فريق منتدى الدي في دي العربي
03-16-2016, 01:52 AM
جزاء من صدق (قصة)
عادل عبدالله أحمد محمد الفقيه
تربَّى على يد أمه فأحسنَتْ تربيته، ربَّتْه على الصدقِ وقولِ الحق وحُسنِ المعاملة مع الآخرين.
كانت تحذره قائلةً: إياك والكذب، لقد أخَذتْ تلك العبارة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((تحروا الصدق وإن رأيتم أنَّ فيه الهَلَكة فإن فيه النجاة، وتجنبوا الكذب وإن رأيتم أنَّ فيه النجاة فإن فيه الهلكة)).
وضع الصدقَ نِبراسًا على جبينه فلا يفارقُه في حياته، ما أن يتحدث مع أحدٍ إلا وجعل الصدق سفينةً تأخذه إلى برِّ الأمان.
إنه فقير جدًّا؛ فوالدُه رحل إلى جوار ربه مُسَلِّمًا (نسيم وأمه) إلى من يَسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء.
اضطر إلى رعي أغنام جاره بأجرٍ زهيد يقتضيه ليسُدَّ به رمق الجوع.
بينما هو يرعى في المرعى، مرَّ من بين يديه رجلان من أعيان القرية المجاورة لقريته، فالأول اسمه (الحاج قاسم البخيتي) والآخر (الحاج إسماعيل التولعة)، وقبل أن يمرَّا بجانبه قال الحاج قاسم لصديقه: "دعنا نمر على ابن الحاج سالم رحمة الله عليه؛ حتى نضعَه في امتحان لنعرف قدر أمانته؛ فقد ذاع صيتُه أنه ولد أمين".
تقدم الحاج قاسم نحو الصبي وكان الصبي مُنْكِرًا للحاج قاسم؛ فهو لا يعرفه.
الحاج قاسم: "السلام عليكم يا ولدي".
نسيم: "وعليك السلام يا والدي".
الحاج: "ابنُ مَن أنت يا ولدي؟".
نسيم: "ابن الحاج سالم العناني رحمة الله عليه".
الحاج: "أنت ابن الحاج سالم، إني أعرفه يا ولدي؛ كان صديقي منذ زمن، لمن هذه الأغنام؟".
نسيم: "إنها لجارنا، أرعاها مقابل أجر زهيد".
اتخذ الحاج قاسم قول الصبي فرصة ليضع سؤاله.
الحاج: "وكم يعطيك جارك؟".
نسيم: "بضعة دنانير يا عم".
الحاج: "هل تبيع لي ذلك التيس؟".
نسيم: "ليس ملكًا لي يا عم؛ إنه لجاري كما قلتُ لك".
الحاج: "أريد ذلك الصغير إذًا وأعطيك ما تريد".
نسيم: "وهذا ليس لي، وماذا أقول لجاري لو سألني أين هو؟".
الحاج: "وما يُدري صاحبَ الأغنام؛ إن عددها كثير".
نسيم: "نعم يا عم، لكن الله يعلم؛ فماذا أقول له لو سألني ذلك اليوم حينما لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم".
الحاج: "هذا أجرك؛ فأنت تتعب في تربيتها، ولَديَّ حيلة لا يَخِرُّ منها الماء، قُلها لجارك".
نسيم: "وكيف؟".
الحاج: "بعد أن تبيع لي التيس، سأقوم بذبحه وتمزيق لحمه وآخُذُ اللحمَ وأضَعُ لك بعضًا منه حتى تعود إلى جارك وتقولَ له: لقد طاردت الذئب فألقى هذا اللحم".
ضحِك نسيم قائلًا: "كلام جميل، أستطيع أن أحتال على جاري، ولكن قل لي كيف أحتال على رب العالمين؟".
الحاج: "بارك الله فيك يا ولدي، الآن عرفتُ أنك ابنُ الحاج سالم، نِعْمَ التربيةُ تربيةُ أمِّك، آجَرَكَ الله وجزاك على حسن معاملتك لجارك".
