مشاهدة النسخة كاملة : التوازن الحميد بين العاطفة والعقل الرشيد


فريق منتدى الدي في دي العربي
03-16-2016, 01:52 AM
التوازن الحميد بين العاطفة والعقل الرشيد
عماد حسن أبو العينين







لقد عُنِيَ الإسلام بإيجاد الحياة المتوازنة للإنسان على صعيدَي العقل والعاطفة، وهذا التوازُن هو الذي يُؤمِّن له الانطلاق في دُرُوب الحياة برُوح وثَّابة، وعقلٍ مُتفتِّح.













فإنَّ العقل والعاطفة هما الضدان المتكاملان، وكمال الإنسان في أن يعرفَ كيف يُوازنُ بينهما في الوقت والمكان المناسب، فلا يَزيد من دور العاطفة، وينقص من دور العقل، ولا يَزيد دور العقل على حساب العاطفة.







فالعقل يتَّسم بالصلابة والقوة، والتحليل المنطقي؛ إذ يَعتمد دائمًا على أساس المنطق والاستدلال، ويَحكم في مختلف القضايا وَفْق معايير وحسابات صحيحة، وتتَّسم العاطفة بالرِّقة والليونة، والأحاسيس النبيلة، ويكون هدفُها بلوغَ النتيجة المَرْجوَّة؛ سواء أتَت مطابقة للمنطق والمصلحة، أم مُنافية لها.







والعقل والعاطفة كلاهما لا غِنى للإنسان وبنائه الرُّوحي عنهما، فصلابة العقل تُلَطِّفها رِقَّة العاطفة، وطَيْش العاطفة يُهَذِّبها تدبيرُ العقل، وهما عاملان مُؤثِّران في إدارة شؤون الإنسان الحياتيَّة، وقُدرتان مهمَّتان في تأمين سعادته.







وعندما يَبتعد العقل عن العاطفة، يُصاب بحالة من الاضطراب، وإذا استمرَّ في الابتعاد، فإنه يتصلَّب ويُصاب بغِلظة القلب؛ لذا حذَّر القرآن الكريم النبـي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من هذا الابتعاد عن العاطفة، فقال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ [آل عمران: 159]؛ أي: لو كنتَ قاسيَ القلب عليهم، لانْفَضُّوا عنك وتَرَكوك، ولكنَّ الله جمَعهم عليك، وأَلانَ جانبَك لهم؛ تأليفًا لقلوبهم؛ كما قال عبدالله بن عمرو أنه رأى صفة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الكتب المُتَقدِّمة، أنه ليس بفَظٍّ، ولا غليظٍ، ولا سَخَّاب في الأسواق، ولا يَجزي بالسيئة السيِّئة، ولكن يَعفو ويَصفح.







والعفو والصَّفح يكون من جانب الإحسان المستقرِّ في العاطفة، وقد أمَر الله تعالى المؤمنين أن يتعامَلوا بشيءٍ من الرِّفق والرحمة والعاطفة، بجانب العدل وأحكام العقل؛ فكلاهما لا يَنفصلان حتى يتكاملَ الإنسان بشِقَّيه: العقلي والعاطفي، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90]، فالعدل من أحكام العقل، والإحسان من فَيْض العاطفة.







قال ابن كثير: "يُخبر تعالى أنه يأمُر عباده بالعدل، وهو القِسط والمُوازنة، ويَندُب إلى الإحسان؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، وقال: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40]، وقال: ﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ﴾ [المائدة: 45]، إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على شرعيَّة العدل والنَّدب إلى الفضْل".







كما حذَّرهم من الانجذاب نحو العاطفة في غير محلِّها؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8]؛ أي: لا تَحْملنَّكم عداوةُ قومٍ وبُغضهم - وهذا من جهة العاطفة - على ألاَّ تقولوا الحقَّ وتَحكموا بالعدل - وهذا من جهة العقل - بل اتْرُكوا العاطفة جانبًا، واحْكُموا بحُكم العقل الموافق للشرع؛ لأنَّ ذلك تقوى وقُربى إلى الله.







ومن أسوأ الأحكام المُرتكزة على العاطفة، والمُنتشرة بين الناس اليوم - أن يقومَ أحدهم إلى صلاة الفجر كلَّ يومٍ، ويَأْبى أن يُوقِظَ لها أهله، وخصوصًا ابنه ذا الثلاثة عشر ربيعًا؛ خوفًا عليه من البرد، أو أنه لَم يأْخُذ قسطًا من النوم والراحة، ونَسِي أن يُحكِّم عقلَه، وأن يُوقِظَه لطاعة ربِّ العالمين، واهب الصحة والراحة والنِّعم.







