فريق منتدى الدي في دي العربي
03-16-2016, 01:52 AM
أثر طبيعة الرسالة على شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
وليد بن عبدالعظيم آل سنو
خلق الله الخلْق وركَّب فيهم غريزةَ التطلُّع إلى الأفضل، وحبَّ الصعود إلى الآفاق، وإدْراك العلا من الأمور والأشياء، وجعل النَّفس تبغي الكمال وتنشُده، والأفئدة تهفو لإدْراك النجاح وتعمل له.
ولمَّا كان البشر في تنوُّع واختلافٍ في درجات الفَهْم والإدْراك والمناصب، جاءت صفة التَّأثير لتقوم بأخْطَر الأدْوار في حياة البشر، وكانت طبيعة التَّأثير أنَّ فردًا ما يؤثِّر وآخر يتأثَّر، وتبعًا لهذه القاعِدة يَمضي البَشَر بِهذه الطَّبيعة، وهي في واقِع الأمر ظاهرةٌ طيِّبة وأمر محمود إن كانت القُدْوة المؤثِّرة حسنة، مع الأخْذ في الاعتِبار أنَّه لن يكون هناك أحد امتدادًا لأحد.
إذًا؛ ترك الأثر - إيجابًا وسلْبًا - موجودٌ في جَميع العلاقات الثنائيَّة، فالبيئة مثلاً تؤثِّر في أهلِها، سواءٌ كانت بيئةَ تمدُّن أم بيئة صحراويَّة، فالصَّحراء تؤثِّر في ساكنيها فتمتدُّ إليْهم الخشونة والقوَّة، وكثْرة الصَّمت وطول التأمُّل، وإدْمان الفِكْر، والنَّظر السَّديد، والتمدُّن يعوِّد اللُّيونة والتَّراخي.
حتَّى تلك العلاقات مع الحيوانات، نَجد لها تأثيرًا مباشِرًا، فنجِد راعي الغنَم مثلاً يكتَسِب صفات الغنَم؛ مثل الرِّفْق والحلم والسَّكينة والهدوء؛ قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((السَّكينة في أهل الغنَم))[1]، وقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((السَّكينة والوقار في أصْحاب الشَّاء))[2].
لذلك كان جميع الأنْبياء رعاةً للغَنم؛ كما قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ما بَعَث الله نبيًّا قطُّ إلاَّ راعيَ غنم))[3]، وقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((كُنْتُ أرعى الغَنَمَ على قراريطَ لأهْلِ مكَّة))[4]؛ ولذلك كانت السَّكينة والوقار من لوازم النبوَّة.
في حين تَجِد رعاة الإِبِل ذوي أصْوات عالية؛ كما في الحديث: ((الفَخْر والخيلاء في أهْلِ الخيل والإبل، الفدَّادين أهل الوبر))[5]، والفدَّادين بتشديد الدَّال: جَمع فداد، من الفديد، وهو الصَّوت الشديد، وهم الذين تعلو أصواتُهم في إبلهم وخيلهم؛ قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((الفَخْر والرِّياء في الفدَّادين أهل الخيل والوَبَر))[6].
فدلَّ ذلك على وجود تأثير حقيقيٍّ ومباشر مع طول الصُّحْبة، ومن الأمور المسلَّم بها عند العرَب كذلك: أنَّ المطعوم يؤثِّر في الطَّاعم، ففي الحِوار الَّذي دار بين النعمان بن المُنْذر وكسرى، وفيه عاب كسرى على النعمان أكْلَهم للَحْم الإبِل، ووصْفه إيَّاه بأنَّه لحم غثٌّ وخسيس[7]، فقال له النعْمان: "أيُّها الملك، إنِّي أربأ بكَ عن الزُّور، إنَّ الإبل تتميَّز بالصَّبر والحِلْم وقوَّة التحمُّل، والعرب يعرفون أنَّ المطعوم يعود بطعومِه على الطَّاعم، فهم يَطعمونها ليعود عليْهم بالصَّبر والقوَّة والحلم والتحمُّل"[8].
فلمَّا كان هذا الأثر على الحقيقة وليس مجازيًّا، وصف الديُّوث بالخِنْزير؛ لأنَّ المتأمِّل في أكْثر الَّذين يأكلون لَحْم الخِنْزير لا يَجد فيهم الحميَّة والغَيْرة على الشَّرف والعِرض، كالكافِر من أهْلِ أوروبَّا وغيرها، فتجِده مثلَ الخِنْزير تمامًا؛ لأنَّه الحيوان الوحيد الَّذي لا يَغارُ على أُنْثاه، فوافق الوصْف الموصوف، وبهذِه الحقيقة يتبيَّن لنا صِدْق وصْف اليهود بالخنازير والحمير والقرود.