رجع الحاج قاسم إلى صديقه قائلًا: "لم أر مثلَ ابن سالم غلامًا قطُّ".
عاد الولد إلى البيت، فحكى لأمه كُلَّ ما صار معه، شكرته أمه وقالت: سيرزقك الله ويحرسك بعينه التي لا تنام.
ظل نسيم مجتهدًا في تعليمه، فاضطر عند دخول الثانوية إلى ترك الأغنام؛ فتخرج بمعدل جيد جدًّا، دخل بعدها كلية التجارة، تخرج بمعدل جيد جدًّا كذلك، لكنه لم يجد وظيفة في سلك الدولة، فظلَّ يشتغل بين الحقول ليساعد أمَّه في طلب لقمة العيش.
وفي يوم من الأيام، توجّه الحاج قاسم البخيتي إلى مدينة عدن؛ لزيارة ابن أخيه يوسف البخيتي، كان ليوسف مؤسسة تجارية لبيع المواد الغذائية.
وبينما هما يتحدثان عن العمل، قال الحاج قاسم: "كيف العمل في مؤسستك؟".
يوسف: "آه يا عم، إني أفتقد أصحاب الأمانة والكفاءة وأنت تعرف الناس هذه الأيام، كلما وضعت موظفًا في المؤسسة لا أجدُ وراءه إلا الخيانة، من أين لي أن أجد صاحب الأمانة، من أين لي برجلٍ أأتمنُه على مالي؟ أذهبُ أينما أريد فأجدُ المؤسسةَ كما هي".
الحاج: "أنا من يَدُلُّك على رجل يعرف معنى الأمانة، فهو اليوم شاب لم أرَ مثلَه قط."
يوسف: "أريدُ مِن أمثاله عشرةً إن كنت جادًّا فيما تقول".
الحاج قاسم: "لك ذلك إن شاء الله".
جاء الحاج قاسم إلى نسيم في داره قائلًا: "هل عرفتني يا ولدي؟".
نسيم: "ليس وقت معرفة يا والدي؛ أنت الآن في ضيافتي، وبعد الغداء سنتحدث معًا يا صاحب التيس!".
ضحك الحاج قاسم حتى بدت نواجذه.
وبعد الغداء قال الحاج: "علمتُ يا ولدي أنك قد تخرجت في كلية التجارة، أليس صحيحًا ما أقول؟".
أجاب نسيم: "بلى؛ لكني لم أجد عملًا إلى الآن يا عم قاسم".
الحاج قاسم: :"لديَّ لك شغلٌ يا ولدي إن قَبلتَ، فذلك الموقف جعلني لن أنساك ما حييتُ".
نسيم: "أيّ عمل؟".
الحاج: "في مؤسسة لابن أخي، لقد جلستُ معه يا ولدي، فكان يشكو عدمَ وجود الأمانة في بعض الموظفين، فذَكَرْتُكَ في الحال، هل تقبل يا بني؟".
نسيم: "ولِمَ لا يا عم؟! وإن شاء الله أكونُ عند حسن ظنك".
تقدم نسيم مع من تقدَّم.
دخل الامتحان فتجاوزَه بجدارة.
ظلَّ نسيم يشتغل في المؤسسة في قسم التصدير لمدة خمس سنوات، وفي يوم من الأيام جمع السيد يوسفُ جميعَ الموظفين طالبًا منهم رجلًا يكون مديرًا لشركته قائلًا: "أعرف أنكم جميعًا أصحاب كفاءة عالية، لكنْ لا بُد من الامتحان، فمن نجح فيه فهو الأجدر في إدارة العمل في هذه المؤسسة".
أُعْطِي كلُّ واحد من الموظفين عربةً محملةً بالمواد الغذائية، وأُعْطِي لكل واحد مدة معينة لإنفاق بضاعته، فمن نجح حصل على رتبة مدير الشركة.
