فريق منتدى الدي في دي العربي
06-06-2022, 01:51 PM
رفع الحجاب عن تبرك فاطمة بالتراب
كتبه/ أشرف الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد أخرج ابن الجوزي (ت 597 هـ) في كتابه: "مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن"، وابن النجار (ت 643 هـ) في "الدرة الثمينة في أخبار المدينة"، وعنه: ابن عساكر (ت 686 هـ) في "إتحاف الزائر وإطراف المقيم للسائر في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم" من طريق أبي الْحُسَيْنِ بْنُ الآبَنُوسِ، قَالَ: أَنْبَأنَا عُمَرُ بْنُ شَاهِينَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَاتِبُ، حَدَّثَنِي طَاهِرُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، قَالَ: "لَمَّا رُمِسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَوَقَفَتْ عَلَى قَبْرِهِ *وَأَخَذَتْ *قَبْضَةً *مِنْ *تُرَابِ *الْقَبْرِ فَوَضَعَتْهُ عَلَى عَيْنَيْهَا وَبَكَتْ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
مَاذَا عَلَيَّ مِنْ شَمِّ تُرْبَةِ أَحْمَدَ أَنْ لا يُشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا
صُـبَّـتْ عَلَيَّ مَصَائِبٌ لَوْ أَنَّهَا صُـبَّـتْ عَلَى الأَيَّامِ عُـدْنَ لَيَالِيَا
ولنا مع هذا الأثر عن السيدة فاطمة رضي الله عنها عِدَّة وقفات:
أولًا: هذا الخبر مع البحث لم أقف عليه منسوبًا إلى سيدتنا فاطمة في الكتب، قَبْل القرن السادس، ومثل هذا مدعاة للنظر والتفكر، ودليل كالشمس على بطلان هذا الخبر، ووضعه وانقطاعه عن سيدتنا فاطمة رضي الله عنها.
وقد اختلف في نسبة البيتين، لكن مِن المؤكَّد -كما سيتضح- أنه لا يصح نسبتهما للسيدة فاطمة رضي الله عنها، وقد نسبهما السرقسطيُّ (ت 302 هـ) في "الدلائل" لبعض المحدَثين، وأثبت محمد شمس عقاب في "المراثي النبوية في أشعار الصحابة توثيق ودراسة" أن الأبيات للعتبي (ت 228 هـ) في رثاء ولده كما في عدد من المصادر الأدبية.
والغالب: أنّ البيتين منسوبان إلى الشيعي أبي منصور الباخرزي؛ قال محمد بن عمران المرزباني (ت 384 هـ) في "معجم الشعراء": (أبو منصور الباخرزي، اسمه *محمد *بن *إبراهيم *من *أهل *خراسان. نزل بغداد وكان يتشيع وعمي في آخر عمره، وكان يهاجي مثقالًا الواسطي. والباخرزي هو القائل: صُبَّتْ عَليَّ مَصائبُ لو أنَّها … صُبَّتْ على الأيامِ صِرنَ لَيالِيا)، وانظر أيضًا: القفطي (ت 646 هـ) في "المحمدون من الشعراء"، والصفدي في "الوافي بالوفيات"، وانظر: "دمية القصر" لأبي الحسن الباخرزي.
وقد أنكر: محمد الحافظ الروسي في بحثه: "شعر الصحابة من خلال كتاب مِنح المدح لابن سيد الناس، دراسةً في النسبة والتوثيق" نسبة الأبيات إلى السيدة فاطمة رضي الله عنه، وأن سيدتنا فاطمة لم تقل شعرًا قط، وذكر أن الأبيات لا تستقيم إلا لمَن عُرِف بكثرة مزاولة الشعر، ويكفي أن نعرفَ أن ابن رشيق في "العمدة" فضَّل هذه الأبيات على شعر الكميت في رثاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعلها أنموذجًا يحتذيه الشعراء، و**لأهل التشيع ولَعٌ بوضع الشعر على لسان آل البيت، ومما وضعوه على لسان فاطمة رضي الله عنها حينًا، وعلى لسان علي رضي الله عنه حينًا آخر؛ هذان البيتان اللذان ذكرهما ابن سيد الناس.
