مشاهدة النسخة كاملة : الحياة الاجتماعية في عصر الطبري


فريق منتدى الدي في دي العربي
12-02-2017, 10:41 AM
لا شكَّ أن الحالة الاقتصادية للبلاد تنعكسُ انعكاسًا مباشرًا على الحالة الاجتماعية؛ حيث يذهَب كثيرٌ مِن المؤرِّخين إلى الربط بينهما حُسنًا أو سوءًا، وإذا نظرنا إلى المجتمع المكيِّ في عصر الإمام محب الدين الطبري، سنجد أنه يتألف من ثلاث فئات:
الفئة الأولى: فئة الأمراء والحكام (الأشراف)؛ ففي مكة تجدُ أسرة قتادة بن إدريس الحسني، وابنيه الحسن وراجح، وفي اليمن: الملك المظفر، وفي المدينة: جماز بن شيحة، وفي مصر: كان الحكام من الأيوبيين والمماليك.

الفئة الثانية: فئة القوَّاد من الأيوبيين أو المماليك، وهم أتباع الأشراف ومواليهم، وقد كان لهؤلاء قوةٌ عظيمة ونفوذ كبير؛ إذ كانوا يستطيعون ترجيح كِفَّة أحد الأطراف المتنازعة على الإمارة عندما يقع النزاع.

الفئة الثالثة: بقية السكان؛ وهم: العلماء والتجَّار، وأصحاب الحِرَف، وطلاب العلم، وغيرهم، ومِن هؤلاء مَن هو مِن أهل مكة، ومنهم الوافدون الذين قدِموا إليها من مختلف أنحاء العالم الإسلامي بقصد المجاورة والإقامة فيها للتعبد، والعلم، والعمل، والتجارة، وقد أصبح هؤلاء المجاورون وأحفادهم على مر الزمن جزءًا أساسيًّا في المجتمع المكي.
تلك هي صفةُ المجتمع المكي؛ خليط من عدة أجناس، وكان لكل *** مِن هؤلاء عاداتٌ وتقاليد في المأكل والملبس تُميِّزهم عن الآخرين[1].

وقد أُنشِئ في مكة في هذا العصر بعضُ المنشآت العمرانية، فقد أنشأ قتادةُ مؤسِّسُ الطبقةِ الرابعة من الأشراف سورًا في أعلى مكة، كما كان في مكة في ذلك العهد ثلاثة أبواب: باب المُعَلَّاة، وباب المُسَفَّلة، وباب الزَّاهِر[2]، ولا تزال أحياء مكة تحمل هذه الأسماء.

وكان بها سوقٌ حافل بين الصفا والمروة، وعلى مقربةٍ منه سوق للعَطَّارين، والبَزَّازِين - بائعي الثياب والقماش - وكان بمكة حمَّامانِ يستعملهما جمهورُ الناس، وعدة بِرَك لتخزين المياه؛ منها بركة الصارم، وكانت تتصل بسور المُعَلَّاةِ اتصالًا مباشرًا مما يلي محلة شِعْب عامر[3].

وكانت لأهل مكة عناية بحفلاتهم، ومناسباتهم الدينية والشعبية، وقد تحدَّث ابن جبير عن هذه الحفلات، فقال: إنه رآهم ليلة رجب يحتفلون بالعمرة، فتخرج النساء إليها بالهوادج يسيل بها أباطح مكة وشِعابها، وقد زُيِّنت الهوادج بقلائد رائقة المنظر من الحرير، وفاضت عليها الأستار حتى تسحب أذيالها على الأرض، ولم يبقَ تلك الليلة بمكة أحدٌ إلا خرج للعمرة من أهلها ومن المجاوِرين لها، وفي صباح رجب يخرج الأمير إلى العمرة في حشدٍ عظيم، ويخرج معه أهل مكة فرسانًا ورجالًا، يتواثبون ويتثاقَفون بالأسلحة حرابًا وسيوفًا في حذقٍ عجيب، وكانوا يرمون السيوف في الهواء، ثم يتلقَّونها قبضًا على قوائمها كأنها لم تُفارِق أيديَهم بالرغم من شدة زحامهم...[4].

ويذكر ابن جبير احتفالَ الناس في مكة بليلة النصف من شعبان، فيقول: إن مواكبَهم تزدحِمُ في كل مكان في المسجد، والجهلة يعتقدون أن ماء زمزم يفيض في هذه الليلة، فيزدحمون على التبرك بذلك الماء المبارك...[5].

وبعد، فهذه لمحةٌ في وصف الحياة الاجتماعية والاقتصادية بمكة المكرمة في فترة مِن القرن السابع الهجري، وفي أكثر من جانب لها؛ حتى تعطيَنا صورةً مُجمَلة عن البيئة التي عاش فيها المحب الطبري، والتي تأثر بها؛ فهو وآباؤه كانوا من طبقة العلماء، وقد كان يراسل الملك المظفر، وكانت له عنده مكانة عظيمة، وسمِع منه كتاب الأحكام الكبرى، وكتب له كتاب المحرَّر للملك المظفر، وأسهَم في بناء حضارة جديدة لهذه البلاد من خلال مؤلَّفاته المتنوعة؛ فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

[1] الحياة العلمية والاجتماعية في مكة في القرنين السابع والثامن الهجريين (ص237 - 245).
[2] أولها: باب المُعَلَّاة، وينطق المُعَلَّى، وهو أعلى مكة، وهو بالموضع الذي يعرف بالحَجُون، ومنه الخروج إلى طريق العمرة، وثانيها: باب المُسَفَّلة، وينطق المُسَفَّل، وهو إلى جهة الجنوب، وعليه طريق اليمن، وثالثها: باب الزَّاهِر، ويعرف أيضًا بباب العمرة، وهو غربي، وعليه طريق مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومصر، والشام، وجدة؛ يُنظر: رحلة ابن جبير (ص 87 - 88)، رحلة ابن بطوطة (1/370).
[3] تاريخ مكة (ص283).
[4] رحلة ابن جبير (ص 109) بتصرف.
[5] المصدر السابق (ص104 - 105) بتصرف.


ياسر عبدالعظيم حماد

Adsense Management by Losha