لقد وضع يوسف في كل عربة بعضَ المواد الغذائية المنتهِية الصلاحية؛ ليعرف مَن الأجدرُ في الحفاظ على مؤسسته.
أخذ كل موظف مركبته، وتوجَّهَ صوْب المتاجر لإنفاق المواد الغذائية الموجودة لديه.
وفي آخر المدة، تقدّم الجميع إلى مجلس المؤسسة ليعرف صاحبُ المؤسسة مَن الأفضلُ في إنفاق تلك البضاعة.
تقدم الجميع ممسكًا بيده أوراقَه، كم باع وما الذي تبقى لديه.
كان منهم من أنفق كلَّ ما لديه، والبعض عاد ببعض المواد.
أما نسيم، فقد عاد كبقية زملائه، إلا أنه أعاد كل ما معه من بضاعة منتهية الصلاحية، وأنفق كل ما لديه من بضاعة صالحة.
بدأ صاحب المؤسسة يسأل الواحدَ منهم تلو الآخر، حتى أدلى كل واحد بدلوه وأعذاره لعدم بيع ما تبقى معه.
وفي اليوم الثاني، ظهرت النتيجة، وكان "نسيم سالم" هو صاحب الحظ في نيل مرتبة مدير المؤسسة؛ لعدم بيع كل مادة منتهية الصلاحية.
فهو من اهتم بمصلحة العامة قبل مصلحته الشخصية.
دارت الأيام، ونسيم يدير تلك المؤسسة، فقد جنى منها أرباحًا جليةً، لقد أبدع في عمله وأحسن معاملته مع الخاصة والعامة من الناس؛ فطار صيتُه في الأفق.
ارتاح له صاحب المؤسسة؛ فقد كان يرى منه أشياء لم يجدها في غيره من الموظفين.
كان يراه كلما نادى المنادي للصلاة يتوقفُ عن العمل ليؤديَ ما لخالقه عليه، وإذا ترك المؤسسة لعمل طارئ يكمل العمل بعد انتهاء الدوام.
كان صاحب المؤسسة يُقَلِّبُ كشف رواتب الموظفين، فيجد أن هناك خصمًا على مدير المؤسسة، فيسأل عن ذلك، فيقال له: "إن المدير يرفع بنفسه غيابًا - كبقية الموظفين - إن غاب، فما يزداد إلا حُبًّا لدى يوسف البخيتي.
وذات يوم دخل يوسف على مدير المؤسسة، طالبًا إياه في موضوع خاص.
قال نسيم: "بعد الدوام يا سيدي".
يوسف: "نسيم، أريدك غدًا ضيفًا في منزلي؛ فعليك أن تتقدم بإجازة رسمية لمدة يوم".
نسيم: "تحت أمرك".
فما إن حان موعد الضيافة حتى كان نسيم على باب الدار، جلسَا معًا متحدثين عن أمور المؤسسة والعمل فيها، وفي أثناء الحديث، قال يوسف: "نسيم، أريد أن أبيعك نصف المؤسسة حتى تكون شريكًا فيها".
نسيم: "لا لا يا سيدي، مستحيل؛ أنا لا أجد قيمة أحد المراكب التي في المؤسسة".
يوسف: "ومَن قال لك أنك ستدفع لي نصف القيمة؟".
نسيم: "وماذا إذًا؟".
يوسف: "أنا أعمل لك ورقة مبيع بنصف المؤسسة، وأنت تعمل لي ورقة بدفع مبلغٍ من المال كُلَّ سنة؛ أي: إنَّ عليك أن تستثمر في المؤسسة فتُخرجَ نصفَ المبلغ لك والنصفَ لي، ثم تدفع قسطًا من مبلغك".
رفض نسيم هذا الكلام قائلًا: "إنها مؤسستك وَبَارَكَ الله لك فيها".
يوسف: "نسيم، أنت تعلم أن لي مؤسَّستين أخريين؛ فلا بد أن أكون بجانبهما".