وقد شكك في هذه الرواية الآمدي في "الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري"، وهو أحد العلماء بالشعر فقال: (وتمثَّلت فاطمة رضي الله عنها عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يُروَى عنها ولا أعرف صحته)؛ لأن مثل هذا البيت لا يكون لمَن لم يُعرف عنه اشتغال بشعر ولا طول مزاولة له، وإنما يوفَّق القائل لمثل هذا بعد طول المكابدة، وكثرة المزاولة، والصبر على المراجعة، وإدمان القول) (انتهى).
ثانيًا: نَقْلُ ابن الجوزي وابن عساكر وغيرهما لهذا الخبر؛ لا يعني صحة الخبر، بل إنهم ذكروا الخبر بإسناده، ومن أسند فقد أحالك، أي: هو نقل لك الخبر بإسناده لتبحث أنت، وتقف على صحة الخبر مِن عدمه، وتلك هي طريقة علمائنا المتقدمين، وهذا غرضهم من الإسناد، وعليه فلا يمكن القول بأن ابن الجوزي نقل هذا الخبر مصححًا له، بل مما ينبغي التأكيد عليه: أن ذِكْر ابن الجوزي وغيره للأثر بهذا الإسناد المنقطع مع ما فيه من مجاهيل هو دليل أبلج على تضعيفه له، وبيان ما فيه من وضع ونكارة، وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله مع هذا الأثر في بابه؛ غرائب عن مجاهيل بأسانيد فيها انقطاع ظاهر، وما أحسبه ذكرها استشهادًا، بل جمعًا لتلك المادة، ومِن ثَمَّ النظر والدراسة ممَّن بعده.
ثالثًا: هذا حديث منكر موضوع، إسناده لا يثبت، ومتنه منكر، لا يُتَصوّر من سيدتنا فاطمة المؤمنة الصالحة، سيدة نساء أهل الجنة، أن تفعل هذا العمل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن مجرد الوقوف على حال رجال الإسناد كافٍ في ردِّ هذا الأثر عن سيدتنا فاطمة رضي الله عنها؛ لما فيه من انقطاع ومجاهيل:
(أ) فمحمد بن موسى، ليس من شيوخ ابن شاهين، بل من شيوخ شيوخه، وفي هذا انقطاع في السند؛ بالإضافة إلى التدليس إذ لم يبيِّن؛ لأن محمد بن موسى هذا يحتمل رجلين من شيوخ شيوخ ابن شاهين، أحدهما: ضعيف، كما قال عنه ابن حجر في "التقريب".
(ب) طاهر بن يحيى مجهول الحال، كان أخباريًّا نسَّابة، وينظر تفصيل ذلك عند إبراهيم بن عبد الله المديهش في موسوعته: "فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم: سيرتها، فضائلها، مسندها رضي الله عنها".
(ج) وهو منقطع، جده الحسين بن جعفر بن الحسين، لم يدرك جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، وفيه انقطاع آخر: محمد بن علي بن الحسين لم يدرك جده، بل والده علي بن الحسين لم يدركه أيضًا.
(د) نص عددٌ من العلماء على عدم صحة هذا الأثر عن سيدتنا فاطمة، ومنهم: الذهبي في "السير"، قال: (*وَمِمَّا *يُنْسَبُ *إِلَى *فَاطِمَةَ وَلَا يَصِحُّ ... ثم ذكر البيتين)، وقال أبو القاسم الآمدي في "الموازنة": ( ... ولا أعلمُ صحَّتَه)، وانظر: (أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة" لأحمد النجمي، و"قصص لا تثبت" لسليمان الخراشي، و"أحاديث منتشرة لم تثبت" لأحمد السلمي).
وقال ابن سيد الناس في "عيون الأثر" وكتابه الآخر: "مِنَح المدَح": (*وَمِمَّا *يُنْسَبُ *لِعَلِيٍّ *أَوْ *فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا...)، وكذا قال الكلاعي في "الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفاء"، فلم يجزِما بنسبته لفاطمة، وقد بَيَّنتُ سابقًا: أن البيتين منسوبان بشهادة المراجع المتقدمة والدلائل الواضحة لشيعي مجهول.
رابعًا: المفارقة العجيبة ممَّن يستدلون بهذا الأثر على جواز التبرك والتمسح بالقبور وقصدها؛ فهم لا يَقْبَلُون بأحاديث الآحاد في باب الاعتقاد، ثم ها هم لشهوة الأهواء وفساد المنهجية يستدلون في قضية عقدية بخبر مدارُه على واحدٍ في كلِّ طبقات السند، وبعض هؤلاء الرواة من المجاهيل؛ بالإضافة إلى الانقطاع الظاهر في هذا السند.
