فريق منتدى الدي في دي العربي
06-04-2022, 07:41 PM
وللهداية النبوية إعجازها الباهر في الجوانب الأمنية الوقائية
ناصر أحمد سنه
لا يظنُ ظانٌ أن الإسلام قبل وأثناء وبعد إنشاء الدولة، والإسلام دين ودولة، دعوة وسلطان، شعائر وشرائع، عبادات ومعاملات الخ، قد أقامها خبط عشواء، حشاه. لقد كان المسلمون الأوائل الأفذاذ قد نهلوا من قرآن ربهم، وهداية رسولهم. لقد تربوا علي: كيف يعدون لكل شيء عُدته؟، وكيف يأخذون بالأسباب ثم يتوكلون علي رب الأسباب؟، وكيف يتحسبون لكل حدث وحديث؟، وكيف وأين يضعون أقدامهم، ويحددون وجهتهم؟، وكيف يمزجون بين التحلي بإيمانهم وشجاعتهم مع تبصرهم وحذرهم وحيطتهم؟، وكيف يحسنون اختيار مَن تقدم لهم الدعوة أولاً؟، وما هي الأساليب التي يتم التعامل بها مع المستجيبين؟ وكيف يتم إبلاغ الدعوة إلى العامة؟ وكيف ينجزون مهمتهم، ويقومون نتائجهم، ويعدلون خطتهم؟. وهل تخرج قواعد وأصول الفنون الإدارية والسياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية الحديثة عن تلك؟. والسطور القادمة تشير علي عجالة وبإيجاز لإعجاز الهداية النبوية، وتربيتها الصحابة علي الوعي والدراية بالجوانب الأمنية الوقائية (من بدء الدعوة، وحتى الهجرة النبوية الشريفة).
الوعي والدراية بالجوانب الأمنية الوقائية..استجاب ة لضرورة واقعية ودعوية.
-لقد اقتضت سنة الله في خلقه التدافع بين أهل الحق، وأهل الباطل، وبين أصحاب الرسالات والدعوات، وأهل الغي والضلالات.
فمرحلة البدء تتميز بتحلي أهل الحق والدعوة بالحيطة والحذر والتكتم، ذلك لأن أهل الباطل خشية علي مصالحهم وأهوائهم وأفكارهم الباطلة سيقفون لهم بالمرصاد، وسيحاولون القضاء على المعتقدات وأصحابها، والأفكار الجديدة وأهلها، وهم لما يشتد عودهم، ولم يكثر أتباعُهم بعد (راجع د. إبراهيم علي محمد أحمد: في السيرة النبوية.. قراءة لجوانب الحذر والحماية، كتاب الأمة، العدد: 54، رجب 1417ه).
- بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوته سرًا، وكان دقيقًا في كل خطواته، وحذرًا يقظًا في كل تعاملاته، وبهذا التخطيط والتنظيم استطاع أن ينتصر على جميع أعداء الإسلام.
- المتتبع لسيرته - صلى الله عليه وسلم - يجد أن جانب الحذر والتحوط واضحًا بادياً طوال المرحلة الأولي من بدء الدعوة الإسلامية. و(لا ريب أن تكتم النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته خلال السنوات الأولى، لم يكن بسبب خوفه على نفسه، فهو حينما كُلِّف بالدعوة ونزل عليه قوله - تعالى -: (يا أيها المدثر)، علم أنه رسول الله إلى الناس، وبذا كان يؤمن بأن الإله الذي ابتعثه وكلّفه قادر على أن يحميه ويعصمه من الناس. لكن الله - عز وجل - ألهمه، ،والإلهام للرسول وحي، أن يبدأ الدعوة في فترتها الأولى بسرية وتكتم، وأن لا يلقي بها إلا إلى مَن يغلب على ظنه أنه سيصغي لها، ويؤمن بها، تعليمًا وإرشادًا لمن بعده إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل التي ينبغي أن تتخذ من أجل الوصول إلى غايات الدعوة وأهدافها. (د. محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة، دار الفكر، ط 2، 1400ه، ص 94).
مراعاة الجوانب الأمنية الوقائية في بدء الدعوة الإسلامية
-كان - صلى الله عليه وسلم - يجيد اختيار من يدعوهم (نوعاً وأهلية)، متحرياًً الدقة المتناهية، والحيطة. ذلك لأن أولئك المستجيبين للدعوة آنذاك، هم الذين تقع عليهم أعباؤها ومسؤولياتها، فلابد أن يكونوا من خيار المجتمع.. صدقًا، واعتدالاً، ومروءة، ونخوة، واستقامة، ليكونوا أهلاً للقيام بتبليغ الدعوة، وتحمل تبعاتها بكل تجرد وإخلاص لله تعالي.
- وكان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن أي خلل في التصرف، أو تسرب معلومة، يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية من شأنها التأثير على مستقبل الدعوة. إن أول من دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -: زوجه السيدة خديجة، وعليّ بن أبي طالب، ومولاه زيد بن حارثة، وحاضنته أم أيمن(البخاري، باب بدء الوحي، ج1، ص: 2-3)، - رضي الله عنهم - أجمعين.. والمتأمل في هؤلاء النفر الكريم، يجدهم تضمهم أسرة واحدة، هي أسرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هم أقرب الناس إليه، وأعرفهم به، وبصدقه، وإخلاصه، وحسن سيرته، لعشرتهم له، وهذا مما يجعلهم يؤمنون عن اقتناع ويقين، وهو ما حدث فعلاً.. وهذا النوع من الإيمان هو ما تتطلبه المرحلة، فهؤلاء يكتمون السر ولا يفشونه، ويساعدونه في تحمل أعباء الدعوة، ويخففون عنه وطأة معاناتها، ولا يثقلون كاهله بأعباء ثانوية.
- ومما يدلل علي حسن الاختيار ذلك الموقف الباهر للسيدة خديجة عند بداية نزول الوحي علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي... لقد خَشِيتُ على نفسي))، كان ردها - رضي الله عنها -: "كلا، والله ما يُخْزِيكَ اللهُ أبدًا، إنك لَتَصِلُ الرَّحِم، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نوائبِ الحق" (ابن هشام: السيرة النبوية، ج1، ص: 238).. ولم تكتف بذلك، بل انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، الذي طمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهدأ من روعه، وأخبره بأن الذي يأتيه هو الناموس الذي كان ينزل على موسى: (الطبقات الكبرى، لابن سعد، ج1، ص: 142).. موقف أعان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزاده ثقة أن ما يأتيه حق، فمضي في طريقه بعزم وحزم.. فضلاً عن مواساتها - رضي الله عنها - للرسول، بمالها وجاهها. وأما زيد فقد خرج معه إلى الطائف، وكان رفيقه، ومؤازره في تلك الرحلة، وكان يقيه بنفسه من حجارة الصبية والسفهاء
(البداية والنهاية لابن كثير ج 3، ص: 174) أما علي فقد نام على فراشه عند الهجرة، وهو "عمل فدائي" عمِّي على قريش، وخدعهم أيما خدعة.
- هذا النفر الكريم كانوا أول نواة للدعوة، (مما حقق تأمين جبهته الأسرية الداخلية، فلا أحد سيسرب معلومات عن تحركات، ولقاءات من يترددون عليه، وقد يكون البيت موضع الوثائق الخاصة بالدعوة) مما ساعد على الانطلاق من البيت إلى خارجه، وفوت على الأعداء سلاح كان يمكن أن يستخدموه ضده، عندما يعرض الدعوة عليهم، فيقولوا له مثلاً: اذهب وقوّم بيتك أولاً، ثم ائتنا ثانيًا!
وكانت هدايته الباهرة في اختيار دار الأرقم
- وقع اختيار الرسول - صلى الله عليه وسلم - على دار الأرقم، لتكون مقرًا غير معلن للمستجيبين من المؤمنين (ما يربو على الثلاثين.. لزمهم تعلم أمور دينهم، ولقائهم بنبيهم الخ)، وذلك لتفردها بعدة صفات، وميزات منها:
1- اختار الرسول - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم ابن أبي الأرقم، لوقوعها بمعزل أسفل جبل الصفا، وكانت غير مكشوفة لأعين الطغاة ومجالسهم ومراقبتهم (السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص: 253)، وهي محاطة بالسرية، ولا تحتاج عملية الوصول إليها، أو الخروج منها، إلى كبير عناء، أو احتياطات معقّدة، مع صعوبة رصد ومراقبة القادمين إليها والخارجين منها.
2- ليس بالدار موضع قد يستغله أعداء الدعوة، فيطلعوا من خلاله على ما يدور بداخلها، وهذا مما يجعل ما بداخلها بعيدًا عن أعين الأعداء.. يضاف إلى ذلك، أن صاحبها الصحابي (الأرقم)، لا يمكن أن يبوح بسر إعطائه هذه الدار للمؤمنين، هذا بخلاف ما إذا كانت الدار لكافر.
3- لم يكن الأرقم معروفًا بإسلامه، ولم يعلنه بعد، فما كان يخطر ببال قريش أن يتم لقاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بداره. فضلاً عن أنه كان فتى عند إسلامه (في حدود 16 من العمر). ولا يتوقع أن تبحث قريش في بيوت الفتيان من أصحاب الرسول، بل يتجه تفكيرها إلى كبار الصحابة - رضي الله عنهم -. هذا إلى جانب أن الأرقم من بني مخزوم، التي كانت تحمل لواء الحرب ضد بني هاشم، فلو كان الأرقم معروفًا بإسلامه، لصعب أن يكون اللقاء في داره، لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو(منير محمد الغضبان: المنهج الحركي للسيرة النبوية، مكتبة المنار، ط 6، ص49).
4- لم يرد أن قريشًا داهمت ذات يوم هذا "المقر السري"، بل أقصى ما توصلت إليه هو شكها أن يكون اللقاء في دارٍ عند الصفا. ومما يدل على ذلك، أن قياديًا مثل "عمر بن الخطاب"، - رضي الله عنه -، عندما أراد إعلان إسلامه، لم يعرف مكان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كانت تلك الدار معلومة لدى قريش، لما سأل عنها، بل لذهب إليها مباشرة.. وهذا يظهر مدى حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على إخفاء خبر هذه الدار، فلم يبوحوا بها إلى أحد سوى المسلمين فقط.
