مشاهدة النسخة كاملة : شرح اسم الله الحيي


فريق منتدى الدي في دي العربي
12-21-2017, 11:19 AM
شرح اسم الله الحَيِيّ[1]
*
الدَّلَالَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسمِ (الحَيِيِّ)[2]:
الحييُّ فِي اللغة هو المتصِفُ بالحياءِ، يقال: حَييَ منه حَياءً واستَحْيَا منه واستَحَى منه، وهو حَييٌّ ذو حياءٍ كغنيٍّ ذي غِنًى[3].
والحياء صفةٌ خُلُقية رقيقةٌ، وسَجِيَّةٌ لطيفةٌ دقيقةٌ، تمنعُ النفسَ مِنْ تَجاوزِ أَحكامِ العُرْفِ، أو مِنْ تجاوز أحكامِ الشَّرْعِ، وأحكامُ العُرفِ يُقصد بها كلُّ ما تعْرفهُ النفوسُ، وتستحسنُه العقولُ مِنْ مكارمِ الأخلاقِ، ومحاسنِ الشِّيمِ، وَهِيَ التي كانت ولم تَزَلْ مستحسنةً فِي كلِّ زمانٍ ومكانٍ[4]، وعند البخاري مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"[5].
*
"إذا لم تَسْتَحِ": فعْل مضارع مجزوم بِلَمْ وعلامة جزمه حذفُ آخرِه، فالفعل مكوَّن مِن ثلاثة أحرف وحُذِفَ آخرُه للجزم وبقيَ حرفان.
قال أبو تمام:
إذا لم تخشَ عاقبةَ الليالي ♦♦♦ ولم تَسْتَحْيِ فاصنعْ ما تشاءُ
والمقصودُ: أنَّ الحياءَ لم يزلْ مستحسَنًا فِي شرائعِ الأنبياءِ، وأنه لم يُنسخْ فِي جملةِ مَا نُسِخَ مِنْ شرائِعهم[6]، وعند البخاري مِنْ حديث أبي سفيانَ رضي الله عنه، قَالَ: "فَوَاللهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ"[7].
*
وعند البخاري من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه؛ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ موسى كَانَ رَجُلًا حَييًّا سِتِّيرًا لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ"[8].
*
والله عز وجل قَالَ: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ [القصص: 25]، فالحياءُ صفةٌ أخلاقيةٌ، وسَجِيَّةٌ نَفسِيةٌ تُراعِي مكَارمَ الأخلاق، ومحاسِنَ الشِّيمِ، وَهِيَ كلُّها خَيْرٌ.
*
أما حياءُ الشرعِ فهو الحياءُ الذي يحفظُ به العبدُ حدودَ اللهِ ومحارمَهُ، وربما يتطلبُ ذلك وَرَعًا واتِّقاءً للشَّبهةِ مما يحيفُ عَلَى الحيِيِّ بعضَ الشَّيْءِ[9].
*
واللهُ عز وجل هو الحيِيُّ الذي تكفَّلَ بعبادِهِ وبأرزاقِهم؛ لأنه ليس لهم أحدٌ سِواه: فهو الذي يَقبل تَوبَتَهُمْ، ويوفِّق مُحسِنَهُمْ، ويسمعُ دعاءَهم، ولَا يخيِّبُ رجاءَهم، وحياءُ الرَّبِّ تَعَالَى لا تدركه الأفهامُ، ولا تكيِّفهُ العقولُ؛ فإنه حياءُ كرمٍ وبِرٍّ وجُودٍ وجلالٍ[10].
*
وعند أبي داود، وصحَّحه الشيخُ الألبانيُّ مِنْ حديث سَلمَانَ الفارسي رضي الله عنه؛ أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا"[11].
*
والحياءُ وصفُ كمالٍ لله، لَا يُعارض الحكمةَ، وَلَا يُعارضُ بيان الحقِّ والحجةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26].