خامسًا: حتى وإن صحَّ هذا الأثر عن فاطمة رضي الله عنها؛ فإن العلماء لم يفهموا أنه تبرك؛ لعدم اشتماله على ما يوهم ذلك، بل عدُّوا هذا من الرثاء والحزن، قال ابن ناصر الدين (ت ???هـ) في كتابه: "سلوة الكئيب بوفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم" بعد ذكره لهذا الخبر: "وَرُبمَا يفهم من هَذَا: أَن فَاطِمَة رضي الله عنها أول مَن رثى النَّبِي صلى الله عليه وسلم".
وقد استدل به بعضُ فقهاء الشافعية والحنابلة على إباحة الندبة اليسيرة، وأنها ليست من النياحة، ومن ذلك: "المغني" لابن قدامة، و"النجم الوهاج" للدميري، و"مغني المحتاج" للشربيني، و"نهاية المحتاج" للرملي، و"مطالب أولي النهى" للرحيباني الحنبلي، "حاشية قليبوبي"، "حاشية الجمل على شرح منهج الطلاب"، كما أن أكثرهم ذكر الرواية بدون ذكر أن فاطمة رضي الله عنها* أَخَذَتْ *قَبْضَةً *مِنْ *تُرَابِ *الْقَبْرِ فَوَضَعَتْهُ عَلَى عَيْنَيْهَا.
وحتى يتم وضع الاستدلال في موضعه يقول أبو الحسن السمهودي (ت ???هـ) في (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى): "ومنها -أي: آداب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم-: اجتناب الانحناء للقبر عند التسليم، قال ابن جماعة: قال بعض العلماء: إنه من البدع، ويظن مَن لا علم له أنه من شعار التعظيم، وأقبح منه تقبيل الأرض للقبر، لم يفعله السلف الصالح، والخير كله في اتباعه، ومن خطر بباله أن تقبيل الأرض أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال السلف وعملهم، قال: وليس عجبي ممَّن جهل ذلك فارتكبه، بل عجبي ممن أفتى بتحسينه مع علمه بقبحه ومخالفته لعمل السلف، واستشهد لذلك بالشعر" (انتهى).
كما ذكر ابن النجار (ت ???) في (الدرة الثمينة في أخبار المدينة) بعد ذكره لهذا الأثر عن فاطمة رضي الله عنها: "حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى؛ اتخذوا قبورَ أنبيائِهِمْ مساجد، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خَشِيَ أو خُشِيَ أن يُتَّخَذَ مسجدًا"، وفي هذا ملمح مهم؛ لئلا يتم تحريف الاستدلالات، ونسبة أفهام مغلوطة إلى العلماء تحت زعم ذكرهم لهذه الآثار.
وعليه فلا يجوز تعظيم قبور الصالحين وتقبيلها والمسح عليها التماسًا للبركات منها، ويَكفي للدَّلالةِ على هذا: أنَّه لم يَرِدْ فيه حديثٌ واحدٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل ورد عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن تعظيم القبور، كما لم يثبُت عن صَحابيٍّ واحدٍ أنه كان يتبَرَّكُ بالتمسُّح بقبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو تَقبيلِه رغمَ حُبِّهم الشديدِ له، وتبرُّكِهم به في حَياتِه بجَسَدِه، وما يخرُجُ منه مِن عَرَقٍ وغيرِه وبآثارِه بعدَ مماتِه، وهذا كلُّه ثابتٌ في أحاديثَ وآثارٍ صحيحةٍ، ولو كان التبرُّك بالتَّمسُّحِ بالقَبرِ من جِنسِ هذا، لفَعلوه بعد مماتِه، بل ثبَت عن ابنِ عُمرَ رضِي اللهُ عنهما بإسنادٍ كالشمس عند محمد بن عاصم، أنه: (كان يَكرَهُ مَسَّ قَبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم)، كما ثَبَت عن عمر رضي الله عنه أنه قطع شجرة الرضوان ليمنع تبرك الناس وتمسحهم بها صيانة لجناب التوحيد، كما أخفي لهذا السبب قبر نبي الله دانيال، وعلى هذا تتابع أئمة المذاهب، حتى شددوا في منع مس قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكيف بمن دونه؟!