5 كانت براعة عملية تنظيم الدخول والخروج (وهي تعد من أخطر الجوانب الأمنية، التي يؤدي إغفالها إلى كشف ومعرفة المقر) قد ساعدت على الاحتفاظ بسرية المقر. وهذه الدقة البارعة، تتبدي من خلال موقفين: الأول، لسيدنا "علي" مع سيدنا "أبي ذر"، - رضي الله عنهما -. فعندما أراد سيدنا عليّ أخذ سيدنا أبي ذر إلى دار الأرقم، لمقابلة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، اتفق معه على مصطلح معين في حالة وجود مراقبة، أو متابعة من قِبَل الأعداء، فقال له: (إن رأيت أحدًا أخافه عليك، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي)، وفي لفظ: (كأني أريق الماء، فامض أنت) (ابن الجوزي: تاريخ عمر بن الخطاب، مطبعة التوفيق، مصر، ص: 10). بذا يتجلى الاهتمام بعملية الذهاب إلى المقر، فهو يدل على أن عليًا بن أبي طالب، - رضي الله عنه -، كان يراقب الأعداء أثناء ذهابه، فإذا رأى من يراقبه غيَّر وجهته، وأمر أبا ذر هنا أن يغير وجهته، بقوله: (فامض أنت). أما الموقف الثاني، فلأم جميل مع سيدنا أبي بكر - رضي الله عنهما -. فعندما أخذت أم جميل وأم الخير سيدنا أبا بكر - رضي الله عنه -، إلى دار الأرقم، قال ابن كثير: (فأمهلتا أي أم جميل وأم الخير حتى إذا هدأت الرِّجْلُ، وسكن الناس، خرجتا به، يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)(ابن كثير، البداية والنهاية، ج3، ص: 30)..
6- ومن جوانب الحماية التي روعيت في دار الأرقم، تصميم الباب الذي ترك فيه شقوق / فتحات (عين سحرية) يمكن من خلالها مشاهدة مَن بالخارج، ومعرفة هويته، ومن ثم يتم التصرف، وفقًا لذلك. يظهر لنا ذلك في قصة إسلام سيدنا عمر - رضي الله عنه -، حين طرق الباب، فقبل أن يُفتح له، نظر أحد الصحابة من خلل الباب، فتأكد من هوية الطارق، بأنه عمر، جاء متقلدًا سيفه فأخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3،، ص: 86، دار بيروت للطباعة).
7- التصرف السليم إبان حالات الطوارئ، ضروري وهام، ومكملاً للالتزام بالمنهج الأمني، فما قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - تجاه سيدنا عمر، حينما دخل دار الأرقم، يعد تصرفًا مهمًا ودقيقًا.. فأخذ بمجامع ثوب عمر، وحمائل سيفه، وقال له: (( ما أنت بمنته يا عمر، حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزله الله بالوليد؟)) (علي برهان الدين: السيرة الحلبية، المطبعة الزهرية، 1320ه، ج1، ص: 36). فمنعه -صلى الله عليه وسلم- من استخدام سلاحه، وسهل ردعه وترهيبه.
مراعاة الجوانب الأمنية الوقائية عبر تكوين مجموعات دعوية صغيرة
- قام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإنشاء ما يعرف بالمجموعات الصغيرة (ثلاثة أو خمسة أشخاص). ذلك لأن فترة بدء الدعوة تستلزم قلة الاجتماعات والمجتمعين.. حفاظًا عليهم وحماية لدعوتهم، ومنعًا لتسرب المعلومات، ومما يجعل ترتيب اللقاء أمرًا ميسورًا، وذلك لسهولة الحصول على المقر، كذلك فإن هذا العدد الصغير ليس ملفتًا للنظر، ولا مثيرًا للشبهات.
- تلكم المجموعات الصغيرة غايتها: تلقي تعاليم ومناهج الدعوة وممارسة شعائرها، وتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع المسلم. ولقد لجأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى إرسال بعض الدعاة إلى الأسر المؤمنة ليعلموهم القرآن الكريم، وينقلوا إليهم أخبار وتوجيهات الرسول - صلى الله عليه وسلم -.. يتضح ذلك فيما رواه ابن إسحاق عن قصة إسلام عمر في حديث طويل جاء فيه: " فرجع عمر عامدًا إلى أخته وخَتَنِه، وعندهما خباب بن الأَرَت، معه صحيفة فيها مطلع سورة طه يُقرئهما إياها.. " (ابن الأثير: الكامل في التاريخ: ج2، ص: 15، بيروت). فهذه المجموعة تتكون من ثلاثة أشخاص يقوم فيها سيدنا خباب بتعليم سعيد وزوجته فاطمة - رضي الله عنهم - القرآن.
- إن أداء الصلاة جماعة في مكان عام واحد باستمرار، وانتظام، ملفت للانتباه في هذه المرحلة الأولية، مما قد يؤدي إلى كشف الجماعة المسلمة، وتفاديًا لذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه يؤدون الصلاة في شكل جماعات صغيرة متفرقة، قال ابن إسحاق: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى شِعاب مكة وخرج معه عليُّ بن أبي طالب وفي رواية زوجه خديجة مستخفيًا من أبيه أبي طالب، ومن جميع أعمامه، وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها) (سيرة ابن هشام، ج1، ص: 246). فهذه جماعة من جماعات الدعوة، تضم قائدها، وابن عمه، وزوجه لتأدية شعيرة الصلاة. (وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم). وقال ابن إسحاق: (فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤدون الصلاة.. ) (سيرة ابن هشام، ج1، ص: 282). .
- أورد صاحب السيرة الحلبية في قصة إسلام سيدنا عمر - رضي الله عنه -، التي رواها سيدنا عمر بنفسه حيث قال: (.. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما، عند رجل به قوة يكونان معه، يصيبان من طعامه) (علي برهان الدين: السيرة الحلبية، المطبعة الزهرية، ج1، ص358). ولا غرابة أن يوزع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقراء المسلمين على هذه المجموعات، وهو عمل تقتضيه ظروف المرحلة، كي لا يكون الفقر سببًا وعائقًا يحول دون دخول الناس في الإسلام، وتسد هذه الثغرة أمام الأعداء، حتى لا يستغلوا فقر المسلمين.
الجوانب الأمنية الوقائية لدي الصحابة الأبرار
- الحس الأمني لابد منه لكل فرد من أفراد الأمة، في كل أمر من أمور حياته، الخاصة منها والعامة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كلَّ ذي نعمةٍ محسود)) (السيوطي في الجامع الكبير)، فإذا كان الكتمان في الحوائج الشخصية المادية مطلوب، مأمور به، ففي الحوائج العامة المتعلقة بمصير الأمة هو من باب أولى.
الحس والحذر لدى أم جميل رضي الله عنها
-عندما أراد سيدنا أبو بكر - رضي الله عنه - الحصول على المعلومة الخاصة بمكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - عقب الأذى الجسيم الذي تعرض هو له من قِبل أعداء الدعوة، طلب من والدته أم الخير، الذهاب إلى أم جميل، لمعرفة مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها: (فخرجت أمُّ الخير حتى جاءت أمَّ جميل، فقالت: إنّ أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟ فقالت أم جميل: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت. قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا(ثقيل المرض يُشرف علي الموت). فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. قال: فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: هذه أمك تسمع. قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح. قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإن لله عليّ ألا أذوق طعامًا ولا شرابًا، أو آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. فأمهلتا، حتى إذا هدأت الرِّجْل، وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).
موقف يتسم بوضوح الحس الأمني لأم جميل، الذي برز في عدة تصرفات، من أهمها:
1- إخفاء الشخصية والمعلومة عن طريق الإنكار: عندما سألت أمُّ الخير أمَّ جميل، عن مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أنكرت أنها تعرف أبا بكر ومحمد بن عبد الله.. فهذا تصرف حذر سليم. إذ لم تكن أم الخير وقتئذ مسلمة، وأم جميل كانت تخفي إسلامها، ولا تود أن تعلم به أم الخير.. وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخافة أن تكون عينًا لقريش.
2- استغلال الموقف لإيصال المعلومة: فأم جميل أرادت أن تقوم بإيصال المعلومة بنفسها لسيدنا أبي بكر - رضي الله عنه -، وفي ذات الوقت لم تظهر ذلك لأم الخير، إمعانًا في السرية والكتمان، فاستثمرت الموقف لصالحها، قائلة: (إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت). وقد عرضت عليها هذا الطلب بطريقة تنم عن الذكاء وحسن التصرف، فقولها: (إن كنت تحبين) وهي أمه، وقولها: (إلى ابنك)، ولم تقل لها إلى أبي بكر، كل ذلك يحرك في أم الخير عاطفة الأمومة، فغالبًا ما ترضخ لهذا الطلب، وهذا ما تم بالفعل، حيث أجابتها بقولها: (نعم). وبالتالي نجحت أم جميل في إيصال المعلومة بنفسها.
3- استثمار الموقف في كسب عطف العدو: يبدو أن أم جميل حاولت أن تكسب عطف أم الخير، فاستثمرت وضع سيدنا أبي بكر - رضي الله عنه -، الذي يظهر فيه صريعًا دنفًا، فأعلنت بالصياح، وسبت من قام بهذا الفعل: (إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر). فلا شك أن هذا الموقف من أم جميل يشفي بعض غليل أم الخير، من الذين فعلوا ذلك بابنها، فقد تُكِنّ شيئًا من الحب لأم جميل، وبهذا تكون أم جميل كسبت عطف أم الخير، وثقتها، الأمر الذي يسهل مهمة أم جميل في إيصال المعلومة إلى سيدنا أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -.
4-الاحتياط والتأني قبل النطق بالمعلومة: لقد كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر من أن تتسرب هذه المعلومة الخطيرة، عن مكان قائد الدعوة، فهي لم تطمئن بعد إلى أم الخير، لأنها مازالت مشركة آنذاك، وبالتالي لم تأمن جانبها، لذا ترددت عندما سألها سيدنا أبو بكر عن حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت له: هذه أمك تسمع؟ فقال لها: لا شيء عليك منها. فأخبرته ساعتها بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سالم صالح، وزيادة في الحيطة، والحذر، والتكتم، لم تخبره بمكانه إلا بعد أن سألها عنه قائلاً: أين هو؟ فأجابته: في دار الأرقم.
5- تخيّر الوقت المناسب لتنفيذ المهمة: حين طلب سيدنا أبو بكر - رضي الله عنه - الذهاب إلى دار الأرقم، لم تستجب له أم جميل على الفور، بل تأخرت عن الاستجابة، حتى إذا هدأت الرِّجْل وسكن الناس، خرجت به ومعها أمه يتكئ عليهما. فهذا هو أنسب وقت للتحرك وتنفيذ هذه المهمة، حيث تنعدم الرقابة من قبل أعداء الدعوة، مما يقلل من فرص كشفها، وقد نفذت المهمة بالفعل دون أن يشعر بها الأعداء، حتى دخلت أم جميل وأم الخير بصحبة أبي بكر إلى دار الأرقم، وهذا يؤكد أن الوقت المختار كان أنسب الأوقات.
الجانب الأمني الوقائي لدى نعيم بن عبد الله رضي الله عنه
-حين خرج سيدنا عمر متوشحًا سيفه، لقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمدًا هذا الصابئ، الذي فرّق أمر قريش، سفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها فأقتله. قال له نعيم: والله قد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: خَتَنك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمدًا على دينه(سيرة ابن هشام ح1، ص: 344). فبالإمكان الخروج بالملاحظات الآتية:
1- إخفاء الشخصية عن العدو: لم يكن سيدنا عمر - رضي الله عنه - يعلم بإسلام نعيم، لأنه كان يخفي إسلامه(سيرة ابن هشام ح1، ص: 343)، فحسبه سيدنا عمر مشركًا، مما سهل مهمة نعيم.. وإمعانًا في إخفاء الشخصية، قال سيدنا نعيم: محمدًا ولم يقل رسول الله، مع العلم أن الصحابة لا ينادون الرسول - صلى الله عليه وسلم - باسمه، وإنما يقولون رسول الله، ونبي الله، ولكن المقام هنا يتطلب من نعيم أن يقول محمدًا، كي يطمئن له عمر، أكثر ويحدثه بما ينوي عمله، وهذا ما تم فعلاً.