كذلك فإنَّ المركوب يؤثِّر في راكبه، فنجد صفات الخيل[9] مثلاً؛ كالشُّموخ والأنفة، والاعتزاز والكِبر، والفَخْر في المِشْية، كلُّ هذه الصِّفات تنتقِل إلى الفارس طوْعًا أو كرْهًا، و ينتقل الأثر من الأعْلى للأقلِّ منه مرتبة، ومن الأعظم للأقلِّ عظمة وبالعكس، فإمَّا أن يرتفع الأقلُّ عظمة إلى مَن هو أعظم منه، وهذه هي الحالة الأولى، مثال ذلك: لمَّا تخلَّق الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - بخُلُق القُرآن فكان - صلَّى الله عليْه وسلَّم - "خُلُقه القرآن"؛ لأنَّ القرآن كلام الله.
ولمَّا كان رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أعظمَ أثَرًا في أبي بكر - رضي الله عنْه - جعل أبو بكر ينطِق بنفس كلِمات الرَّسول لعمر بن الخطَّاب - رضي الله عنْه - في صلْح الحديبيَّة، مع ملاحظةٍ شديدة الأهمِّيَّة، وهي أنَّ أبا بكر لم يَكُن حاضرًا حِوار الرَّسول لعمر.
فيتبيَّن لنا هنا عُمْق الأثَر الَّذي تركه الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في أبي بكر - رضي الله عنْه.
الحالة الثانية: وإمَّا أن ينزل الأعلى للأقلِّ، فيُوصَف به، مثال ذلك: لمَّا كان الفيل أعْظَمَ من أبرهة وجيشِه على الحقيقة، وهي عظمة "فطرة الإيمان" نسَبَهم الله إليْه؛ فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]، فنسب أبرهة[10] وجيشَه إلى الفيل، مع أنَّ أبرهة أعظَم من الفيل على الحقيقة "بصفته الإنسانيَّة"، في حين نَجد ربَّ العزَّة - جلَّ وعلا - يقول: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18]، فنسب الكَلْب إلى أهْل الإيمان، مع أنَّ الكلب من أخسِّ الحيوانات.
ولمَّا كانت الرِّسالة والرَّسول بينهما علاقة ثنائيَّة، جاء أثر الرِّسالة "ذاتها" في "ذات الرَّسول".
ويَجب أن نتَّفِق أوَّلاً أنَّ طبيعةَ الرِّسالة هي الحياة؛ لأنَّ الوَحْي حياة؛ {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
والوحْي هو هذه الرِّسالة، وكان من طبيعة الرِّسالة أنَّها فترة حياة متعلِّقة بذاتها لا بِحياة الرَّسول؛ أي: إنَّ لها حياة ممتدَّة، بخلاف حياة الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وهو العمر والأجل، خاصَّة وأنَّها الرِّسالة الخاتمة، وهذا غير امتِداد ذِكْرِه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في الآفاق وحتَّى قيام السَّاعة؛ أيِ ارتباط ذِكْر الرِّسالة بالرَّسول؛ ولذلك كان لحياته - صلَّى الله عليْه وسلَّم - المباركة اعتباران: الاعتِبار الرِّسالي، والاعتبار الشَّخْصي.
فلمَّا انتهى الاعتِبار الرِّسالي، خيِّر في الحياة بالاعتِبار الشَّخْصي، فاخْتار الموت؛ لترتبِط حياتُه بالاعتِبار الرسالي فقط، ولتكون حياتُه هي الوحْيَ فقط، وبذلِك يكون الوحْي فقط هو حياة الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
ومعنى تَخيير رسول الله بعد انتِهاء الوحْي للحياة أو للموتِ، هو أنَّ حياتَه في حال نزول الوحْي هي حياةٌ متعلِّقة بالوحْي كلِّيَّة، وأنَّ حياته بالاعتِبار الشَّخصي مسألةٌ أُخْرى يُخَيَّر فيها[11].