قال الشيخ خليل المالكيُّ (ت: 776هـ) كما في التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب: (روى ابنُ وهبٍ في المختصَرِ قال: سُئِلَ مالكٌ: من أين يقِفُ من أراد التَّسليمَ؟ فقال: مِن عندِ الزاويةِ التي تلي القِبلةَ مِمَّا يلي المِنبرَ، ويَستقبِلُ القبلةَ، ولا أحِبُّ أن يمسَّ القبرَ بيَدِه).
قال الإمامُ النوويُّ في المجموع: (قالوا: ويُكرَهُ مَسحُه باليدِ وتَقبيلُه، بل الأدبُ أن يُبعَدَ منه كما يُبعَدُ منه لو حَضَره في حياتِه صلى الله عليه وسلم، هذا هو الصوابُ الذي قاله العلماءُ وأطبقوا عليه).
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّة في مجموع الفتاوى: (لا يُسَنُّ باتِّفاقِ الأئمَّة: أن يُقَبِّلَ الرَّجُلُ أو يستَلِمَ رُكنَيِ البيت اللَّذين يَليانِ الحِجْرَ ولا جُدرانَ البيتِ، ولا مَقامَ إبراهيم، ولا صخرةَ بيت المَقدِس، ولا قَبْرَ أحدٍ مِن الأنبياء والصالحين).
وقال الشريفُ السَّمْهوديُّ الشافعيُّ (ت: 911هـ) في (وفاء الوفاء): (قال الأَقشَهْريُّ: قال الزَّعفرانيُّ في كتابه: وضعُ اليد على القَبرِ ومَسُّه وتقبيلُه: مِن البِدَعِ التي تُنكَرُ شرعًا، ورُوِيَ أنَّ أنسَ بنَ مالكٍ رضِي اللهُ عنه رأَى رجُلًا وضَع يدَه على قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فنهاه، وقال: ما كنَّا نَعرِف هذا على عَهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنكره مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ أشدَّ الإنكارِ".
وقال مرعي الحنبليُّ (ت: 1033هـ) في (شفاء الصدور): "أمَّا تَقبيلُ القبورِ والتمَسُّحُ بها؛ فهو بِدعةٌ باتِّفاق السَّلف؛ فيشَدَّدُ النكيرُ على مَن يفعل ذلك، ممَّن تَزيَّا بزيِّ أهل العِلم؛ خوفَ الافتِتان به، والاقتداءِ بفِعلِه".
كتبه/ أشرف الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد أخرج ابن الجوزي (ت 597 هـ) في كتابه: "مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن"، وابن النجار (ت 643 هـ) في "الدرة الثمينة في أخبار المدينة"، وعنه: ابن عساكر (ت 686 هـ) في "إتحاف الزائر وإطراف المقيم للسائر في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم" من طريق أبي الْحُسَيْنِ بْنُ الآبَنُوسِ، قَالَ: أَنْبَأنَا عُمَرُ بْنُ شَاهِينَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَاتِبُ، حَدَّثَنِي طَاهِرُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، قَالَ: "لَمَّا رُمِسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَوَقَفَتْ عَلَى قَبْرِهِ *وَأَخَذَتْ *قَبْضَةً *مِنْ *تُرَابِ *الْقَبْرِ فَوَضَعَتْهُ عَلَى عَيْنَيْهَا وَبَكَتْ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
مَاذَا عَلَيَّ مِنْ شَمِّ تُرْبَةِ أَحْمَدَ أَنْ لا يُشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا
صُـبَّـتْ عَلَيَّ مَصَائِبٌ لَوْ أَنَّهَا صُـبَّـتْ عَلَى الأَيَّامِ عُـدْنَ لَيَالِيَا
ولنا مع هذا الأثر عن السيدة فاطمة رضي الله عنها عِدَّة وقفات:
أولًا: هذا الخبر مع البحث لم أقف عليه منسوبًا إلى سيدتنا فاطمة في الكتب، قَبْل القرن السادس، ومثل هذا مدعاة للنظر والتفكر، ودليل كالشمس على بطلان هذا الخبر، ووضعه وانقطاعه عن سيدتنا فاطمة رضي الله عنها.
وقد اختلف في نسبة البيتين، لكن مِن المؤكَّد -كما سيتضح- أنه لا يصح نسبتهما للسيدة فاطمة رضي الله عنها، وقد نسبهما السرقسطيُّ (ت 302 هـ) في "الدلائل" لبعض المحدَثين، وأثبت محمد شمس عقاب في "المراثي النبوية في أشعار الصحابة توثيق ودراسة" أن الأبيات للعتبي (ت 228 هـ) في رثاء ولده كما في عدد من المصادر الأدبية.