2-الحصول على المعلومة: استوقف(أمنياً ووقائياً) سيدنا نعيم سيدنا عمر لما رآه متوشحًا سيفه استوقفه، وسأله عن وجهته بقوله: أين تريد يا عمر؟ فحصل سيدنا نعيم من ثمّ على معلومة في غاية الخطورة، تتمثل في نية عمر قتل قائد الدعوة. فهذا تصرف في غاية الحكمة والذكاء، إذ استطاع سيدنا نعيم الحصول على هذه المعلومة التي جعلته يتخذ أساليب أمنية دقيقة وعاجلة.
3- درء خطر العدو وصرفه عن هدفه: بعد أن علم نعيم نية عمر - رضي الله عنهما -، عمل على درء هذا الخطر، فاستخدم معه أسلوب الترهيب، حيث هدده، إن هو أقدم على قتل محمد، فإنه سوف يُقتل هو أيضًا من قِبل بني عبد مناف، ولم يكتف سيدنا نعيم بذلك، بل أخبره بأمر لم يستطع سيدنا عمر معه صبرًا، وذلك حين أخبره بإسلام ابن عمه وأخته، فغيَّر عمر - رضي الله عنه - وجهته مباشرة، وبدل أن يتجه لقتل محمد - صلى الله عليه وسلم - اتجه نحو بيت أخته. وبذلك يكون سيدنا نعيم - رضي الله عنه - قد نجح فعلاً في درء خطر العدو، وهذا تصرف في غاية الدقة والإحكام.
4- التضحية بأفراد من أجل المصلحة العامة: لا شك أن معرفة سيدنا عمر وعلمه بإسلام أخته وابن عمه يشكل خطورة كبيرة عليهما، ولكن إذا قورنت بخطورة قتل قائد الدعوة، كانت أخف وأقل، لذا حاول سيدنا نعيم أن يضحي بأفراد من أجل المصلحة العامة، فإذا لحق ضرر بسعيد وفاطمة فهو أخف وأهون بكثير مما يمكن أن يلحق بقائد الدعوة. هذا إلى جانب أن سيدنا نعيم راعى الناحية العاطفية التي تربط بين عمر وابن عمه وأخته، فهي يمكن أن تخفف من شدة الغضب لدى سيدنا عمر، وبالتالي تخف وطأة العقاب على سعيد وفاطمة، وهذا ما تحقق، فعندما رأى سيدنا عمر الدم ينزل من وجه أخته، تحركت فيه العاطفة، ورقّ قلبه، فكان ذلك من أسباب إسلامه.
الجوانب الأمنية الوقائية لدى "خَبَّاب"، و"سعيد"، و"فاطمة" - رضي الله عنهم - أجمعين
- سار سيدنا عمر إلى منزل ابن عمه سعيد، كان بداخل المنزل سعيد وخباب بن الأرتّ وفاطمة زوج سعيد، فلمّا سمعوا صوت عمر، تغيب خباب في مخدع لهم، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، وجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة (الكلام غير الواضح)؟ قالا: ماعدا حديث تحدثناه بيننا(سيرة ابن هشام، ج1، ص: 344).. وهنا يمكن أن التعرف علي ما يلي:
1- سرعة وسلامة التصرف حيال الطوارئ: سرعة التصرف وعدم الارتباك من الأمور الهامة والضرورية، لتفادي الحالات الطارئة، التي قد يتعرض لها أهل الدعوة، فمتى ما كان التصرف سليمًا وسريعًا، أمكن تفادي الخطر، وكانت النتائج إيجابية غالبًا. لذا كان تصرف المجموعة الدعوية المكونة من سعيد، وخباب، وفاطمة، سريعًا وسليمًا، حيث تغيب خباب في المخدع، وأخفت فاطمة الصحيفة، وتصدى سعيد لمقابلته وفتح الباب له، وذلك عندما علموا أن القادم عمر، وما أدراك ما عمر؟، المعروف بشدته ضد الدعوة والدعاة.
2- إخفاء الأثر من العدو: إخفاء الأثر من العدو، أمر لابد منه، فالأثر كالخيط والدليل الذي يقود الأعداء إلى مبتغاهم، لذا يجب إخفاء وإزالة أي أثر يمت إلى الدعوة، أو المدعوين بصلة، وهذا ما فعلته فاطمة - رضي الله عنها - حين جعلت الصحيفة تحت فخذها، وهو موضع لا يتطرق إليه الشك، وبالتالي تكون قد أخفت وثيقة خطيرة عن أعين عمر بن الخطاب، بالرغم من أن عمر اطلع عليها فيما بعد، ولكن العبرة بالتصرف السليم في إخفاء الأثر.
3- اختفاء خباب - رضي الله عنه -: إن اختفاء خباب - رضي الله عنه -، لم يكن عن جبن أو خوف، بل هو تصرف أمني تمليه ظروف الزمان والمكان، ويتطلبه الموقف، فإذا وجد سيدنا عمر خباب مع سعيد وفاطمة، فإن هذا يؤدي إلى كشف معلومة خطيرة وبالغة الأثر على سير الدعوة في مثل هذه المرحلة، حيث كان خباب يقرئ سعيدًا وفاطمة القرآن، وهي خطة وضعت لتعليم المسلمين في تلك الظروف الصعبة، فإذا علم سيدنا عمر بذلك أخبر قريشًا، وربما نتج عن ذلك مراقبة دقيقة لمنع مثل هذا النوع من الاجتماعات، وبالتالي تخسر الدعوة وسيلة هامة وفعالة في تعليم المستجيبين.. وحتى لا يتحقق ذلك، اختفى سيدنا خباب - رضي الله عنه -.
4- خفض الصوت أثناء الاجتماع: لقد كان سيدنا خباب يقرئ سعيدًا وفاطمة القرآن بصوت منخفض، لدرجة أن الذي بالباب لم يستطع أن يتبينه، حيث وصفه سيدنا عمر (بالهينمة) وهي صوت كلام لا يفهم وهذا تصرف أمني ضروري.
5-التعريض والتورية: عندما سأل سيدنا عمر عن الصوت غير المفهوم، كانت الإجابة بعبارة تحمل في ظاهرها خلاف ما يريده قائلوها، وهذا نوع من التورية، فهم لم ينكروا أن هناك صوتًا، بل اعترفوا بأنه حديث دار بينهم، وهو حس أمني عال لسعيد وفاطمة، فعادة الحديث الذي يدور بين اثنين يكون بصوت منخفض، لا يميزه من يكون على مقربة منهم، لذا يمكن أن يوصف بالهينمة. فهم لم ينكروا، وإلا لتأكد لعمر أنهم يكذبون ويخفون عنه الحقيقة، وذلك لسماعه الصوت، لكنهم اعترفوا دون أن يصرحوا بما في أنفسهم، وهو نوع من التعريض، المطلوب في مثل هذا الموقف.
6-استثمار الفرصة لكسب العدو: يظهر ذلك عندما طلب سيدنا عمر من فاطمة أن تعطيه الصحيفة، فاستغلت فاطمة الفرصة السانحة، فطلبت منه أن يغتسل، ففعل، ثم قرأ، فخشع قلبه، وهنا خرج سيدنا خباب بعد أن سمع ثناء سيدنا عمر على القرآن، فاستغل ذلك الموقف، فقال: أبشر يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: (اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي الحكم بن هشام)، فالله الله يا عمر(السيرة الحلبية، ج1، ص: 36). من ذلك يتضح مدى اليقظة التي كان يتمتع بها كل من خباب وفاطمة، والقدرة على اغتنام الفرص، لكسب العدو، وكان نتاج ذلك أن أسلم سيدنا عمر - رضي الله عنه -.
الحس والحذر لدى "علي" و"أبي ذَرٍّ"، رضي الله عنهما
- قدم أبو ذر الغفاري إلى مكة باحثًا عن الدين الجديد، الذي ظهر بها، وكان ينوي مقابلة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، فاستضافه سيدنا علي ثلاث ليال، قال له بعدها: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ فأجابه أبو ذر بقوله: إن كتمت عليّ أخبرتك. وفي رواية: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا أن ترشدني أخبرك، قال: فإني أفعل، قال: بلغنا أنه خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبي الله، فأرسلت أخي يكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. فقال علي: أما إنك قد رشدت، وهذا وجهي إليه، أدخل حيث أدخل، فإن رأيت أحدًا أخافه عليك قمت إلى الحائط، كأني أصلح نعلي، وفي رواية: كأني أريق الماء، فامض أنت، فسار علي وأبو ذر خلفه، حتى دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم -(البخاري، قصة إسلام أبي ذر، ج1، 545). يتبين مما سبق عدة جوانب هامة، من أبرزها:
1- التأني والتريث في الحصول على المعلومة: لقد تأنى سيدنا أبو ذر الغفاري في السؤال عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لما يعرفه من كراهية قريش لكل من يخاطب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا التأني تصرف أمني تقتضيه حساسية الموقف. فلو سأل عنه، لعلمت به قريش، وبالتالي قد يناله من العذاب الشيء الكثير أو يطرد، ويخسر بالتالي مهمته، التي من أجلها حضر، وتحمل في سبيلها مصاعب ومشاق السفر.
2-الاحتياط والحذر قبل النطق بالمعلومة: حين سأل سيدنا عليُّ أبا ذر عن أمره، وسبب مجيئه إلى مكة، لم يخبره، بالرغم من أنه استضافه ثلاثة أيام، إمعانًا في الحذر، فاشترط عليه قبل أن يخبره أن يكتم عنه، وفي ذات الوقت أن يرشده، فهذا غاية في الاحتياط، وبذا يكون قد ضمن السرية والكتمان لأمره، وفي الوقت ذاته الحصول على المعلومة، التي يبحث عنها، وهذا ما تم بالفعل.
3-التغطية الأمنية للتحرك: تم الاتفاق بين عليٍّ وأبي ذر على إشارة، أو حركة معينة، كأنه يصلح نعله، أو كأنه يريق الماء، وذلك عندما يرى سيدنا علي من يترصدهم، أو يراقبهم، فهذه تغطية أمنية لتحركهم تجاه المقر (دار الأرقم)، هذا إلى جانب أن أبا ذر كان يسير على مسافة من علي، فيُعد هذا الموقف احتياطًا، وتحسبًا لكل طارئ، قد يحدث أثناء التحرك. يالها من براعة ودراية وتفوق من الصحابة - رضي الله عنهم - في الجوانب الأمنية، بينما نجد في المقابل أن الحس الأمني لدى الكفار كان ضعيفًا.