فالواجب على المسلمين أن يُراعوا التوازُن بين العدل والإحسان، بين العقل والعاطفة، إلاَّ بينهم وبين خالقهم، فلا بدَّ أن يَطلبوا منه ويَرجوه أن يُعاملهم بالإحسان لا بالعدل؛ إذ الفضل منه وإليه، فالعدل هو الميزان، وهو مقتضى الحِكمة، والإحسان هو الرَّأفة والمَغفرة، وهو مُقتضى رحمته - تبارَك وتعالى - وقد قال في الحديث القدسي: "إنَّ رَحمتي سَبَقَت غَضَبي"[1].







وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتعامَل مع الناس بالعقل والعاطفة؛ أي: بالعدل والإحسان حسب ما تَقتضيه الحاجة وتَفرضه المواقف؛ فعَن أنس بن مالك قال: أتى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على حمزة يوم أُحد، فوقَف عليه، فرآه قد مُثِّل به، فقال: ((لولا أن تَجِدَ صفيَّةُ في نفسها، لتَرَكتُه؛ حتى تأكُلَه العافيةُ، حتى يُحشَر يوم القيامة من بطونها))[2]، وهذا خيرٌ لحمزة، ولكنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عزَف عن هذا الصنيع الذي لا تَفهمه صفيَّة، وقد تَحزن وتَجد في نفسها لو فعَله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو الرحمة المُهداة ظاهرًا وباطنًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكان حُكم العاطفة في هذا الموقف هو الأَوْلَى منه - صلَّى الله عليه وسلَّم.







وفي طريق رجوعه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من غزوة حمراء الأسد إلى المدينة، أخذَ أبا عَزَّة الجُمحي، وهو الذي كان قد مَنَّ عليه مِن أسارَى بدر؛ لفَقْره وكَثْرة بناته، على ألاَّ يُظاهر عليه أحدًا، ولكنَّه نكَث وغَدَر، فحرَّض الناس بشعره على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والمسلمين، وخرَج لمُقاتلتهم في أُحد، فلمَّا أخَذه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال‏:‏ يا محمد، أقِلْني، وامْنُنْ عليّ، ودَعْني لبناتي، وأُعطيك عهدًا ألاَّ أعودَ لمثْل ما فعَلتُ، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -‏:‏ ((‏لا تَمْسح عارِضَيك بمكَّة بعدها، وتقول‏:‏ خَدَعتُ محمدًا مرَّتين، لا يُلدغ المؤمن من جُحرٍ مرَّتين‏))[3]، ثم أمَر الزبير أو عاصم بن ثابت، فضَرَب عُنقه‏.‏







ففي هذا الموقف كان إعمال العقل هو الواجب عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا سيَّما وقد أبانَ القاعدة التي يَدور عليها، وهي أنه لا يُلدَغ مؤمنٌ من جُحر مرَّتين، فتقرير العقل ها هنا كان أقوى من نداء العاطفة المُرتكز على فَقْر الرجل، وكثرة بناته، فعامَله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالعدل لا بالإحسان؛ إذ أحْسَن إليه من قَبْلُ.







وروى الطبراني عن وَحْشي، قال: أتَيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((يا وَحْشِي))، قلتُ: نعم، قال: ((قتَلْتَ حمزة؟))، فقلتُ: نعم، والحمد لله الذي أكرَمه بيدي، ولَم يُهنِّي بيده، فقالت له قريش: أتحبُّه وهو قاتلُ حمزة؟! فقلتُ: يا رسول الله، اسْتَغْفِر لي، فتَفَل في الأرض ثلاثًا، ودَفَع في صدري ثلاثًا، وقال: يا وَحْشي، اخْرُج فقاتِل في سبيل الله، كما قاتَلْتَ لتَصُدَّ عن سبيل الله، وفي "الرَّوض الأُنف"، قال وَحْشي: فلمَّا فرَغْتُ من حديثي، قال: ((وَيْحك، غَيِّب عنِّي وجْهك، فلا أَرَيَنَّك))، قال: فكنتُ أتنكَّب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث كان؛ لئلاَّ يَراني، حتى قبَضه الله[4].







فحبُّ النبـي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعمِّه حمزةَ، منَعه من أن يرى قاتِلَه أمام عينَيْه، فعاطِفته - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذا الموقف كانت حاضرة بقوَّة وشاهدة على تأثُّره - صلَّى الله عليه وسلَّم - بحكمها، وعدم انصياعه لصوت العقل الذي يقول: إنَّ الرجل قد أسْلَم وحَسُن إسلامه، وهذا منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - غاية رفيعة في الأحاسيس البشريَّة.