والغالب: أنّ البيتين منسوبان إلى الشيعي أبي منصور الباخرزي؛ قال محمد بن عمران المرزباني (ت 384 هـ) في "معجم الشعراء": (أبو منصور الباخرزي، اسمه *محمد *بن *إبراهيم *من *أهل *خراسان. نزل بغداد وكان يتشيع وعمي في آخر عمره، وكان يهاجي مثقالًا الواسطي. والباخرزي هو القائل: صُبَّتْ عَليَّ مَصائبُ لو أنَّها … صُبَّتْ على الأيامِ صِرنَ لَيالِيا)، وانظر أيضًا: القفطي (ت 646 هـ) في "المحمدون من الشعراء"، والصفدي في "الوافي بالوفيات"، وانظر: "دمية القصر" لأبي الحسن الباخرزي.
وقد أنكر: محمد الحافظ الروسي في بحثه: "شعر الصحابة من خلال كتاب مِنح المدح لابن سيد الناس، دراسةً في النسبة والتوثيق" نسبة الأبيات إلى السيدة فاطمة رضي الله عنه، وأن سيدتنا فاطمة لم تقل شعرًا قط، وذكر أن الأبيات لا تستقيم إلا لمَن عُرِف بكثرة مزاولة الشعر، ويكفي أن نعرفَ أن ابن رشيق في "العمدة" فضَّل هذه الأبيات على شعر الكميت في رثاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعلها أنموذجًا يحتذيه الشعراء، و**لأهل التشيع ولَعٌ بوضع الشعر على لسان آل البيت، ومما وضعوه على لسان فاطمة رضي الله عنها حينًا، وعلى لسان علي رضي الله عنه حينًا آخر؛ هذان البيتان اللذان ذكرهما ابن سيد الناس.
وقد شكك في هذه الرواية الآمدي في "الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري"، وهو أحد العلماء بالشعر فقال: (وتمثَّلت فاطمة رضي الله عنها عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يُروَى عنها ولا أعرف صحته)؛ لأن مثل هذا البيت لا يكون لمَن لم يُعرف عنه اشتغال بشعر ولا طول مزاولة له، وإنما يوفَّق القائل لمثل هذا بعد طول المكابدة، وكثرة المزاولة، والصبر على المراجعة، وإدمان القول) (انتهى).
ثانيًا: نَقْلُ ابن الجوزي وابن عساكر وغيرهما لهذا الخبر؛ لا يعني صحة الخبر، بل إنهم ذكروا الخبر بإسناده، ومن أسند فقد أحالك، أي: هو نقل لك الخبر بإسناده لتبحث أنت، وتقف على صحة الخبر مِن عدمه، وتلك هي طريقة علمائنا المتقدمين، وهذا غرضهم من الإسناد، وعليه فلا يمكن القول بأن ابن الجوزي نقل هذا الخبر مصححًا له، بل مما ينبغي التأكيد عليه: أن ذِكْر ابن الجوزي وغيره للأثر بهذا الإسناد المنقطع مع ما فيه من مجاهيل هو دليل أبلج على تضعيفه له، وبيان ما فيه من وضع ونكارة، وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله مع هذا الأثر في بابه؛ غرائب عن مجاهيل بأسانيد فيها انقطاع ظاهر، وما أحسبه ذكرها استشهادًا، بل جمعًا لتلك المادة، ومِن ثَمَّ النظر والدراسة ممَّن بعده.
ثالثًا: هذا حديث منكر موضوع، إسناده لا يثبت، ومتنه منكر، لا يُتَصوّر من سيدتنا فاطمة المؤمنة الصالحة، سيدة نساء أهل الجنة، أن تفعل هذا العمل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن مجرد الوقوف على حال رجال الإسناد كافٍ في ردِّ هذا الأثر عن سيدتنا فاطمة رضي الله عنها؛ لما فيه من انقطاع ومجاهيل:
(أ) فمحمد بن موسى، ليس من شيوخ ابن شاهين، بل من شيوخ شيوخه، وفي هذا انقطاع في السند؛ بالإضافة إلى التدليس إذ لم يبيِّن؛ لأن محمد بن موسى هذا يحتمل رجلين من شيوخ شيوخ ابن شاهين، أحدهما: ضعيف، كما قال عنه ابن حجر في "التقريب".
