مشاهدة النسخة كاملة : أقوال وأعمال ونيات تهدم طاعات وتبطل عبادات


فريق منتدى الدي في دي العربي
01-05-2018, 06:02 AM
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
*
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1].
*
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾. [الأحزاب: 70- 71].
*
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أعاذنا الله وإياكم وسائر المسلمين من النار، ومن كل قول وعمل يقرب إلى النار، اللهم آمين.
*
عباد الله؛ كما أن هناك من الكلمات والأعمال ما يملأ السماوات والأرض ويثقّل الميزان، هناك عكسها أقوال وأفعال ونيات تبطل كثيرا من الأعمال، فبكلمات يسيرة تنشب حروب عسيرة، وبأعمال صغيرة تُهدَم جبال كبيرة، وشرارةٌ ضعيفة تسبِّب حرائقَ فظيعة، كذلك الأعمالُ الصالحة، والحسناتُ الوفيرة تَنْقُصُ أو تَبطل بنطقٍ من اللسان أو عملٍ من الأركان.
*
وحتى لا تبطلَ أعمالنا قال ربنا سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33].
*
فالإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فكلُّ معصية تَنْقُصُ الإيمان، فيَنقُص هذا الإيمان ويكاد يبلَى في القلب ويحتاجُ إلى تجديد، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ، فَاسْأَلُوا اللهَ أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ"). [1]

فاللهم جدد الإيمان في قلوبنا.
• (إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ) أَيْ: يكاد أن يبلى... شبَّهَ الإيمان بالشيء الذي لا يستمِرُّ على هَيْئته، والعبد يتكلم بكلمة الإيمان، ثم يُدَنِّسُها بسوء أفعاله، فإذا عاد واعتذر، فقد جدَّدَ ما أَخْلَقَ، وطَهَّرَ ما دَنَّس. [2].
*
أخي في دين الله! لا تكن من الفجَّار الذين يستهزءون ويستهترون بالسيئات، فتجرُّهم إلى المهالك، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ، يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ) (وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا فَطَارَ"). [3].

• (يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ): أَيْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ، لِقُوَّةِ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْإِيمَانِ، فَلَا يَأمَنُ الْعُقُوبَةَ بِسَبَبِهَا، وَهَذَا شَأنُ الْمُؤْمِنِ، دَائِمُ الْخَوْفِ وَالْمُرَاقَبَةِ، يَسْتَصْغِرُ عَمَلَهُ الصَّالِحَ، وَيَخْشَى مِنْ صَغِيرِ عَمَلِهِ السَّيِّئِ. [4]، (فَقَالَ بِهِ هَكَذَا) أَيْ: نَحَّاهُ بِيَدِهِ وَدَفَعَهُ.
*
قَالَ الْمُحِبّ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِ لِشِدَّةِ خَوْفِهِ مِنْ اللهِ، وَمِنْ عُقُوبَته؛ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الذَّنْب، وَلَيْسَ عَلَى يَقِين مِنْ الْمَغْفِرَة، وَالْفَاجِرُ قَلِيلُ الْمَعْرِفَة بِاللهِ، فَلِذَلِكَ قَلَّ خَوْفُه، وَاسْتَهَانَ بِالْمَعْصِيَةِ. [5].
*
إنها محقَّراتُ الذنوب، والْإكْثَارُ مِنَ الصَّغَائِر تصيِّرُها مِنَ الْكَبَائِر، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ!") -أَيْ: مَا لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِهَا مِنْ الذُّنُوب-، وهي الصغائر فسيؤدي احتقارها إلى ارتكاب الكبائر.
*
("فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ، كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا) (فِي بَطْنِ وَادٍ")، ("فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ")، - أي حضر وقت طعامهم-* ("فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا")، ("وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ"). [6]

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("يَا عَائِشَةُ! إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللهِ طَالِبًا"). [7]