ضعف الحس الأمني لدي كفار قريش
- لقد كان الفشل حليف كفار قريش في عدة مواقف منها: عدم معرفة المقر الخاص (دار الأرقم) للمسلمين، فلو كانت المراقبة اللصيقة متوفرة، لأمكن معرفة الدار. وكذلك عدم معرفتهم، لكثير من الذين دخلوا في الإسلام حتى من قبل أقربائهم، فسيدنا عمر - رضي الله عنه -، لم يكن يعلم بإسلام أخته وابن عمه. فهذا دليل أيضًا على عدم المراقبة اللصيقة حتى لأقرب الأقربين.
- لم ينتبه سيدنا عمر لأمر نعيم بن عبد الله - رضي الله عنهما - عندما أخذ منه المعلومة، ثم صرفه عن هدفه.. وكذلك والدة سيدنا أبي بكر - رضي الله عنهما -، لم يكن لديها الحس، الذي يمكنها من التعرف على أن أم جميل مسلمة، وتعلم بمكان النبي - صلى الله عليه وسلم - (البداية والنهاية لابن كثير، ج3، ص: 29).
- لم تكن رقابة الكفار إلى الوافدين لمكة وتحركاتهم متوفرة في تلك الفترة، فسيدنا أبا ذر - رضي الله عنه - جاء وجلس ثلاث ليال في الحرم، يبحث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - (البخاري، قصة إسلام أبي ذر، ج1، 544-545)، حتى أخذه سيدنا "علي" معه إلى منزله واستضافه عنده، حني وصل للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
وثمة سؤال يُطرح: ما دام أهل مكة لا يهتمون بالجوانب الأمنية، فمن أين اكتسب الصحابة - رضي الله عنهم - هذه الجوانب، وما هم سوى أفراد من ذلك المجتمع المكي؟ .
لعل الإجابة تكمن في أن هذا الجانب، كان من ضمن ما يتلقونه ويتأسون به من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ربما يعلل اختلاف التصرفات للصحابة بعد الإسلام. ومما يؤكد تلقي الصحابة لهذه التربية الأمنية من النبي - صلى الله عليه وسلم -، الأحاديث التي تؤيد ذلك ومنها: (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) (السيوطي في الجامع الكبير).
جوانب الحماية للدعوة إبان الفترة الجهرية
- ثمة فوارق كبيرة في الوضع الأمني بين الفترتين، السرية والجهرية. إنه انتقال الدعوة من السرية إلى العلنية، من الاختفاء إلى الظهور، من القلة إلى الكثرة الخ. ولعل شعار هذه المرحلة: الاستعداد لكل الاحتمالات، التي يمكن أن تحدث، والاجتهاد في وضع الحلول المناسبة لها في حال وقوعها، والتحسب لكل الاحتمالات.
- في هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعامله مع هذه المرحلة عظات وعبر. فقد أعد -صلى الله عليه وسلم- العدة، وأهتم بالعدد، ووضع المناهج، وأعد الكوادر، وتحسب لكل الاحتمالات.
مقاومة وإحباط أساليب قريش العدوانية
- للحيلولة دون دخول الناس في الإسلام، والقضاء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته.. استخدمت قريش عدة أساليب عدوانية في هذه المرحلة العلنية. فقد استخدمت أسلوب الحرب النفسية، ولجأت إلى الاضطهاد، ثم اعتمدت أسلوب المفاوضات، المباشرة وغير المباشرة، ثم ضربت حصارًا صارمًا على المسلمين ففشلت.
الحرب النفسية ومقاومة المسلمين لها
- في كل زمان ومكان.. تُعد الحرب النفسية ومن يقف خلفها من أخطر أنواع الحروب، التي تواجه العقائد والحركات الإصلاحية. فهي تستهدف الأفكار، والتعاليم الناشئة، وتلجأ إلى التشويش عليهما لتحول بينها وبين الوصول إلى العقول، والرسوخ في القلوب. كما تبذر بذور الفرقة والانقسام، وتعمل في الظلام، وتطعن من الخلف، وتخلق الأقاويل والإشاعات، وتنشر الإرهاب، وتتبع وسائل الترغيب والترهيب، مما يجعل هذه الحرب أشد خطورة من المواجهة العسكرية في ميادين القتال(علي حسني الخربوطي: الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والحرب النفسية، ص: 2، مكتبة الأنجلو المصرية).
- كانت الحرب النفسية وإثارة الإشاعات، أول أسلوب جابهت به قريش الدعوة في مرحلتها الجهرية. فقد اجتمعت قيادة قريش، لتتفق حول كلمة (واحدة) يقولونها عن الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - للعرب في موسم الحج، فقال الوليد: (فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولُكم بعضُه بعضًا). فخرجوا بأن يقولوا: "(ساحر)، جاء بقول هو سحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته"(السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص: 271). إشاعة مُحكمة (غير متعددة الكلمات) عن قائد الدعوة ووصفه بالسحر، وفي موسم الحج، مما يجعل هذه الإشاعة تنتشر في جميع أصقاع الجزيرة العربية عن طريق وفود الحجيج.. حتى إن الرجل يأتيه صاحبه من مصر أو اليمن، فيأتيه قومه أو ذوو رَحِمِه، فيقولون له: (احذر فتى قريش لا يفتنك) (دلائل النبوة للبيهقي، ج2، ص: 442).
- أقدموا على السخرية، والتحقير، والاستهزاء، والضحك، قصدوا من ذلك تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا صاحب الدعوة - صلى الله عليه وسلم - (بالجنون) (فتح الباري لابن حجر، ج1، ص: 32، الطبعة السلفية)، (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) (الحجر: 6).
- عندما سأل هرقل أبا سفيان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل جربتم عليه الكذب؟ قال: لا. فقال هرقل: ما كان يدع الكذب على الناس ويكذب على الله"، (ابن الجوزي: الوفاء بأحوال المصطفي، ج2، 447، وكذلك د. احمد نوفل: الإشاعة، ص: 33، دار الفرقان، الأردن). هم يوقنون في قرارة أنفسهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أصدق الناس، وأبرهم. ومع ذلك أشاعت قريش أنه (كاذب).
- كانوا يضحكون من المؤمنين، ويسخرون منهم، ويغمز بعضهم بعضًا عند مرورهم بين أيديهم، قال - تعالى -: (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون * وما أرسلوا عليهم حافظين) (المطففين: 2933).
- كثفت قريش من أساليب الحرب النفسية، ما تمثل في تشويه تعاليم الإسلام، وبخاصة القرآن الكريم (وهو المصدر الأول من مصادر الإسلام التشريعية، فأي شبهة حوله ربما نتج عنها شك في الإسلام كله)، بحيث لا يبقى للعامة مجال في تدبر القرآن، فنسبوا ما جاء فيه إلى أساطير وأكاذيب الأولين، التي تملى على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - صباح مساء: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) (الفرقان: 5).. كما زعموا أن القرآن مفترى من قِبَل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأعانه عليه قوم آخرون: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون) (الفرقان: 4). وكانوا يقولون: (إنما يعلمه بشر) (النحل: 103). يحاولون هم وغيرهم في عصرنا الراهن إرجاع القرآن إلى مصدر (بشري) لا إلهي، قال السيوطي فيما رواه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم قينًا بمكة اسمه (بلعام) وكان أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل ويخرج من عنده، فقالوا إنما يعلمه (بلعام) (لباب النقول في أسباب النزول للسيويط، هامش تفسير الجلالين، ص: 505، دار المعرفة، بيرو ت).
-قاموا بالصياح، واللغط أثناء قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن، عَلَّه يسكت عنها، أو يحولون بين سماع الناس له، قال - تعالى -: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) (فصلت: 26).
- ذهب "النضر بن الحارث" إلى الحيرة، ليتعلم أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم، واسفنديار، من أجل أن يعارض القرآن. غكان إذا جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسًا للتذكير بالله تعالي، خلفه النضر قائلاً: والله ما محمد بأحسن حديثًا مني، ثم يحدثهم عن ملوك فارس، ورستم، واسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟ (سيرة ابن هشام، ج1، ص: 299).
- كانت حادثة الإسراء والمعراج، من أكبر الحوادث، التي استغلتها قريش في شن حرب نفسية على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته. فبعد عودته من تلك الرحلة، جلس في الحرم ينوي إخبار قريش بالأمر، فمر به أبو جهل، فقال له: هل من خبر؟ فقال: (( نعم، قال: وما هو؟ فقال: إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس، قال: إلى بيت المقدس؟ فقال: نعم، قال أبو جهل: هيا معشر قريش، -وقد اجتمعوا من أنديتهم- فقال: أخبر قومك بما أخبرتني به، فقص عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى، وأنه جاء بيت المقدس وصلى فيه، فإذا بالقوم بين مصفق ومصفر، تكذيبًا له، واستبعادًا لخبره، وطار الخبر بمكة، وارتد ناس ممن كان آمن به من ضعاف القلوب، وسعى رجال إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، فقال قولته المشهورة: إن كان قال ذلك فقد صدق)) (ابن كثير: البداية والنهاية، ج3، ص: 111). لقد تحصلت قريش من الحادثة علي ارتداد بعض ضعاف الإيمان. لكنها لم تكتف بذلك، بل حاولت استغلالها لإحداث فُرقة بين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصديقه أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، ولكنها باءت بالفشل.
- لولا الحس الأمني العالي لدى النبي - صلى الله عليه وسلم-، لكانت تلك الحادثة سببًا في ارتداد كثير من الناس، وذلك بتقديمه لأدلة قاطعة على رحلته تلك. فذكر مكان عير لقريش، حينما ند عنهم بعير، وكذلك شرب من إناء مغطى، فشرب كل ما فيه وتركه مغطى، وقد حدد لقريش مكان وزمان فعله هذا، حين دلهم على اسم الوادي الذي دل فيه العير على البعير، والمكان الذي شرب فيه الماء(سيرة ابن هشام، ج1، ص: 402). جاءت العير فأثبتت صدق ما قاله المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. فتثبت المؤمنون، وبطلت دعاية قريش، ومحولتها الفاشلة خلخلة أسس الدعوة.
القرآن بلسم شافي يواجه أساليب قريش في الحرب النفسية.
- عندما لجأت قيادة قريش إلى أسلوب السخرية والاستهزاء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه، جاءت آيات القرآن مواسية لهم، وسلوي للرسول الأكرم، وأوضحت مصير الساخرين والمستهزئين، وأن الغلبة للحق وأهله، قال - تعالى -: (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون) (الأنعام: 10)، فهذه الآية بينت أن هذا الأسلوب استخدم مع سالف الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وفي ذلك سلوى للرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه. ثم وضحت، وفي ذلك إعطاء أمل للمسلمين ليصبرون، ويتحملون. وفي ذات الوقت تهديد ووعيد للكفار، الأمر الذي ربما يكون له أثره النفسي عليهم.
- رد القرآن الكريم على شبهة الكفار، التي زعموا فيها أن الذي علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن بَشَر، فقال - تعالى -: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (النحل: 103)، ففند تلك الشبهة بصورة قاطعة، حيث بيّن أن(بلعام) أعجمي اللسان، بينما القرآن عربي اللسان، فأُسقط في أيدي الكفار.
