مشاهدة النسخة كاملة : قتيبة بن مسلم


فريق منتدى الدي في دي العربي
03-14-2016, 10:01 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-
(( قتيبة بن مسلم ))
فاتح الصين العظيم
أ. شريف عبدالعزيز
- عضو الفريق العلمي- ملتقى الخطباء -

كبير مجاهدي الدولة الأموية:

بالجملة كان هذا البطل من أعظم الفاتحين في الإسلام وصاحب شخصية آسرة، كانت سبباً في إسلام أمم بأكملها من الأتراك، وكان علم الجهاد المقدم في الشرق حتى أدخل الإسلام لأرض الصين النائية، ولا يعلم أحد بعده قد وصل براياته إلى ما وصل إليه من بلاد كاشغر بالصين، -فرحمه الله رحمة واسعة وغفر له زلته التي راح ضحيتها، ويكفي لنعرف مدى شدة هيبة (قتيبة) في نفوس أعدائه، شهادة أحد ملوك الأتراك (الأصبهند)، عندما سأل عن قتيبة بن مسلم ويزيد بن المهلب وهو من ولى العراق بعده أيهما كان أعظم عندكم وأهيب؟ فقال: "لوكان قتيبة بأقصى حجر في الغرب مكبلاً ويزيد معنا في بلادنا وال علينا؛ لكان قتيبة أهيب في صدورنا، وأعظم من يزيد ".

الدولة الأموية هي أعظم دولة إسلامية ظهرت في التاريخ الإسلامي بعد دولة الخلافة الراشدة، لا ينكر فضلها وإنجازاتها إلا جاحد كاره، وعلى الرغم من تعرضها لفتن ومؤمرات داخلية كثيرة إلا أنها كانت دولة فتح وجهاد من مبتداها إلى منتهاها، فقد ظلت رايات الفتح الإسلامي خافقة طوال عهدهم، وعجلة الجهاد في -سبيل الله- تدور بكل قوة في الجهات الأصلية الأربع، والعجيب أن هذه الدولة لم تظهر بمظهر الضعف أو الانكسار أبداً أمام أعدائها، ولم تمر بالمراحل المعتادة؛ لسقوط الدول، بل سقطت كما تموت الأشجار، وهي واقفة على قدميها، شامخة رغم كثرة الأعداء، بل إن الحقيقة التاريخية التي لا يستطيع أحد إنكارها حتى من أعدى أعداء الأمويين، أن ما حققه الأمويون من فتوحات لم تستطع أي دولة تحقيقه حتى اليوم.

لذلك كان من الطبيعي في هذه الأجواء الجهادية الخالصة أن تظهر النجوم اللامعات في سماء البطولة والشجاعة والقيادة الفذة، فدولة راياتها ميمونة ومظفرة في الشرق والغرب والشمال والجنوب لابد أن يكون لديها ذخيرة من الأبطال والقادة، وخزان من الكفاءات والأفذاذ، لذلك لم يكن عجيباً أو مستغرباً أن معظم قادة الفتح الإسلامي وعظماء الإسلام –الكبار- في مجال الجهاد كانوا أمراء وقادة في الدولة الأموية، عقبة بن نافع، موسى بن نصير، حسان بن النعمان، محمد بن القاسم، طارق بن زياد، طريف بن مالك، المهلب بن أبي صفرة وأبناؤه العشرة، وغيرهم كثير. وحديثنا في هذا المقام سيكون عن أسطورة الجهاد الإسلامي، وعملاق المشرق، البطل المغوار، والقائد العظيم، ميمون النقيبة، كبير مجاهدى الدولة الأموية بلا منازع وناشر الإسلام فى أقصى ربوع الأرض من ناحية الشرق، وصاحب الراية التى لم تجاوزها أي فاتح بعده مكانها، ومدخل الإسلام إلى بلاد الصين، صاحب الشخصية الجهادية الساحرة التى بهرت كل من رآه، وأسرت نفس كل من سمع أخباره، من أسلم على يديه الآلاف من الكفرة حباً فيه وفى جهاده وشجاعته الذى انتصر على كل اعدائه، وحطم معابد الشرك والأوثان، ولم يفر أو يهزم فى معركة قط، صاحب الراية -المباركة- على الإسلام والمسلمين الأمير أبو حفص (قتيبة بن مسلم بن عمر بن حصين بن ربيعة الباهلي).