ولذلك خُيِّر النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ففي الحديث: ((خُيِّر عبدٌ بين الدنيا وبين ما عندَ الله فاختار العبدُ ما عند الله))، فاختار - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الموت؛ لأنَّه لَم يتحمَّل أن يعيش بغير وحي[12]؛ أي بغير رِسالة، أو بغير حياة.
وهذا من أهمِّ آثار الرِّسالة؛ لأنَّ معنى الوحْي بالنسبة لِرسول الله: حياته هو[13]؛ ولذلك لمَّا تمَّت الرِّسالة تمَّت حياة رسولِ الله؛ لأنَّ لذلك مغزًى مهمًّا، وهو أنَّ للرِّسالة طبيعةَ الكمال والخلود، فكان للرَّسول أيضًا طبيعةَ الكمال والخلود - خلود الذِّكْر - فارتبطتْ حياة الرَّسول بالرِّسالة حتَّى النهاية[14].
ولذلك لم يشْهدْ رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فيما بعدُ النُّقصان الذي حدث في تطْبيق الرسالة من قِبَل المسلمين؛ لأنَّه ليس من طبيعة الرِّسالة ولا من طبيعة الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
ـــــــــــــــــ
[1] مسلم، باب تفاضل أهل الإيمان، ح/ 85، 86.
[2] السابق، ح /91.
[3] البخاري، باب الإجارة، 2262.
[4] السابق.
[5] مسلم، باب تفاضل أهل الإيمان، ح/ 85، 86.
[6] السابق.
[7] يريد هذا الخبيث بذلك الطَّعن في العرب.
[8] نقلاً من دروس السيرة النبويَّة، لفضيلة شيخنا المبارك/ إبراهيم شاهين - حفظه الله ونفع به - قُلْتُ: وكان النعمان رجُلاً شديدَ الغيرة، وكان صاحب أرومة يعتزُّ بها رغْم كونِه كان عميلاً، لكنَّ الفارق شاسِع بين عملاء الماضي وعملاء هذه الأعصُر!
[9] وقد سمِّيت الخيل خيلاً لاختِيالها في مشيها.
[10] وهذا ليس تعظيمًا للفيل بقدْر ما هو توبيخ وذمّ لأبرهة وجيشه.
[11] نقلاً من "علم الحديث منظور إعجازي"؛ رفاعي سرور، ص 143.
[12] السابق، ص 144.
[13] السابق، ص 143.
[14] السابق، ص 144.
وليد بن عبدالعظيم آل سنو
خلق الله الخلْق وركَّب فيهم غريزةَ التطلُّع إلى الأفضل، وحبَّ الصعود إلى الآفاق، وإدْراك العلا من الأمور والأشياء، وجعل النَّفس تبغي الكمال وتنشُده، والأفئدة تهفو لإدْراك النجاح وتعمل له.
ولمَّا كان البشر في تنوُّع واختلافٍ في درجات الفَهْم والإدْراك والمناصب، جاءت صفة التَّأثير لتقوم بأخْطَر الأدْوار في حياة البشر، وكانت طبيعة التَّأثير أنَّ فردًا ما يؤثِّر وآخر يتأثَّر، وتبعًا لهذه القاعِدة يَمضي البَشَر بِهذه الطَّبيعة، وهي في واقِع الأمر ظاهرةٌ طيِّبة وأمر محمود إن كانت القُدْوة المؤثِّرة حسنة، مع الأخْذ في الاعتِبار أنَّه لن يكون هناك أحد امتدادًا لأحد.
إذًا؛ ترك الأثر - إيجابًا وسلْبًا - موجودٌ في جَميع العلاقات الثنائيَّة، فالبيئة مثلاً تؤثِّر في أهلِها، سواءٌ كانت بيئةَ تمدُّن أم بيئة صحراويَّة، فالصَّحراء تؤثِّر في ساكنيها فتمتدُّ إليْهم الخشونة والقوَّة، وكثْرة الصَّمت وطول التأمُّل، وإدْمان الفِكْر، والنَّظر السَّديد، والتمدُّن يعوِّد اللُّيونة والتَّراخي.
حتَّى تلك العلاقات مع الحيوانات، نَجد لها تأثيرًا مباشِرًا، فنجِد راعي الغنَم مثلاً يكتَسِب صفات الغنَم؛ مثل الرِّفْق والحلم والسَّكينة والهدوء؛ قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((السَّكينة في أهل الغنَم))[1]، وقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((السَّكينة والوقار في أصْحاب الشَّاء))[2].
