما تتزوج؟ بل هل تعبت من دروب الضياع وتريد أن يمن الله عليك بأن يدلك على طريق النور والهداية؟
إذاً أنت تحتاج أن تتعرف على هذا الاسم العظيم، أن تسترشد الهادي سبحانه ليوقف في نفسك جيوش الحيرة ويهديك إلى السراط المستقيم!
فهو سبحانه يهديك، فيحرف مسارك عن الضلالة إلى الرشد، وعن الغواية إلى الطريق الأقوم.
يهديك بما تظنه صدفة: يهديك بآية تسمعها في صلاة، ويهديك برؤيا تراها، ويهديك بنصيحة عابرة، ويهديك بكلمة تقع عينك عليها في كتاب، ويهديك بومضة غير مسبوقة بتفكير، ويهديك بظروف تدفعك إلى الصواب، ويهديك بالخوف، ويهديك بالحب، ويهديك بالموت!
وأما سماع القرآن فأصل الهدايات، ومن أعظم ما جعله الله سبباً لهداية عباده، فقد ضمّن فيه كل أسباب الهداية والرشد، قال تعالى:
إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
فيستحيل على عاملٍ بما في القرآن أن يصاب بزيغ أو انحراف أو نكوص!
قد يهديك ثم لا تقوم بواجب تلك الهداية من شكر وعمل بمقتضاها فيسلبها منك، مثل ذلك الرجل الذي آتاه الله آياته:
فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ
وقد يهديك فتشكره وتعمل بمقتضى الهداية فيمن عليك بهداية أخرى فتشكره وتعمل بمقتضاها ثم يفضل عليك بهداية ثالثة ورابعة، ويجعل حياتك هدايات يمسك بعضها ببعض.
هؤلاء فتية الكهف.. هداهم بأن جعلهم مؤمنين، ثم هداهم أيضاً بأن جعلهم صابرين على إيمانهم، ثم هداهم بأن دلهم على طريق النجاة، ثم هداهم بأن هيأ لهم حالاً أنجاهم بها، بأن ضرب على آذانهم في الكهف سينين عددا، قال عنهم سبحانه:
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
فالله يبصر اضطراب الرعب في قلبك، لقد كان يسمع وجيف فؤادك، لقد علم تمثّل الموت عطشاً في نفسك، فأذِن لوميض داخلي أن يشتعل لتحس بالطريق، وتصل بسلام.
يخرج ابن تيمية من بين البيوت وقد ازدحمت الأقوال في رأسه حول تفسير آية، يقرأ عنها عشرات التفاسير، فلا تخلصه تلك التفاسير من ضوضاء الحيرة، فيمرغ وجهه بالتراب ويبكي ويقول:
يا معلم داوود علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.
فيعود وقد تحددت الأقوال الراجحة في عقله بنور الهداية الربانية!
ومن أعظم هداياته إعادة خلقه إليه، ودلالة التائهين عليه، وفتح أبواب التوبة لمن أذبل أرواحهم خريف الحوبة.
يخرج في ظلام الليل ليعصي ملك الملوك، كل جوارحه مندفعة للوصول إلى وحل المعصية، ولكن الله في تلك اللحظة الحاسمة يأمر الهداية أن تصل قلبه قبل أن يصل هو إلى المستنقع، فإذا بكل ما بناه من أحلام سوداء ينهار فجأة، وكل شيء يتطاير من حوله، يلتفت إلى جهة أخرى، ليست جهة المستنقع.. إنها جهة تطل من بين منحنياتها منارة المسجد، فيبدأ عهداً مضيئاً مع الهادي سبحانه.
وقد تكون في غمرة النسيان فيذكرك به، تكون في حومة المعصية فيوقظك، تكون في وسط المستنقع فيطهرك، تكون في داخل الجب فيدلّي إليك حبلاً..
يهديك بحبٍ يغمر فؤادك، أو بخوف يزعزع استقرارك، أو بمرض يذل كبرياءك، أو بحاجة ترغم أنفك، أو بفقر ينقض ظهرك، أو بخواء يعذب روحك.
تخرج من بيتك قاصداً مسجداً وفجأة تغير الطريق إلى مسجد آخر، بعد الصلاة تسمع كلمة يلقيها أحد الدعاة تغير شيئاً كان مستقراً في قرارة نفسك! يغير طريقتك أو حتى طريقك..
والعبد صاحب الروح المرهفة يستنبط هدايات الله سبحانه، ويعلم أن الكون مربوب له سبحانه، وأن الله سبحانه قد يهديه بأي شيء في كونه، وقد يضله والعياذ بالله بأي شيء في كونه!
ولن يضل سبحانه إلا من أغلق قلبه عن الهدى ودين الحق.
