فريق منتدى الدي في دي العربي
01-07-2018, 07:07 AM
اجتمع عدد من وجهاء مشركي مكة، وقرروا أن يتحاوروا مع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فيما يقول، فذهبوا إليه وتحدثوا معه، بعرض دنيوي مغرٍ، ظنا أن الرسول يمكن أن يتم احتواؤه بهذه الطريقة.
" فقالوا: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، وما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك - وكان يسمون التابع من الجن الرئي - فربما كان ذلك؛ بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك؟ "
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً نذيراً، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم [1].
لقد استهل الكفار حديثهم مع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم باستعراض أبرز الآثار التي أحدثتها دعوة الرسول في أهل مكة وهي: السخرية من عبادتهم، شتم معتقداتهم، تفريق جماعتهم، والسخرية من عقولهم، وأنه لا أحد من العرب فعل ذلك من قبل. ثم عرضوا عليه عرضا دنيويا يتضمن مغريات عديدة:
أولها: لو أراد المال والثراء، فهم سيجمعون له من أموالهم، ما يجعله أغنى أغنياء مكة.
ثانيها: لو أراد الشرف (الجاه) فهم سيسلمون له بذلك، ويجعلونه سيدا عليهم.
وثالثها: لو أراد الملك، فهم قبلوا أن يكون ملكا عليهم.
ورابعها: لو كان ما يأتيه من وحي (من الله تعالى) سحرا وجنا، فهم على استعداد لإنفاق المال حتى يتم علاجه.
وقد جاء الرد من الرسول بسيطا: إما أن تقبلوا ما جاءه من الله من البشرى (الجنة) والنذير (النار)، أو يصبر حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين.
الموقف السابق يدل على إفلاس الكفار مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والإفلاس يعني خواء فكرياً وروحياً وعقدياً، لا يمكنهم مواجهة الرسول به، خاصة أن أعداد المسلمين في تزايد، وأن ما ينادي به محمد من أمر مقبول عقليا، فإن الأصنام لا نفع منها، وأن المنظومة الأخلاقية في الجاهلية فاسدة للنفس والعقل، وفوق كل ذلك، فإن معجزة القرآن تلجم العقول ببلاغتها، وقوة أثرها الروحي والنفسي.
والموقف دال أيضا على طبيعة تعامل الكفار مع الرسول، فهم يتعاملون بمنظور الدنيا: الشهرة، المال، الملك، وهو صلى الله عليه وسلم في شفقة عليهم، وعلى عقولهم التي ترتع في جهالة وكفر.
في الحوار السابق، لم يكن الرسول يرد بحجج وأدلة وبراهين، فقد ساقها في حواراته السابقة، وما أكثرها في الآيات القرآنية المكية، وإنما كان بالرد أنه نبي مرسل، مهمته الإبلاغ، ولا يملك غير ذلك، ويختم كلامه: " وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم "، وهذا دليل على صبره واحتسابه الأمر كله لله تعالى.
ولنتابع بقية الحوار بين الكفار والرسول صلى الله عليه وسلم:
" قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلاداً، ولا أقل مالاً، ولا أشد عيشاً منا؛ فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال، التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيما يبعث لنا منهم: قصي بن كلاب، فإنه كان شيخاً صدوقاً، فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل؟ فإن فعلت ما سألناك وصدقوك صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولاً كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوا عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث لنا ملكاً يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لنا جناناً وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق وتلتمس المعايش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم.
فقال لهم: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. فقال صلى الله عليه وسلم : ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك [2].
لما يئس الكفار من إجابة الرسول إلى طلبهم بأن يترك الدعوة، ويقبل الدنيا، راحوا يطالبون بما هو فوق طاقة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي طلبات تشمل أن يجري الله تعالى أنهارا في بلادهم القاحلة، وأن يحيي أحد زعمائهم القدامى وهو قصي بن كلاب ليسألوه، أو يجعل لهم حدائق وقصورا من ذهب وفضة وغير ذلك، وهي طلبات دالة على منظورهم الدنيوي القاصر، الذي يقيس الأمور بالمادة والشهوة، دون نظر قلبي، وتأمل في خلق السماء والأرض. لقد حوّلوا الأمر إلى مراء، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدرك ذلك، فإنه اكتفى بتكرار ردوده، وأنه لا يملك من الله شيئا، فالأمر كله لله، وما هو إلا نبي مرسل، مأمور بالإبلاغ؛ تبشيرا بالجنة، وإنذارا من النار.