• (فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللهِ طَالِبًا)، حَيْثُ خَصَّ لِأَجْلِهَا مَلَكًا فَيَكْتُبُهَا. [8]
فالذنوب الصغيرة تصير من الكبائر بأمرين؛ أو بواحد من أمرين: بالاستصغار والإصرار.
*
وأيضا ينقص الأجرُ والثواب بالكلام يوم الجمعة مع صاحبه، والإمام يخطب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: ("إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ: أَنْصِتْ، فَقَدْ لَغَوْتَ"). وفي رواية: ("فَقَدْ أَلْغَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"). [9]
*
• (اللَّغْو)؛ مَا لَا يَحْسُن مِنْ الْكَلَام، ومَعْنَى (لَغَوْت) أَيْ: بَطَلَتْ فَضِيلَة جُمُعَتك، وَصَارَتْ جُمُعَتُك ظُهْرًا، وَيَشْهَد لِذلك مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث عَبْد الله بْن عُمَر مَرْفُوعًا: ("وَمَنْ لَغَا وَتَخَطَّى رِقَاب النَّاس كَانَتْ لَهُ ظُهْرًا")، قَالَ اِبْن وَهْب أَحَد رُوَاته: (مَعْنَاهُ أَجْزَأَتْ عَنْهُ الصَّلَاة، وَحُرِمَ فَضِيلَة الْجُمُعَة). [10].
*
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: "مَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا" [11].

• قَوْله: (مَنْ مَسَّ الْحَصَى فقد لَغَا) - وهذا أثناء الخطبة، لأن المساجد كانت قديما مفروشة بالحصا.- فِيهِ النَّهْي عَنْ مَسِّ الْحَصَى وَغَيْره مِنْ أَنْوَاع الْعَبَث فِي حَالَة الْخُطْبَة، وَالْمُرَاد بِاللَّغْوِ هُنَا الْبَاطِل الْمَذْمُوم الْمَرْدُود. [12].
*
ويدخل في مس الحصى -اليوم- استعمال وتحريك المسبحة، يسبح والإمام يخطب، هذا قد لغا.
*
• قَوْلُهُ: (وَمَنْ مَسَّ الْحَصَا فَقَدْ لَغَا) أَيْ: سَوَّاهُ لِلسُّجُودِ غَيْرَ مَرَّة فِي الصَّلَاة، وَقِيلَ بِطَرِيقِ اللَّعِب فِي حَال الْخُطْبَة، فَقَدْ لَغَا، أَيْ: بِصَوْتِ لَغْو مَانِع عَنْ الِاسْتِمَاع، فَيَكُون شَبِيهًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ﴾ وَقَالَ اِبْن حَجَر الْمَكِّيّ: فَقَدْ لَغَا، أَيْ: تَكَلَّمَ بِمَا لَا يُشْرَع لَهُ أَوْ عَبَثَ بِمَا يَظْهَر لَهُ صَوْتٌ. [13].
*
• قَوْلُهُ: (فَقَدْ لَغَا) أَيْ: أَتَى بِمَا لَا يَلِيق، فَلَا جُمُعَة لَهُ، وَالْمُرَاد أَنَّهُ يَصِير مَحْرُومًا مِنْ الْأَجْر الزَّائِد. [14].
*
وقد ورد أيضا عن صلاة النافة إذا صلاها الإنسان جالسا وهو قادر على القيام ينقص ثوابها؛ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: حُدِّثْتُ - وكان شابًّا يافعا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ("صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَلَاةِ")، - هذا ما بلغ عبد الله بن عمر - قَالَ: (فَأَتَيْتُهُ، - أي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي جَالِسًا، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى رَأسِي!) فَقَالَ: ("مَا لَكَ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو؟َ") قُلْتُ: حُدِّثْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ قُلْتَ: ("صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى نِصْفِ الصَلَاةِ")، (وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِدًا)، قَالَ: ("أَجَلْ، وَلَكِنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ")! [15].
*
وما ينقص الأجور أيضا تربية الكلاب في الدور، فتربية الكلاب في الدور تنقص الأجور، إذا كان دون حاجة، عَنْ أَبِي الْحَكَمِ الْبَجَلِيِّ، عن ابْنِ عُمَرَ، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ("مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا، إِلَّا كَلْبَ زَرْعٍ، أَوْ غَنَمٍ، أَوْ صَيْدٍ، يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ"). [16]، وفي رواية: «قِيرَاطَانِ». [17]، وفي رواية: فَقُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: (إِنْ كَانَ فِي دَارٍ وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ؟) قَالَ: (هُوَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ الَّذِي يَمْلِكُهَا). [18]

والتنعُّمُ المباحُ للصالحين على حساب صلاحهم، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله - تعالى - عنهما قَالَ: (لَا يُصِيبُ أَحَدٌ مِنْ الدُّنْيَا، إِلَّا نَقَصَ مِنْ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ اللهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ كَرِيمًا). [19]