يتبع
ناصر أحمد سنه
لا يظنُ ظانٌ أن الإسلام قبل وأثناء وبعد إنشاء الدولة، والإسلام دين ودولة، دعوة وسلطان، شعائر وشرائع، عبادات ومعاملات الخ، قد أقامها خبط عشواء، حشاه. لقد كان المسلمون الأوائل الأفذاذ قد نهلوا من قرآن ربهم، وهداية رسولهم. لقد تربوا علي: كيف يعدون لكل شيء عُدته؟، وكيف يأخذون بالأسباب ثم يتوكلون علي رب الأسباب؟، وكيف يتحسبون لكل حدث وحديث؟، وكيف وأين يضعون أقدامهم، ويحددون وجهتهم؟، وكيف يمزجون بين التحلي بإيمانهم وشجاعتهم مع تبصرهم وحذرهم وحيطتهم؟، وكيف يحسنون اختيار مَن تقدم لهم الدعوة أولاً؟، وما هي الأساليب التي يتم التعامل بها مع المستجيبين؟ وكيف يتم إبلاغ الدعوة إلى العامة؟ وكيف ينجزون مهمتهم، ويقومون نتائجهم، ويعدلون خطتهم؟. وهل تخرج قواعد وأصول الفنون الإدارية والسياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية الحديثة عن تلك؟. والسطور القادمة تشير علي عجالة وبإيجاز لإعجاز الهداية النبوية، وتربيتها الصحابة علي الوعي والدراية بالجوانب الأمنية الوقائية (من بدء الدعوة، وحتى الهجرة النبوية الشريفة).
الوعي والدراية بالجوانب الأمنية الوقائية..استجاب ة لضرورة واقعية ودعوية.
-لقد اقتضت سنة الله في خلقه التدافع بين أهل الحق، وأهل الباطل، وبين أصحاب الرسالات والدعوات، وأهل الغي والضلالات.
فمرحلة البدء تتميز بتحلي أهل الحق والدعوة بالحيطة والحذر والتكتم، ذلك لأن أهل الباطل خشية علي مصالحهم وأهوائهم وأفكارهم الباطلة سيقفون لهم بالمرصاد، وسيحاولون القضاء على المعتقدات وأصحابها، والأفكار الجديدة وأهلها، وهم لما يشتد عودهم، ولم يكثر أتباعُهم بعد (راجع د. إبراهيم علي محمد أحمد: في السيرة النبوية.. قراءة لجوانب الحذر والحماية، كتاب الأمة، العدد: 54، رجب 1417ه).
- بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوته سرًا، وكان دقيقًا في كل خطواته، وحذرًا يقظًا في كل تعاملاته، وبهذا التخطيط والتنظيم استطاع أن ينتصر على جميع أعداء الإسلام.
- المتتبع لسيرته - صلى الله عليه وسلم - يجد أن جانب الحذر والتحوط واضحًا بادياً طوال المرحلة الأولي من بدء الدعوة الإسلامية. و(لا ريب أن تكتم النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته خلال السنوات الأولى، لم يكن بسبب خوفه على نفسه، فهو حينما كُلِّف بالدعوة ونزل عليه قوله - تعالى -: (يا أيها المدثر)، علم أنه رسول الله إلى الناس، وبذا كان يؤمن بأن الإله الذي ابتعثه وكلّفه قادر على أن يحميه ويعصمه من الناس. لكن الله - عز وجل - ألهمه، ،والإلهام للرسول وحي، أن يبدأ الدعوة في فترتها الأولى بسرية وتكتم، وأن لا يلقي بها إلا إلى مَن يغلب على ظنه أنه سيصغي لها، ويؤمن بها، تعليمًا وإرشادًا لمن بعده إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل التي ينبغي أن تتخذ من أجل الوصول إلى غايات الدعوة وأهدافها. (د. محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة، دار الفكر، ط 2، 1400ه، ص 94).
مراعاة الجوانب الأمنية الوقائية في بدء الدعوة الإسلامية
-كان - صلى الله عليه وسلم - يجيد اختيار من يدعوهم (نوعاً وأهلية)، متحرياًً الدقة المتناهية، والحيطة. ذلك لأن أولئك المستجيبين للدعوة آنذاك، هم الذين تقع عليهم أعباؤها ومسؤولياتها، فلابد أن يكونوا من خيار المجتمع.. صدقًا، واعتدالاً، ومروءة، ونخوة، واستقامة، ليكونوا أهلاً للقيام بتبليغ الدعوة، وتحمل تبعاتها بكل تجرد وإخلاص لله تعالي.
- وكان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن أي خلل في التصرف، أو تسرب معلومة، يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية من شأنها التأثير على مستقبل الدعوة. إن أول من دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -: زوجه السيدة خديجة، وعليّ بن أبي طالب، ومولاه زيد بن حارثة، وحاضنته أم أيمن(البخاري، باب بدء الوحي، ج1، ص: 2-3)، - رضي الله عنهم - أجمعين.. والمتأمل في هؤلاء النفر الكريم، يجدهم تضمهم أسرة واحدة، هي أسرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هم أقرب الناس إليه، وأعرفهم به، وبصدقه، وإخلاصه، وحسن سيرته، لعشرتهم له، وهذا مما يجعلهم يؤمنون عن اقتناع ويقين، وهو ما حدث فعلاً.. وهذا النوع من الإيمان هو ما تتطلبه المرحلة، فهؤلاء يكتمون السر ولا يفشونه، ويساعدونه في تحمل أعباء الدعوة، ويخففون عنه وطأة معاناتها، ولا يثقلون كاهله بأعباء ثانوية.
- ومما يدلل علي حسن الاختيار ذلك الموقف الباهر للسيدة خديجة عند بداية نزول الوحي علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي... لقد خَشِيتُ على نفسي))، كان ردها - رضي الله عنها -: "كلا، والله ما يُخْزِيكَ اللهُ أبدًا، إنك لَتَصِلُ الرَّحِم، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نوائبِ الحق" (ابن هشام: السيرة النبوية، ج1، ص: 238).. ولم تكتف بذلك، بل انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، الذي طمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهدأ من روعه، وأخبره بأن الذي يأتيه هو الناموس الذي كان ينزل على موسى: (الطبقات الكبرى، لابن سعد، ج1، ص: 142).. موقف أعان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزاده ثقة أن ما يأتيه حق، فمضي في طريقه بعزم وحزم.. فضلاً عن مواساتها - رضي الله عنها - للرسول، بمالها وجاهها. وأما زيد فقد خرج معه إلى الطائف، وكان رفيقه، ومؤازره في تلك الرحلة، وكان يقيه بنفسه من حجارة الصبية والسفهاء
(البداية والنهاية لابن كثير ج 3، ص: 174) أما علي فقد نام على فراشه عند الهجرة، وهو "عمل فدائي" عمِّي على قريش، وخدعهم أيما خدعة.
- هذا النفر الكريم كانوا أول نواة للدعوة، (مما حقق تأمين جبهته الأسرية الداخلية، فلا أحد سيسرب معلومات عن تحركات، ولقاءات من يترددون عليه، وقد يكون البيت موضع الوثائق الخاصة بالدعوة) مما ساعد على الانطلاق من البيت إلى خارجه، وفوت على الأعداء سلاح كان يمكن أن يستخدموه ضده، عندما يعرض الدعوة عليهم، فيقولوا له مثلاً: اذهب وقوّم بيتك أولاً، ثم ائتنا ثانيًا!
وكانت هدايته الباهرة في اختيار دار الأرقم
- وقع اختيار الرسول - صلى الله عليه وسلم - على دار الأرقم، لتكون مقرًا غير معلن للمستجيبين من المؤمنين (ما يربو على الثلاثين.. لزمهم تعلم أمور دينهم، ولقائهم بنبيهم الخ)، وذلك لتفردها بعدة صفات، وميزات منها:
1- اختار الرسول - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم ابن أبي الأرقم، لوقوعها بمعزل أسفل جبل الصفا، وكانت غير مكشوفة لأعين الطغاة ومجالسهم ومراقبتهم (السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص: 253)، وهي محاطة بالسرية، ولا تحتاج عملية الوصول إليها، أو الخروج منها، إلى كبير عناء، أو احتياطات معقّدة، مع صعوبة رصد ومراقبة القادمين إليها والخارجين منها.
2- ليس بالدار موضع قد يستغله أعداء الدعوة، فيطلعوا من خلاله على ما يدور بداخلها، وهذا مما يجعل ما بداخلها بعيدًا عن أعين الأعداء.. يضاف إلى ذلك، أن صاحبها الصحابي (الأرقم)، لا يمكن أن يبوح بسر إعطائه هذه الدار للمؤمنين، هذا بخلاف ما إذا كانت الدار لكافر.
3- لم يكن الأرقم معروفًا بإسلامه، ولم يعلنه بعد، فما كان يخطر ببال قريش أن يتم لقاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بداره. فضلاً عن أنه كان فتى عند إسلامه (في حدود 16 من العمر). ولا يتوقع أن تبحث قريش في بيوت الفتيان من أصحاب الرسول، بل يتجه تفكيرها إلى كبار الصحابة - رضي الله عنهم -. هذا إلى جانب أن الأرقم من بني مخزوم، التي كانت تحمل لواء الحرب ضد بني هاشم، فلو كان الأرقم معروفًا بإسلامه، لصعب أن يكون اللقاء في داره، لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو(منير محمد الغضبان: المنهج الحركي للسيرة النبوية، مكتبة المنار، ط 6، ص49).
4- لم يرد أن قريشًا داهمت ذات يوم هذا "المقر السري"، بل أقصى ما توصلت إليه هو شكها أن يكون اللقاء في دارٍ عند الصفا. ومما يدل على ذلك، أن قياديًا مثل "عمر بن الخطاب"، - رضي الله عنه -، عندما أراد إعلان إسلامه، لم يعرف مكان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كانت تلك الدار معلومة لدى قريش، لما سأل عنها، بل لذهب إليها مباشرة.. وهذا يظهر مدى حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على إخفاء خبر هذه الدار، فلم يبوحوا بها إلى أحد سوى المسلمين فقط.
5 كانت براعة عملية تنظيم الدخول والخروج (وهي تعد من أخطر الجوانب الأمنية، التي يؤدي إغفالها إلى كشف ومعرفة المقر) قد ساعدت على الاحتفاظ بسرية المقر. وهذه الدقة البارعة، تتبدي من خلال موقفين: الأول، لسيدنا "علي" مع سيدنا "أبي ذر"، - رضي الله عنهما -. فعندما أراد سيدنا عليّ أخذ سيدنا أبي ذر إلى دار الأرقم، لمقابلة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، اتفق معه على مصطلح معين في حالة وجود مراقبة، أو متابعة من قِبَل الأعداء، فقال له: (إن رأيت أحدًا أخافه عليك، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي)، وفي لفظ: (كأني أريق الماء، فامض أنت) (ابن الجوزي: تاريخ عمر بن الخطاب، مطبعة التوفيق، مصر، ص: 10). بذا يتجلى الاهتمام بعملية الذهاب إلى المقر، فهو يدل على أن عليًا بن أبي طالب، - رضي الله عنه -، كان يراقب الأعداء أثناء ذهابه، فإذا رأى من يراقبه غيَّر وجهته، وأمر أبا ذر هنا أن يغير وجهته، بقوله: (فامض أنت). أما الموقف الثاني، فلأم جميل مع سيدنا أبي بكر - رضي الله عنهما -. فعندما أخذت أم جميل وأم الخير سيدنا أبا بكر - رضي الله عنه -، إلى دار الأرقم، قال ابن كثير: (فأمهلتا أي أم جميل وأم الخير حتى إذا هدأت الرِّجْلُ، وسكن الناس، خرجتا به، يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)(ابن كثير، البداية والنهاية، ج3، ص: 30)..