(ب) طاهر بن يحيى مجهول الحال، كان أخباريًّا نسَّابة، وينظر تفصيل ذلك عند إبراهيم بن عبد الله المديهش في موسوعته: "فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم: سيرتها، فضائلها، مسندها رضي الله عنها".
(ج) وهو منقطع، جده الحسين بن جعفر بن الحسين، لم يدرك جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، وفيه انقطاع آخر: محمد بن علي بن الحسين لم يدرك جده، بل والده علي بن الحسين لم يدركه أيضًا.
(د) نص عددٌ من العلماء على عدم صحة هذا الأثر عن سيدتنا فاطمة، ومنهم: الذهبي في "السير"، قال: (*وَمِمَّا *يُنْسَبُ *إِلَى *فَاطِمَةَ وَلَا يَصِحُّ ... ثم ذكر البيتين)، وقال أبو القاسم الآمدي في "الموازنة": ( ... ولا أعلمُ صحَّتَه)، وانظر: (أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة" لأحمد النجمي، و"قصص لا تثبت" لسليمان الخراشي، و"أحاديث منتشرة لم تثبت" لأحمد السلمي).
وقال ابن سيد الناس في "عيون الأثر" وكتابه الآخر: "مِنَح المدَح": (*وَمِمَّا *يُنْسَبُ *لِعَلِيٍّ *أَوْ *فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا...)، وكذا قال الكلاعي في "الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفاء"، فلم يجزِما بنسبته لفاطمة، وقد بَيَّنتُ سابقًا: أن البيتين منسوبان بشهادة المراجع المتقدمة والدلائل الواضحة لشيعي مجهول.
رابعًا: المفارقة العجيبة ممَّن يستدلون بهذا الأثر على جواز التبرك والتمسح بالقبور وقصدها؛ فهم لا يَقْبَلُون بأحاديث الآحاد في باب الاعتقاد، ثم ها هم لشهوة الأهواء وفساد المنهجية يستدلون في قضية عقدية بخبر مدارُه على واحدٍ في كلِّ طبقات السند، وبعض هؤلاء الرواة من المجاهيل؛ بالإضافة إلى الانقطاع الظاهر في هذا السند.
خامسًا: حتى وإن صحَّ هذا الأثر عن فاطمة رضي الله عنها؛ فإن العلماء لم يفهموا أنه تبرك؛ لعدم اشتماله على ما يوهم ذلك، بل عدُّوا هذا من الرثاء والحزن، قال ابن ناصر الدين (ت ???هـ) في كتابه: "سلوة الكئيب بوفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم" بعد ذكره لهذا الخبر: "وَرُبمَا يفهم من هَذَا: أَن فَاطِمَة رضي الله عنها أول مَن رثى النَّبِي صلى الله عليه وسلم".
وقد استدل به بعضُ فقهاء الشافعية والحنابلة على إباحة الندبة اليسيرة، وأنها ليست من النياحة، ومن ذلك: "المغني" لابن قدامة، و"النجم الوهاج" للدميري، و"مغني المحتاج" للشربيني، و"نهاية المحتاج" للرملي، و"مطالب أولي النهى" للرحيباني الحنبلي، "حاشية قليبوبي"، "حاشية الجمل على شرح منهج الطلاب"، كما أن أكثرهم ذكر الرواية بدون ذكر أن فاطمة رضي الله عنها* أَخَذَتْ *قَبْضَةً *مِنْ *تُرَابِ *الْقَبْرِ فَوَضَعَتْهُ عَلَى عَيْنَيْهَا.
وحتى يتم وضع الاستدلال في موضعه يقول أبو الحسن السمهودي (ت ???هـ) في (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى): "ومنها -أي: آداب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم-: اجتناب الانحناء للقبر عند التسليم، قال ابن جماعة: قال بعض العلماء: إنه من البدع، ويظن مَن لا علم له أنه من شعار التعظيم، وأقبح منه تقبيل الأرض للقبر، لم يفعله السلف الصالح، والخير كله في اتباعه، ومن خطر بباله أن تقبيل الأرض أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال السلف وعملهم، قال: وليس عجبي ممَّن جهل ذلك فارتكبه، بل عجبي ممن أفتى بتحسينه مع علمه بقبحه ومخالفته لعمل السلف، واستشهد لذلك بالشعر" (انتهى).