فمن تمتع من المؤمنين في دنياه بجاهه ومكانته وغناه، هؤلاء سيحبسون على باب الجنة، ويتأخرون عن دخولها، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ، فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ"). [20]

• (أَصْحَابُ الْجَدِّ) الْمُرَاد بِهِم أَصْحَابُ الْبَخْتِ وَالْحَظِّ فِي الدُّنْيَا، وَالْغِنَى - والجاه - وَالْوَجَاهَة بِهَا.
وَقِيلَ: الْمُرَاد: أَصْحَاب الْوِلَايَات، وَمَعْنَاهُ: مَحْبُوسُونَ لِلْحِسَابِ، وَيَسْبِقهُمْ الْفُقَرَاء بِخَمْسِمِائَةِ عَام كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث.
*
وقوله: (غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ) أَيْ: مَنْ اِسْتَحَقَّ مِنْ أَهْل الْغِنَى النَّار بِكُفْرِهِ أَوْ مَعَاصِيه، فَقَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ. [21].
*
ويحبَط العمل بترك الصلاة المفروضة عمدا دون عذر، خصوصا صلاة العصر: عَنْ أَبِي الـمَلِيحِ، قَالَ: (كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ، فَقَالَ: بَكِّرُوا بِصَلاَةِ العَصْرِ)، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: («مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ»). [22].
*
ويبطل ثوابُ العبادات بالرياء، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ("أَيُّهَا النَّاسُ! إِيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ") قَالُوا: (يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟) قَالَ: ("يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ"). [23].
*
وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ - أيضا - رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ")، فَقَالُوا: (يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟!) قَالَ: ("الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟!"). [24].
*
وتبطل الصدقات بالمنِّ والأذى، قال سبحانه: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾. (البقرة: 264).
*
وكلمة؛ تبطل جميع الأعمال: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ("كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي؛ أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟! فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ! أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ! فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا؟ أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟! وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ"). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ). [25].

وعَنْ جُنْدَبٍ - رضي الله عنه -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَ؛ ("أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ؛ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ؟! فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ") أَوْ كَمَا قَال. [26]
*
بذاءةُ اللسان وفحشُ المنطق، والبخل بالفضل من الأموال، تزيد في الدنيا، ولكنها تنقص من الثواب في الآخرة، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّ الْحَيَاءَ، وَالْعَفَافَ، وَالْفِقْهَ، وَالْعِيَّ -عِيَّ اللِّسَانِ") - عن الكلام عند الخصام - ("لَا عِيَّ الْقَلْبِ- مِنْ الْإِيمَانِ، وَإنَّهُنَّ يَزِدْنَ فِي الْآخِرَةِ، وَيُنْقِصْنَ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا يَزِدْنَ فِي الْآخِرَةِ، أَكْثَرُ مِمَّا يُنْقِصْنَ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِنَّ الْبَذَاءَ) -البَذَاء: الفُحْش في القول-، (وَالْفُحْشَ، وَالشُّحَّ مِنْ النفاق، وَإنَّهُنَّ يَزِدْنَ فِي الدُّنْيَا، وَيُنْقِصْنَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا يُنْقِصْنَ فِي الْآخِرَةِ، أَكْثَرُ مِمَّا يَزِدْنَ فِي الدُّنْيَا"). [27]
*
اللسان يا عباد الله! أيها الشاتمون والسابُّون اللاعنون، يا من تحكمون على غيركم من المسلمين الأبرياءِ الغافلين، بالخيانة والكفر، والعمالة والفسق، ستقفون يوم القيامة بين يدي أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، فيحصِي عليكم أقوالَكم وكتاباتكم، فإن كانت بقدر ذنوب من تكلمتم فيهم، كان هذا بذاك، وإن كانت أقوالكم واتهاماتُكم أكثر، فيقتصُّ لمن سببتموهم وكفرتموهم، واتهمتموهم وخونتموهم وفسقتموهم، يقتص منكم لهم، فأكثروا من حسناتكم لهم، أو من سيئاتهم عليكم! عَنْ عَائِشَةَ رضي الله - تعالى - عنها قَالَتْ: (قَعَدَ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)، فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ)، -أي: عبيد.
(يَكْذِبُونَنِي)، -أَيْ: يَكْذِبُونَ فِي إِخْبَارِهِمْ لِي. تحفة.-
(وَيَخُونُونَنِي)، -أَيْ: فِي مَالِي. تحفة.-
(وَيَعْصُونَنِي)، -أَيْ: فِي أَمْرِي وَنَهْيِي. تحفة.-
(وَأَشْتُمُهُمْ، وَأَضْرِبُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟!) -أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ حَالِي مِنْ أَجْلِهِمْ وَبِسَبَبِهِمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. [28]
*
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَبُوكَ، وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، كَانَ كَفَافًا، لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ") -أَيْ: لَيْسَ لَك فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عَلَيْك فِيهِ عِقَابٌ. [29].
*
("وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ، كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ، اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ")، -أَيْ: أُخِذَ بِمِثْلِهِ لِأَجْلِهِمْ الزِّيَادَةُ. [30].
*
قَالَتْ - عائشة رضي الله تعالى عنها -: (فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ)، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ؟ ﴾ ، (الأنبياء: 47). فَقَالَ الرَّجُلُ: (وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! مَا أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلَاءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ). [31].