*
وُرُودُهُ فِي الحديثِ الشَّريفِ[12]:
1- وَرَدَ فِي حديثِ يَعْلى بنِ أميةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رأى رَجلًا يغتسلُ بالبَرَازِ بلا إزارٍ، فصعد المنبرَ، فحمدَ اللهَ وأَثنى عليه، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ عز وجل حَيِيٌّ ستِّيرٌ يُحبُّ الحياءَ والسِّتْرَ، فإِذا اغْتَسَل أَحدكُم فَلْيَسْتَتِرْ"[13].
*
2- وَفِي حديثِ سلمان رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا"[14].
*
وَقَدْ وَرَدَ بصيغةِ الفعل فِي الكتابِ العزيزِ فِي قوله عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ [البقرة: 26].
*
3- وَفِي حديثِ أبي واقدٍ اللَّيثيّ؛ أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينما هو جالسٌ فِي المسجدِ والنَّاسُ معه إذْ أَقبل ثلاثةُ نفرٍ، فأقبل اثنانِ إِلَى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وذهبَ واحدٌ، قال: فوقَفَا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدُهما فرأى فُرْجةً فِي الحَلْقَةِ فجلسَ فيها، وأما الآخرُ فجلسَ خَلْفَهُم، وَأما الثالثُ فأدْبرَ ذاهِبًا، فلما فَرغَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلا أُخبركم عن النَّفَرِ الثلاثةِ؟ أما أحدُهُم فآوى إلى اللهِ فآواه اللهُ، وأما الآخرُ فاسْتَحيا فاسْتَحيا اللهُ منه، وأما الآخرُ فأعْرضَ فأعْرضَ اللهُ عنه"[15].
*
4- وَفِي حديثِ أمِّ سلمةَ رضي الله عنها قالت: جاءتْ أمُّ سُليمٍ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالتْ: يا رسولَ اللهِ! إنَّ الله لا يَسْتحيي مِنَ الحقِّ، فهل عَلَى المرأةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احتلمَتْ؟ فَقَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ إِذَا رأتِ الماءَ..."[16].
*
مَعْنَى الاسمِ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى:
قال ابنُ الجوزي: "الحياءُ بالمدِّ: الانقباضُ والاحتشامُ، غَيْرَ أَنَّ صفاتِ الحقِّ عز وجل لا يُطَّلعُ لها على ماهيةٍ، وإنما تُمَرُّ كما جاءتْ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ ربَّكم حَييٌّ كريمٌ"[17].
وقال ابن القيم[18]:
وهو الحَيِيُّ فليسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ
عند التَّجاهُرِ منه بالعِصْيانِ
لكنَّهُ يُلْقِي عليه سِتْرَهُ
فهو السّتِيرُ وصاحبُ الغُفْرانِ
*
وقال المُباركفُوري: "قولُه: "إنَّ اللهَ حييٌّ" فَعيلٌ مِنَ الحياءِ؛ أي: كثيرُ الحياءِ.
ووصفُه تَعَالَى بالحياءِ يُحمَلُ عَلَى مَا يَليقُ له، كسائرِ صفاتِهِ، نُؤمنُ بها ولا نكِّيفُها"[19].
وذَكَرَ (الاستحياءَ) فِي صفاتِ الله تَعَالَى شيخُ الحرمينِ أبو الحسنِ محمدُ بنُ عبدِ الملك الكرجيُّ فِي كتابِهِ الذي سماه: الفصول فِي الأصولِ عَنِ الأئمة الفحولِ إِلزامًا لذوي البدعِ والفضولِ، وكان من أئمةِ الشافعيةِ، ونقلَهُ إقرارًا له شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ[20].
*
ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بَهَذَا الاسمِ:
1- إثباتُ صِفةِ الحياءِ لربِّنا تباركَ وَتَعَالَى عَلَى مَا يليقُ بجلاله وكمالِهِ، إِثباتًا مِنْ غيرِ تمثيلٍ لها بخلقِهِ.
قال الإمامُ أبو يعلى الفرَّاءُ بعد أنْ ساق الأحاديثَ الواردةَ فِي صِفةِ الحياءِ: "اعلمْ أَنَّهُ غَيرُ ممتنعٍ وَصْفُ اللهِ تَعَالَى بالحياءِ، لا على معنى ما يُوصفُ بِهِ المخلوقين مِنَ الحياءِ الذي هو انقباضٌ وتغيُّرٌ وخَجَلٌ، لاستحالةِ كونِهِ جِسمًا متغيرًا تحلُّه الحوادثُ[21].