رفض نسيم، إلا أن يوسف ألحَّ عليه.
وبعد أخْذٍ ورَدٍّ اتفقا على ما تحدثا بشأنه.
♦♦♦♦♦
دارت الأيام، وما هي إلا سنتان، حتّى قَدِم نسيم إلى يوسف ليدفع له المبلغ الآخَر.
فرفض يوسف أخْذ المبلغ، حتى يوافق نسيم على شرط صاحب المؤسسة.
نسيم: "وما شرطك؟".
يوسف: "نسيم يا ولدي، لقد عرفت عنك الكثير، عرفت خلقك وأخلاقك، لقد عرفت من تكون وأنت من أبحث عنه منذ زمن، فلقد طال عمري، والله أعلم وليس لي من هذه الدنيا إلا ابنتي زهراء؛ فأخاف أن أموت ولم أطمئن عليها؛ فأريد منك أن تقبل أن تكون زوجًا لها".
نسيم: "إني يا سيدي لم أستطع أن أقضي حقك من المؤسسة إلى الآن، وتقول لي أتزوج زهراء! من أين لي بذلك؟".
يوسف: "أنا من يدفع شرطها مقابل أن تكون زوجًا صالحًا تُسعد وحيدتي".
وافق نسيم، وما هي إلا أيام، حتى تمت الخطوبة، وعند الزواج سَلَّم يوسف فتاته إلى عروسها، وفي يدها ظرفٌ، وفي آخر الليل تقدمت الفتاة إلى زوجها قائلةً له:
"افتح هذا الظرف ولْتعلمْ ما بداخله"، فتح نسيم الظرف فوجد مكتوبًا فيه: "ولدي نسيم، إن نصف المؤسسة التي تخصني هي ملك لزوجتك، وهذا جزاءُ من صدق مع الله ومع خلقه".
أخبَرَ نسيم زوجته؛ ففَرِحت فرحًا شديدًا.
عاش الزوجان عيشةً سعيدةً تغمُرُها المحبة والسعادة.
عادل عبدالله أحمد محمد الفقيه
تربَّى على يد أمه فأحسنَتْ تربيته، ربَّتْه على الصدقِ وقولِ الحق وحُسنِ المعاملة مع الآخرين.
كانت تحذره قائلةً: إياك والكذب، لقد أخَذتْ تلك العبارة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((تحروا الصدق وإن رأيتم أنَّ فيه الهَلَكة فإن فيه النجاة، وتجنبوا الكذب وإن رأيتم أنَّ فيه النجاة فإن فيه الهلكة)).
وضع الصدقَ نِبراسًا على جبينه فلا يفارقُه في حياته، ما أن يتحدث مع أحدٍ إلا وجعل الصدق سفينةً تأخذه إلى برِّ الأمان.
إنه فقير جدًّا؛ فوالدُه رحل إلى جوار ربه مُسَلِّمًا (نسيم وأمه) إلى من يَسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء.
اضطر إلى رعي أغنام جاره بأجرٍ زهيد يقتضيه ليسُدَّ به رمق الجوع.
بينما هو يرعى في المرعى، مرَّ من بين يديه رجلان من أعيان القرية المجاورة لقريته، فالأول اسمه (الحاج قاسم البخيتي) والآخر (الحاج إسماعيل التولعة)، وقبل أن يمرَّا بجانبه قال الحاج قاسم لصديقه: "دعنا نمر على ابن الحاج سالم رحمة الله عليه؛ حتى نضعَه في امتحان لنعرف قدر أمانته؛ فقد ذاع صيتُه أنه ولد أمين".
تقدم الحاج قاسم نحو الصبي وكان الصبي مُنْكِرًا للحاج قاسم؛ فهو لا يعرفه.
الحاج قاسم: "السلام عليكم يا ولدي".
نسيم: "وعليك السلام يا والدي".
الحاج: "ابنُ مَن أنت يا ولدي؟".