6- ومن جوانب الحماية التي روعيت في دار الأرقم، تصميم الباب الذي ترك فيه شقوق / فتحات (عين سحرية) يمكن من خلالها مشاهدة مَن بالخارج، ومعرفة هويته، ومن ثم يتم التصرف، وفقًا لذلك. يظهر لنا ذلك في قصة إسلام سيدنا عمر - رضي الله عنه -، حين طرق الباب، فقبل أن يُفتح له، نظر أحد الصحابة من خلل الباب، فتأكد من هوية الطارق، بأنه عمر، جاء متقلدًا سيفه فأخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3،، ص: 86، دار بيروت للطباعة).
7- التصرف السليم إبان حالات الطوارئ، ضروري وهام، ومكملاً للالتزام بالمنهج الأمني، فما قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - تجاه سيدنا عمر، حينما دخل دار الأرقم، يعد تصرفًا مهمًا ودقيقًا.. فأخذ بمجامع ثوب عمر، وحمائل سيفه، وقال له: (( ما أنت بمنته يا عمر، حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزله الله بالوليد؟)) (علي برهان الدين: السيرة الحلبية، المطبعة الزهرية، 1320ه، ج1، ص: 36). فمنعه -صلى الله عليه وسلم- من استخدام سلاحه، وسهل ردعه وترهيبه.
مراعاة الجوانب الأمنية الوقائية عبر تكوين مجموعات دعوية صغيرة
- قام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإنشاء ما يعرف بالمجموعات الصغيرة (ثلاثة أو خمسة أشخاص). ذلك لأن فترة بدء الدعوة تستلزم قلة الاجتماعات والمجتمعين.. حفاظًا عليهم وحماية لدعوتهم، ومنعًا لتسرب المعلومات، ومما يجعل ترتيب اللقاء أمرًا ميسورًا، وذلك لسهولة الحصول على المقر، كذلك فإن هذا العدد الصغير ليس ملفتًا للنظر، ولا مثيرًا للشبهات.
- تلكم المجموعات الصغيرة غايتها: تلقي تعاليم ومناهج الدعوة وممارسة شعائرها، وتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع المسلم. ولقد لجأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى إرسال بعض الدعاة إلى الأسر المؤمنة ليعلموهم القرآن الكريم، وينقلوا إليهم أخبار وتوجيهات الرسول - صلى الله عليه وسلم -.. يتضح ذلك فيما رواه ابن إسحاق عن قصة إسلام عمر في حديث طويل جاء فيه: " فرجع عمر عامدًا إلى أخته وخَتَنِه، وعندهما خباب بن الأَرَت، معه صحيفة فيها مطلع سورة طه يُقرئهما إياها.. " (ابن الأثير: الكامل في التاريخ: ج2، ص: 15، بيروت). فهذه المجموعة تتكون من ثلاثة أشخاص يقوم فيها سيدنا خباب بتعليم سعيد وزوجته فاطمة - رضي الله عنهم - القرآن.
- إن أداء الصلاة جماعة في مكان عام واحد باستمرار، وانتظام، ملفت للانتباه في هذه المرحلة الأولية، مما قد يؤدي إلى كشف الجماعة المسلمة، وتفاديًا لذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه يؤدون الصلاة في شكل جماعات صغيرة متفرقة، قال ابن إسحاق: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى شِعاب مكة وخرج معه عليُّ بن أبي طالب وفي رواية زوجه خديجة مستخفيًا من أبيه أبي طالب، ومن جميع أعمامه، وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها) (سيرة ابن هشام، ج1، ص: 246). فهذه جماعة من جماعات الدعوة، تضم قائدها، وابن عمه، وزوجه لتأدية شعيرة الصلاة. (وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم). وقال ابن إسحاق: (فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤدون الصلاة.. ) (سيرة ابن هشام، ج1، ص: 282). .
- أورد صاحب السيرة الحلبية في قصة إسلام سيدنا عمر - رضي الله عنه -، التي رواها سيدنا عمر بنفسه حيث قال: (.. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما، عند رجل به قوة يكونان معه، يصيبان من طعامه) (علي برهان الدين: السيرة الحلبية، المطبعة الزهرية، ج1، ص358). ولا غرابة أن يوزع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقراء المسلمين على هذه المجموعات، وهو عمل تقتضيه ظروف المرحلة، كي لا يكون الفقر سببًا وعائقًا يحول دون دخول الناس في الإسلام، وتسد هذه الثغرة أمام الأعداء، حتى لا يستغلوا فقر المسلمين.
الجوانب الأمنية الوقائية لدي الصحابة الأبرار
- الحس الأمني لابد منه لكل فرد من أفراد الأمة، في كل أمر من أمور حياته، الخاصة منها والعامة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كلَّ ذي نعمةٍ محسود)) (السيوطي في الجامع الكبير)، فإذا كان الكتمان في الحوائج الشخصية المادية مطلوب، مأمور به، ففي الحوائج العامة المتعلقة بمصير الأمة هو من باب أولى.
الحس والحذر لدى أم جميل رضي الله عنها
-عندما أراد سيدنا أبو بكر - رضي الله عنه - الحصول على المعلومة الخاصة بمكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - عقب الأذى الجسيم الذي تعرض هو له من قِبل أعداء الدعوة، طلب من والدته أم الخير، الذهاب إلى أم جميل، لمعرفة مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها: (فخرجت أمُّ الخير حتى جاءت أمَّ جميل، فقالت: إنّ أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟ فقالت أم جميل: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت. قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا(ثقيل المرض يُشرف علي الموت). فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. قال: فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: هذه أمك تسمع. قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح. قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإن لله عليّ ألا أذوق طعامًا ولا شرابًا، أو آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. فأمهلتا، حتى إذا هدأت الرِّجْل، وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).
موقف يتسم بوضوح الحس الأمني لأم جميل، الذي برز في عدة تصرفات، من أهمها:
1- إخفاء الشخصية والمعلومة عن طريق الإنكار: عندما سألت أمُّ الخير أمَّ جميل، عن مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أنكرت أنها تعرف أبا بكر ومحمد بن عبد الله.. فهذا تصرف حذر سليم. إذ لم تكن أم الخير وقتئذ مسلمة، وأم جميل كانت تخفي إسلامها، ولا تود أن تعلم به أم الخير.. وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخافة أن تكون عينًا لقريش.
2- استغلال الموقف لإيصال المعلومة: فأم جميل أرادت أن تقوم بإيصال المعلومة بنفسها لسيدنا أبي بكر - رضي الله عنه -، وفي ذات الوقت لم تظهر ذلك لأم الخير، إمعانًا في السرية والكتمان، فاستثمرت الموقف لصالحها، قائلة: (إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت). وقد عرضت عليها هذا الطلب بطريقة تنم عن الذكاء وحسن التصرف، فقولها: (إن كنت تحبين) وهي أمه، وقولها: (إلى ابنك)، ولم تقل لها إلى أبي بكر، كل ذلك يحرك في أم الخير عاطفة الأمومة، فغالبًا ما ترضخ لهذا الطلب، وهذا ما تم بالفعل، حيث أجابتها بقولها: (نعم). وبالتالي نجحت أم جميل في إيصال المعلومة بنفسها.
3- استثمار الموقف في كسب عطف العدو: يبدو أن أم جميل حاولت أن تكسب عطف أم الخير، فاستثمرت وضع سيدنا أبي بكر - رضي الله عنه -، الذي يظهر فيه صريعًا دنفًا، فأعلنت بالصياح، وسبت من قام بهذا الفعل: (إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر). فلا شك أن هذا الموقف من أم جميل يشفي بعض غليل أم الخير، من الذين فعلوا ذلك بابنها، فقد تُكِنّ شيئًا من الحب لأم جميل، وبهذا تكون أم جميل كسبت عطف أم الخير، وثقتها، الأمر الذي يسهل مهمة أم جميل في إيصال المعلومة إلى سيدنا أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -.
4-الاحتياط والتأني قبل النطق بالمعلومة: لقد كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر من أن تتسرب هذه المعلومة الخطيرة، عن مكان قائد الدعوة، فهي لم تطمئن بعد إلى أم الخير، لأنها مازالت مشركة آنذاك، وبالتالي لم تأمن جانبها، لذا ترددت عندما سألها سيدنا أبو بكر عن حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت له: هذه أمك تسمع؟ فقال لها: لا شيء عليك منها. فأخبرته ساعتها بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سالم صالح، وزيادة في الحيطة، والحذر، والتكتم، لم تخبره بمكانه إلا بعد أن سألها عنه قائلاً: أين هو؟ فأجابته: في دار الأرقم.
5- تخيّر الوقت المناسب لتنفيذ المهمة: حين طلب سيدنا أبو بكر - رضي الله عنه - الذهاب إلى دار الأرقم، لم تستجب له أم جميل على الفور، بل تأخرت عن الاستجابة، حتى إذا هدأت الرِّجْل وسكن الناس، خرجت به ومعها أمه يتكئ عليهما. فهذا هو أنسب وقت للتحرك وتنفيذ هذه المهمة، حيث تنعدم الرقابة من قبل أعداء الدعوة، مما يقلل من فرص كشفها، وقد نفذت المهمة بالفعل دون أن يشعر بها الأعداء، حتى دخلت أم جميل وأم الخير بصحبة أبي بكر إلى دار الأرقم، وهذا يؤكد أن الوقت المختار كان أنسب الأوقات.
الجانب الأمني الوقائي لدى نعيم بن عبد الله رضي الله عنه
-حين خرج سيدنا عمر متوشحًا سيفه، لقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمدًا هذا الصابئ، الذي فرّق أمر قريش، سفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها فأقتله. قال له نعيم: والله قد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: خَتَنك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمدًا على دينه(سيرة ابن هشام ح1، ص: 344). فبالإمكان الخروج بالملاحظات الآتية:
1- إخفاء الشخصية عن العدو: لم يكن سيدنا عمر - رضي الله عنه - يعلم بإسلام نعيم، لأنه كان يخفي إسلامه(سيرة ابن هشام ح1، ص: 343)، فحسبه سيدنا عمر مشركًا، مما سهل مهمة نعيم.. وإمعانًا في إخفاء الشخصية، قال سيدنا نعيم: محمدًا ولم يقل رسول الله، مع العلم أن الصحابة لا ينادون الرسول - صلى الله عليه وسلم - باسمه، وإنما يقولون رسول الله، ونبي الله، ولكن المقام هنا يتطلب من نعيم أن يقول محمدًا، كي يطمئن له عمر، أكثر ويحدثه بما ينوي عمله، وهذا ما تم فعلاً.