لكِنْ نُطلقُ هذه الصفة كما أطْلقنا وَصَفَهُ سُبْحَانَهُ بالإرادِة وإنْ خَالفتْ إِرادةَ المخلوقينَ، لأن إرادَتَهُ تقتضي وجوبَ المرادِ، وإرادتُنا لا تقتضي وجوبَهُ.
وكذلك علمُه يقتضي العلمَ بالمعدومِ والموجودِ خلافَ علمِنَا"[22].
وقال الهَّراسُ: "وَرَدَ فِي السُّنَّة وَصفْهُ تَعَالَى بالحياءِ:
كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله حَيِيٌّ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا"[23].
وكقوله صلى الله عليه وسلم فِي شأن النفرِ الثلاثةِ الذين وقَفُوا عَلَى مجلسِهِ: "أمَّا أحدُهم فأقبلَ فأقبلَ اللهُ عليه، وأمَّا الآخرُ فاسْتَحْيَا فاسْتَحْيَا اللهُ عز وجل منه، وأمَّا الثالثُ فأعْرضَ فأعْرضَ اللهُ عز وجل عنه".
*
وحياؤُه تَعَالَى وصفٌ يليقُ به، ليس كحياءِ المخلوقين الذي هُوَ تغيُّرٌ وانكسارٌ يَعْتري الشخصَ عند خوف ما يُعاب أو يُذمُّ، بلِ هو تركُ ما ليس يتناسبُ مع سَعةِ رحمتِهِ، وكمالِ جُودِهِ وكرمِهِ، وعظيمِ عَفْوهِ وحلمِهِ.
*
فالعبدُ يجاهره بالمعصية مع أنَّهُ أفقرُ شيءٍ إليه، وأضعفُهُ لديه، ويستعينُ بنعمِهِ عَلَى معصيتهِ، ولكنَّ الربَّ سُبْحَانَهُ مع كمال غِناهُ وتمامِ قدرتِهِ عليه، يَستحيي مِنْ هَتْكِ سِتْرِهِ وفضيحتِهِ، فيسترهُ بما يُهيّئهُ له مِنْ أسباب السَّترِ، ثُمَّ بعد ذلك يعفو عنه ويغفرُ، كما فِي حديث ابنِ عمرَ رضي الله عنهما: "إنَّ الله عز وجل يُدْني المؤمنَ فيضعُ عليه كَنَفَه، ثم يسألُه فيما بينه وبينَهُ: ألم تفعلْ كذا يومَ كذا؟ حتى إذا قرَّره بذنوبِهِ، وأَيقنَ أنه قَدْ هَلَكَ، قال له: سترتُها عليك فِي الدنيا وأنا أَغْفِرُهَا لك اليومَ"[24].
*
ويستحي مِمَّنْ يدعُوه ويمدُّ إليه يديهِ أَنْ يردَّهُما خاليتينِ.
وهو مِنْ أجلِ أنه حَيِيٌّ ستّيرٌ يحبُّ أهلَ الحياءِ والسَّترِ مِنْ عبادِهِ، فمَنْ سَتَر مسلمًا سَتَرَ اللهُ عليه فِي الدنيا والآخرةِ.
ويَكْرهُ المجاهَرةَ بالفسوقِ والإعلانَ بالفاحشَةِ، وإنَّ مِنْ أَمْقتِ الناسِ عندَه مَنْ باتَ عَلَى معصيةٍ واللُه يَسْترُهُ، ثم يُصبح فيكشفُ سِتْرَ اللهِ عليه.
*
وقد توعَّد الذين يُحبُّون أَنْ تشيعَ الفاحِشَةُ فِي الذين آمنوا بأَنَّ لهم عذابًا أليمًا فِي الدنيا والآخرِة[25].
وفِي الحديث: "كلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ"[26]"[27].