المولد والنشأ:
ولد قتيبة بن مسلم سنة 48، وقيل 46 هجرية بأرض العراق، وكان أبوه (مسلم بن عمرو) من أصحاب (مصعب بن الزبير) والي العراق من قبل أخيه أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير-رضي الله عنه-، وقتل معه في حربه ضد عبد الملك بن مروان سنة 72 هجرية، ولما ترعرع تعلم العلم والفقه والقرآن، ثم تعلم الفروسية وفنون الحرب، فظهر فيه النبوغ وهو شاب في مقتبل شبابه، وقد نشأ قتيبة على ظهور الخيل رفيقاً للسيف والرمح، محباً للجهاد، وكانت منطقة العراق مشهورة بكثرة الفتن والثورات، لذلك عمل كل ولاة العراق على شغل أهلها بالجهاد فى -سبيل الله-؛ لاستغلال طاقاتهم الثورية فى خدمة الإسلام ونشر الدعوة، لذلك كانت أرض العراق هي قاعدة الانطلاق للحملات الجهادية على الجبهة الشرقية للدولة الإسلامية، وقد اشترك قتيبة فى هذه الحملات منذ شبابه المبكر، وأبدى شجاعة فائقة وموهبة قيادية فذة، لفتت إليه الأنظار خاصة من القائد العظيم المهلب بن أبي صفرة وكان خبيراً فى معرفة الأبطال ومعادن الرجال فتفرس فيه أنه سيكون من أعظم أبطال الإسلام، فأوصى به لوالي العراق الشهير (الحجاج بن يوسف الثقفي) الذى كان يحب الأبطال والشجعان، فانتدبه لبعض المهام؛ ليختبره بها ويعلم مدى صحة ترشيح (المهلب) له، وهل سيصلح للمهمة العظيمة التى سيؤهله إليها بعد ذلك أم لا؟

بعد أن أخضعه الحجاج لعدة اختبارات، تيقن الحجاج -وكان من دواهي الزمان في معرفة الرجال خاصة القادة والأبطال منهم- صحة وجهة نظر (ابن أبي صفرة) في حنكة ومهارة (قتيبة)، وأنه أمام بطل من طراز خاص، وقائد من النوعية التي يفضلها الحجاج، فعينه والياً على مدينة الري (طهران اليوم)، فأبلى فيها بلاءً حسنًا، فما كان من (الحجاج) إلا أن انتدبه لما هو أعظم وأكبر من مدينة الري، حيث جعله واليًا على إقليم خراسان في العام 86 هجرية، ويرجع السبب في أن ولاية خراسان الشاسعة (تشمل معظم أجزاء من إيران وأفغانستان اليوم) كانت المنطلق الرئيسي في رحلة الفتوحات، وأن هذه الولاية لم تكن مستقرة، ولم تكن قد دانت كلها بالسيطرة للمسلمين، وقامت بها العديد من الحركات الانفصالية ، وبالتالي كانت في حاجة إلى الكثير من الجهد إما لاستكمال الفتوحات أو تأمين المناطق التي تم فتحها بالفعل. كان المهلب بن أبي صفرة والياً على خراسان من عام 78 حتى 86 هجرية، وقد رأى الحجاج أن يدفع بدماء شابة جديدة في قيادة المجاهدين هناك، فلم يجد أفضل من قتيبة بن مسلم لهذه المهمة.

استراتيجية الفاتح العظيم:
سار قتيبة بن مسلم على نفس الخطة التي سار عليها آل المهلب، وهي خطة الضربات السريعة القوية المتلاحقة على الأعداء، فلا يترك لهم وقت للتجمع أو التخطيط لرد الهجوم على المسلمين، ولكنه امتاز عن آل المهلب بأنه كان يضع لكل حملة خطة ثابتة لها هدف ووجهة محددة، ثم يوجه كل قوته للوصول إلى هدفه، غير عابىء بالمصاعب أو الأهوال التى ستواجهه، معتمداً على بسالته النادرة وروح القيادة التى امتاز بها وإيمانه العميق بالإسلام.