فكون الرسول يكرر ردوده بشكل متشابه تقريبا: " فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " فيوكل الأمر كله لله، وأنه ليس مبعوثا بإجابة طلبات دنيوية لهؤلاء المشركين أو لغيرهم، فهذا توكيد على عظم الدعوة، وسمو الرسالة، والرسول هنا يقيم الإبلاغ في حده الأدنى، موضحا مهمته، وأن الله يحكم بينه وبينهم، فلا مجال لغير ذلك، وأن العقائد التي دعاهم إليها الرسول، تشهد العقول بصحتها، دون احتياج لبرهنة وأدلة.
لقد ادّعى البعض - من المستشرقين وخصوم الإسلام - أن العرب قبلوا بدعوة الإسلام، ودخلوا في دين الله أفواجا، لأنهم كانوا في طور نهوض أدبي واجتماعي، تجعلهم يقبلون هذه الدعوة بسهولة [3]، ولكن ما فعله كفار مكة من صد و***** وسخرية واستهزاء بالرسول وصحبه، يرد بوضوح على هذه الادعاءات ويدل على فسادها، ذلك أن المؤمنين بالدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، بعد ثلاث عشرة سنة أمضاها النبي بين ظهرانيهم وكانت المحصلة: "أفراد من أهل قرابته، وآخرين من ذوي العقول الممتازة، الذين لا يخلو من أمثالهم أي مجتمع، مهما كان متغلغلا في الجاهلية، وقد كانوا من القلة بحيث خضعوا لجميع ضروب الاضطهادات فلما فلم يجدوا مخرجا عمدوا إلى المهاجرة إلى الحبشة " [4].
الرسول يرد بآيات من القرآن الكريم:
وهي ليست موقفاً واحداً، بل مواقف متعددة، واجه الرسول الكفار بآيات القرآن الكريم، وهي كمال البلاغة في الرد والإقناع والبرهان.
فقد مشى أبيّ بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظام رميم، وهو يفتّه ويذروه في الهواء، وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم : نعم يميتك الله تعالى، ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار" وفي رواية أخرى: إن العاص بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففتّه بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيحيي هذه الله بعد ما أرى؟ قال رسول الله: نعم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك جهنم " [5].
وقد أنزل الله تعالى فيهما: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 78، 79] [6].
الموقفان السابقان بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أبي بن خلف والعاص بن وائل يبرهنان على طبيعة الكفر الذي كان عليه مشركو مكة، وليست المسألة كما تقدّم في حوارهم مع الرسول، وطلباتهم الدنيوية، إنهم ينكرون أسس الإيمان بالله تعالى من بعث وحساب وجنة ونار، وهؤلاء لا ينفع معهم أي إقناع مادي، لأن قلوبهم مغشاة بالكفر، وعيونهم مظلمة عن الحق، لذا جاءت إجابة الرسول عكس ما يتوقع القائل فيحاوره بالعقل، ولكن لا حوار يصلح مع هذه القلوب المقفلة، وإنما ثبات اليقين، ورسوخ الإيمان، وقد ظهرا في رد الرسول بثقة، حيث أكد للاثنين أن الله سيميتهما ثم يحييهما ثم يدخلهما النار، وصدق الرسول، فقد ماتا كلاهما دون إيمان، وإن أمن من خرج من أصلابهم، مثل إيمان عمرو بن العاص بن وائل (رضي الله عنه).