*
2- أوَّلَ كثيرٌ مِنْ العلماء صِفَةَ الحياءِ الثابتةَ له سُبْحَانَهُ فِي الأحاديثِ الصحيحةِ المتقدمةِ: بالتركِ تارةً، وبالكراهيةِ تارةً، وبالرَّحمةِ تارةً، وعدمِ العِقابِ والعذابِ أُخرى، وكُلُّها مِن لوازمِ الحياءِ.
أ- منهم الحليميُّ فِي قولهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله حَيِيٌّ كريمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا"، قال: "ومعناه: أنه يكرَهُ أَنْ يردَّ العبدَ إذا دعاه فسأله ما لا يمتنعُ فِي الحكمة إعطاؤه إيَّاهُ، وإجابتُه إليه، فهو لا يفعلُ ذلك، إلا أَنَّهُ لا يخاف من فِعلِهِ ذمًّا، كما يخافُهُ النَّاسُ فيكرهون لذلك فعلَ أمورٍ وتركَ أمورٍ، فإِنَّ الخوفَ غيرُ جائزٍ عليه"[28].
*
ب- والبيهقي فِي قوله: "فاسْتَحْيا فاسْتَحْيا اللهُ منه"، قال: "أي: جازاه على استحيائِهِ بأنْ تركَ عقوبَتَهُ على ذُنوبِهِ"[29].
*
جـ- والنوويُّ فِي قوله صلى الله عليه وسلم: "وأمَّا الآخرُ فاسْتَحْيا فاسْتَحْيا اللهُ عز وجل منه..." الحديث، قال: "أي: رَحِمَهُ ولم يُعذِّبْهُ، بل غَفرَ ذنوبَهُ، وقيل: جازاه بالثَّوابِ"[30].
*
د- والحافظ ابن حجر في الحديثِ نفسِهِ، قال: "أي: رَحِمَهُ ولمْ يُعاقِبْهُ"[31].
*
هـ- والأُقليشي إذْ يقولُ: "وأما وصْفُ اللهِ تَعَالَى بأنَّهُ (حييٌّ) فوزنه فعيلٌ من الحياء، وهذا الوصْفُ فِي حقِّ الله تعالى مُتأوَّلٌ!!
إذِ العبدُ هو الموصُوفُ بالحياءِ، لأنَّها حالةٌ يجدُها العبدُ فِي نفسِهِ تَحملُهُ على إجلالِ المُسْتَحْيا منه.
*
ولمَّا كان اللهُ تعالى مُتكرِّمًا على سائِلِهِ، وقاضيًا حوائجَ داعيهِ، لا يردُّهم بكرمِهِ، وَصَفَ نَفسَهُ بالحياءِ الذي يُوصَفُ به مَنْ كَرُمتْ نفسُهُ، وكانت له سَجِيةٌ حيِّيةٌ، فإنه من أوصاف المدحِ فِي الخَلْقِ، وكلُّ وصفٍ كان للمخلوق حسنًا، فللهِ منه الحظُّ الأكملُ، وإنْ كان فيه إيهامٌ فإنه فِي حقِّهِ متأوَّلٌ.
*
وقد وَصفَ نفسَهُ بأنَّهُ يَستحيي من العبدِ، ووَصف نفسَه بأنه لا يستحيي من الحقِّ، فحياؤه مِنْ عبدِهِ يرجعُ إلى قضاءِ حاجتِهِ، بصفةِ كرمِهِ، وكونه لا يَستحيي من الحقِّ يرجعُ إلى صفةِ عَدْلِهِ، القاضيةِ بجريانِ الحقِّ على أهله، ولكلِّ صفةٍ مقامٌ، وكيفٌ، فكان هذا الوصفُ من أوصافِ الأفعالِ، لأنه عبارةٌ عن إظهار كرمِهِ، وإدْرار نِعَمه"[32].