إذن: ضياع هذه الحياة إن لم تأتك الهداية من عنده.. أعظم من فظاعة الضياع في تيه الصحراء، سنكون بذلك في غربة أقسى من غربة طائرٍ فقد سربه في فصل الشتاء، فقررت الثلوج أن تبتلع أحلامه المحلقة!
اللهم ارزقنا هداية من عندك تنتشلنا من صحراء التيه، وتوصلنا إليك، وتدخلنا بها جنة عرضها السماوات والأرض.
الغفور:
إذا كنت قد تعبت من ذنوبك وخطاياك وشعرت أن شؤمها قد نغص عليك حياتك، وأن ظلاماً وقتامة قد أطفأت في عينيك بهجة أيامك ولياليك، وأنك ما عدت تستلذ بصلاتك، ودعائك، وعبادتك، فاعلم أن الوقت قد حان لتدلف إلى عالم الأنس والمغفرة، متلمساً معاني الغفران والتجاوز في اسم الله: الغفور.
لأن بلاء الروح بالذنب أعظم بكثير من بلاء الجسد بالمرض، روحك تأن تحت وطأة العصيان، نعم قد يكون جسدك استلذ لحظة المعصية، لكن روحك تجأر إلى الله!
ولو لم يكن هناك جنة ولا نار، الذنوب وحدها جحيم، وحميم، وعذابٌ أليم!
هل تعلم أن كل مصيبة من مرض أو وهم أو حزن أو ألم هي بسبب معاصيك؟
اقرأ قوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ
كان المسلمون يعتقدون أن إسلام حمار عمر بن الخطاب أقرب إلى المعقول من إسلام عمر! لشدة عداوته للإسلام، وكرهه لهذا الدين، ثم يفتح له الغفور أبواب التوبة ليصبح: عمر الفاروق!
خالد بن الوليد يصعد على جبل الرماة في غزوة أحد ويُ*** بسببه عبدالله بن جبير وصحبه الذين كانوا على جبل الرماة، بل يكون السبب في أعظم هزيمة يُمنى بها الجيش الإسلامي بقيادة النبي ﷺ، ويكون السبب في أن يُجرح نبي الله ويشج رأسه وتكسر باعيته وتدخل حِلَق المِغفَر في وجهه الشريف.
ولكن.. يسلم، فيغفر له الغفور، يمسح سبحانه كل تلك الطوام..
ويتحول من السبب الأهم في هزيمة المسلمين في غزوة أحُد إلى: سيف الله المسلول!
وكل تلك الدماء الزكية التي سفكها؟ وحلق المغفر؟ والدماء النبوية الطاهرة؟ كل ذلك غفره الله!
أبو سفيان بن حرب، صفوان بن أمية، عكرمة بن أبي جهل، عمرو بن العاص وغيرهم كثير، كانت ذنوبهم: شركاً بالله، ومحاربة للدين، و***اً للصحابة، ثم يغمرهم الغفور الرحيم بمغفرته ليكونوا صحابة! أتدري ماذا تعني كلمة صحابة؟ تعني أفضل البشر بعد الأنبياء!
الإحساس بالذنوب وهي تحيط بك يجعل روحك تأن، وأفكارك تميل إلى اللون الأسود، وكلماتك متوترة جداً، فإذا ما اقتربتْ منها: أستغفر الله احترق الأنين والسواد والتوتر.
فقد سمى نفسه بالغفور لأنك بلا مغفرة ستحترق، ستلتهمك الغصص، ستشعر بالاختناق الحقيقي، ستدمن البكاء.
إذا ظننت أن ذنبك أعظم، اسمع لربك الذي يعلم كل ذنب سيقترفه عباده من لدن آدم وحتى قيام الساعة، يعلم بتفاصيل تلك الذنوب وخطواتها وشناعة أمرها:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
المهم هو أن تسبق (أستغفر الله) بالإقلاع عن الذنب، أن تتوقف..
كيف تقول: اغفر لي خطئي، وأنت عاكف على الخطأ؟
كيف تُمسح معصيتك، ثم تعود لكتابتها من جديد؟ توقف.. اجعل (أستغفر الله) صادقة، تستحق أن تُفتح لها أبواب السماء.
المفغور لهم.. تدمع عيونهم ولكنهم لا ييأسون من رَوح الله أبداً.. ينامون بالليل في طمأنينة، لأن أغرب توقع هو أن يموتوا؟ وماذا لو ماتوا؟ إنهم بلا ذنوب تجعل الموت شبحاً مرعباً.
ألست مشتاقاً لأن تجد الله غفوراً رحيماً؟ استغفره إذن!!