وقد نزلت الآية الكريمة المذكورة، تقدم الرد بإقناع، فإن الله يحيي العظام وهي نخرة بالية، فهو خلقها في المرة الأولى، وسيعيد تكوينها ثانية، وهذا أهون عليه ثم قدّمت الآية البرهان: فإن الله خالق الشجر الأخضر الذي يجف ثم يصبح حطبا تُشعَل به النار، فالذي " أخرج هذه النار من من هذا الشجر، قادر على أن يبعثه " [7]، وبالطبع فإن البرهان المقدم من الآية بسيط للعقل، وحينما رد الرسول بثقة ويقين على الكافرينِ، فإن القرآن تكفل بالرد العقلاني، ليوضح أن الأساس في الأمر الإيمان بالله تعالى: خالقنا في أولنا، ومحيينا يوم البعث.
• ويذكر أيضا: أن قريشا اجتمعت يوما فقالوا: انظروا أعلَمَكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه، ولننظر ماذا يرد عليه. فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد. فغدا " عتبة بن ربيعة العبشمي " إلى الرسول، وعرض عليه مثلما عرض عليه كفار مكة، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أول سورة فصّلت:
﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [فصلت: 1 - 6] إلى قوله تعالى ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13] [8] فأمسك عتبة بفيه (بفم الرسول)، وناشده الرحم (صلة القرابة بينهما) أن يكف عن ذلك، فلما رجع عتبة سألوه عن ذلك، فقال: والله لقد سمعت قولا ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة ولا بالسحر، يا معشر قريش، أطيعوني فاجعلوها بي، خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكونن لكلامه الذي سمعتُ نبأ، فإن تصبه العرب (تضره وتحاربه) فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فعزُّه عزُّكم، فقالوا: لقد سحرك محمد. فقال: هذا رأيي[9] وفي رواية أخر: يقول عتبة لقومه: " فأمسكت بفيه (فم الرسول) وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئا لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب. وفي رواية ثالثة أن الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى في تلاوته إلى السجدة ﴿ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37]، فسجد عتبة، ثم قال صلى الله عليه وسلم : " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك " [10].
ما أروع هذا الموقف! إنه موقف اليقين الكامل، أمام رجل من المشركين خبير في السحر والكهانة والشعر، وقد سمع القرآن فبهر بإعجازه البلاغي والعقلي، وهو خبير في الشعر والفنون اللغوية العربية. وقد شهد هذا الرجل المشرك للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بشهادات عدة: إنه صادق لا يكذب أبدا،و ليس بشاعر ولا كاهن ولا ساحر. ويقينه بقوة القرآن وتأثيره العظيم في النفس، بدليل سجوده عندما وصل الرسول إلى السجدة، ثم علمه أن دعوة محمد ناجحة لا محالة، ذلك أن اليقين الكبير، والإيمان الراسخ الذي رآه عتبة على الرسول، وقوة الرسالة القرآنية، وروعة بيانها، ومتانة عقيدتها، كافية لغزو القلوب كيفما كانت.
وقد جاء رد النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات القرآنية لأن الرجل مثل عتبة (أبا الوليد) لا ينفع معه إلا قوة القرآن، وهذا ما حدث بالفعل.
وبمناسبة الشعر، فإن الرسول لم يكن يقول الشعر ولا يتمثل به، مصداقا للآية الكريمة: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 69] [11]، حتى لا يقال عنه إنه مؤلف آيات القرآن الكريم ببلاغته الشعرية، والقرآن ليس بشعر، وإنما هو معجز في نظمه وتعاليمه وما حواه، وما زال العلماء والبلغاء منكبين على درسه حتى يومنا، وفي كل يوم هنا الجديد المعجز الذي تكشفه آيات القرآن.
وهناك شهادة من أحد صناديد الكفار، وهو أبو جهل " عمرو بن هشام " حيث سأله ابن أخته " المسور بن مخرمة ": يا خال، هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول مقالته؟ فقال: والله يا ابن أختي، لقد كان محمد وهو شاب يدعى فينا الأمين، فلما وخطه الشيب لم يكن ليكذب. قلت: يا خال، فلم لا تتبعونه؟ فقال: يا ابن أختي، تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرفَ؛ فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، فلما تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي، فمتى نأتيهم بهذه " [12].