*
و- والسِّنْدِيُّ قال: "(حيي) بكسرِ أولى الياءين مخفَّفةٌ، وَرفْعِ الثانيةِ مشدَّدةٌ؛ أي: الله تعالى تاركٌ للقبائح، ساتِرٌ للعيوب والفضائحِ، يحبُّ السَّترَ من العبد، ليكون مُتخلِّقًا بأخلاقِهِ تعالى، فهو تعريضٌ للعبادِ، وحَثٌّ لهم على تحري الحياء"[33].
*
وغيرُهُم ممَّنْ أخطَأَ في هذا البابِ، عفا اللهُ عنَّا وعنهُم بمنِّهِ وكرمِهِ.
*
3- ولمَّا كان اللهُ تعالى موصوفًا بالحياءِ، فإنَّه يُحبُّ أهلَهُ والمتَّصفينَ به مِنْ عبادِهِ، كما ذكرْنَا سابقًا أنه تعالى عليمٌ يحبُّ العلماءَ، كريمٌ يُحبُّ الكرماءَ، حليمٌ يُحِبُّ الحُلماءَ، جَميلٌ يحبُّ الجمالَ.
وقال أبو موسى رضي الله عنه: "اللهمَّ إنك مُؤمِنٌ تُحبُّ المؤمِنَ، ومهيمنٌ تحبُّ المُهيمِنَ، سَلامٌ تُحِبُّ السَّلامَ، صادِقٌ تُحبُّ الصادِقَ"[34].
*
بل قد جعله رسولُ الهُدى صلى الله عليه وسلم شُعبةً مِن شُعبِ الإيمانِ، وخصلةً من خِصالِ عبادِ الرَّحمنِ.
فقال صلى الله عليه وسلم: "الإيمانُ بِضْعٌ وسِتُّونَ شُعْبةً، والحياءُ شُعبةٌ مِنَ الإيمانِ"[35].
*
ومرَّ صلى الله عليه وسلم على رَجُلٍ مِنَ الأنصارِ وهو يَعظُ أخاه فِي الحياءِ - وفِي رواية: يقولُ: إنك لتستحيي حتى كأنَّه يقولُ: قد أَضَرَّ بك - فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ، فإن الحياءَ مِنَ الإيمانِ"[36].
*
وكان هو صلى الله عليه وسلم مِن أشدِّ الناسِ حياءً، كما وصفَهُ أَصحابُهُ، قال أبو سعيدٍ الخدري رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العَذْراءِ فِي خِدْرِهَا"[37].
أي: أشدُّ حياءً مِن البِكرِ إذا دُخل عليها فِي خَلوتِها[38].
*
فإن قيل: الحياءُ مِن الغرائِزِ، فكيف جُعل شُعبةً من الإيمانِ؟
أُجيبَ بأنَّه: قد يكونُ غريزةً وقد يكونُ تخلُّقا، ولكنَّ استعمالَهُ على وَفْقِ الشَّرعِ يحتاجُ إلى اكتسابٍ وعلمٍ ونيةٍ، فهو من الإيمانِ لهذا.
ولكونه باعِثًا على فعل الطاعةِ، وحاجزًا عن فِعْلِ المعصيةِ[39].
ولا يقال: رُبَّ حياءٍ يمنعُ عن قولِ الحقِّ أو فعلِ الخيرِ، لأنَّ ذاك ليس شرعيًّا.
فإن قيل: لِمَ أفردَهُ بالذكر هنا؟
أُجيبَ بأنَّه: كالدَّاعي إلى باقي الشُّعَبِ، إذْ الحييُّ يخافُ فضيحَةَ الدنيا والآخِرَةِ، فَيَأْتَمِرُ وَيَنزجِرُ[40].
*
4- اعلَمْ - رَحِمني اللهُ وإيَّاكَ - أَنَّ أعظَمَ الحيَاءِ يَنبغي أَنْ يكونَ مِنَ الله تعالى، الذي نتقلَّبُ فِي نِعَمِهِ وإحسانِهِ الليلَ والنَّهارَ، ولا نَسْتغني عنه طَرْفَةَ عينٍ، ونحنُ تحتَ سمعِهِ وبصرِهِ، لا يغيبُ عنه مِنْ حالنا وقولِنا وفعلنِا شيءٌ، كما قال عز وجل: ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61]
*
وقال بعضُ السَّلفِ: "عَلِمتُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مُطَّلعٌ عليَّ فاسْتَحييْتُ أَنْ يراني على مَعصيةٍ".