كما ذكر ابن النجار (ت ???) في (الدرة الثمينة في أخبار المدينة) بعد ذكره لهذا الأثر عن فاطمة رضي الله عنها: "حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى؛ اتخذوا قبورَ أنبيائِهِمْ مساجد، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خَشِيَ أو خُشِيَ أن يُتَّخَذَ مسجدًا"، وفي هذا ملمح مهم؛ لئلا يتم تحريف الاستدلالات، ونسبة أفهام مغلوطة إلى العلماء تحت زعم ذكرهم لهذه الآثار.
وعليه فلا يجوز تعظيم قبور الصالحين وتقبيلها والمسح عليها التماسًا للبركات منها، ويَكفي للدَّلالةِ على هذا: أنَّه لم يَرِدْ فيه حديثٌ واحدٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل ورد عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن تعظيم القبور، كما لم يثبُت عن صَحابيٍّ واحدٍ أنه كان يتبَرَّكُ بالتمسُّح بقبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو تَقبيلِه رغمَ حُبِّهم الشديدِ له، وتبرُّكِهم به في حَياتِه بجَسَدِه، وما يخرُجُ منه مِن عَرَقٍ وغيرِه وبآثارِه بعدَ مماتِه، وهذا كلُّه ثابتٌ في أحاديثَ وآثارٍ صحيحةٍ، ولو كان التبرُّك بالتَّمسُّحِ بالقَبرِ من جِنسِ هذا، لفَعلوه بعد مماتِه، بل ثبَت عن ابنِ عُمرَ رضِي اللهُ عنهما بإسنادٍ كالشمس عند محمد بن عاصم، أنه: (كان يَكرَهُ مَسَّ قَبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم)، كما ثَبَت عن عمر رضي الله عنه أنه قطع شجرة الرضوان ليمنع تبرك الناس وتمسحهم بها صيانة لجناب التوحيد، كما أخفي لهذا السبب قبر نبي الله دانيال، وعلى هذا تتابع أئمة المذاهب، حتى شددوا في منع مس قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكيف بمن دونه؟!
قال الشيخ خليل المالكيُّ (ت: 776هـ) كما في التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب: (روى ابنُ وهبٍ في المختصَرِ قال: سُئِلَ مالكٌ: من أين يقِفُ من أراد التَّسليمَ؟ فقال: مِن عندِ الزاويةِ التي تلي القِبلةَ مِمَّا يلي المِنبرَ، ويَستقبِلُ القبلةَ، ولا أحِبُّ أن يمسَّ القبرَ بيَدِه).
قال الإمامُ النوويُّ في المجموع: (قالوا: ويُكرَهُ مَسحُه باليدِ وتَقبيلُه، بل الأدبُ أن يُبعَدَ منه كما يُبعَدُ منه لو حَضَره في حياتِه صلى الله عليه وسلم، هذا هو الصوابُ الذي قاله العلماءُ وأطبقوا عليه).
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّة في مجموع الفتاوى: (لا يُسَنُّ باتِّفاقِ الأئمَّة: أن يُقَبِّلَ الرَّجُلُ أو يستَلِمَ رُكنَيِ البيت اللَّذين يَليانِ الحِجْرَ ولا جُدرانَ البيتِ، ولا مَقامَ إبراهيم، ولا صخرةَ بيت المَقدِس، ولا قَبْرَ أحدٍ مِن الأنبياء والصالحين).
وقال الشريفُ السَّمْهوديُّ الشافعيُّ (ت: 911هـ) في (وفاء الوفاء): (قال الأَقشَهْريُّ: قال الزَّعفرانيُّ في كتابه: وضعُ اليد على القَبرِ ومَسُّه وتقبيلُه: مِن البِدَعِ التي تُنكَرُ شرعًا، ورُوِيَ أنَّ أنسَ بنَ مالكٍ رضِي اللهُ عنه رأَى رجُلًا وضَع يدَه على قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فنهاه، وقال: ما كنَّا نَعرِف هذا على عَهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنكره مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ أشدَّ الإنكارِ".
وقال مرعي الحنبليُّ (ت: 1033هـ) في (شفاء الصدور): "أمَّا تَقبيلُ القبورِ والتمَسُّحُ بها؛ فهو بِدعةٌ باتِّفاق السَّلف؛ فيشَدَّدُ النكيرُ على مَن يفعل ذلك، ممَّن تَزيَّا بزيِّ أهل العِلم؛ خوفَ الافتِتان به، والاقتداءِ بفِعلِه".