توضح هذه الشهادة بعداً آخر في صد كفار مكة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العصبية القبلية، فقد حقدت العشائر المقيمة في مكة المكرمة، على بني هاشم، عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم المكانة العالية التي نالوها قبلا، فهم أهل الطعام والسقيا، والحرب والشجاعة، فكيف يخرجون نبيا مثل بني هاشم؟
إن العصبية القبلية كانت تغشى القلوب، وتسيطر على النفوس، وتحيل الأمر من حوار عقلاني إيماني، إلى عصبية بغيضة، تعمي الأفئدة، وتظلم العقول.
من ناحية أخرى، فقد شهد أبو جهل لمحمد صلى الله عليه وسلم بالصدق والأمانة، وهذه شهادة عظيمة، فلا يستقيم نبي كذاب وهي نفس شهادة عتبة بن ربيعة.
[1] السيرة النبوية لابن هشام، المجلد الثاني، فصل: " زعماء قريش تفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم، وانظر: البداية والنهاية، الجزء الثالث، فصل " اعتراض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[2] المصدران السابقان، نفس الصفحات.
[3] انظر: السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة، م س، ص 128، 129.
[4] المرجع السابق، ص129.
[5] تفسير ابن كثير، ج3، ص658، وانظر أيضا: السيرة النبوية، ابن هشام، المجلد الثاني، موقف أبي ابن خلف مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
[6] سورة يس، الآيات ( 78 – 80 )
[7] تفسير ابن كثير، ج3، ص660، عن قتادة.
[8] سورة فصلت، الآيات ( 1-6 ).
[9] نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، م س، ص63. والقصة بطولها في السيرة النبوية لابن هشام، ج2، باب " زعماء قريش تفاوض الرسول ( صلى الله عليه وسلم ).
[10] ابن كثير، ج4، ص107، وفيه القصة التي ذكرها ابن هشام أيضا، والآية من سورة فصلت، رقم 37.
[11] سورة يس، الآية ( 69 ).
[12] جلاء الإفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، ابن قيم الجوزية، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417هـ، 1996م، ص94.
د. مصطفى عطية جمعة
" فقالوا: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، وما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك - وكان يسمون التابع من الجن الرئي - فربما كان ذلك؛ بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك؟ "
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً نذيراً، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم [1].
لقد استهل الكفار حديثهم مع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم باستعراض أبرز الآثار التي أحدثتها دعوة الرسول في أهل مكة وهي: السخرية من عبادتهم، شتم معتقداتهم، تفريق جماعتهم، والسخرية من عقولهم، وأنه لا أحد من العرب فعل ذلك من قبل. ثم عرضوا عليه عرضا دنيويا يتضمن مغريات عديدة:
أولها: لو أراد المال والثراء، فهم سيجمعون له من أموالهم، ما يجعله أغنى أغنياء مكة.
ثانيها: لو أراد الشرف (الجاه) فهم سيسلمون له بذلك، ويجعلونه سيدا عليهم.
وثالثها: لو أراد الملك، فهم قبلوا أن يكون ملكا عليهم.
ورابعها: لو كان ما يأتيه من وحي (من الله تعالى) سحرا وجنا، فهم على استعداد لإنفاق المال حتى يتم علاجه.
وقد جاء الرد من الرسول بسيطا: إما أن تقبلوا ما جاءه من الله من البشرى (الجنة) والنذير (النار)، أو يصبر حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين.
الموقف السابق يدل على إفلاس الكفار مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والإفلاس يعني خواء فكرياً وروحياً وعقدياً، لا يمكنهم مواجهة الرسول به، خاصة أن أعداد المسلمين في تزايد، وأن ما ينادي به محمد من أمر مقبول عقليا، فإن الأصنام لا نفع منها، وأن المنظومة الأخلاقية في الجاهلية فاسدة للنفس والعقل، وفوق كل ذلك، فإن معجزة القرآن تلجم العقول ببلاغتها، وقوة أثرها الروحي والنفسي.
