مشاهدة النسخة كاملة : يوم الفرقان


فريق منتدى الدي في دي العربي
06-09-2022, 09:25 PM
يوم الفرقان
رقية القضاة


خرج المسلمون من مكّة مهاجرين إلى الله ورسول، مخلّفين وراءهم الذراري والأموال، والبيوت والأوطان، في رحلة انخلعوا فيها من ربقة الشّرك، وتابعوا نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم -، في رحلته من البعثة إلى الهجرة، وقد عقدوا العزم على ألاّ يألوا جهداً في سبيل نصرة الله ورسوله، وألاّ تقعدنّهم الدنيا بما فيها عن دعوة الله، وحلّوا بين إخوانهم أنصار الله ورسوله يتقاسمون الرزق والمصير والعمل، ورسول الله بينهم يستشعر ودّهم ويبادلهم إيّاه، يربّيهم ويعلّمهم ويزكّيهم، ويمتنّ الله عليهم بفريضة تزكّي القلوب وترتقي بالمشاعر وتزيدهم نقاء واستعلاء على شهوات الدنيا ومهالكها، فريضة الصّيام ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) فيهلّ عليهم شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة وهم صوّم قوّم، عباداً مخبتين يرتقون مراقي الفلاح ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم.
والرسول الحكيم المشفق يدرك ما فيه أصحابه من ضيق ذات اليد، وهو يعلم أنهم خرجوا من مكّة صفر اليدين، فلم يكد يسمع بقافلة لقريش يقودها أبو سفيان، عائدة من الشام إلّا ويقول لأصحابه: ((هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها فلعل الله أن ينفلكموها)) ويتنادى المسلمون طاعة لنبيهم، ويتخلف بعضهم ظناً منهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لن يلقى حرباً مع القافلة، وهي لا تضم إلاّ ثلاثين أو أربعين رجلاً، وخرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وينجو أبو سفيان بقافلته، وتسمع قريش بتعرض النبي وأصحابه للقافلة، وتعلم أنّها قد نجت من المسلمين، ولكن فراعنة الجهل يأبون إلاّ المسير إلى المدينة المنوّرة، وقد منّاهم شيطانهم بالحرب والنصر على محمد وأتباعه، وتخرج مكة شياطينها، وتبعث إلى الحرب كبراؤها، وتصحبهم القيان؛ ليعزفن لهم لحن النّصر الموعود، وما درى عتاة الشّرك بأن قيانهم ستنوح عليهم، وأن الرحلة التي ظنّوها فاصلة قاضية على عدوّهم ستجعل منهم نزلاء (( قليب بدر)) جثثاً متبورة، ولكنّها عقلية الاستعلاء، ونظرية البقاء للأقوى حين تغفل عن قوّة الله القادر القاهر.
وحين تصل أخبار قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعرف أنّ الحرب واقعة لا محالة وقد بعدت به الطريق عن مدينته الحصينة، يستشير أصحابه الذين خرجوا معه، (( أشيروا عليّ أيها النّاس)) ذلك هو القائد الفذ، وهو يعلم قادة الأمم إلى يوم الدين، كيف تساس الشعوب وتحترم آراء الأفراد، وكيف يتشاور الحاكم مع شعبه دون أن يغفل رأياً أو يستهين بصاحب مشورة، فالأمة بحاكمها ومحكومها، بقادتها وجندها، تخضع لمصير واحد، ومخاطر مشتركة، والقادة الذين ينعزلون عن شعوبهم أو يسيرون فيها بمشورة غيرها، إنما يقودونها وأنفسهم إلى الهلاك والعثرات والتراجع، بكل معانيه، ويقوم الصدّيق ومن بعده الفاروق فيقولان ويحسنان القول، ويقف المقداد فيقول: (( لا نقول كما قال قوم موسى لموسى إذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك)) ويسرّ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ويدعو له بخير، والرسول يرى شريحة من أصحابه لا يجيبون وهم الأنصار، فيعيد قوله: (( أشيروا عليّ أيها النّاس))، ويدرك سعد بن معاذ أن الرسول يقصد الأنصار فيقول: (( والله لكأنك تريدنا يا رسول الله فيقول: أجل، فقال سعد: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله أن يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر على بركة الله)) ويبشرهم رسول الله بالنصر قائلا: (( لقد وعدني ربي إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)).