وكما أنَّ العقل والعاطفة ضدَّان، ولا تكون حياة الإنسان إلاَّ بهما، وقد ظهَرَت هذه الأضداد في كلِّ شيء - في الحرِّ والبرد، وفي الغنى والفقر، وفي الصحة والمرض، وفي الدنيا والآخرة - فإنهما يَظهران في حياة الإنسان ونفسه؛ ولهذا وصَف الله - تبارَك وتعالى - المؤمنين بقوله: ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]، وقوله: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54].







وهذه من صفات الأضداد، أن يكون أحدُهم شديدًا عنيفًا على الكفار، رحيمًا بَرًّا بالأخيار، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر، ضحوكًا بَشوشًا في وجه أخيه المؤمن، والأولى من العقل، والثانية من العاطفة.







وهذا في جَنب المُناوئين للمسلمين، أمَّا في جَنب مَن لَم يُحارب الإسلام وأهله، فقال تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].







فجعَل البرَّ قبل القِسط؛ أي: الرحمة والعفو قبل العدل، وهذا هو التوازُن المُنضبط في شريعة ربِّ العالمين وخير المُرسلين.







ومن أجْل العاطفة خلَق الله حوَّاء لآدمَ؛ لتُرطِّب بعاطفتها صلابته، وكان الزواج سُنَّة من سُنن الأنبياء، وكانت الرَّهبانيَّة مُبتدعة في دين النصارى؛ لذا حذَّر - صلَّى الله عليه وسلَّم - من هذه الرهبانيَّة؛ لأنها تُخالف سُنن الكون، فكلٌّ من الرجل والمرأة يَمتلك عقلاً وعاطفةً، والعقل لدى الرجل يكون في أقصى درجات قوَّته وكماله، والعاطفة لدى المرأة تكون في أقصى درجات قوَّتها وكمالها، فإذا اجتمَعا اكْتَمَلا.







والرجل إذا ما انفرَد وابتَعَد عن المرأة، يبقى عقلُه مُتعطِّشًا للعاطفة، وكذا المرأة إذا ابتَعَدت عن الرجل تبقى عاطفتُها متعطِّشة لنور العقل، ومِن ثَمَّ تَكثر حالات الاضطراب الذي يُرافق العزوبة.







ولولا العاطفة والحبُّ، ما رَضِي أحدٌ من الناس بأن يُقيم بيتًا فيه زوجة وأولاد، يَحنوا عليهم ويتحمَّل أذاهم، ويعول أباه وأُمَّه العاجِزَيْن، كما أنَّ إهمال العاطفة في الأفكار والمُعتقدات والأنظمة، يؤدِّي إلى هلاكها وسقوطها، فها هي الأنظمة الاشتراكيَّة والرأسماليَّة، تُهمِل العاطفة، وهو ما يُخالف سُنن الفطرة، فهذه الأنظمة تنصُّ على أنَّ مَن يَعمل، يأْخُذ مقابلاً، ومَن لا يَعمل، لا يأخذ شيئًا، فأصبَحوا كالحيوانات في الغابة، يأكل القوي الضعيف، فلا يتحرَّكون إلاَّ بالفكر المادي القاتل للعاطفة، بينما الإسلام بعَقْله وعاطفته، يقول: مَن يَعمل يأخُذ بقَدْر عمله، ومَن لا يَعمل يُمكن أن يأخُذَ، وذلك إذا كان فقيرًا أو ضعيفًا، وهو ما تَفتقده هذه الأنظمة الجاحدة القاسية، فهَوَت الأَوْلى إلى مزبلة التاريخ، وسوف تَهوي الثانية - إن شاء الله - سُنَّة الله التي لا تبديلَ لها؛ لذا حرَص دينُنا أن يَجعل هذه العاطفة من الدين؛ فقال تعالى: ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [البقرة: 83]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أُمُّك، ثم أُمُّك، ثم أُمُّك - أي: بِرَّها - ثم أبوك)).







قال الإمام أحمد: الطاعة للأب، والبِرُّ للأمِّ.







والطاعة من قَبيل العقل، والبِر من جهة العاطفة، فإذا عُرِض على المرء رأيُ كلٍّ من الأب والأم في أمرٍ من أمور الحياة، فإن الرأي الأرجح يكون غالبًا مع الأب؛ لأنه يَحكم من قَبيل عقله وخِبرته بالحياة ومشاكلها.