قام قتيبة بن مسلم بتقسيم أعماله لأربع مراحل، حقق فى كل واحدة منها فتح ناحية واسعة فتحاً نهائياً ثبت فيه أقدام المسلمين لفترة طويلة:
المرحلة الأولى: قام فيها قتيبة بحملته على (طخارستان السفلى) فاستعادها وثبت أقدام المسلمين وذلك سنة 86 هجرية، وطخارستان السفلى هي الآن جزء من أفغانستان وباكستان.

المرحلة الثانية: قاد فيها حملته الكبرى على بخارى فيما بين 87 –90 هجرية وخلالها أتم فتح بخارى وما حولها من القرى والحصون، وكانت أهم مدن بلاد ما وراء النهر وأكثفها سكاناً وأمنعها حصوناً.

المرحلة الثالثة: وقد استمرت من سنة 91-93 هجرية، وفيها تمكن قتيبة من نشر الإسلام وتثبيته فى وادي نهر جيحون كله، وأتم فتح إقليم سجستان فى إيران الآن، وإقليم خوارزم -يوجد الآن بين دول إيران وباكستان وأفغانستان-، ووصلت فتوحاته إلى مدينة سمرقند فى قلب آسيا وضمها إلى دولة الإسلام نهائياً.

المرحلة الرابعة: وامتدت من سنة 94-96 هجرية، وفيها أتم قتيبة فتح حوض نهر سيحون بما فيه من مدن، ثم دخل أرض الصين وأوغل فيها ووصل مدينة (كاشغر) وجعلها قاعدة إسلامية وكان هذا آخر ما وصلت إليه جيوش الإسلام فى آسيا شرقاً ولم يصل أحد من المسلمين أبعد من ذلك قط.

البطل قتيبة وملك الصين:
واستمرت فتوحات (قتيبة بن مسلم الباهلي) في بلاد ما وراء النهر جيحون وسيحون، حتى استقر المقام للمسلمين هناك، ومن البلدات والمدن التي فتحها الطالقان والصغانيان وشومان وكفتان وسمرقند، وقد بلغ عظم فتوحاته مستوى جعل ملك الصين، مهاب الجانب في منطقته، يتوجس منه خيفة، ويرسل إليه يطلب إرسال سفارة لمعرفة ماذا يريده قتيبة من أرض الصين. انتخب قتيبة عشرة من خاصة رجاله، لهم جمال وألسن وبأس وعقل وصلاح، فأمر لهم بعدة حسنة، ومتاع حسن من الخز والوشي وغير ذلك، وخيول حسنة، وأمّر عليهم هبيرة بن مشمرج الكلابي فقال لهم: "إذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم".

قال ابن الأثير في تاريخه: "سار الوفد فلما قدموا عليهم دعاهم ملك الصين فلبسوا ثياباً بياضاً تحتها الغلائل وتطيبوا ولبسوا النعال والأردية ودخلوا عليه وعنده عظماء قومه فجلسوا ولم يكلمهم الملك ولا أحد ممن عنده فنهضوا فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ فقالوا: رأينا قوماً ما هم إلا نساء. فلما كان الغد دعاهم فلبسوا الوشي والعمائم الخز والمطارف وغدوا عليه فلما دخلوا قيل لهم: ارجعوا وقال لأصحابه كيف رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا أشبه بهيئة الرجال من تلك فلما كان اليوم الثالث دعاهم فشدوا سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر وأخذوا السيوف والرماح والقسي وركبوا. فنظر إليهم ملك الصين فرأى مثل الجبل فلما دنوا ركزوا رماحهم ودفعوا خيلهم كأنهم يتطاردون. فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا مارأينا مثل هؤلاء. فلما أمسى بعث إليهم أن ابعثوا إليَّ زعيمكم فبعثوا إليه هبيرة فقال له ملك الصين: "قد رأيتم عظم ملكي وأنه ليس أحد منعكم مني وأنتم في يدي بمنزلة البيضة في كفي وإني سائلكم عن أمر فإن لم تصدقوني قتلتكم". قال: سل. قال: "لم صنعتم بزيكم الأول اليوم الأول والثاني والثالث ما صنعتم؟". قال هبيرة: "أما زينا الأول فلباسنا في أهلنا والثاني فزينا إذا أمنا أمراءنا والثالث فزينا لعدونا". قال: "ماحسن ما دبرتم دهركم فقولوا لصاحبكم ينصرف فإني قد عرفت قلة أصحابه وإلا بعثت إليكم من يهلككم". فقال له هبيرة: "كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل ولسنا نكرهه ولا نخافه وقد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطى الجزية".