عباد الله! إظْهَارُ الصَّلَاحِ أَمَامَ النَّاسِ، وَارْتِكَابُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي غِيَابِهِمْ مِنَ الْكَبَائِر والمهلكات، التي تَذهب بالأجور والحسنات، عَنْ ثَوْبَانَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ("لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا")، قَالَ ثَوْبَانُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ!) قَالَ: ("أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا"). [32]
*
ما أكثر المفلسين في هذا الزمان! عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟!") (قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ).
• (المتاع): مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ مِنْ الْأَقْمِشَةِ وَالْعَقَارِ وَالْجَوَاهِرِ، وَالْعَبِيدِ وَالْمَوَاشِي وَأَمْثَالِ ذَلِكَ،.. تحفة.
فَقَالَ: ("إِنَّ الْمُفْلِسَ") -أَيْ: الْحَقِيقِيُّ- ("مِنْ أُمَّتِي يَأتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا") -أَيْ: بِالزِّنَا وَنَحْوِهِ-، ("وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَايَا، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"). [33].
*
• أَيْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُفْلِسِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْت، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ، وَمَنْ قَلَّ مَالُهُ فَالنَّاسُ يُسَمُّونَهُ مُفْلِسًا، وَلَيْسَ هَذَا حَقِيقَةَ الْمُفْلِسِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَزُولُ وَيَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ، وَرُبَّمَا اِنْقَطَعَ بِيَسَارٍ يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَيَّاتِهِ، بِخِلَافِ ذَلِكَ الْمُفْلِسِ فَإِنَّهُ يَهْلِكُ الْهَلَاكَ التَّامَّ. [34].
*
أخي في دين الله! إياك أن تحقرَ ذنبا، أو تستصغر سيئة، أو تصرَّ على خطيئة، فذلك يحوِّلها إلى كبيرة، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ تُعْبَدَ الْأَصْنَامُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّهُ سَيَرْضَى مِنْكُمْ بِدُونِ ذَلِكَ، بِالْمُحَقَّرَاتِ"). -أي: ما تستصغرون من الذنوب-، ("وَهِيَ الْمُوبِقَاتُ") -أي: المهلكات-، ("يَوْمَ الْقِيَامَةِ، اتَّقُوا الْمَظَالِمَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَجِيءُ بِالْحَسَنَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَرَى أَنَّهُ سَتُنَجِّيهِ، فَمَا يَزَالُ عَبْدٌ يَقُومُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ ظَلَمَنِي عَبْدُكَ مَظْلِمَةً، فَيَقُولُ: امْحُوا مِنْ حَسَنَاتِهِ، مَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى مَا يَبْقَى لَهُ حَسَنَةٌ مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَسَفْرٍ")، -أَيْ: كقوم مسافرين-، ("نَزَلُوا بِفَلاةٍ مِنَ الْأَرْضِ لَيْسَ مَعَهُمْ حَطَبٌ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ لِيَحْتَطِبُوا، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ حَطَبُوا، فَأَعْظَمُوا النَّارَ، وَطَبَخُوا مَا أَرَادُوا، وَكَذَلِكَ الذُّنُوبُ"). [35]
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
*
الخطبة الآخرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله؛ أصابعُ صغيرةٌ تدمِّر جبالا عظيمة، (الديناميت)، وملءُ الكفِّ يهدُّ بيتا وعمارة؛ (قنبلة صغيرة)، وقُنبلة ذَريّة، آثارها السيئة تبقى حتى في الذُّريَّة، وهناك أعمالُ واعتقاداتٌ تفسدُ الطاعاتِ، وتبطل العبادات، حتى تجعلَها هباءً منثورا.
*
إن ارتكابَ الكبائر ينزعُ إيمانَ العبد، فإن ترك الكبيرة عاد إليه إيمانه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("إِذَا زَنَى الرَّجُلُ، خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَكَانَ فَوْقَ رَأسِهِ كَالظُّلَّةِ") -أَيْ: كَالسَّحَابَةِ. [36]-، ("فَإِذَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ"). [37]
*
واعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ بَيَّنُوا لِلْحَدِيثِ السَّابِق تَأوِيلَاتٍ - ومعانيَ وشروحاتٍ - كَثِيرَةً، وَهَذِهِ إِحْدَاهَا؛ وَهُوَ أَنَّهُ يُسْلَبُ الْإِيمَانَ حَالَ تَلَبُّسِ الرَّجُلِ بِالزِّنَا، - أو الكبيرة - فَإِذَا فَارَقَهُ عَادَ إِلَيْهِ الْإِيمَان. [38].
*
قال سبحانه: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾. (الفرقان: 23).
*
إن قطرة من سُمٍّ تفسد قِدرا من عسل، فالشرك بالله كالسُّم، والتوحيد كالعسل، فاليسير من الشرك الأكبر مبطل لكلِّ عبادة، ومفسد للإيمان، ومخرج من دين الإسلام؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾. (النساء: 48)، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾. (النساء: 116)، ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾. (المائدة: 72).
*
وكذلك من أرادَ بعمل الآخرةِ، عمل الآخرة؛ كالصلاة والزكاة والحج وقراءة القرآن، أراد بهذا -ليس وجه الله- أراد بذلك الدنانير والدراهم، أراد الدنيا حبط عمله، قال سبحانه: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾. (هود: 15، 16). وقال سبحانه: ﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾. (الأنعام: 88)
*
فالْمُسَارَعَةُ إلَى التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ مِنَ الْإيمَان، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾. (آل عمران: 135)
*
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله - تعالى - عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ ذَنْبٌ يَعْتادُهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ") -أَيْ: حينا بعد حين-، (أَوْ ذَنْبٌ هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ، لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يُفَارِقَ الدُّنْيَا، إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ مُفَتَّنًا، تَوَّابًا نَسِيًّا، إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ"). [39]
*
• (مُفَتَّنًا) أَيْ: مُمتَحَنًا يمتحنُهُ اللهُ بالبلاء والذنوب مرة بعد أخرى، والـمُفَتَّن: الـمُمْتَحَن، الذي فُتِنَ كثيرا... - هذا المؤمن توابا كثير التوبة إلى الله، هذا المؤمن نسيا كثير النسيان لكنه إذا ذكر يتذكر فيتوب - أَيْ: يتوب، ثم ينسى فيعود، ثم يتذكر فيتوب. [40].
*
فيا من أسرفتم على أنفسكم بذنوبكم لا تيأسوا من رحمة الله؛ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾. (الزمر: 53).
*
قال البخاري رحمه الله [41]: كَانَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ يُذَكِّرُ النَّارَ، - أي يذكِّر الناسَ النارَ - فَقَالَ رَجُلٌ: (لِمَ تُقَنِّطْ النَّاسَ؟!) قَالَ: (وَأَنَا أَقْدِرُ أَنْ أُقَنِّطَ النَّاسَ، وَاللهُ عز وجل يَقُولُ: ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وَيَقُولُ: ﴿ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾.[غافر: 44]، وَلَكِنَّكُمْ تُحِبُّونَ أَنْ تُبَشَّرُوا بِالْجَنَّةِ عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِكُمْ، وَإِنَّمَا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَمُنْذِرًا بِالنَّارِ مَنْ عَصَاهُ).
*
إنهم السلف الصالح رحمهم الله، لا يعتدون في الدعاء على من ظلمهم، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: (رُمِيَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ: أَبُو نُحيلَةَ)، - بِسَهْمٍ - فَقِيلَ لَهُ: - انْزِعْهُ - (ادْعُ اللهَ)، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ أَنْقِصِ) - من المرض و(الْوَجَعَ، وَلَا تَنْقِصْ مِنَ الْأَجْرِ)، فَقِيلَ لَهُ: (ادْعُ ادْعُ)، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَاجْعَلْ أُمِّي مِنَ الْحُورِ الْعِينِ"). [42].

