مشاهدة النسخة كاملة : اسما الله الأول والآخر


فريق منتدى الدي في دي العربي
01-14-2018, 08:35 AM
نتناول اليوم - إن شاء الله تعالى - الحديث عن اسمين جليلين آخرين، يُؤسسان لعُمق عقيدة المسلم التي يجب أن يحيا عليها، ويتعبَّد الله بمقتضاها، في زمنٍ تعاظمَتْ فيه شكاوى المخلوقين للخالق، والمرزوقين للرازق، والفانين للباقي، فترى الكثير منا يتأوَّه مِن ضيق العيش، ويشكو من قلة المؤونة، ويتزلَّف إلى الناس يعتصِم بهم، ويتقرَّب إليهم، مُعتقدين أنهم قادرون على الإغناء، والشفاء، وقضاء الحاجات بذواتهم وجاههم وأموالهم؛ بل منهم مَن يستقوي بأعداء الدين، ويرى القُرب منهم بُعدًا عن الضعف والهوان، وما علموا أن التزلُّف إليهم هو عين الضعف، وأن الاعتماد عليهم هو ذات الهوان؛ ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ [المائدة: 52]، تراهم يستحيون مِن المخلوقين، ولا يستحيون مِن خالق السماوات والأرضين، ويخافون من العبيد المسيَّرين، ولا يخافون من رب الأسياد والمستضعفين؛ ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ [المائدة: 52].

إنهما اسما الله: "الأول" و"الآخِر"؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]، فقد علَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام أن يقولوا إذا أووا إلى فراشهم: ((اللهمَّ أنت الأوَّلُ فليس قبلكَ شيءٌ، وأنت الآخِرُ فليس بعدكَ شيءٌ، وأنت الظَّاهرُ فليس فوقكَ شيءٌ، وأنت الباطنُ فليس دُونَكَ شيءٌ، اقْضِ عنَّا الدَّيْنَ، وأَغْنِنا مِنَ الفقرِ))؛ مسلم.

وعلَّمَنا نبينا صلى الله عليه وسلم عند النوم أن نُودِع أنفسنا الحيَّ الذي لا يموت، فقال صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: ((يا فلانُ، إذا أوَيْتَ إلى فِراشِكَ فقل: اللهمَّ أسلمتُ نَفْسي إليكَ، ووَجَّهْتُ وَجْهي إليكَ، وفَوَّضْتُ أمْري إليك، وألْجأتُ ظَهْري إليكَ، رغبةً ورهبةً إليكَ، لا ملجأ ولا مَنْجَى منكَ إلا إليكَ، آمَنْتُ بكتابكَ الذي أنزلْتَ، وبنبيِّكَ الذي أرسلتَ، فإنَّكَ إنْ متَّ في ليلتِكَ متَّ على الفِطرةِ، وإنْ أصبحْتَ أصَبْتَ أجْرًا))؛ متفق عليه.

واسم الله "الأول" هو الذي ليس قبله شيء، و"الآخِر" هو الذي ليس بعده شيء؛ قال تعالى: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88].

قال ابن القيم رحمه الله: "فأوليَّة الله عز وجل سابقة على أوليَّةِ كل ما سواه، وآخريَّتُه ثابتةٌ بعد آخرِيَّة كل ما سواه، فأوليَّتُه سَبْقُه لكل شيء، وآخريَّتُه بقاؤه بعد كل شيء".

العبد فانٍ هالك مهما جَمَع مِن جاه الدنيا، وجنى مِن سلطانها، وتربَّع على كنوزها، وعلا مِن مراتبها؛ فقد خلقه الله مِن تراب، ثم هو صائر لا محالة إلى التراب.
لِمَنْ نبني ونحن إلى تراب
نصِيرُ كما خُلِقْنا من ترابِ
ألا وأراكَ تَبذُلُ يا زماني
ليَ الدُّنيا وتُسرِعُ باستلابي

قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ جعل الهُمومَ هَمًّا واحدًا: هَمَّ الْمَعادِ (أي: الرجوع إلى الله الآخِر)، كفاهُ الله هَمَّ دُنْياه، ومن تشعَّبتْ به الهُمومُ في أحوال الدنيا، لم يُبالِ اللهُ في أيِّ أوْدِيتِها هَلَكَ))؛ صحيح سنن ابن ماجه.

والله عز وجل باقٍ؛ لأنه لا أوَّل له، ولا آخِر له، يُحيط بالزمن، ولا يحيط به زمن، ويستولي على المكان، ولا يستولي عليه مكان؛ قال ابن القيم رحمه الله: " فإحاطة أوليَّته وآخريَّته بالقَبْل والبَعْد، فكلُّ سابقٍ انتهى إلى أوليَّته، وكلُّ آخرٍ انتهى إلى آخريَّته، فأحاطت أوليَّتُه وآخريَّتُه بالأوائل والأواخر".