نسيم: "ابن الحاج سالم العناني رحمة الله عليه".
الحاج: "أنت ابن الحاج سالم، إني أعرفه يا ولدي؛ كان صديقي منذ زمن، لمن هذه الأغنام؟".
نسيم: "إنها لجارنا، أرعاها مقابل أجر زهيد".
اتخذ الحاج قاسم قول الصبي فرصة ليضع سؤاله.
الحاج: "وكم يعطيك جارك؟".
نسيم: "بضعة دنانير يا عم".
الحاج: "هل تبيع لي ذلك التيس؟".
نسيم: "ليس ملكًا لي يا عم؛ إنه لجاري كما قلتُ لك".
الحاج: "أريد ذلك الصغير إذًا وأعطيك ما تريد".
نسيم: "وهذا ليس لي، وماذا أقول لجاري لو سألني أين هو؟".
الحاج: "وما يُدري صاحبَ الأغنام؛ إن عددها كثير".
نسيم: "نعم يا عم، لكن الله يعلم؛ فماذا أقول له لو سألني ذلك اليوم حينما لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم".
الحاج: "هذا أجرك؛ فأنت تتعب في تربيتها، ولَديَّ حيلة لا يَخِرُّ منها الماء، قُلها لجارك".
نسيم: "وكيف؟".
الحاج: "بعد أن تبيع لي التيس، سأقوم بذبحه وتمزيق لحمه وآخُذُ اللحمَ وأضَعُ لك بعضًا منه حتى تعود إلى جارك وتقولَ له: لقد طاردت الذئب فألقى هذا اللحم".
ضحِك نسيم قائلًا: "كلام جميل، أستطيع أن أحتال على جاري، ولكن قل لي كيف أحتال على رب العالمين؟".
الحاج: "بارك الله فيك يا ولدي، الآن عرفتُ أنك ابنُ الحاج سالم، نِعْمَ التربيةُ تربيةُ أمِّك، آجَرَكَ الله وجزاك على حسن معاملتك لجارك".
رجع الحاج قاسم إلى صديقه قائلًا: "لم أر مثلَ ابن سالم غلامًا قطُّ".
عاد الولد إلى البيت، فحكى لأمه كُلَّ ما صار معه، شكرته أمه وقالت: سيرزقك الله ويحرسك بعينه التي لا تنام.
ظل نسيم مجتهدًا في تعليمه، فاضطر عند دخول الثانوية إلى ترك الأغنام؛ فتخرج بمعدل جيد جدًّا، دخل بعدها كلية التجارة، تخرج بمعدل جيد جدًّا كذلك، لكنه لم يجد وظيفة في سلك الدولة، فظلَّ يشتغل بين الحقول ليساعد أمَّه في طلب لقمة العيش.
وفي يوم من الأيام، توجّه الحاج قاسم البخيتي إلى مدينة عدن؛ لزيارة ابن أخيه يوسف البخيتي، كان ليوسف مؤسسة تجارية لبيع المواد الغذائية.
وبينما هما يتحدثان عن العمل، قال الحاج قاسم: "كيف العمل في مؤسستك؟".
يوسف: "آه يا عم، إني أفتقد أصحاب الأمانة والكفاءة وأنت تعرف الناس هذه الأيام، كلما وضعت موظفًا في المؤسسة لا أجدُ وراءه إلا الخيانة، من أين لي أن أجد صاحب الأمانة، من أين لي برجلٍ أأتمنُه على مالي؟ أذهبُ أينما أريد فأجدُ المؤسسةَ كما هي".
الحاج: "أنا من يَدُلُّك على رجل يعرف معنى الأمانة، فهو اليوم شاب لم أرَ مثلَه قط."
يوسف: "أريدُ مِن أمثاله عشرةً إن كنت جادًّا فيما تقول".
الحاج قاسم: "لك ذلك إن شاء الله".
جاء الحاج قاسم إلى نسيم في داره قائلًا: "هل عرفتني يا ولدي؟".