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: (مَا دَنَوْتُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صلى اللهُ عليه وسلَّم فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ إِلَّا سَمِعْتُهُ يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، لَا يَزِيدُ فِيهِنَّ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُنّ): ("اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَخَطَايَايَ، اللَّهُمَّ أَنْعِشْنِي وَاجْبِرْنِي، وَاهْدِنِي لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يَهْدِي لِصَالِحِهَا وَلَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ"). [43]
*
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: (اللَّهُمَّ زِدْنَا إِيمَانًا وَيَقِينًا وَفِقْهًا). [44]
*
فاللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
*
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، اللهم أنعشنا واجبرنا، اللهم اهدنا لصالح الأعمال والأخلاق إنه لا يهدي لأحسنها ولا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم زدنا ولا تنقصنا.
*
"اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَارْضِنَا وَارْضَ عَنَّا".
*
"اللَّهُمَّ إِنّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ، وَالْقَسْوَةِ وَالْغَفْلَةِ، وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْكُفْرِ، وَالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وَالسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ، وَالْجُنُونِ، وَالْبَرَصِ وَالْجُذَامِ، وَسَيِّيءِ الْأَسْقَامِ".
*
وأقم الصلاة فـ﴿ ... إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾. (العنكبوت: 45)