والموقف دال أيضا على طبيعة تعامل الكفار مع الرسول، فهم يتعاملون بمنظور الدنيا: الشهرة، المال، الملك، وهو صلى الله عليه وسلم في شفقة عليهم، وعلى عقولهم التي ترتع في جهالة وكفر.
في الحوار السابق، لم يكن الرسول يرد بحجج وأدلة وبراهين، فقد ساقها في حواراته السابقة، وما أكثرها في الآيات القرآنية المكية، وإنما كان بالرد أنه نبي مرسل، مهمته الإبلاغ، ولا يملك غير ذلك، ويختم كلامه: " وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم "، وهذا دليل على صبره واحتسابه الأمر كله لله تعالى.
ولنتابع بقية الحوار بين الكفار والرسول صلى الله عليه وسلم:
" قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلاداً، ولا أقل مالاً، ولا أشد عيشاً منا؛ فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال، التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيما يبعث لنا منهم: قصي بن كلاب، فإنه كان شيخاً صدوقاً، فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل؟ فإن فعلت ما سألناك وصدقوك صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولاً كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوا عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث لنا ملكاً يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لنا جناناً وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق وتلتمس المعايش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم.
فقال لهم: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. فقال صلى الله عليه وسلم : ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك [2].
لما يئس الكفار من إجابة الرسول إلى طلبهم بأن يترك الدعوة، ويقبل الدنيا، راحوا يطالبون بما هو فوق طاقة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي طلبات تشمل أن يجري الله تعالى أنهارا في بلادهم القاحلة، وأن يحيي أحد زعمائهم القدامى وهو قصي بن كلاب ليسألوه، أو يجعل لهم حدائق وقصورا من ذهب وفضة وغير ذلك، وهي طلبات دالة على منظورهم الدنيوي القاصر، الذي يقيس الأمور بالمادة والشهوة، دون نظر قلبي، وتأمل في خلق السماء والأرض. لقد حوّلوا الأمر إلى مراء، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدرك ذلك، فإنه اكتفى بتكرار ردوده، وأنه لا يملك من الله شيئا، فالأمر كله لله، وما هو إلا نبي مرسل، مأمور بالإبلاغ؛ تبشيرا بالجنة، وإنذارا من النار.
فكون الرسول يكرر ردوده بشكل متشابه تقريبا: " فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " فيوكل الأمر كله لله، وأنه ليس مبعوثا بإجابة طلبات دنيوية لهؤلاء المشركين أو لغيرهم، فهذا توكيد على عظم الدعوة، وسمو الرسالة، والرسول هنا يقيم الإبلاغ في حده الأدنى، موضحا مهمته، وأن الله يحكم بينه وبينهم، فلا مجال لغير ذلك، وأن العقائد التي دعاهم إليها الرسول، تشهد العقول بصحتها، دون احتياج لبرهنة وأدلة.
لقد ادّعى البعض - من المستشرقين وخصوم الإسلام - أن العرب قبلوا بدعوة الإسلام، ودخلوا في دين الله أفواجا، لأنهم كانوا في طور نهوض أدبي واجتماعي، تجعلهم يقبلون هذه الدعوة بسهولة [3]، ولكن ما فعله كفار مكة من صد و***** وسخرية واستهزاء بالرسول وصحبه، يرد بوضوح على هذه الادعاءات ويدل على فسادها، ذلك أن المؤمنين بالدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، بعد ثلاث عشرة سنة أمضاها النبي بين ظهرانيهم وكانت المحصلة: "أفراد من أهل قرابته، وآخرين من ذوي العقول الممتازة، الذين لا يخلو من أمثالهم أي مجتمع، مهما كان متغلغلا في الجاهلية، وقد كانوا من القلة بحيث خضعوا لجميع ضروب الاضطهادات فلما فلم يجدوا مخرجا عمدوا إلى المهاجرة إلى الحبشة " [4].