أعادت هذه المقالة ملك الصين إلى صوابه فاعتدل في كلامه وقال لهبيرة: فما الذي يرضي صاحبكم؟ قال: إنه حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويعطى الجزية. قال: فإنا نخرجه من يمينه ونبعث تراب أرضنا فيطأه ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم ونبعث إليه بجزية يرضاها فبعث إليه بهدية وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم ثم أجازهم فأحسن فقدموا على قتيبة فقبل قتيبة الجزية وختم الغلمان وردهم ووطئ التراب.

لم يقنع قتيبة بما فعله مع ملك الصين، وعزم على مواصلة الفتح، وراح يخطط؛ لكي ينطلق من فرغانة -وهو إقليم يمتد حاليًا بين أوزبكستان، وطاجكيستان، وقرغيزيا- نحو فتح الصين كلها، إلا أن التغيرات السياسية التي وقعت في هذه الفترة عقب وفاة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك وتولي (سليمان بن عبد الملك) من بعده، قد أطاحت بـ(قتيبة) من منصبه واليًا على خراسان ومن قيادة الجيش؛ ليتوقف عند التخوم الغربية للإمبراطورية الصينية، وتحديدًا عند منطقة كاشغر، التي تقع في تركستان الشرقية داخل حدود الصين الحالية.

فضل الأمير قتيبة على القبائل التركية:
عندما قام المسلمون الأوائل بحركة الفتح الإسلامى فى شرق المعمورة كان هناك نوعان من الأجناس البشرية، القبائل الساسانية أو الفارسية، والقبائل التركية، وكان نهر (المرغاب) هو الحد الفاصل بين هؤلاء وهؤلاء، وقد تم إدخال القبائل الفارسية فى الإسلام فى عهد الخلفاء الراشدين، أما القبائل التركية فقد كانت أكبر عدداً وأوسع انتشاراً منهم الأتراك الغزية والأتراك القراخطاى والأتراك القوقازيين والأتراك الأيجور والأتراك البلغار والأتراك المغول. ونستطيع أن نقول: إن الأمير قتيبة بن مسلم هو صاحب الفضل الأول بعد الله -عز وجل- في إدخال الأتراك شرقي نهر المرغاب وفى بلاد ما وراء النهر فى الإسلام، فقد سحرت شخصيته الجهادية الأتراك فدخلوا فى دين الله أفواجاً حباً فى بطولات وشجاعة هذا البطل الجسور الذى رأى فيه الأتراك الرمز الحقيقى للفضيلة والشجاعة والرجولة، ومعاني الإسلام النقية المتجسدة في شخصه.

كان دخول هؤلاء في دين الإسلام من أكبر الفتوحات والانتصارات التى حققها المسلمون وكان لهم أعظم الأدوار فى نشر الدعوة فى قارة آسيا كلها، فكان من قبائل الأتراك الغزية مثلاً: السلاجقة العظام، والعثمانيون الأبطال، والأوزبك الشجعان، والمماليك قادة العالم، وهؤلاء أدوا خدمات جليلة لا تنسى فى خدمة الإسلام، ومن الأتراك القوقازيين ظهر أبطال داغستان والشيشان، ومن الأتراك الهياطلة ظهر الغزنويون والغوريون فاتحو الهند الكبار وهكذا كان ذلك كله على يد من ألقى البذرة الأولى قتيبة بن مسلم -رحمه الله-.