لذلك كان جميع الأنْبياء رعاةً للغَنم؛ كما قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ما بَعَث الله نبيًّا قطُّ إلاَّ راعيَ غنم))[3]، وقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((كُنْتُ أرعى الغَنَمَ على قراريطَ لأهْلِ مكَّة))[4]؛ ولذلك كانت السَّكينة والوقار من لوازم النبوَّة.
في حين تَجِد رعاة الإِبِل ذوي أصْوات عالية؛ كما في الحديث: ((الفَخْر والخيلاء في أهْلِ الخيل والإبل، الفدَّادين أهل الوبر))[5]، والفدَّادين بتشديد الدَّال: جَمع فداد، من الفديد، وهو الصَّوت الشديد، وهم الذين تعلو أصواتُهم في إبلهم وخيلهم؛ قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((الفَخْر والرِّياء في الفدَّادين أهل الخيل والوَبَر))[6].
فدلَّ ذلك على وجود تأثير حقيقيٍّ ومباشر مع طول الصُّحْبة، ومن الأمور المسلَّم بها عند العرَب كذلك: أنَّ المطعوم يؤثِّر في الطَّاعم، ففي الحِوار الَّذي دار بين النعمان بن المُنْذر وكسرى، وفيه عاب كسرى على النعمان أكْلَهم للَحْم الإبِل، ووصْفه إيَّاه بأنَّه لحم غثٌّ وخسيس[7]، فقال له النعْمان: "أيُّها الملك، إنِّي أربأ بكَ عن الزُّور، إنَّ الإبل تتميَّز بالصَّبر والحِلْم وقوَّة التحمُّل، والعرب يعرفون أنَّ المطعوم يعود بطعومِه على الطَّاعم، فهم يَطعمونها ليعود عليْهم بالصَّبر والقوَّة والحلم والتحمُّل"[8].
فلمَّا كان هذا الأثر على الحقيقة وليس مجازيًّا، وصف الديُّوث بالخِنْزير؛ لأنَّ المتأمِّل في أكْثر الَّذين يأكلون لَحْم الخِنْزير لا يَجد فيهم الحميَّة والغَيْرة على الشَّرف والعِرض، كالكافِر من أهْلِ أوروبَّا وغيرها، فتجِده مثلَ الخِنْزير تمامًا؛ لأنَّه الحيوان الوحيد الَّذي لا يَغارُ على أُنْثاه، فوافق الوصْف الموصوف، وبهذِه الحقيقة يتبيَّن لنا صِدْق وصْف اليهود بالخنازير والحمير والقرود.
كذلك فإنَّ المركوب يؤثِّر في راكبه، فنجد صفات الخيل[9] مثلاً؛ كالشُّموخ والأنفة، والاعتزاز والكِبر، والفَخْر في المِشْية، كلُّ هذه الصِّفات تنتقِل إلى الفارس طوْعًا أو كرْهًا، و ينتقل الأثر من الأعْلى للأقلِّ منه مرتبة، ومن الأعظم للأقلِّ عظمة وبالعكس، فإمَّا أن يرتفع الأقلُّ عظمة إلى مَن هو أعظم منه، وهذه هي الحالة الأولى، مثال ذلك: لمَّا تخلَّق الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - بخُلُق القُرآن فكان - صلَّى الله عليْه وسلَّم - "خُلُقه القرآن"؛ لأنَّ القرآن كلام الله.
ولمَّا كان رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أعظمَ أثَرًا في أبي بكر - رضي الله عنْه - جعل أبو بكر ينطِق بنفس كلِمات الرَّسول لعمر بن الخطَّاب - رضي الله عنْه - في صلْح الحديبيَّة، مع ملاحظةٍ شديدة الأهمِّيَّة، وهي أنَّ أبا بكر لم يَكُن حاضرًا حِوار الرَّسول لعمر.
فيتبيَّن لنا هنا عُمْق الأثَر الَّذي تركه الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في أبي بكر - رضي الله عنْه.
الحالة الثانية: وإمَّا أن ينزل الأعلى للأقلِّ، فيُوصَف به، مثال ذلك: لمَّا كان الفيل أعْظَمَ من أبرهة وجيشِه على الحقيقة، وهي عظمة "فطرة الإيمان" نسَبَهم الله إليْه؛ فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]، فنسب أبرهة[10] وجيشَه إلى الفيل، مع أنَّ أبرهة أعظَم من الفيل على الحقيقة "بصفته الإنسانيَّة"، في حين نَجد ربَّ العزَّة - جلَّ وعلا - يقول: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18]، فنسب الكَلْب إلى أهْل الإيمان، مع أنَّ الكلب من أخسِّ الحيوانات.