والتفضيل بين اختيارات العقل والعاطفة، قد يكون صعبًا في بعض الأحيان، وتَزداد الحَيْرة إذا كانت المواقف تَستدعي قرارًا في التَّوِّ واللحظة، وقد حدَث هذا لبعض الصحابة؛ فعن جابر قال: بعَثنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمَّر علينا أبا عُبيدة بن الجرَّاح، نتلقَّى عِيرًا لقريش، وزوَّدنا جِرابًا من تمرٍ، لَم نَجد له غيره، فكان أبو عبيدة يُعطينا تَمرة، تَمرة، كنَّا نَمَصُّها كما يَمَصُّ الصبي، ثم نَشرب عليها من الماء، فتَكفينا يومنا إلى الليل، وكنَّا نَضرب بعِصيِّنا الخَبَطَ، ثم نَبُلُّه بالماء، فنَأْكله وانْطَلَقنا على ساحل البحر، فرُفِع لنا كهيئة الكثيب الضَّخم، فأَتْيناه، فإذا هو دابَّة تُدعى العَنبر، فقال أبو عبيدة: مَيْتة، ولا تَحِلُّ لنا، ثم قال: لا، بل نحن رُسل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفي سبيل الله، وقد اضْطُرِرْتُم إليه، فكلُوا، فأَقَمْنا عليه شهرًا ونحن ثلاثمائة، حتى سَمِنَّا، فلمَّا قَدِمنا إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذَكَرنا ذلك له، فقال: ((هو رزقٌ أخرَجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيءٌ، فتُطعِمونا منه؟))، فأرْسَلنا منه إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأكَل[5].







في هذا الموقف الذي لا يُحسَدون عليه، كان حُكم العقل هو الذي لا بدَّ من ترجيحه؛ لأنه هو المُنقذ وهو الموافق لأحكام الشرع.







وعن علي - رضي الله عنه - قال: بَعَث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - سريَّة، فاسْتَعْمَل رجلاً من الأنصار، وأمَرهم أن يُطيعوه، فغَضِب، فقال: أليس أمَرَكم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن تُطيعوني، قالوا: بلى، قال: فاجْمَعوا لي حطبًا، فجَمَعوا، فقال: أوْقِدوا نارًا، فَأَوْقَدوها، فقال: ادْخُلوها، فهمُّوا وجَعَل بعضُهم يُمسك بعضًا، ويقولون: فرَرنا إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من النار، فما زالوا حتى خَمَدت النار، فسَكَن غضبُه، فبَلَغ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((لو دَخَلوها، ما خرَجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف))[6].







فحُكم العاطفة المجرَّدة يقول: إنه يجب عليهم أن يُطيعوا أميرهم أيًّا كان نوع هذه الأوامر، ولكنَّ صريحَ العقل يقول: إنَّما الطاعة في المعروف، وليستْ في الباطل.







وفي موقف عصيب لعَبدالله بن عبدالله بن أُبَي بن سلول، جاء إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال: بَلَغني أنَّك تُريد قتْلَ أبي، فإن كنتَ تُريد ذلك، فمُرْني بقَتْله، فواللهِ، إنَّ أمَرَتني بقتْله لأَقْتُلنَّه، وإني أخشى يا رسول الله إن قَتَله غيري، ألاَّ أصبرَ عن طلب الثَّأر، فأَقْتلَ مسلمًا، فأَدْخلَ النار، وقد عَلِمت الأنصار أني من أبرِّ أبنائها بأبيه، فقال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خيرًا، ودعا له، وقال له: ((بِرَّ أباك، ولا يرى منك إلاَّ خيرًا)).







ففي هذا الموقف استطاعَ عبدالله بن عبدالله بن أُبَي بن سلول، أن يُحَكِّم عقله، ويُسيطر على عاطفته التي ما تَفْتَأ تَأْمره بقتْل مسلم بكافرٍ؛ ثأرًا لأبيه الذي عدَّه الإسلام رأسَ النِّفاق، فجاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليَقوم بواجب الإسلام بيده لا بيد أحدٍ سواه، وهذا شديدٌ على النفس، ولكنَّه العدل في أبهى صُوَره، بعيدًا عن العاطفة التي ليس لها مكان بين الكفر والإيمان.







فالإسلام يُعَلِّمنا أن نكونَ مُتوازنين في أفكارنا ومشاعرنا، وحركاتنا وسَكَناتنا، وسِيرته - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسيرة أصحابه فيها العِبَر والعِظَات لطالب الهداية ومُنشد الرَّشاد.








أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم، أن يَجعلنا من الراشدين، وأن يُلهمَنا الصواب في الأمر كلِّه.







[1] رواه البخاري (6873)، ومسلم (4939)، والترمذي (3466)، وابن ماجه (185).




[2] رواه أبو داود (3136)، والترمذي (1016)، وصحيح سنن الترمذي (3/ 335).




[3] رواه البخاري (5568).




[4] كَنْز العُمَّال؛ للمُتَّقي الهندي (33663) بسندٍ حسنٍ.




[5] رواه مسلم (3576)، وأبو داود (3343)، والنسائي (4278).




[6] رواه البخاري (3995)، ومسلم (3424)، والنسائي (4134).

Adsense Management by Losha