وقد أحسَنَ مَنْ قال:
وإذا خَلَوتَ بِرِيبةٍ فِي ظُلمةٍ
والنَّفسُ داعِيةٌ إلى العصيانِ
فاسْتحْيِ مِن نَظَرِ الإلهِ وقُلْ لها
إنَّ الذي خَلَقَ الظَّلامَ يَراني
*
وحُكي عن بعض السَّلفِ: "خَفِ الله على قَدْرِ قُدْرتِهِ عليك، واستحْيِ منه على قَدْرِ قُربِهِ منك"[41].
قال الرَّاغِبُ: "والذي يَستحْيي منهم الإنسانُ ثلاثةٌ:
البشرُ: وهو أكثرُ ما يَستحْيي منه، ثم نفسُهُ، ثم اللهُ عز وجل.
ومَنِ اسْتحيا مِنَ النَّاسِ ولم يستحْي مِن نفسِهِ، فنفسُهُ أخسُّ عنده من غيرِهِ. وَمَنِ اسْتحْيا منهما ولم يستحي مِنَ اللهِ عز وجل، فلعدم معرفتِهِ به.
*
فإنَّ الإنسانَ يستحْيي ممَّنْ يُعظِّمُهُ ويَعَلَمُ أنَّه يراهُ، ويَسمعُ نجواهُ، ومَنْ لا يعرفُ اللَه فكيف يَسْتعظمُه؟ وكيفَ يعلمُ أنه مُطَّلعٌ عليه؟
وقولُه صلى الله عليه وسلم: "اسْتحْيُوا مِنَ الله حَقَّ الحياءِ"[42]، في ضمنِهِ حثٌّ على معرفتِهِ.
وقال الله عز وجل: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ [العلق: 14]، تنبيهًا على أَنَّ العبدَ إذا علِم أَنَّ ربَّه يراهُ استحْيا مِنَ ارتكاب الذَّنبِ.
*
وسُئلَ الجُنيدُ عما يُولِّدُ الحياءَ من الله تعالى، فقال: رُؤيةُ العبدِ آلاءَ الله عليه، ورؤيةُ تقصيرِهِ عن شكرِهِ"[43].
قال القرطبيُّ: "فيجبُ على كلِّ مكلَّفٍ أَنْ يستحييَ مِنْ خالقِهِ، وذلك بأن لا يراهُ حيثُ نهاهُ، وذلك أَنَّ المُؤمِنَ يقتضي تعظيمَ مَنْ آمنَ به، فينزجرُ عن القبائح حياءً من نَظَرهِ إليه، حتى كان بعضُهم لا يغتسلُ إلا وعليه مِئْزرٌ يسترُه، ولا يَقُومُ قائمًا مُنتصِبًا بل يَتضَامُّ ما استطاع في غُسْلِهِ[44].
وكان موسى؛ حَيِيًّا ستِّيرًا يغتسلُ بناحيةٍ من قومِهِ[45].
*
وروى الترمذيُّ: عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اسْتَحْيُوا مِنَ الله حقَّ الحياءِ"، قال فقلنا: إنا نَستحْيي والحمدُ لله، قال: "ليسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاستحْياءَ مِنَ الله حقَّ الحياءِ، أَنْ تحفظَ الرأسَ وما وَعَى، والبطنَ وما حَوَى، وتَذْكُرَ الموتَ والبِلَى، ومَنْ أرادَ الآخرةَ تَرَكَ زينةَ الدُّنْيَا، فمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ الِله حقَّ الحَيَاءِ" [قال: حديثٌ غريبٌ][46].