الرسول يرد بآيات من القرآن الكريم:
وهي ليست موقفاً واحداً، بل مواقف متعددة، واجه الرسول الكفار بآيات القرآن الكريم، وهي كمال البلاغة في الرد والإقناع والبرهان.
فقد مشى أبيّ بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظام رميم، وهو يفتّه ويذروه في الهواء، وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم : نعم يميتك الله تعالى، ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار" وفي رواية أخرى: إن العاص بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففتّه بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيحيي هذه الله بعد ما أرى؟ قال رسول الله: نعم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك جهنم " [5].
وقد أنزل الله تعالى فيهما: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 78، 79] [6].
الموقفان السابقان بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أبي بن خلف والعاص بن وائل يبرهنان على طبيعة الكفر الذي كان عليه مشركو مكة، وليست المسألة كما تقدّم في حوارهم مع الرسول، وطلباتهم الدنيوية، إنهم ينكرون أسس الإيمان بالله تعالى من بعث وحساب وجنة ونار، وهؤلاء لا ينفع معهم أي إقناع مادي، لأن قلوبهم مغشاة بالكفر، وعيونهم مظلمة عن الحق، لذا جاءت إجابة الرسول عكس ما يتوقع القائل فيحاوره بالعقل، ولكن لا حوار يصلح مع هذه القلوب المقفلة، وإنما ثبات اليقين، ورسوخ الإيمان، وقد ظهرا في رد الرسول بثقة، حيث أكد للاثنين أن الله سيميتهما ثم يحييهما ثم يدخلهما النار، وصدق الرسول، فقد ماتا كلاهما دون إيمان، وإن أمن من خرج من أصلابهم، مثل إيمان عمرو بن العاص بن وائل (رضي الله عنه).
وقد نزلت الآية الكريمة المذكورة، تقدم الرد بإقناع، فإن الله يحيي العظام وهي نخرة بالية، فهو خلقها في المرة الأولى، وسيعيد تكوينها ثانية، وهذا أهون عليه ثم قدّمت الآية البرهان: فإن الله خالق الشجر الأخضر الذي يجف ثم يصبح حطبا تُشعَل به النار، فالذي " أخرج هذه النار من من هذا الشجر، قادر على أن يبعثه " [7]، وبالطبع فإن البرهان المقدم من الآية بسيط للعقل، وحينما رد الرسول بثقة ويقين على الكافرينِ، فإن القرآن تكفل بالرد العقلاني، ليوضح أن الأساس في الأمر الإيمان بالله تعالى: خالقنا في أولنا، ومحيينا يوم البعث.
• ويذكر أيضا: أن قريشا اجتمعت يوما فقالوا: انظروا أعلَمَكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه، ولننظر ماذا يرد عليه. فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد. فغدا " عتبة بن ربيعة العبشمي " إلى الرسول، وعرض عليه مثلما عرض عليه كفار مكة، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أول سورة فصّلت:
﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [فصلت: 1 - 6] إلى قوله تعالى ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13] [8] فأمسك عتبة بفيه (بفم الرسول)، وناشده الرحم (صلة القرابة بينهما) أن يكف عن ذلك، فلما رجع عتبة سألوه عن ذلك، فقال: والله لقد سمعت قولا ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة ولا بالسحر، يا معشر قريش، أطيعوني فاجعلوها بي، خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكونن لكلامه الذي سمعتُ نبأ، فإن تصبه العرب (تضره وتحاربه) فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فعزُّه عزُّكم، فقالوا: لقد سحرك محمد. فقال: هذا رأيي[9] وفي رواية أخر: يقول عتبة لقومه: " فأمسكت بفيه (فم الرسول) وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئا لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب. وفي رواية ثالثة أن الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى في تلاوته إلى السجدة ﴿ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37]، فسجد عتبة، ثم قال صلى الله عليه وسلم : " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك " [10].