فالغفور عَلِم أن الذنوب ستفسد عليك حياتك، ستقهر روحك، ستجعل الليل وحشة والنهار ملل، وتفاصيل الحياة وهم، والنوم اختناق، والوحدة بكاء، فقال لك:
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ
يغفر دائماً.. ويغفر بكرم، ويغفر ما لا يغفره بشر، ويغفر بإدهاش!
يغفر ما بين الصلاة والصلاة، وما بين العمرة والعمرة، وما بين رمضان ورمضان، وما بين الحج والحج إذا ما اجتنبت الكبائر!
ويغفر ما لا يغفره البشر:
فيغفر ذنوب بغيٍّ كل حياتي ذنوب ومعاصٍ بأن سقت الكلب ماء!
ويغفر بإدهاش.. كما حصل لمن حضر غزوة بدر فقد اطلع عليهم ربهم وقال لهم:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم!
قال ابن كثير: وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر، فإن هذا الذي لم يكن في بُحيحة القتال، ولا في حومة الوغى، بل كان من النّظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب، وهو يشرب من الحوض، ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس الأعلى.. فما ظنك بمن كان واقفاً في نحر العدو.
ابدأ عهداً جديداً مع اسم الغفور، افرح لأنه يغفر الذنوب، وسارع في الاستغفار، وطلب هذه المغفرة يكون باتباع أوامره واجتناب نواهيه.
ألم تمل من الكربات التي بعضها فوق بعض؟ ألا تشتاق للابتسام الذي يخرج من القلب؟ إذن لماذا لا تستغفرونه؟
القريب:
أتشعر بالوحشة؟ هل خذلك صديقك؟ هل تحس أن بينك وبين أعز الناس حجاباً مستوراً، فلم يعد يفهمك كما كان؟ هل روحك تأن شوقاً إلى حبيب تبث إليه لواعجها؟
لماذا لا تنصرف إلى الذي لا يجفو من أتاه متقرباً؟
الله الذي هو أقرب إليك من حبل الوريد، والذي ستغدو حياتك أنساً وسعادة معه، له اسم عظيم، موغل في الجمال، مكلل بالبهاء.
في الوقت الذي يريدك أن تعلم أنه على العرش استوى، يريدك أن تتيقن أنه أقرب إليك من حبل الوريد!
تضيع دابّة أحدهم فيمشي مبهوتاً فيراه إبراهيم بن أدهم فيسأله فيقول: ضاعت دابتي، فيقف إبراهيم ويقول: يا الله، لن أمشي خطوة حتى تعيد لهذا دابته، فإذا بها تظهر من منحنى الطريق!
يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل، ويذهب ليطرق بابَ أٌبي بن كعب، فيخرج أٌبي، فإذا برسول الله يخبره: أمرني الله أن أقرأ عليك الفاتحة، يقول أٌبي بذهول: وسمّاني؟ فيقول نعم، فيبكي أٌبي!
لا تتوهم أنه بعيد، أو أنه تخفى عليه منك خافية، فأقرب ما تكون إليه وأنت ساجد، تتمتم بـ (سبحان ربي الأعلى)، فإذا بالسماوات تتفتح لتمتمتك، وإذا بالجبار يسمعك!
وقربه سبحانه وتعالى قرب علم وقرب سمع وقرب بصر وقرب إحاطة، لا قرب ذات، لأن ذاته العلية منزهة عن مثل هذا القرب.
ينزل سبحانه وتعالى في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا فيقول:
هل من سائلٍ فأُعطيَه هل من داعي فأستجيبَ له هل من تائبٍ فأتوبَ عليه هل من مستغفِرٍ فأغفرَ له
تأتي امرأة تجادل في زوجها، وعائشة رضي الله عنها في طرف البيت تقول إنها تسمع كلمة وتغيب عنها كلمة، وبعد ذلك الجدل ينزل جبريل على محمد ﷺ أن:
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
يا له من قرب عجيب، وعلم عظيم، وسمع محيط، وبصر نافذ..
استمع إليه وهو يهدئ من روع موسى عليه السلام عندما أعلن خوفه من الذهاب إلى فرعون فقال له:
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ
هذا يكفي.. لأنه معهما يجب ألا يخافا من فرعون، يجب أن يكونا شجاعين بطلين شامخين.
ولله معيّتين: الأولى خاصة بأهل ولايته، وهي معيّة محبة ونصرة وتوفيق، ومعية عامة لجميع خلقه وهي معيّة علم وسمع وبصر وإحاطة.
إذا صفعتك المخاوف فابتسم، وتذكر قربه منك سبحانه.. فكل الأشياء التي تخاف منها، ليست أقرب إليك منه!
وإذا التأمت حولك الخطوب فتفائل! وشتتها بفكرة أنه أقرب إليك من حبل الوريد!