غيرة قتيبة على الإسلام والمسلمين:
عندما فتح قتيبة مدينة (بيكند) وكانت تابعة لبخارى، صالحه أهل المدينة فجعل عليهم والياً من المسلمين وترك بها مجموعة من المسلمين؛ لتعليم الناس الإسلام، فلما رحل عنهم نقضوا العهد وقتلوا الوالي المسلم وجدعوا أنوف من كان بالمدينة من المسلمين، ومثلوا بجثثهم، فلما وصلت الأخبار إلى قتيبة -وكان محاصراً لمدينة أخرى- ترك حصارها وعاد مسرعاً إلى (بيكند) وحاصرها شهراً وهدم سورها فحاول أهل المدينة الصلح من جديد ولكنه أبى، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وأصر على فتحها بالسيف حتى تم له ذلك، فقتل المقاتلين وسبى الذرية وغنم الأموال؛ ليرتدع الكفار والخارجون عن مثلها فلا يعودوا لنقض ذمة المسلمين وعهدهم، وليعلموا أن قطرة دم واحدة من مسلم أعز وأغلى من كفار الأرض جميعاً. ومن المواقف الرائعة فى هذا الفتح التأديبى، أن الذي ألب على المسلمين وحرض أهل المدينة على نقض عهدهم، رجل كافر من أهل المدينة أعور العين، وقد وقع هذا الرجل أسيراً بيد المسلمين، فقال لقتيبة: "أنا أفتدي نفسي بخمسة آلاف ثوب حريري قيمتها ألف ألف". فأشار أمراء الجيش على قتيبة أن يقبل ذلك منه، فقال قتيبة: "لا والله لا أروع بك مسلماً مرة أخرى" ثم أمر به فضربت عنقه. وهذا يوضح مدى غيرة الأسد قتيبة على دماء الإسلام والمسلمين وحرصه الشديد على أرواحهم وتأديبه القوي لمن يتعدى على حرماتهم، كما أرسل برسالة واضحة بأن المسلم لا يبغي بجهاده وقتاله سوى وجه الله -عز وجل-ونصرة الدين، ولا يريد من الدنيا مالاً ولا متاعاً؛ لأنه -وبمنتهى البساطة- قد آثر الآخرة على الأولى، واشترى الجنة بالدنيا.

صلابته وشدته وصبره في القتال:
لقد تعرض الأمير (قتيبة) لعدة مواقف عصيبة صمد أمامها كالطور العظيم، وأظهر شجاعة وثباتاً لا يعلم مثله إلا من الصحابة -رضوان الله عليهم-، من هذه المواقف أنه بعد أن فتح مدينة بخارى فر منها ملكها وردان شاه، وراسل ملوك الترك الكفرة الذين كانوا من قبل صالحوا قتيبة فأجابوه ونقضوا الصلح مع قتيبة، واتفقوا عليه وحشدوا أعداداً هائلة من الكفار، وأقبلوا فى جيوش جرارة فى تحالف وثني على أهل الإيمان، ووصلت الأخبار للأمير قتيبة فأعد جنوده البواسل بعدما حرضهم وشجعهم على الجهاد والشهادة، فكشر الأسد عن أنيابه ووثب هو وجنوده على جيوش الكفار فى معركة رهيبة، أبدى فيها المسلمون شجاعة نادرة وبسالة هائلة، فانتصروا على القوم الكافرين وقتل منهم عشرات الآلاف، وحتى يردع الكافرين عن مثلها، صلبهم على مسافة أربعة فرسخ فى نظام واحد، الرجل بجوار الرجل، وذلك فى كل اتجاه من الجهات الأربعة، فلم يقم للكافرين بعدها قائمة.

عندما فتح مدينة سمرقند وكانت قاعدة ملك الأتراك الهياطلة، اشترط قتيبة على أهلها شرطين:
الأول: أن يبنى فى المدينة مسجداً لله -عز وجل-ويضع فيه منبراً ويصلي فيه ويخطب عليها.

ثانيها: أن يحطم أصنام المدينة ومعابدها. فلما أخذ الأصنام والأوثان ألقيت بعضها فوق بعض حتى صارت مثل الجبل الكبير، ثم أمر بإحراقها، فتصارخ أهل المدينة وبكوا، ثم قالوا له: إن فيها أصناماً قديمة من أحرقها هلك فى الحال، فقال القائد المؤمن قتيبة: "أنا أحرقها بيدي فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون" ثم قام إليها وهو يكبر الله -عز وجل-وألقى فيها النار حتى احترقت كلها".

مأساة بطل عظيم:
ما حدث مع هذا البطل العظيم لم يكن عملاً منفرداً أو فلتة من فلتات الحكم، بل كانت سياسة ممنهجة اتبعها الخليفة سليمان بن عبد الملك كانت من أسوأ أعمال هذا الخليفة الذي كان له شرف غزو القسطنطينية مرتين. فما تعرض له قتيبة تعرض لمثله محمد بن القاسم فاتح السند والهند، وموسى بن نصير فاتح المغرب والأندلس. وكل ذلك بلا جريرة منهم ولا ذنب يستحقون به هذا المصير المؤلم. كل ذلك بسبب كونهم قادة وأمراء عملوا تحت قيادة الوالي الشهير والمثير للجدل (الحجاج بن يوسف الثقفي).