نسيم: "ليس وقت معرفة يا والدي؛ أنت الآن في ضيافتي، وبعد الغداء سنتحدث معًا يا صاحب التيس!".
ضحك الحاج قاسم حتى بدت نواجذه.
وبعد الغداء قال الحاج: "علمتُ يا ولدي أنك قد تخرجت في كلية التجارة، أليس صحيحًا ما أقول؟".
أجاب نسيم: "بلى؛ لكني لم أجد عملًا إلى الآن يا عم قاسم".
الحاج قاسم: :"لديَّ لك شغلٌ يا ولدي إن قَبلتَ، فذلك الموقف جعلني لن أنساك ما حييتُ".
نسيم: "أيّ عمل؟".
الحاج: "في مؤسسة لابن أخي، لقد جلستُ معه يا ولدي، فكان يشكو عدمَ وجود الأمانة في بعض الموظفين، فذَكَرْتُكَ في الحال، هل تقبل يا بني؟".
نسيم: "ولِمَ لا يا عم؟! وإن شاء الله أكونُ عند حسن ظنك".
تقدم نسيم مع من تقدَّم.
دخل الامتحان فتجاوزَه بجدارة.
ظلَّ نسيم يشتغل في المؤسسة في قسم التصدير لمدة خمس سنوات، وفي يوم من الأيام جمع السيد يوسفُ جميعَ الموظفين طالبًا منهم رجلًا يكون مديرًا لشركته قائلًا: "أعرف أنكم جميعًا أصحاب كفاءة عالية، لكنْ لا بُد من الامتحان، فمن نجح فيه فهو الأجدر في إدارة العمل في هذه المؤسسة".
أُعْطِي كلُّ واحد من الموظفين عربةً محملةً بالمواد الغذائية، وأُعْطِي لكل واحد مدة معينة لإنفاق بضاعته، فمن نجح حصل على رتبة مدير الشركة.
لقد وضع يوسف في كل عربة بعضَ المواد الغذائية المنتهِية الصلاحية؛ ليعرف مَن الأجدرُ في الحفاظ على مؤسسته.
أخذ كل موظف مركبته، وتوجَّهَ صوْب المتاجر لإنفاق المواد الغذائية الموجودة لديه.
وفي آخر المدة، تقدّم الجميع إلى مجلس المؤسسة ليعرف صاحبُ المؤسسة مَن الأفضلُ في إنفاق تلك البضاعة.
تقدم الجميع ممسكًا بيده أوراقَه، كم باع وما الذي تبقى لديه.
كان منهم من أنفق كلَّ ما لديه، والبعض عاد ببعض المواد.
أما نسيم، فقد عاد كبقية زملائه، إلا أنه أعاد كل ما معه من بضاعة منتهية الصلاحية، وأنفق كل ما لديه من بضاعة صالحة.
بدأ صاحب المؤسسة يسأل الواحدَ منهم تلو الآخر، حتى أدلى كل واحد بدلوه وأعذاره لعدم بيع ما تبقى معه.
وفي اليوم الثاني، ظهرت النتيجة، وكان "نسيم سالم" هو صاحب الحظ في نيل مرتبة مدير المؤسسة؛ لعدم بيع كل مادة منتهية الصلاحية.
فهو من اهتم بمصلحة العامة قبل مصلحته الشخصية.
دارت الأيام، ونسيم يدير تلك المؤسسة، فقد جنى منها أرباحًا جليةً، لقد أبدع في عمله وأحسن معاملته مع الخاصة والعامة من الناس؛ فطار صيتُه في الأفق.
ارتاح له صاحب المؤسسة؛ فقد كان يرى منه أشياء لم يجدها في غيره من الموظفين.
كان يراه كلما نادى المنادي للصلاة يتوقفُ عن العمل ليؤديَ ما لخالقه عليه، وإذا ترك المؤسسة لعمل طارئ يكمل العمل بعد انتهاء الدوام.