ولمَّا كانت الرِّسالة والرَّسول بينهما علاقة ثنائيَّة، جاء أثر الرِّسالة "ذاتها" في "ذات الرَّسول".
ويَجب أن نتَّفِق أوَّلاً أنَّ طبيعةَ الرِّسالة هي الحياة؛ لأنَّ الوَحْي حياة؛ {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
والوحْي هو هذه الرِّسالة، وكان من طبيعة الرِّسالة أنَّها فترة حياة متعلِّقة بذاتها لا بِحياة الرَّسول؛ أي: إنَّ لها حياة ممتدَّة، بخلاف حياة الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وهو العمر والأجل، خاصَّة وأنَّها الرِّسالة الخاتمة، وهذا غير امتِداد ذِكْرِه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في الآفاق وحتَّى قيام السَّاعة؛ أيِ ارتباط ذِكْر الرِّسالة بالرَّسول؛ ولذلك كان لحياته - صلَّى الله عليْه وسلَّم - المباركة اعتباران: الاعتِبار الرِّسالي، والاعتبار الشَّخْصي.
فلمَّا انتهى الاعتِبار الرِّسالي، خيِّر في الحياة بالاعتِبار الشَّخْصي، فاخْتار الموت؛ لترتبِط حياتُه بالاعتِبار الرسالي فقط، ولتكون حياتُه هي الوحْيَ فقط، وبذلِك يكون الوحْي فقط هو حياة الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
ومعنى تَخيير رسول الله بعد انتِهاء الوحْي للحياة أو للموتِ، هو أنَّ حياتَه في حال نزول الوحْي هي حياةٌ متعلِّقة بالوحْي كلِّيَّة، وأنَّ حياته بالاعتِبار الشَّخصي مسألةٌ أُخْرى يُخَيَّر فيها[11].
ولذلك خُيِّر النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ففي الحديث: ((خُيِّر عبدٌ بين الدنيا وبين ما عندَ الله فاختار العبدُ ما عند الله))، فاختار - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الموت؛ لأنَّه لَم يتحمَّل أن يعيش بغير وحي[12]؛ أي بغير رِسالة، أو بغير حياة.
وهذا من أهمِّ آثار الرِّسالة؛ لأنَّ معنى الوحْي بالنسبة لِرسول الله: حياته هو[13]؛ ولذلك لمَّا تمَّت الرِّسالة تمَّت حياة رسولِ الله؛ لأنَّ لذلك مغزًى مهمًّا، وهو أنَّ للرِّسالة طبيعةَ الكمال والخلود، فكان للرَّسول أيضًا طبيعةَ الكمال والخلود - خلود الذِّكْر - فارتبطتْ حياة الرَّسول بالرِّسالة حتَّى النهاية[14].
ولذلك لم يشْهدْ رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فيما بعدُ النُّقصان الذي حدث في تطْبيق الرسالة من قِبَل المسلمين؛ لأنَّه ليس من طبيعة الرِّسالة ولا من طبيعة الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
ـــــــــــــــــ
[1] مسلم، باب تفاضل أهل الإيمان، ح/ 85، 86.
[2] السابق، ح /91.
[3] البخاري، باب الإجارة، 2262.
[4] السابق.
[5] مسلم، باب تفاضل أهل الإيمان، ح/ 85، 86.
[6] السابق.
[7] يريد هذا الخبيث بذلك الطَّعن في العرب.
[8] نقلاً من دروس السيرة النبويَّة، لفضيلة شيخنا المبارك/ إبراهيم شاهين - حفظه الله ونفع به - قُلْتُ: وكان النعمان رجُلاً شديدَ الغيرة، وكان صاحب أرومة يعتزُّ بها رغْم كونِه كان عميلاً، لكنَّ الفارق شاسِع بين عملاء الماضي وعملاء هذه الأعصُر!
[9] وقد سمِّيت الخيل خيلاً لاختِيالها في مشيها.
[10] وهذا ليس تعظيمًا للفيل بقدْر ما هو توبيخ وذمّ لأبرهة وجيشه.
[11] نقلاً من "علم الحديث منظور إعجازي"؛ رفاعي سرور، ص 143.
[12] السابق، ص 144.
[13] السابق، ص 143.
[14] السابق، ص 144.