2-الحصول على المعلومة: استوقف(أمنياً ووقائياً) سيدنا نعيم سيدنا عمر لما رآه متوشحًا سيفه استوقفه، وسأله عن وجهته بقوله: أين تريد يا عمر؟ فحصل سيدنا نعيم من ثمّ على معلومة في غاية الخطورة، تتمثل في نية عمر قتل قائد الدعوة. فهذا تصرف في غاية الحكمة والذكاء، إذ استطاع سيدنا نعيم الحصول على هذه المعلومة التي جعلته يتخذ أساليب أمنية دقيقة وعاجلة.
3- درء خطر العدو وصرفه عن هدفه: بعد أن علم نعيم نية عمر - رضي الله عنهما -، عمل على درء هذا الخطر، فاستخدم معه أسلوب الترهيب، حيث هدده، إن هو أقدم على قتل محمد، فإنه سوف يُقتل هو أيضًا من قِبل بني عبد مناف، ولم يكتف سيدنا نعيم بذلك، بل أخبره بأمر لم يستطع سيدنا عمر معه صبرًا، وذلك حين أخبره بإسلام ابن عمه وأخته، فغيَّر عمر - رضي الله عنه - وجهته مباشرة، وبدل أن يتجه لقتل محمد - صلى الله عليه وسلم - اتجه نحو بيت أخته. وبذلك يكون سيدنا نعيم - رضي الله عنه - قد نجح فعلاً في درء خطر العدو، وهذا تصرف في غاية الدقة والإحكام.
4- التضحية بأفراد من أجل المصلحة العامة: لا شك أن معرفة سيدنا عمر وعلمه بإسلام أخته وابن عمه يشكل خطورة كبيرة عليهما، ولكن إذا قورنت بخطورة قتل قائد الدعوة، كانت أخف وأقل، لذا حاول سيدنا نعيم أن يضحي بأفراد من أجل المصلحة العامة، فإذا لحق ضرر بسعيد وفاطمة فهو أخف وأهون بكثير مما يمكن أن يلحق بقائد الدعوة. هذا إلى جانب أن سيدنا نعيم راعى الناحية العاطفية التي تربط بين عمر وابن عمه وأخته، فهي يمكن أن تخفف من شدة الغضب لدى سيدنا عمر، وبالتالي تخف وطأة العقاب على سعيد وفاطمة، وهذا ما تحقق، فعندما رأى سيدنا عمر الدم ينزل من وجه أخته، تحركت فيه العاطفة، ورقّ قلبه، فكان ذلك من أسباب إسلامه.
الجوانب الأمنية الوقائية لدى "خَبَّاب"، و"سعيد"، و"فاطمة" - رضي الله عنهم - أجمعين
- سار سيدنا عمر إلى منزل ابن عمه سعيد، كان بداخل المنزل سعيد وخباب بن الأرتّ وفاطمة زوج سعيد، فلمّا سمعوا صوت عمر، تغيب خباب في مخدع لهم، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، وجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة (الكلام غير الواضح)؟ قالا: ماعدا حديث تحدثناه بيننا(سيرة ابن هشام، ج1، ص: 344).. وهنا يمكن أن التعرف علي ما يلي:
1- سرعة وسلامة التصرف حيال الطوارئ: سرعة التصرف وعدم الارتباك من الأمور الهامة والضرورية، لتفادي الحالات الطارئة، التي قد يتعرض لها أهل الدعوة، فمتى ما كان التصرف سليمًا وسريعًا، أمكن تفادي الخطر، وكانت النتائج إيجابية غالبًا. لذا كان تصرف المجموعة الدعوية المكونة من سعيد، وخباب، وفاطمة، سريعًا وسليمًا، حيث تغيب خباب في المخدع، وأخفت فاطمة الصحيفة، وتصدى سعيد لمقابلته وفتح الباب له، وذلك عندما علموا أن القادم عمر، وما أدراك ما عمر؟، المعروف بشدته ضد الدعوة والدعاة.
2- إخفاء الأثر من العدو: إخفاء الأثر من العدو، أمر لابد منه، فالأثر كالخيط والدليل الذي يقود الأعداء إلى مبتغاهم، لذا يجب إخفاء وإزالة أي أثر يمت إلى الدعوة، أو المدعوين بصلة، وهذا ما فعلته فاطمة - رضي الله عنها - حين جعلت الصحيفة تحت فخذها، وهو موضع لا يتطرق إليه الشك، وبالتالي تكون قد أخفت وثيقة خطيرة عن أعين عمر بن الخطاب، بالرغم من أن عمر اطلع عليها فيما بعد، ولكن العبرة بالتصرف السليم في إخفاء الأثر.
3- اختفاء خباب - رضي الله عنه -: إن اختفاء خباب - رضي الله عنه -، لم يكن عن جبن أو خوف، بل هو تصرف أمني تمليه ظروف الزمان والمكان، ويتطلبه الموقف، فإذا وجد سيدنا عمر خباب مع سعيد وفاطمة، فإن هذا يؤدي إلى كشف معلومة خطيرة وبالغة الأثر على سير الدعوة في مثل هذه المرحلة، حيث كان خباب يقرئ سعيدًا وفاطمة القرآن، وهي خطة وضعت لتعليم المسلمين في تلك الظروف الصعبة، فإذا علم سيدنا عمر بذلك أخبر قريشًا، وربما نتج عن ذلك مراقبة دقيقة لمنع مثل هذا النوع من الاجتماعات، وبالتالي تخسر الدعوة وسيلة هامة وفعالة في تعليم المستجيبين.. وحتى لا يتحقق ذلك، اختفى سيدنا خباب - رضي الله عنه -.
4- خفض الصوت أثناء الاجتماع: لقد كان سيدنا خباب يقرئ سعيدًا وفاطمة القرآن بصوت منخفض، لدرجة أن الذي بالباب لم يستطع أن يتبينه، حيث وصفه سيدنا عمر (بالهينمة) وهي صوت كلام لا يفهم وهذا تصرف أمني ضروري.
5-التعريض والتورية: عندما سأل سيدنا عمر عن الصوت غير المفهوم، كانت الإجابة بعبارة تحمل في ظاهرها خلاف ما يريده قائلوها، وهذا نوع من التورية، فهم لم ينكروا أن هناك صوتًا، بل اعترفوا بأنه حديث دار بينهم، وهو حس أمني عال لسعيد وفاطمة، فعادة الحديث الذي يدور بين اثنين يكون بصوت منخفض، لا يميزه من يكون على مقربة منهم، لذا يمكن أن يوصف بالهينمة. فهم لم ينكروا، وإلا لتأكد لعمر أنهم يكذبون ويخفون عنه الحقيقة، وذلك لسماعه الصوت، لكنهم اعترفوا دون أن يصرحوا بما في أنفسهم، وهو نوع من التعريض، المطلوب في مثل هذا الموقف.
6-استثمار الفرصة لكسب العدو: يظهر ذلك عندما طلب سيدنا عمر من فاطمة أن تعطيه الصحيفة، فاستغلت فاطمة الفرصة السانحة، فطلبت منه أن يغتسل، ففعل، ثم قرأ، فخشع قلبه، وهنا خرج سيدنا خباب بعد أن سمع ثناء سيدنا عمر على القرآن، فاستغل ذلك الموقف، فقال: أبشر يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: (اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي الحكم بن هشام)، فالله الله يا عمر(السيرة الحلبية، ج1، ص: 36). من ذلك يتضح مدى اليقظة التي كان يتمتع بها كل من خباب وفاطمة، والقدرة على اغتنام الفرص، لكسب العدو، وكان نتاج ذلك أن أسلم سيدنا عمر - رضي الله عنه -.
الحس والحذر لدى "علي" و"أبي ذَرٍّ"، رضي الله عنهما
- قدم أبو ذر الغفاري إلى مكة باحثًا عن الدين الجديد، الذي ظهر بها، وكان ينوي مقابلة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، فاستضافه سيدنا علي ثلاث ليال، قال له بعدها: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ فأجابه أبو ذر بقوله: إن كتمت عليّ أخبرتك. وفي رواية: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا أن ترشدني أخبرك، قال: فإني أفعل، قال: بلغنا أنه خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبي الله، فأرسلت أخي يكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. فقال علي: أما إنك قد رشدت، وهذا وجهي إليه، أدخل حيث أدخل، فإن رأيت أحدًا أخافه عليك قمت إلى الحائط، كأني أصلح نعلي، وفي رواية: كأني أريق الماء، فامض أنت، فسار علي وأبو ذر خلفه، حتى دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم -(البخاري، قصة إسلام أبي ذر، ج1، 545). يتبين مما سبق عدة جوانب هامة، من أبرزها:
1- التأني والتريث في الحصول على المعلومة: لقد تأنى سيدنا أبو ذر الغفاري في السؤال عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لما يعرفه من كراهية قريش لكل من يخاطب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا التأني تصرف أمني تقتضيه حساسية الموقف. فلو سأل عنه، لعلمت به قريش، وبالتالي قد يناله من العذاب الشيء الكثير أو يطرد، ويخسر بالتالي مهمته، التي من أجلها حضر، وتحمل في سبيلها مصاعب ومشاق السفر.
2-الاحتياط والحذر قبل النطق بالمعلومة: حين سأل سيدنا عليُّ أبا ذر عن أمره، وسبب مجيئه إلى مكة، لم يخبره، بالرغم من أنه استضافه ثلاثة أيام، إمعانًا في الحذر، فاشترط عليه قبل أن يخبره أن يكتم عنه، وفي ذات الوقت أن يرشده، فهذا غاية في الاحتياط، وبذا يكون قد ضمن السرية والكتمان لأمره، وفي الوقت ذاته الحصول على المعلومة، التي يبحث عنها، وهذا ما تم بالفعل.
3-التغطية الأمنية للتحرك: تم الاتفاق بين عليٍّ وأبي ذر على إشارة، أو حركة معينة، كأنه يصلح نعله، أو كأنه يريق الماء، وذلك عندما يرى سيدنا علي من يترصدهم، أو يراقبهم، فهذه تغطية أمنية لتحركهم تجاه المقر (دار الأرقم)، هذا إلى جانب أن أبا ذر كان يسير على مسافة من علي، فيُعد هذا الموقف احتياطًا، وتحسبًا لكل طارئ، قد يحدث أثناء التحرك. يالها من براعة ودراية وتفوق من الصحابة - رضي الله عنهم - في الجوانب الأمنية، بينما نجد في المقابل أن الحس الأمني لدى الكفار كان ضعيفًا.