وهناك في بدر وعلى ماءها يشير الحباب بن المنذر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردم الآبار والإبقاء على ماء بدر وحدها في خطة ذكية لمنع الماء عن المشركين، ويلتف صحابة النبي حوله، وتبدو محبتهم له وخوفهم عليه وسعد يقول له: (( يا نبيّ الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ونعد عندك ركائبك، ثمّ نلقى عدوّنا فإن عزّنا الله وأظهرنا على عدوّنا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام ما نحن بأشد حباً لك منهم ولو ظنوا أنّك تلاقي حرباً ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم، ويناصحونك ويجاهدون معك)) إيه يا سعد! هذه والله هي الإخوة الحقة، والمحبة الخالصة في الله، لقد ظننت بإخوانك ما تعرفه في نفسك من حب الله ورسوله، وحق لك أن يهتزّ لموتك عرش الرحمن.
وقريش تقبل بخيلها وخيلائها تتعالى على ربّها وتكذّب نبيّها ويراهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيدعو ربه قائلا: (( اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادّك وتكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم الغداة)) ويستغيث الرسول وصحابته بربهم، وهو العالم بهم، وينزل عليهم الغيث تثبيتا والملائكة مددا ونصرة (وإذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا) والصدّيق مشفق على صاحبه وخليله يقول: " يا رسول الله بعض مناشدتك ربك، فإنّ الله منجز لك وعدك، ويستبشر وجه الحبيب المصطفى وقد جاءته البشرى من الله القهّار فيقول: (( أبشر يا أبا بكر هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع)) يعني غبار المعركة.
وتبدأ المعركة بالمبارزة بين الأكفاء، ويكون أول شهيد عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وتتساقط رؤوس الكفر المبارزة، على يد أسد الله حمزة، وعلي كرم الله وجهه، والوجوه الباسرة الكالحة تنظر إلى بعضها البعض وهي تتهاوى، ولا ترى إلا سيوف تلمع، ورؤوس يطاح بها، هنا حيث التقى الدعاء الصادق والسيف المسلول ابتغاء إعلاء كلمة الله، هنا حيث يرتقب النبي وصحبه نصر الله الموعود المصدوق، وحيث يتبختر أهل الخيلاء والعنجهية الجهلاء، وحيث ينسى الإنسان نفسه وضعفه، ويحادّ الله ورسوله، فتكون النصرة من الله لمن أعلى لواء الله وافتداه وتكون الهزيمة والذلّة لمن استعلى وتكبّر وكفر وتجبّر، فتنكشف المعركة وقد صدق الله رسوله الوعد، وأناله ذات الشوكة وهو الفعّال لما يريد.
وتنجلي المعركة عن شهداء عددهم أربعة عشر، (( جعل الله أرواحهم في الجنّة في طيور خضر، تسرح في الجنّة، فبينما هم كذلك إذ اطّلع عليهم ربّهم اطّلاعة فقال: يا عبادي ماذا تشتهون؟ فقالوا ربنا هل فوق هذا شيء؟ فيقول: يا عبادي ماذا تشتهون: فيقولون بعد الرابعة: تردّ أرواحنا في أبداننا فنقتل كما قتلنا)).
وتنجلي المعركة عن مقتل فرعون الأمة أبو جهل، وقد ارتقى صدره ابن مسعود، وقد ضربه ابنا عفراء وهما غلامان ظلاّ يبحثان عنه ليثأرا لرسول الله وقد علما أن اللعين كان يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيجده في الرمق الأخير والفرعون لا يلين للموت ولا تغادره كبرياؤه النتنة فيقول وهو يغالب الموت، " يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعباً"، فيحز رأسه ويقدم به على رسول الله، في إعلان بأن كلمة الله تمت، وأنّه - سبحانه - غالب على أمره، ويقذف العتاة الجبابرة في القليب ويخاطبهم النبيّ الذي كذبوه، ومكروا به، وآذوه في نفسه ودينه وأصحابه وأخرجوه من بيته وأهله وعشيرته، فأخرجه ربه بالحق ليقتلهم بالحق وينتصر الحق، وهاهو يناديهم (( يا أهل القليب هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإنّي وجدت ما وعدني ربي حقا، فيقول الصحابة يا رسول الله هل يسمعون ما تقول، فيقول، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنّهم اليوم لا يجيبون))، وتسبق البشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، ويحلّ الله الغنائم لنبيه والمسلمين وقد كانت محرّمة على الأمم من قبل، وتتوالى بركات النصر والتضحية الخالصة لله وتتجلّى أنوار الرضى لأولئك الذين قاتلوا عن يمين المصطفى وشماله وتصدّوا لأعداء الله ولم ينكصوا على أعقابهم فيقول فيهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم -: (( اطّلع الله على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم))، ولكنّهم ما عملوا بعدها إلا خيرا لقد مضوا مع نبيهم يحملون بشارتهم في قلوبهم وسيوفهم في أيديهم ومصاحفهم في صدورهم، يرتقون المعالي ويجوبون الآفاق يعلون أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله

Adsense Management by Losha