[1] (ك) (5)، انظر صَحِيح الْجَامِع: (1590)، الصَّحِيحَة: (1585).
[2] فيض القدير (2/ 410).
[3] (ت) (2497)، (خ) (5949).
[4] تحفة الأحوذي (6/ 289).
[5] (فتح الباري).
[6] (حم) (22860)، (3818)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح، انظر صَحِيح الْجَامِع (2686)، (2687)، والصحيحة (389)، صحيح الترغيب (2470).
[7] (جة) (4243)، (حم) (25218)، (حب) (5568)، الصَّحِيحَة: (513).
[8] حاشية السندي (8/ 95).
[9] (خ) (934)، (م) (851)، (حم) (8218)، انظر الصَّحِيحَة: (170).
[10] (فتح الباري).
[11] (م) 27- (857)، (ت) (498)، (د) (1050)، (جة) (1025).
[12] شرح النووي (3/ 229).
[13] عون المعبود.
[14] حاشية السندي على ابن ماجه (2/ 379).
[15] (م) 120- (735)، (د) (950)، (حم) (6894)، (عب) (4123).
[16] (م) 56- (1574).
[17] (خ) (5480).
[18] (حم) (4813).
[19] (ش) (34628)، انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ (3220).
[20] (خ) (4900)، (م) 93- (2736)، (حم) (21874).
[21] شرح النووي (9/ 103).
[22] (خ) (553).
[23] (هق) (3400)، (خز) (937)، انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ (31).
[24] (حم) (23686)، انظر الصَّحِيحَة (951)، صَحِيح الْجَامِع (1555).
[25] (د) (4901).
[26] (م) 137- (2621).
[27] أخرجه يعقوب بن سفيان الفَسَوِيّ في المعرفة (1/ 311)، (هق) (20597)، انظر الصَّحِيحَة (3381)، صَحِيح التَّرْغِيبِ (2630).
[28] تحفة (7/ 498).
[29] تحفة (7/ 498).
[30] تحفة الأحوذي (7/ 498).
[31] (ت) (3165)، (حم) (26444)، صَحِيح الْجَامِع (8039)، صَحِيح التَّرْغِيبِ (2290).
[32] (جة) (4245).
[33] (حم) (8016)، (م) (2581)، (ت) (2418).
[34] تحفة الأحوذي (6/ 208).
[35] (يع) (5122)، انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ (2221).
[36] عون المعبود (10/ 209).
[37] (د) (4690)، (ك) (56)، صَحِيح الْجَامِع (586)، الصَّحِيحَة (509).
[38] عون المعبود (10/ 209).
[39] (طب) (11810)، انظر صَحِيح الْجَامِع (5735)، الصَّحِيحَة (2276).
[40] فيض القدير (5/ 627).
[41] البخاري ح (4537).
[42] (خد) (504).
[43] (طب) (8/ 200) ح (7827)، (ابن السني في عمل اليوم والليلة) (116)، انظر صَحِيح الْجَامِع (1266).
[44] (السنة لعبد الله بن أحمد) 797، (طب) (9/ 105) ح (8549)، (هب) (46) وصححه الحافظ في (الفتح).

الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد

Adsense Management by Losha