ضعف الحس الأمني لدي كفار قريش
- لقد كان الفشل حليف كفار قريش في عدة مواقف منها: عدم معرفة المقر الخاص (دار الأرقم) للمسلمين، فلو كانت المراقبة اللصيقة متوفرة، لأمكن معرفة الدار. وكذلك عدم معرفتهم، لكثير من الذين دخلوا في الإسلام حتى من قبل أقربائهم، فسيدنا عمر - رضي الله عنه -، لم يكن يعلم بإسلام أخته وابن عمه. فهذا دليل أيضًا على عدم المراقبة اللصيقة حتى لأقرب الأقربين.
- لم ينتبه سيدنا عمر لأمر نعيم بن عبد الله - رضي الله عنهما - عندما أخذ منه المعلومة، ثم صرفه عن هدفه.. وكذلك والدة سيدنا أبي بكر - رضي الله عنهما -، لم يكن لديها الحس، الذي يمكنها من التعرف على أن أم جميل مسلمة، وتعلم بمكان النبي - صلى الله عليه وسلم - (البداية والنهاية لابن كثير، ج3، ص: 29).
- لم تكن رقابة الكفار إلى الوافدين لمكة وتحركاتهم متوفرة في تلك الفترة، فسيدنا أبا ذر - رضي الله عنه - جاء وجلس ثلاث ليال في الحرم، يبحث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - (البخاري، قصة إسلام أبي ذر، ج1، 544-545)، حتى أخذه سيدنا "علي" معه إلى منزله واستضافه عنده، حني وصل للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
وثمة سؤال يُطرح: ما دام أهل مكة لا يهتمون بالجوانب الأمنية، فمن أين اكتسب الصحابة - رضي الله عنهم - هذه الجوانب، وما هم سوى أفراد من ذلك المجتمع المكي؟ .
لعل الإجابة تكمن في أن هذا الجانب، كان من ضمن ما يتلقونه ويتأسون به من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ربما يعلل اختلاف التصرفات للصحابة بعد الإسلام. ومما يؤكد تلقي الصحابة لهذه التربية الأمنية من النبي - صلى الله عليه وسلم -، الأحاديث التي تؤيد ذلك ومنها: (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) (السيوطي في الجامع الكبير).
جوانب الحماية للدعوة إبان الفترة الجهرية
- ثمة فوارق كبيرة في الوضع الأمني بين الفترتين، السرية والجهرية. إنه انتقال الدعوة من السرية إلى العلنية، من الاختفاء إلى الظهور، من القلة إلى الكثرة الخ. ولعل شعار هذه المرحلة: الاستعداد لكل الاحتمالات، التي يمكن أن تحدث، والاجتهاد في وضع الحلول المناسبة لها في حال وقوعها، والتحسب لكل الاحتمالات.
- في هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعامله مع هذه المرحلة عظات وعبر. فقد أعد -صلى الله عليه وسلم- العدة، وأهتم بالعدد، ووضع المناهج، وأعد الكوادر، وتحسب لكل الاحتمالات.
مقاومة وإحباط أساليب قريش العدوانية
- للحيلولة دون دخول الناس في الإسلام، والقضاء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته.. استخدمت قريش عدة أساليب عدوانية في هذه المرحلة العلنية. فقد استخدمت أسلوب الحرب النفسية، ولجأت إلى الاضطهاد، ثم اعتمدت أسلوب المفاوضات، المباشرة وغير المباشرة، ثم ضربت حصارًا صارمًا على المسلمين ففشلت.
الحرب النفسية ومقاومة المسلمين لها
- في كل زمان ومكان.. تُعد الحرب النفسية ومن يقف خلفها من أخطر أنواع الحروب، التي تواجه العقائد والحركات الإصلاحية. فهي تستهدف الأفكار، والتعاليم الناشئة، وتلجأ إلى التشويش عليهما لتحول بينها وبين الوصول إلى العقول، والرسوخ في القلوب. كما تبذر بذور الفرقة والانقسام، وتعمل في الظلام، وتطعن من الخلف، وتخلق الأقاويل والإشاعات، وتنشر الإرهاب، وتتبع وسائل الترغيب والترهيب، مما يجعل هذه الحرب أشد خطورة من المواجهة العسكرية في ميادين القتال(علي حسني الخربوطي: الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والحرب النفسية، ص: 2، مكتبة الأنجلو المصرية).
- كانت الحرب النفسية وإثارة الإشاعات، أول أسلوب جابهت به قريش الدعوة في مرحلتها الجهرية. فقد اجتمعت قيادة قريش، لتتفق حول كلمة (واحدة) يقولونها عن الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - للعرب في موسم الحج، فقال الوليد: (فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولُكم بعضُه بعضًا). فخرجوا بأن يقولوا: "(ساحر)، جاء بقول هو سحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته"(السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص: 271). إشاعة مُحكمة (غير متعددة الكلمات) عن قائد الدعوة ووصفه بالسحر، وفي موسم الحج، مما يجعل هذه الإشاعة تنتشر في جميع أصقاع الجزيرة العربية عن طريق وفود الحجيج.. حتى إن الرجل يأتيه صاحبه من مصر أو اليمن، فيأتيه قومه أو ذوو رَحِمِه، فيقولون له: (احذر فتى قريش لا يفتنك) (دلائل النبوة للبيهقي، ج2، ص: 442).
- أقدموا على السخرية، والتحقير، والاستهزاء، والضحك، قصدوا من ذلك تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا صاحب الدعوة - صلى الله عليه وسلم - (بالجنون) (فتح الباري لابن حجر، ج1، ص: 32، الطبعة السلفية)، (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) (الحجر: 6).
- عندما سأل هرقل أبا سفيان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل جربتم عليه الكذب؟ قال: لا. فقال هرقل: ما كان يدع الكذب على الناس ويكذب على الله"، (ابن الجوزي: الوفاء بأحوال المصطفي، ج2، 447، وكذلك د. احمد نوفل: الإشاعة، ص: 33، دار الفرقان، الأردن). هم يوقنون في قرارة أنفسهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أصدق الناس، وأبرهم. ومع ذلك أشاعت قريش أنه (كاذب).
- كانوا يضحكون من المؤمنين، ويسخرون منهم، ويغمز بعضهم بعضًا عند مرورهم بين أيديهم، قال - تعالى -: (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون * وما أرسلوا عليهم حافظين) (المطففين: 2933).
- كثفت قريش من أساليب الحرب النفسية، ما تمثل في تشويه تعاليم الإسلام، وبخاصة القرآن الكريم (وهو المصدر الأول من مصادر الإسلام التشريعية، فأي شبهة حوله ربما نتج عنها شك في الإسلام كله)، بحيث لا يبقى للعامة مجال في تدبر القرآن، فنسبوا ما جاء فيه إلى أساطير وأكاذيب الأولين، التي تملى على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - صباح مساء: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) (الفرقان: 5).. كما زعموا أن القرآن مفترى من قِبَل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأعانه عليه قوم آخرون: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون) (الفرقان: 4). وكانوا يقولون: (إنما يعلمه بشر) (النحل: 103). يحاولون هم وغيرهم في عصرنا الراهن إرجاع القرآن إلى مصدر (بشري) لا إلهي، قال السيوطي فيما رواه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم قينًا بمكة اسمه (بلعام) وكان أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل ويخرج من عنده، فقالوا إنما يعلمه (بلعام) (لباب النقول في أسباب النزول للسيويط، هامش تفسير الجلالين، ص: 505، دار المعرفة، بيرو ت).
-قاموا بالصياح، واللغط أثناء قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن، عَلَّه يسكت عنها، أو يحولون بين سماع الناس له، قال - تعالى -: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) (فصلت: 26).
- ذهب "النضر بن الحارث" إلى الحيرة، ليتعلم أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم، واسفنديار، من أجل أن يعارض القرآن. غكان إذا جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسًا للتذكير بالله تعالي، خلفه النضر قائلاً: والله ما محمد بأحسن حديثًا مني، ثم يحدثهم عن ملوك فارس، ورستم، واسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟ (سيرة ابن هشام، ج1، ص: 299).
- كانت حادثة الإسراء والمعراج، من أكبر الحوادث، التي استغلتها قريش في شن حرب نفسية على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته. فبعد عودته من تلك الرحلة، جلس في الحرم ينوي إخبار قريش بالأمر، فمر به أبو جهل، فقال له: هل من خبر؟ فقال: (( نعم، قال: وما هو؟ فقال: إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس، قال: إلى بيت المقدس؟ فقال: نعم، قال أبو جهل: هيا معشر قريش، -وقد اجتمعوا من أنديتهم- فقال: أخبر قومك بما أخبرتني به، فقص عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى، وأنه جاء بيت المقدس وصلى فيه، فإذا بالقوم بين مصفق ومصفر، تكذيبًا له، واستبعادًا لخبره، وطار الخبر بمكة، وارتد ناس ممن كان آمن به من ضعاف القلوب، وسعى رجال إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، فقال قولته المشهورة: إن كان قال ذلك فقد صدق)) (ابن كثير: البداية والنهاية، ج3، ص: 111). لقد تحصلت قريش من الحادثة علي ارتداد بعض ضعاف الإيمان. لكنها لم تكتف بذلك، بل حاولت استغلالها لإحداث فُرقة بين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصديقه أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، ولكنها باءت بالفشل.
- لولا الحس الأمني العالي لدى النبي - صلى الله عليه وسلم-، لكانت تلك الحادثة سببًا في ارتداد كثير من الناس، وذلك بتقديمه لأدلة قاطعة على رحلته تلك. فذكر مكان عير لقريش، حينما ند عنهم بعير، وكذلك شرب من إناء مغطى، فشرب كل ما فيه وتركه مغطى، وقد حدد لقريش مكان وزمان فعله هذا، حين دلهم على اسم الوادي الذي دل فيه العير على البعير، والمكان الذي شرب فيه الماء(سيرة ابن هشام، ج1، ص: 402). جاءت العير فأثبتت صدق ما قاله المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. فتثبت المؤمنون، وبطلت دعاية قريش، ومحولتها الفاشلة خلخلة أسس الدعوة.
القرآن بلسم شافي يواجه أساليب قريش في الحرب النفسية.
- عندما لجأت قيادة قريش إلى أسلوب السخرية والاستهزاء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه، جاءت آيات القرآن مواسية لهم، وسلوي للرسول الأكرم، وأوضحت مصير الساخرين والمستهزئين، وأن الغلبة للحق وأهله، قال - تعالى -: (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون) (الأنعام: 10)، فهذه الآية بينت أن هذا الأسلوب استخدم مع سالف الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وفي ذلك سلوى للرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه. ثم وضحت، وفي ذلك إعطاء أمل للمسلمين ليصبرون، ويتحملون. وفي ذات الوقت تهديد ووعيد للكفار، الأمر الذي ربما يكون له أثره النفسي عليهم.
- رد القرآن الكريم على شبهة الكفار، التي زعموا فيها أن الذي علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن بَشَر، فقال - تعالى -: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (النحل: 103)، ففند تلك الشبهة بصورة قاطعة، حيث بيّن أن(بلعام) أعجمي اللسان، بينما القرآن عربي اللسان، فأُسقط في أيدي الكفار.
يتبع