كان صاحب المؤسسة يُقَلِّبُ كشف رواتب الموظفين، فيجد أن هناك خصمًا على مدير المؤسسة، فيسأل عن ذلك، فيقال له: "إن المدير يرفع بنفسه غيابًا - كبقية الموظفين - إن غاب، فما يزداد إلا حُبًّا لدى يوسف البخيتي.
وذات يوم دخل يوسف على مدير المؤسسة، طالبًا إياه في موضوع خاص.
قال نسيم: "بعد الدوام يا سيدي".
يوسف: "نسيم، أريدك غدًا ضيفًا في منزلي؛ فعليك أن تتقدم بإجازة رسمية لمدة يوم".
نسيم: "تحت أمرك".
فما إن حان موعد الضيافة حتى كان نسيم على باب الدار، جلسَا معًا متحدثين عن أمور المؤسسة والعمل فيها، وفي أثناء الحديث، قال يوسف: "نسيم، أريد أن أبيعك نصف المؤسسة حتى تكون شريكًا فيها".
نسيم: "لا لا يا سيدي، مستحيل؛ أنا لا أجد قيمة أحد المراكب التي في المؤسسة".
يوسف: "ومَن قال لك أنك ستدفع لي نصف القيمة؟".
نسيم: "وماذا إذًا؟".
يوسف: "أنا أعمل لك ورقة مبيع بنصف المؤسسة، وأنت تعمل لي ورقة بدفع مبلغٍ من المال كُلَّ سنة؛ أي: إنَّ عليك أن تستثمر في المؤسسة فتُخرجَ نصفَ المبلغ لك والنصفَ لي، ثم تدفع قسطًا من مبلغك".
رفض نسيم هذا الكلام قائلًا: "إنها مؤسستك وَبَارَكَ الله لك فيها".
يوسف: "نسيم، أنت تعلم أن لي مؤسَّستين أخريين؛ فلا بد أن أكون بجانبهما".
رفض نسيم، إلا أن يوسف ألحَّ عليه.
وبعد أخْذٍ ورَدٍّ اتفقا على ما تحدثا بشأنه.
♦♦♦♦♦
دارت الأيام، وما هي إلا سنتان، حتّى قَدِم نسيم إلى يوسف ليدفع له المبلغ الآخَر.
فرفض يوسف أخْذ المبلغ، حتى يوافق نسيم على شرط صاحب المؤسسة.
نسيم: "وما شرطك؟".
يوسف: "نسيم يا ولدي، لقد عرفت عنك الكثير، عرفت خلقك وأخلاقك، لقد عرفت من تكون وأنت من أبحث عنه منذ زمن، فلقد طال عمري، والله أعلم وليس لي من هذه الدنيا إلا ابنتي زهراء؛ فأخاف أن أموت ولم أطمئن عليها؛ فأريد منك أن تقبل أن تكون زوجًا لها".
نسيم: "إني يا سيدي لم أستطع أن أقضي حقك من المؤسسة إلى الآن، وتقول لي أتزوج زهراء! من أين لي بذلك؟".
يوسف: "أنا من يدفع شرطها مقابل أن تكون زوجًا صالحًا تُسعد وحيدتي".
وافق نسيم، وما هي إلا أيام، حتى تمت الخطوبة، وعند الزواج سَلَّم يوسف فتاته إلى عروسها، وفي يدها ظرفٌ، وفي آخر الليل تقدمت الفتاة إلى زوجها قائلةً له:
"افتح هذا الظرف ولْتعلمْ ما بداخله"، فتح نسيم الظرف فوجد مكتوبًا فيه: "ولدي نسيم، إن نصف المؤسسة التي تخصني هي ملك لزوجتك، وهذا جزاءُ من صدق مع الله ومع خلقه".
أخبَرَ نسيم زوجته؛ ففَرِحت فرحًا شديدًا.
عاش الزوجان عيشةً سعيدةً تغمُرُها المحبة والسعادة.