ما أروع هذا الموقف! إنه موقف اليقين الكامل، أمام رجل من المشركين خبير في السحر والكهانة والشعر، وقد سمع القرآن فبهر بإعجازه البلاغي والعقلي، وهو خبير في الشعر والفنون اللغوية العربية. وقد شهد هذا الرجل المشرك للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بشهادات عدة: إنه صادق لا يكذب أبدا،و ليس بشاعر ولا كاهن ولا ساحر. ويقينه بقوة القرآن وتأثيره العظيم في النفس، بدليل سجوده عندما وصل الرسول إلى السجدة، ثم علمه أن دعوة محمد ناجحة لا محالة، ذلك أن اليقين الكبير، والإيمان الراسخ الذي رآه عتبة على الرسول، وقوة الرسالة القرآنية، وروعة بيانها، ومتانة عقيدتها، كافية لغزو القلوب كيفما كانت.
وقد جاء رد النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات القرآنية لأن الرجل مثل عتبة (أبا الوليد) لا ينفع معه إلا قوة القرآن، وهذا ما حدث بالفعل.
وبمناسبة الشعر، فإن الرسول لم يكن يقول الشعر ولا يتمثل به، مصداقا للآية الكريمة: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 69] [11]، حتى لا يقال عنه إنه مؤلف آيات القرآن الكريم ببلاغته الشعرية، والقرآن ليس بشعر، وإنما هو معجز في نظمه وتعاليمه وما حواه، وما زال العلماء والبلغاء منكبين على درسه حتى يومنا، وفي كل يوم هنا الجديد المعجز الذي تكشفه آيات القرآن.
وهناك شهادة من أحد صناديد الكفار، وهو أبو جهل " عمرو بن هشام " حيث سأله ابن أخته " المسور بن مخرمة ": يا خال، هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول مقالته؟ فقال: والله يا ابن أختي، لقد كان محمد وهو شاب يدعى فينا الأمين، فلما وخطه الشيب لم يكن ليكذب. قلت: يا خال، فلم لا تتبعونه؟ فقال: يا ابن أختي، تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرفَ؛ فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، فلما تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي، فمتى نأتيهم بهذه " [12].
توضح هذه الشهادة بعداً آخر في صد كفار مكة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العصبية القبلية، فقد حقدت العشائر المقيمة في مكة المكرمة، على بني هاشم، عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم المكانة العالية التي نالوها قبلا، فهم أهل الطعام والسقيا، والحرب والشجاعة، فكيف يخرجون نبيا مثل بني هاشم؟
إن العصبية القبلية كانت تغشى القلوب، وتسيطر على النفوس، وتحيل الأمر من حوار عقلاني إيماني، إلى عصبية بغيضة، تعمي الأفئدة، وتظلم العقول.
من ناحية أخرى، فقد شهد أبو جهل لمحمد صلى الله عليه وسلم بالصدق والأمانة، وهذه شهادة عظيمة، فلا يستقيم نبي كذاب وهي نفس شهادة عتبة بن ربيعة.
[1] السيرة النبوية لابن هشام، المجلد الثاني، فصل: " زعماء قريش تفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم، وانظر: البداية والنهاية، الجزء الثالث، فصل " اعتراض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[2] المصدران السابقان، نفس الصفحات.
[3] انظر: السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة، م س، ص 128، 129.
[4] المرجع السابق، ص129.
[5] تفسير ابن كثير، ج3، ص658، وانظر أيضا: السيرة النبوية، ابن هشام، المجلد الثاني، موقف أبي ابن خلف مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
[6] سورة يس، الآيات ( 78 – 80 )
[7] تفسير ابن كثير، ج3، ص660، عن قتادة.
[8] سورة فصلت، الآيات ( 1-6 ).
[9] نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، م س، ص63. والقصة بطولها في السيرة النبوية لابن هشام، ج2، باب " زعماء قريش تفاوض الرسول ( صلى الله عليه وسلم ).
[10] ابن كثير، ج4، ص107، وفيه القصة التي ذكرها ابن هشام أيضا، والآية من سورة فصلت، رقم 37.
[11] سورة يس، الآية ( 69 ).
[12] جلاء الإفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، ابن قيم الجوزية، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417هـ، 1996م، ص94.
د. مصطفى عطية جمعة