والبداية كانت مع محاولة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك عزل ولي عهده وأخيه سليمان بن عبد الملك؛ لصالح ولده يزيد، وقد وافقه على ذلك الحجاج بن يوسف، ولكن الوليد خشي من انحلال أمر الدولة بسبب نقض العهد، ولم يتم الأمر للوليد، ومات قبله الحجاج الثقفي، فأسرها سليمان في نفسه، ونوى عزل كل رجال الحجاج من الإمرة والقيادة والتنكيل بهم، وبالفعل عزم على عزل كل رجال الحجاج وعلى رأسهم الثلاثة الكبار، موسى بن نصير، ومحمد بن القاسم، وقتيبة بن مسلم.
أراد قتيبة أن يستطلع موقف الخليفة الجديد، وهل ينوي عزله مثلما فعل مع محمد بن القاسم، وكان قد عزله قبل ذلك بقليل، فأرسل إليه ثلاثة كتب، الأول: كتب فيه يهنئه بالخلافة ويذكر بلائه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنه على مثل ذلك إن لم يعزله عن خرسان والكتاب، الثاني: يعلمه فيه بفتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم ويذم أهل المهلب ويحلف بالله لئن استعمل يزيد بن المهلب على خراسان ليخلعنه. والكتاب الثالث: كتب فيه خلعه، وأرسل الكتب مع رجل يثق به وقال له: ادفع الكتاب الأول إلى سليمان فإن كان يزيد حاضر فقرأه وألقاه إليه فادفع إليه الثاني فإن قرأه وألقاه إليه فادفع إليه الثالث وإن قرأ الكتاب الأول ولم يدفعه إليه فاحبس الكتابين الآخرين.

قدم رسول قتيبة على سليمان بن عبد الملك دفع إليه الكتاب إليه فقرأه وألقاه إلى يزيد فدفع إليه الثاني فقرأه وألقاه إلى يزيد، فدفع إليه الثالث فلما قرأه تغير لونه، و ختمه وأمسكه بيده فأمر سليمان برسول قتيبة فأنزل وأحضره ليلاً وأعطاه عهد قتيبة بخرسان، ولكن قتيبة تسرع في خلع سليمان وجمع جموعًا لذلك عن رجاله وأهل بيته، لكن حركته فشلت، وانتهت بقتله سنة (96 هـ - 715م) بسهم طائش من أنصار سليمان بن عبدالملك، وهكذا وفاة هذا القائد العظيم مكرم العلماء وهازم الفرس المجوس.

وقيل: أنه لم يتمرد ولكن وقع ضحية مؤامرة حاكها بعض الطامعين بالولاية. ولكن هناك مقولة أخري أن قتيبة بن مسلم الباهلي قد تجاوز فترة حكم سليمان بن عبد الملك وعاصر فترة حكم الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز؛ لأنه في عهد عمر بن عبد العزيز عقدت محكمة سمرقند وكان الخصوم كهنة سمرقند وقتيبة بن مسلم الباهلي، وعلى سير أحداث محكمة سمرقند دخل جميع أهلها في الإسلام.

بالجملة كان هذا البطل من أعظم الفاتحين في الإسلام وصاحب شخصية آسرة، كانت سبباً في إسلام أمم بأكملها من الأتراك، وكان علم الجهاد المقدم في الشرق حتى أدخل الإسلام لأرض الصين النائية، ولا يعلم أحد بعده قد وصل براياته إلى ما وصل إليه من بلاد كاشغر بالصين، -فرحمه الله رحمة واسعة وغفر له زلته التي راح ضحيتها، ويكفي لنعرف مدى شدة هيبة (قتيبة) في نفوس أعدائه، شهادة أحد ملوك الأتراك (الأصبهند)، عندما سأل عن قتيبة بن مسلم ويزيد بن المهلب وهو من ولى العراق بعده أيهما كان أعظم عندكم وأهيب؟ فقال: "لوكان قتيبة بأقصى حجر في الغرب مكبلاً ويزيد معنا في بلادنا وال علينا؛ لكان قتيبة أهيب في صدورنا، وأعظم من يزيد ".
******

Adsense Management by Losha