*
فمَنْ كَثُر مِن اللهِ حياؤهُ انقبضتْ نفسُه عن مجاهرَتهِ بالعصيانِ، إِذْ علمُهُ معه فِي كلِّ مكانٍ فمَنْ عصاه فَقدْ جاهرَهُ، ثُمَّ مهما أفشَى معصيتَهُ فِي الخَلْق فِعلًا وقولًا فقد أعظمَ المُجاهرَةَ، إِذْ مَنْ لا يستحيي مِنَ النَّاسِ لا يستحيي مِنَ اللهِ، ولذلك كان الحياءُ الغريزيُّ محمودًا فِي العبدِ لكونِهِ مُنقبِضًا به عن مُجاهرةِ الخَلْقِ فيما يُنكرونَهُ من الفِعلِ.
*
وفِي البخاري عن أبي مَسعودٍ قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مما أَدركَ الناسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فاصْنَعْ ما شِئْتَ"[47].
*
وعن ابنِ عُمرَ مَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على رَجُلٍ وهو يُعاتبُ في الحياء، يَقولُ: إنَّك تستحْيي، حتى كأنَّه يقولُ: قد أضرَّ بك، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ، فَإِنَّ الحياءَ منَ الإِيمانِ"[48]"[49].
*
5- والوقاحَةُ مذمومَةٌ بكلِّ إنسانٍ، إذْ هِيَ انْسِلاخٌ مِنْ الإنسانيَّةِ.
وحقيقتُها: لجاج النَّفسِ فِي تعاطي القبيحِ.
واشتقاقهُ: من حافرٍ وَقَاحٍ، أي: صُلْب.
وبهذه المناسبة قال الشاعرُ:
يا ليتَ لي من جِلْدِ وجْهِكَ رِقْعةً ♦♦♦ فأَقُدُّ مِنْهَا حَافرًا للأَشْهَبِ
*
وما أصدقَ قولَ الشَّاعرِ:[50]
صَلَابةُ الوجْهِ لم تَغْلبْ على أَحدٍ ♦♦♦ إلا تَكَاملَ فيه الشَّرُّ واجْتَمَعا
*
المعانِي الإيمانيَّةُ:
وقد وَصَفَ نفسَهُ بالحياءِ، ووصَفَهُ رسولُه، فهو الحييُّ الكريمُ.
كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا"[51].
وقالت أمُّ سليمٍ: "يا رسولَ الله: إنَّ اللهَ لا يستحيي من الحقِّ"[52]، وأقرَّها على ذلك.
*
والحياءُ عند هؤلاءِ من الكيفيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، فلا يجوزُ عندهُمْ وصْفُ القديمِ بها، المقصودُ أنه كُلَّما كانت صِفاتُ الكمال فِي الحييِّ، كان فرحُه ومحبتُه ورضاه وغَضبُه ومقْتُه أكمَلَ، ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا غَضِبَ لم يَقُمْ لِغضبِه شيءٌ، وفِي الأثر: إنَّ موسى كان إذا غضب اشتعلتْ قُلنسوتُه وكان أشدَّ بني إسرائيل حياءً حتى إنه لا يغتسلُ إلا وحده مِن شِدَّةِ حيائِهِ.
*
وإذا كانت هذه الصفاتُ كمالًا، فلا يجوز سلبُها عمَّن هو أحقُّ بالكمال المطلقِ مِن كلِّ أحد بمُجَّردِ تسميتها كيفياتٍ نفسيةً، وأَعرْاضًا، وانفعالاتٍ، ونَحْوَ ذلك فإنَّ هذا مِن اللَّبْسِ والتلبيس، وتسميةِ المعاني الصحيحةِ الثابتَةِ بالأسماءِ القبيحَةِ المنفِّرةِ، وتلك طريقةٌ لِلنُّفاةِ مألوفةٌ، وسَجِيَّةٌ معروفةٌ، وإذا عُرِفَ هذا تَبيَّن أن هؤلاءِ المعطِّلةَ النُّفاةَ أضاعوا حقَّ اللهِ الذي يستحقُّه لنفسِهِ، والذي بَعَثَ به رُسُلَهُ، وأَنزَل به كُتُبَهُ، والذي هو أصلُ دينِهِ، ومنتهى عبادتِهِ بما هم متناقِضون فيه[53].

الشيخ وحيد عبدالسلام بالي

Adsense Management by Losha