فَرَبٌّ بهذين الاسمين العظيمين المحيطين، يستحق أن يكونَ هو المعبود وحده، والمتوكَّل عليه وحدَهُ، والمسؤول وحده؛ ولذلك لما جاء أهل اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: جئناكَ لِنتفقَّهَ في الدين، ولِنسألكَ عن أوَّل هذا الأمر ما كان، أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بفقه اسم الله "الأول"، فقال لهم: ((كان الله ولَمْ يكُنْ شيءٌ قبله (وفي رواية: ولم يكنْ شيءٌ معه)، وكان عرْشُه على الماء، ثمَّ خلق السماوات والأرض، وكتب في الذِّكْر كلَّ شيءٍ))؛ البخاري.

فالله عز وجل هو الأول والآخِر في العظمة والكبرياء، فلا أحد أعظم منه، فاستحق أن يُهاب جانبه، وألا يؤمن عقابه، وهو الأول والآخِر في الجلال والجمال، فلا شيء أجل منه، ولا شيء أجمل منه.

وهو الأول والآخِر برحمته، فلا أحد يملك الرحمة إلا بإذنه؛ قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((جعل الله الرحمة مائةَ جُزْءٍ، فأمسكَ عنده تسعةً وتسعينَ جُزْءًا، وأنزل في الأرض جُزْءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحَمُ الخَلْقُ، حتى تَرْفعَ الفَرسُ حافِرها عن ولَدِها خشيةَ أَنْ تُصِيبَهُ))؛ متفق عليه.

وهو الأول والآخر بإحسانه، فلا أحد أكرم ولا أكثر عطاءً منه؛ بل كَرَمُ المخلوقين مِن كرمه، وعطاؤهم من عطائه.

فإذا كان ربنا كذلك، فلنجعله مُرادنا وغايتنا، ولْنُرْضِه بأقوالنا وأفعالنا، ولنتقرَّب إليه بحسن عبادته، وجميل التزلُّف إليه؛ ﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 62].

فالتعلق بالأول والآخر تعلُّقٌ بالحي الذي لا يموت؛ ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 3].
كنْ معَ الله ترَ الله مَعَكْ
واتركِ الكُلَّ وحاذِرْ طَمَعَكْ
وإِذا ضرَّكَ لا نافعَ مِن
دونِه والضُّر لا إِن نَفَعكْ
وإِذا أعطاكَ مَنْ يمنعُهُ؟
ثم مَن يُعْطي إذا ما مَنَعَكْ؟
إنما أنت له عبدٌ فكنْ
جاعلًا بالقربِ منه وَلَعَكْ
لا تُؤمِّلْ مِن سِواهُ أملًا
إنما يَسْقيكَ مَن قد زرعَكْ

وإن مِن فقه اسمي الله: الأول والآخِر عدة أمور، منها:
♦ تعظيم المولى عز وجل في النفس، وتعظيم شعائره؛ ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].

♦ تعظيم حرماته، وإجلال أوامره، والوقوف عند نواهيه؛ ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30].

♦ التدليل على غناه المطلق سبحانه، وأنه بكل شيء محيط، تحتاجه المخلوقات، ولا يحتاج إليها؛ قال تعالى: ﴿ وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [التغابن: 6]، قال ابن القيم رحمه الله: "تعبَّدْ له باسمه "الآخِر"، بأن تجعلَه وحدَه غايتَك التي لا غاية لك سواه، ولا مطلوب لك وراءه...، فإن إلى ربك المنتهى".

♦ الذي بدأ خلقك باسم "الأول" قادر إلى ردك إليه باسم "الآخِر"؛ قال تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 104]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 79]؛ بل إعادة النشأة عليه أهون مِن النشأة الأولى؛ قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27].

♦ عدم الاغترار بالأسباب المادية، والوثوق بالمؤهلات الذاتية، والاعتزاز بالقدرات الفردية؛ لأنها مِن الله، مستمدة مِن أوليته، فانية بآخريته؛ يقول ابن القيم رحمه الله: "وعبوديته باسمه الآخِر تقتضي عدم ركونه ووثوقه بالأسباب، والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة، وتنقضي بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها".

♦ السبق إلى فِعْل الخيرات، فلا يفتح باب خير إلا والمسلم أول مَن يلجه؛ قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 61]، فالصلاة لأول وقتها، والصف الأول يُقترع مِن أجله، والحضور باكرًا للجمعة يستبق إليه، وصلاة العشاء والصبح تؤتى ولو حبْوًا، والمبادرة إلى الصدَقة شفاءٌ للنفوس؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أمرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أنْ نتصدَّقَ، فوافقَ ذلك مالًا عندي، فقلتُ: اليومَ أسْبِقُ أبا بكرٍ إنْ سَبَقْتُه يومًا، فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيتَ لأهلكَ؟))، قلتُ: مِثْلَه، وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكلِّ ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيتَ لأهلكَ؟))، قال: أبقيتُ لهم الله ورسوله، قلتُ: لا أُسابقكَ إلى شيء أبدًا"؛ ص. أبي داود.
أنت المقدِّمُ والمؤخِّرُ أوَّلٌ
والآخرُ الوالي وليس سواه
الظاهرُ البرُّ الرؤوفُ الباطنُ التْ
تَوَّابُ والمتعالي ما أعلاه

د. محمد ويلالي

Adsense Management by Losha