إنه القريب.. فقط حرّك شفتيك بذكره، تتفتح أبواب السماوات لصوتك.
كان يونس عليه السلام في بطن الحوت ينادي:
لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
فكان الصوت الضعيف المنطلق من الظلمات الثلاث يخترق أجواز الفضاء لتسمعه ملائكة السماوات فتقول للرب سبحانه:
صوتٌ معروف، من مكانٍ غير معروف!
يقول الله عز وجل في الحديث القدسي:
من ذكرَني في نفسِهِ ذكرتُهُ في نفسي ، ومن ذكرَني في ملإٍ ذكرتُهُ في ملإٍ خيرٍ منه
لأنه قريب، فقط قل يا الله، يكون الرد بأن يذكر اسمك!
ما أجل أن تتخيل أن ملك الملوك في هذه اللحظة يقول اسمك! يقول: عبدي فلان بن فلان يذكرني!
الدنيا كلها تافهة، لا تساوي مثل هذا التخيل..
قريب لا تحتاج حتى تصل إليه إلا أن يخطر ببالك، أن تشعر بقربه، أن تحس بأنه يراك، ثم تقول: يا الله..
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أي شخص يسألك عن الله فأول شيء تصف به ربك هو أنه قريب منه! النفوس مفطورة على عدم استعدادها لعبادة رب بعيد، لا يسمع دعائها، ولا يرى حاجاتها، فمن أهم الصفات التي تبتدر بها الذي يريد التعرف إلى الله أن تخبره أن ربه "قريب"، هكذا علمك سبحانه أن تخبر عنه!
وهذا القرب علاوة على أنه يجعلك تحبه، وتأنس به وتخشاه، إلا أنه فوق ذلك يجعلك تدمن على استغفاره والتوبة إليه، فالقريب من جهة يستحق أن يُستغفر ويتاب إليه، لأنه بقربه اطلع على كل غدراتك وفجراتك، ومن جهة أخرى فهو قريب قرباً يجعل استغفارك وتوبتك ناجعة، فلن يغفر لك إلا من سمع استغفارك ولن يتوب عليك إلا من علم توبتك، فهو القريب المجيب، وبعد كل هذا تأمل قوله سبحانه:
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ
ألا يستحق أن تحبه؟ في اللحظة التي تغلق الباب على نفسك حتى تعصيه، يدخل لك الأكسجين من تحت الباب حتى لا تموت!
وفي أجواء المحن التي تعيشها الأمة، ومن بين أدخنة الحروب المهلكة التي تمس أفئدة المؤمنين باللأواء، يحتاج المؤمن هناك إلى ثلاث مستويات معرفية باسم القريب:
الأول: معرفة قربه سبحانه إيماناً ويقيناً، ليريح نفسه من عناء الصراخ والاستنجاد بالبشر، فيجد آية في القرآن تقول له بوضوح (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)، يلقي عند أعتابها حُرقات روحه الملكومة، وكل ما سبق يصب في خانة هذا المستوى المهم.
الثاني: ومن بين لهيب القهر، ورؤية تفاصيل الشتات، وتهدم البيوت، وموت الأنفس، يريد رحمة، يبحث عن رحمة، يتمنى رحمة تنهي عذابات خذلان الإخوة، فيقف عند قول الحق سبحانه (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)، ولا يزال العبد ينتقل من إحسان إلى إحسان، وتكون في المقابل رحمة الله أقرب إليه من غيره، حتى تغشاه الرحمة من كل مكان، تنتزعه من أدخنة الموت إلى سحائب الرضا.
الثالث: وتطول الأيام وتتوالى الزفرات، وتشتد البلاءات، ويُحكم الحصار من كل مكان، فترى آية الحق (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، فيربط الله بذلك على قلوب أضناها الانتظار، وأرهقها الاصطبار، فينتظرون هذا النصر القريب من ليل أو نهار.
اللهم يا قريباً ممن دعاك ورجاك، اكتب لنا قُرباً من رحمتك وهدايتك، قُرباً تؤنسنا به، وتذهب عن أرواحنا وعثاءها، وتدخلنا به الجنة.
وبعد.. فقد عرفتَ شيئاً عن بعض أسمائه، فعليك التزود بمعرفة المزيد عنها وعن غيرها، وأن تجعلها نبراس حياتك، وهداية قلبك، ونور أيامك، لتحوز على سعادة الدنيا والآخرة.
ولي رجاء: إن خفف هذا الكتاب عنك ألماً، أو رسم على ثغرك ابتسامة، أو غير حالك إلى الأحسن فلا تنس كاتبه، ومن أفاده، ومن أعانه، ووالديهم وجميع الملسمين من دعوة بظهر الغيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين