فريق منتدى الدي في دي العربي
06-23-2022, 01:00 PM
القول الجلي في خبر طارق بن عبد الله المحاربي
محمد السيد حسن محمد
كل يوم يمر علينا من هذه السيرة النبوية المباركة، وإذ يتحفنا هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم زادًا، وإذ يهدينا سواء، وإذ يحدونا صوابًا، وإذ يمنحنا رشدًا، وإذ يحذينا نسيمًا وطيبًا، وإذ نزداد منه علمًا وهدًى، وخيرًا وذكرًا حسنًا.
وإن هذه لطاقات استزدناها، ومن خبر هذا الصحابي الكريم طارق بن عبدالله المحاربي، وصحبه الكرام البررة، ومع هذا النبي المجتبى، ومن فيض هذا الرسول المرتضى؛ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأعالجه في ثلاث عشرة مسألة:
المسألة الأولى: لا تلاوموا؛ فلقد رأيت وجه رجل لا يغدر ما رأيت شيئًا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه:
هذا قول امرأة ظعينة مسافرة مع قومها، وها هي توجز لنا وصفًا دقيقًا صريحًا صحيحًا بليغًا لهذا النبي العربي الكريم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كالقمر ليلة بدره، وأنه ليس يغدر من وعده وعهده، وهذان وصفان كافيان أن يسجلا في تاريخ هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وإذ كانت هذه الشهادة، ومن نظر امرأة، ولا سابقة معاملة كانت بينهما!
وإذ كان من خبرهم أن رجلًا منهم كان يدعى طارق بن عبدالله المحاربي رضي الله تعالى عنه، حدث أنه كان قائمًا يتسوق في سوق ذي المجاز إذ سمع متجولًا في السوق، يقول: ((يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا))، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة وهو يقول: يا أيها الناس، إنه كذاب.
المسألة الثانية: الشهادة قول وفعل واعتقاد:
وإذ كان من قوله صلى الله عليه وسلم، وحين بيان شأن وحقيقة الإسلام الحنيف، وإذ إن شأنه العزة والكرامة، والأنفة والشجاعة، والحسم والحزم، والعزم والعفو، والمروءة والسداد، والحرب والرؤيا، والمكيدة والشورى، والخير والهدى، والفلاح والصلاح، والهدى والنور، والسرور والحبور.
ويكأنه هذه الشهادة، وما تقتضيه من قول لازم، واقتضاء عمل واجب، واستلهام عقد بها فريد أيضًا، وهذه الثلاثة الأركان هي موجبات هذه الشهادة، وإذ ليس يعقل أن يشهد شاهد على شيء، وإلا أنه يعلم على ماذا يشهد؟ ولا يتسنى له ذلك، إلا وحين تحقق هذه الثلاثة الأركان في حق شهادته، وإلا كانت مردودة.
ولكن العرب؛ ولأنهم كانوا أهل اللغة العربية، ويفهمون هذا جيدًا ويعقلونه، ولهذا السبب، وحين دعاهم إلى هذه الشهادة، وبلفظها، عارضوه وعادوه وكذبوه؛ ولأنهم يعلمون عقدها الفريد، وجوهرها الثمين الغني الرشيد، وعملها ومقتضاها العتيق التليد.
وهذا الذي حدث، وكما رأينا من عمه أبي لهب عبدالعزى، ولا عزى له، وحين كان يمشي من ورائه، ويدعوهم إلى عدم تصديقه، واتهمه بأنه كذاب!
المسألة الثالثة: عمل الليل والنهار:
ولكن الذي أقف عليه ها هنا كثيرًا وأحققه وأقرره، هو ذلكم الجهد الذي كان يبذله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في إبلاغ رسالة ربه، ويكأنه ليس يهدأ له بال، وإلا ببلاغ رسالة ربه تعالى الرحمن الرحيم المتعال، سبحانه.
وهذه رسالة إلى الدعاة العاملين، وألا يقر لهم قرار، وكمثل نبيهم صلى الله عليه وسلم، وإلا أن يدعوا الناس، جاهلهم فيعلموه، وعالمهم فيذكروه، ولأن هذه الشهادة عظيمة عظم ما تتضمنه من توحيد ربنا، ومن نبذ النظراء والشركاء والأمثال والأنداد، وبأي اسم أو مسمى يؤدي هذا المعنى، ولما كانت خلاصة هذه الشهادة، وأنه لا أمر إلا أمره تعالى، ولا نهي إلا نهيه تعالى، وهذا هو التحقيق العملي لهذه الشهادة، والذي بدونه ليس يكون الأمر كافيًا، وليس يصبح الأمر شافيًا.
وأكرر: وهذا رسولنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كان يمشي في الأسواق؛ داعية إلى ربه، خالعًا ثوب الدعة والسكون والركون، ورافعًا كل يد وراحة، وأن يهدي الله تعالى به قلوبًا غلفًا، وأعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، متوشحًا رداء الجهاد في الله تعالى حق جهاده، ويوم لازم ذلك؛ ولأنه تعالى قد اجتباه لأداء هذه الرسالة، وعلى وجهها الذي أنف.
المسألة الرابعة: عمل الجهاز الإعلام السلبي ومجابهته:
ولكن المشار إليه حتمًا هو ذلكم العمل الإعلامي السلبي، والذي يتخذ شارة التنديد والجهر والزعيق المتواصل، وخلف هذا الداعية الحق إلى الحق، ولا يكاد يفارقه بل من ورائه!
وهذا الذي نحسب له حسابه، وهذا الذي لا يمكن أن ينتظر خلافه، ولكن سلاح الداعية في مواجهته هو صبره، واحتسابه، وإصراره، وجلده، وألا يلين له جانب، وألا يغمض له جفن، وألا يقر له طرف، وإلا ببيان رسالة ربه، وما تقتضيه شهادة الحق هذه من قول وعمل واعتقاد.
وعليه تبعًا أن يدير ظهره لهكذا باطل؛ ولأنه وحين مواجهة هكذا باطل، فإنك تراه متسلحًا بأسلحة الصبر، والاحتساب، والعلم اللازمة؛ لبيان مقتضى حق يدعو إليه، وألا يتزحزح عنه شيئًا.
ولكن الذي نكرره دائمًا هو ذلكم الإصرار على بيان الحق الأول، وهو هذه الشهادة، وها قد رأينا كيف كان هذا النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الأسواق، ويتتبع أماكن تواجد القوم ومظان اجتماعهم، ليدعوهم إلى شهادة الحق، شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وكيما لا يقال ناصره آله!
ولكن الذي نقف عنده تأملًا، هو ذاك العداء المستحكم للدعوة الجديدة، وإذ كان يمثل ذراعها ذلكم الإلواء على هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذوي قرابته! بل ومن أقرب الأقربين إليه! وإذ ها هو عمه أبو لهب عبدالعزى، ولا عزى له، وحين انتصب هكذا عداء لابن أخيه، وإذ كان على الأحق ولو حمية، وقد كانت عالية الدرجة حارة ملتهبة لديهم، أن يقف في وجه من أراده بسوء، وإذ ها هو يحمل لواء المناصبة والعداء والمخاصمة!
وهذه حكمة ربانية جديرة على كل حال، وحين كان ذلكم تسلية للدعاة العاملين، ولما كان هذا أسوة لأرباب الدعوات الصالحات، وحين انتصبوا أيضًا لتحمل لواء الحق، والدعوة إليه، صافيًا من عكر، نقيًّا من كدر.
المسألة الخامسة: قناديل مضيئة:
ويكأن هذه الدعوة دعوة الحق، وإن هي إلا تمتلك أسباب قوتها ومنعتها ومن داخلها، وهذا الذي نراه، وحين رأينا فردًا أعزل، يواجه مجتمعًا بأسره، رافعًا لواء الحق وحده، وإذ ليس معه أول أمره إلا حر وعبد! ولكن أسباب هذه القوة والمنعة الذاتية لهذه الدعوة الجديدة، هي قناديلها المضيئة، وإن هو إلا قمرها المنير، وحين كانت تستوحي قوتها ومنعتها من ذلكم الرب الكبير القهار الجبار سبحانه، والذي يؤيد بنصره هذه الفئة المؤمنة الواعية من دين، والقائمة عليه من عز ويقين.
المسألة السادسة: إن الله مانعٌ أباك:
ولكنه ويتقدم هذه الأسباب الذاتية لهذه الدعوة، ولأنها دعوة إلى الله تعالى ربنا الحق المبين سبحانه، وهو الله تعالى في الحقيقة، وفي الواقع، وإنما استمدت هذه الدعوة قيمتها وقوتها وأسباب منعتها، وإلا من قوة ربانية، وإلا من حصانة إلهية، هي التي سكبت عليها ذلكم الإصرار والمواجهة، وبكل سبيل شرعي ممكن لإحقاق حق هم به يؤمنون، وإزهاق باطل هم به يكفرون.
وكم من مشهد رأيناه حسنًا سننًا مضيئًا، وحين تشرفنا مرورًا ودراسة وبحثًا وتأملًا في أحداث هذه السيرة النبوية المباركة، وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم يربت على صدر إحدى بناته رضي الله تعالى عنهن، وإبان اقشعرارها يوم اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابًا، وشفقة مما أصاب القوم والدها النبي العربي الأمي الأبي الكريم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين قامت باكية وهي إذ تغسل عن والدها الأذى والتراب، ولكنه وبصبره واحتسابه وجلده يقول لها: لا تبكِ بنية فإن الله مانع أباك[1].
وهذه أم جميل زوج أبي لهب، وحين راحت لتؤذيه صلى الله عليه وسلم، وحين نزلت سورة المسد؛ ولأنه في نظرها يهجوها، وإذ رآها صلى الله عليه وسلم قادمة، ومن قول أبي بكر لها، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يهجُها، والواقع أنه صدق القول والحديث والبيان، ولأن الذي قصم ظهرها وسيرتها، وإن هو إلا هذا القرآن العظيم؛ ولأن الله تعالى يدافع عن الذين آمنوا، وحين طمأنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه الله تعالى مانعه منها، وحين قرأا القرآن العظيم الكريم المبارك، وإذ يجعل الله تعالى من بينها ومن بينه حجابًا مستورًا، وكان هذا من معتمد تأويل الناس لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ﴾ [الإسراء: 45].
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد وأحمد بن إسحاق، قالا: حدثنا أبو أحمد، حدثنا عبدالسلام بن حرب عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: ((لما نزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ﴾ [المسد: 1]، جاءت امرأة أبي لهب ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أبو بكر فقال له أبو بكر: لو تنحيت لا تؤذيك بشيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيحال بيني وبينها، فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر، فقالت: يا أبا بكر، هجانا صاحبك، فقال أبو بكر: لا ورب هذه البيت، ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به، فقالت: إنك لمصدق، فلما ولت، قال أبو بكر: ما رأتك؟ قال: لا، ما زال ملك يسترني حتى ولت))، ثم قال البزار: لا نعلمه يُروى بأحسن من هذا الإسناد عن أبي بكر رضي الله عنه[2].
المسألة السابعة: موجبات النصر وأسباب التمكين:
ومنه فلينفض الناس عن أنفسهم الدعة، وإلا أن ينفروا بالحق الذي به يؤمنون، وإليه يدعون، ولا يخشون العاقبة، ولأن العاقبة خير أبدًا، وإنهم لمساقون إلى جنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للذين آمنوا بالله ورسله، ولئن فعلوا فلهم الأجر والمثوبة، وإنهم ولئن نكصوا أو تعبوا أو زهقوا، فلسوف يستبدلهم الله تعالى بقوم، وإذ من وصفهم ذلكم الذي تشرئب إليه الأعناق، وتتشوفه النفوس الزكية، وحين كان من نعتهم أنهم:
1- يحبهم الله ويحبونه.
2- وأنهم أذلة على المؤمنين.
3- وأنهم أعزة على الكافرين.
4- وأنهم يجاهدون في سبيل الله.
5- وأنهم لا يخافون لومة لائم.
6- وأنهم يعلمون أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 54 - 57].
ولكن الذي نقف عنده هو ربط تحقيق الفلاح بتحقيق هذه الشهادة، وتحقيق المشروط موقوف عليه تحقيق الشرط.
وبه دل على أن الفلاح الذي نرجوه جميعًا متوقف على مدى علمنا وتطبيقاتنا لمقتضى هذه الشهادة، ومنه ومتوقف على مدى دعوتنا الناس إليها لا إلى غيرها.
المسألة الثامنة: إذا رجل في طمرين فسلم علينا:
وهذا هو وصف طارق بن عبدالله المحاربي رضي الله تعالى عنه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ كان من عقده أن المظهر الخارجي، وإن لا يقيم صلبًا، وليس يقيم دولة، وإنما تقام الدول، ومن بين مشاعر التواضع، ومن بين أحاسيس الخضوع، ومن بين نبضات الخشوع، ومن بين خلجات الإخبات، وليس من بين أضراس الأبهة، ولا من بين أنياب الافتراس!
والطِمْرُ: والطمر: الثوب الخلق، وخص ابن الأعرابي به الكساء البالي من غير الصوف، والجمع أطمار[3]، وقد كان هذا، وإبان عصر كانت فيه ملوك كسرى وتيجانها، وأباطرة قيصر وعروشها.
وقد بان يومًا أن هذا هو الحق لا ريب، وحين حل الإسلام محل هذه الإمبراطوريات كلها، وحين اكتسحها جميعها، وتحت لواء رجل ذي طمرين.
لكن هذا الرجل ذا الطمرين شارة التواضع والإخبات، ولكنه أسد في ساحات الوغى والثبات، وإذ تراه شعلة حماس وشجاعة وإقدام، وحين نادى داعي الجهاد، والفتح المبين، وحتى ولو كان وصفه؛ وكما قال عنه يومًا هذا النبي العربي الأمي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: ((رب أشعث أغبر ذي طمرين، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره))[4].
ولأنه وبهكذا يكون طائرًا ذا جناحين أحدهما الإخبات، وثانيهما القوة والإقدام!
ولكننا نقف أيضًا على مدى ذلكم الترحاب والبشرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين استقبل القوم بالسلام، ولسنا نقف كثيرًا على طبيعة هذا السلام، ومن حيث لم يرد به نص، وعلى كل حال، وإلا أنه يمكن حمله على تأكده صلى الله عليه وسلم من إسلام القوم، ومنه كان هذا السلام المعروف عنه، والمعهود به.
المسألة التاسعة: أركان عقد البيع:
ولكن القوم قد كان معهم جملهم، وحين عرض عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه جملهم هذا، وفيه جواز عرض الشراء من صاحب السلعة أو المتاع، وهذا هو الإيجاب، وحين عرض القوم قبولهم بالبيع، وهذا هو الركن الأول من أركان عقد البيع، وهو الذي يسمونه (العاقدين)، ومن شرطهما، وكما هو بيِّن في محله، من تراضٍ وأهلية، وحين كان المبيع أو المحل أو المثمن، ممثلًا بالركن الثاني من أركان عقد البيع هذا، ومنضافًا إليه الثمن وهو ركنه الثالث أيضًا، وأما المحل فهو هذا الجمل الأحمر، وكناية عن ضرورة تحديد المبيع نوعًا ووصفًا، ونفيًا للجهالة، ومن بينة؛ وكيما لا يقع غرر أو استغلال أو تدليس، وحين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم عرض الثمن، وحين عرض صلى الله عليه وسلم كم صاعًا من تمر، وبيانًا أنه يصلح كل متقوم بمال أن يكون عوضًا وثمنًا، وأما الصيغة وهي الركن الرابع لعقد البيع فهي كل ما يصلح أداء لواقعة التسليم للمعقود عليه وهو المحل، ومن كل قول أو فعل، وهذه الصيغة هنا هي المعاطاة، دلالة تسليمهم الجمل للنبي صلى الله عليه وسلم.
المسألة العاشرة: البراعة في ابتكار مواقف لصالح الدعوة:
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أمره أنه سلك طريقه بالجمل، ولما لم يعطهم ثمنه، وفيه جواز تأجيل دفع الثمن.
ولكننا لا نقف عنده هذا الجانب الفقهي كثيرًا، ولعله للعلم به لدى أهله ولا ريب، وإنما هو الوقوف على الاختبار الذي حكم الموقف، وكيف يسلك النبي صلى الله عليه وسلم سبيله، وآخذًا الجمل، ولما لم يكن هناك سابقة معرفة بينه وبين هؤلاء القوم أصحاب الجمل، والذين ما باعوه، وإذ كان ركوبهم، وإلا لحاجتهم إلى ذلكم الثمن، وقد كانوا على ما يبدو جياعًا، ويريدون سد رمقهم، ومن ثمن جملهم تمرًا، وحين قدر هذا الثمن بكم صاع من التمر.
وهذا من لوازم صنع المواقف على كل حال، ولعمل بين القوم، ولسبر الغور، وبهذه المواقف، وبين هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ويدخلون منه، وعلى ذلكم خلقه، ويعرفون عنه، وذلكم وفاؤه، ويدركون عنه، وذلكم إيفاؤه، بمقتضى عقود أبرمت، وحين كان هذا النبي صلى الله عليه يعلم؛ ويقف عند قوله ربه الرحمن سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ [المائدة: 1].
وهذا وصف حال القوم، وحين سيطر عليهم خوفهم، وحين قال هذا طارق بن عبيدالله: "فما استوضعنا مما قلنا شيئًا، وأخذ بخطام الجمل وانطلق، فلما توارى عنا بحيطان المدينة ونخلها، قلنا: ما صنعنا والله ما بعنا جملنا ممن يعرف، ولا أخذنا له ثمنًا".
المسألة الحادية عشرة: فراسة امرأة:
ولكن هذه المرأة الظعينة، وحين خرجت بقول الصدق الذي به قد توشحت، ومن قول الحق الذي به توسمت، وحين رأت بحسها النسوي الرقيق الحاني اللطيف، أمارات الهدى والوفاء، وعلى قسمات هذا الرجل؛ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ قالوا إنهم لا يعرفونه، ولم يسبق لهم سابقة معرفة أو تعامل أو ممارسة.
وعلى كل حال، فإن هذه هي نظرة الإسلام الحنيف الخالد إلى المرأة تكريمًا، واعترافًا بدورها وقيمتها ورأيها، ولما كان صوابًا، ومن قولها، وحين كان حقًّا وعدلًا وقسطًا، ومن حديثها، وحين أبرقت قولًا سجله لها التاريخ، ولما كان فريدًا ممهورًا بالحق والعدل والصدق والنصفة، وذلكم التوسم الذي أقف أمامه منبهرًا، ومن فراسة هذه امرأة، ووسط فريق من الرجال، ولما لم ينظروا نظرها، ولما لم يتفرسوا فراستها.
وحين قالت قولها هذا: "لا تلاوموا فلقد رأيت وجه رجل لا يغدر، ما رأيت شيئًا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه"[5].
المسألة الثانية عشرة: الرجال قوامون على النساء:
ويكأني لست أنقص من حق الرجال شيئًا، ويكأني لست أغمض عن قوامتهم طرفًا، ولكن هذا شيء، وشهادة التاريخ على هكذا فراسة بامرأة لرجل لم تكن بينهم سابقة عهد ولا معرفة شيء آخر، وهو الذي تنبغي الإشارة إليه، والوقوف عنده، توجيه الشكر لها، ونيابة عن أمة خالدة، كان من شأنها هو ذلكم الاتحاف بالشهادة، على حق المرأة وكرامتها وعطائها، وتسجيل مواقفها الخالدة التليدة!
المسألة الثالثة عشرة: أثر المظهر الخارجي على باطن العبد الداخلي:
لكن قول المرأة الظعينة هذا، وحين كان قول الحق، وإذ كان موافقًا لطبائع هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وما قد جبله عليه ربه تعالى، وهذه امرأة لم يكن لها سابقة عهد بهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر التاريخ لها مواقف تشهد بأنها خرجت بهكذا الانطباع، ومن خلال الممارسة والمخالطة، وحينها يكون هذا شيئًا معقولًا، ولهذا الشهادة التي أدلت بها، ولكن الذي حدث، ومن شهادتها هذه الشهادة، وأن ذلكم كان خارج نطاق المخالطة، وإذ كان دون لقاء سبقت فيه مبايعة أو شراء، أو مناكحة أو معاقدة، أو مما سواه، مما يكون عامل سبر للأخلاق، وموجب كشف للطبائع.
وحين كان الأمر كذلك، فلا شك أن هناك عاملًا داخليًّا خالج هذه المرأة، وإذ أدت بها فراستها أن تشهد على هذا الرسول النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن رؤيتها له أول مرة، وهذا عامل نفسي حسن أن يعقد معمل للبحث والدراسة حول علاقة المظهر العام الخارجي، وبما يمكن أن يكون دليلًا وبرهانًا على صلاح الباطن الداخلي.
ولربما كان زيادة إيضاح لهذا، وما كان قد وقع من أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه، وحين قال: "إن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا، أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا، لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة"[6].
ولأن قومًا، ولربما كان لسبب أو لآخر، وإنما يظهرون خلاف ما يبطنون، وهو إذ يعاملهم تأسيسًا على ما يظهر منهم، لكن هذا شيء، ومبحثنا شيء آخر على كل حال، ولكنما علاقة أخرى بينهما، ومن خلال الاتفاق على أثر الهدي الظاهر، وما له من علاقة بينة بينه وبين الاعتقاد الباطن.
ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام الدارقطني رحمه الله تعالى عن طارق بن عبدالله المحاربي قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة بسوق ذي المجاز وأنا في بياعة لي - هكذا قال - أبيعها، فمر وعليه حلة حمراء وهو ينادي بأعلى صوته: يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا، ورجل يتبعه بالحجارة وقد أدمى كعبيه وعرقوبيه وهو يقول: يا أيها الناس، لا تطيعوه؛ فإنه كذاب، قلت: من هذا؟ فقالوا: هذا غلام بني عبدالمطلب، قلت: من هذا الذي يتبعه يرميه؟ قالوا: هذا عمه عبدالعزى، وهو أبو لهب لعنه الله، فلما ظهر الإسلام وقدم المدينة أقبلنا في ركب من الربذة وجنوب الربذة حتى نزلنا قريبًا من المدينة ومعنا ظعينة لنا، فبينما نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه، فقال: من أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة وجنوب الربذة، قال: ومعنا جمل أحمر، قال: تبيعوني جملكم هذا؟ قلنا: نعم، قال: بكم؟ قلنا: بكذا وكذا صاعًا من تمر، قال: فما استوضعنا شيئًا، وقال: قد أخذته، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة فتوارى عنا، فتلاومنا بيننا، وقلنا: أعطيتم جملكم من لا تعرفونه، فقالت الظعينة: لا تلاوموا؛ فقد رأيت وجه رجل ما كان ليحقركم، ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه، فلما كان العشي أتانا رجل فقال: السلام عليكم، رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا، وتكتالوا حتى تستوفوا، قال: فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا، فلما كان من الغد دخلنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول: أمك وأباك، وأختك وأخاك، وأدناك أدناك، فقام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع الذين قتلوا فلانًا في الجاهلية، فخذ لنا بثأرنا، فرفع يديه حتى رأينا بياض إبطيه وقال: ألا لا يجني والد على ولده))[7].
[1] السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج 2/ 283.
[2] تفسير ابن كثير، ابن كثير: 4/ 604.
[3] لسان العرب، ابن منظور: ج 4/ 503.
[4] جامع العلوم والحكم: 1/ 269؛ خلاصة حكم المحدث: مشهور.
[5] البداية والنهاية، ابن كثير: ج 5/ 101.
[6] صحيح البخاري: 2641.
[7] تخريج سنن الدارقطني، شعيب الأرنؤوط:2976؛ حكم المحدث: صحيح.
محمد السيد حسن محمد
كل يوم يمر علينا من هذه السيرة النبوية المباركة، وإذ يتحفنا هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم زادًا، وإذ يهدينا سواء، وإذ يحدونا صوابًا، وإذ يمنحنا رشدًا، وإذ يحذينا نسيمًا وطيبًا، وإذ نزداد منه علمًا وهدًى، وخيرًا وذكرًا حسنًا.
وإن هذه لطاقات استزدناها، ومن خبر هذا الصحابي الكريم طارق بن عبدالله المحاربي، وصحبه الكرام البررة، ومع هذا النبي المجتبى، ومن فيض هذا الرسول المرتضى؛ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأعالجه في ثلاث عشرة مسألة:
المسألة الأولى: لا تلاوموا؛ فلقد رأيت وجه رجل لا يغدر ما رأيت شيئًا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه:
هذا قول امرأة ظعينة مسافرة مع قومها، وها هي توجز لنا وصفًا دقيقًا صريحًا صحيحًا بليغًا لهذا النبي العربي الكريم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كالقمر ليلة بدره، وأنه ليس يغدر من وعده وعهده، وهذان وصفان كافيان أن يسجلا في تاريخ هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وإذ كانت هذه الشهادة، ومن نظر امرأة، ولا سابقة معاملة كانت بينهما!
وإذ كان من خبرهم أن رجلًا منهم كان يدعى طارق بن عبدالله المحاربي رضي الله تعالى عنه، حدث أنه كان قائمًا يتسوق في سوق ذي المجاز إذ سمع متجولًا في السوق، يقول: ((يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا))، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة وهو يقول: يا أيها الناس، إنه كذاب.
المسألة الثانية: الشهادة قول وفعل واعتقاد:
وإذ كان من قوله صلى الله عليه وسلم، وحين بيان شأن وحقيقة الإسلام الحنيف، وإذ إن شأنه العزة والكرامة، والأنفة والشجاعة، والحسم والحزم، والعزم والعفو، والمروءة والسداد، والحرب والرؤيا، والمكيدة والشورى، والخير والهدى، والفلاح والصلاح، والهدى والنور، والسرور والحبور.
ويكأنه هذه الشهادة، وما تقتضيه من قول لازم، واقتضاء عمل واجب، واستلهام عقد بها فريد أيضًا، وهذه الثلاثة الأركان هي موجبات هذه الشهادة، وإذ ليس يعقل أن يشهد شاهد على شيء، وإلا أنه يعلم على ماذا يشهد؟ ولا يتسنى له ذلك، إلا وحين تحقق هذه الثلاثة الأركان في حق شهادته، وإلا كانت مردودة.
ولكن العرب؛ ولأنهم كانوا أهل اللغة العربية، ويفهمون هذا جيدًا ويعقلونه، ولهذا السبب، وحين دعاهم إلى هذه الشهادة، وبلفظها، عارضوه وعادوه وكذبوه؛ ولأنهم يعلمون عقدها الفريد، وجوهرها الثمين الغني الرشيد، وعملها ومقتضاها العتيق التليد.
وهذا الذي حدث، وكما رأينا من عمه أبي لهب عبدالعزى، ولا عزى له، وحين كان يمشي من ورائه، ويدعوهم إلى عدم تصديقه، واتهمه بأنه كذاب!
المسألة الثالثة: عمل الليل والنهار:
ولكن الذي أقف عليه ها هنا كثيرًا وأحققه وأقرره، هو ذلكم الجهد الذي كان يبذله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في إبلاغ رسالة ربه، ويكأنه ليس يهدأ له بال، وإلا ببلاغ رسالة ربه تعالى الرحمن الرحيم المتعال، سبحانه.
وهذه رسالة إلى الدعاة العاملين، وألا يقر لهم قرار، وكمثل نبيهم صلى الله عليه وسلم، وإلا أن يدعوا الناس، جاهلهم فيعلموه، وعالمهم فيذكروه، ولأن هذه الشهادة عظيمة عظم ما تتضمنه من توحيد ربنا، ومن نبذ النظراء والشركاء والأمثال والأنداد، وبأي اسم أو مسمى يؤدي هذا المعنى، ولما كانت خلاصة هذه الشهادة، وأنه لا أمر إلا أمره تعالى، ولا نهي إلا نهيه تعالى، وهذا هو التحقيق العملي لهذه الشهادة، والذي بدونه ليس يكون الأمر كافيًا، وليس يصبح الأمر شافيًا.
وأكرر: وهذا رسولنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كان يمشي في الأسواق؛ داعية إلى ربه، خالعًا ثوب الدعة والسكون والركون، ورافعًا كل يد وراحة، وأن يهدي الله تعالى به قلوبًا غلفًا، وأعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، متوشحًا رداء الجهاد في الله تعالى حق جهاده، ويوم لازم ذلك؛ ولأنه تعالى قد اجتباه لأداء هذه الرسالة، وعلى وجهها الذي أنف.
المسألة الرابعة: عمل الجهاز الإعلام السلبي ومجابهته:
ولكن المشار إليه حتمًا هو ذلكم العمل الإعلامي السلبي، والذي يتخذ شارة التنديد والجهر والزعيق المتواصل، وخلف هذا الداعية الحق إلى الحق، ولا يكاد يفارقه بل من ورائه!
وهذا الذي نحسب له حسابه، وهذا الذي لا يمكن أن ينتظر خلافه، ولكن سلاح الداعية في مواجهته هو صبره، واحتسابه، وإصراره، وجلده، وألا يلين له جانب، وألا يغمض له جفن، وألا يقر له طرف، وإلا ببيان رسالة ربه، وما تقتضيه شهادة الحق هذه من قول وعمل واعتقاد.
وعليه تبعًا أن يدير ظهره لهكذا باطل؛ ولأنه وحين مواجهة هكذا باطل، فإنك تراه متسلحًا بأسلحة الصبر، والاحتساب، والعلم اللازمة؛ لبيان مقتضى حق يدعو إليه، وألا يتزحزح عنه شيئًا.
ولكن الذي نكرره دائمًا هو ذلكم الإصرار على بيان الحق الأول، وهو هذه الشهادة، وها قد رأينا كيف كان هذا النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الأسواق، ويتتبع أماكن تواجد القوم ومظان اجتماعهم، ليدعوهم إلى شهادة الحق، شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وكيما لا يقال ناصره آله!
ولكن الذي نقف عنده تأملًا، هو ذاك العداء المستحكم للدعوة الجديدة، وإذ كان يمثل ذراعها ذلكم الإلواء على هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذوي قرابته! بل ومن أقرب الأقربين إليه! وإذ ها هو عمه أبو لهب عبدالعزى، ولا عزى له، وحين انتصب هكذا عداء لابن أخيه، وإذ كان على الأحق ولو حمية، وقد كانت عالية الدرجة حارة ملتهبة لديهم، أن يقف في وجه من أراده بسوء، وإذ ها هو يحمل لواء المناصبة والعداء والمخاصمة!
وهذه حكمة ربانية جديرة على كل حال، وحين كان ذلكم تسلية للدعاة العاملين، ولما كان هذا أسوة لأرباب الدعوات الصالحات، وحين انتصبوا أيضًا لتحمل لواء الحق، والدعوة إليه، صافيًا من عكر، نقيًّا من كدر.
المسألة الخامسة: قناديل مضيئة:
ويكأن هذه الدعوة دعوة الحق، وإن هي إلا تمتلك أسباب قوتها ومنعتها ومن داخلها، وهذا الذي نراه، وحين رأينا فردًا أعزل، يواجه مجتمعًا بأسره، رافعًا لواء الحق وحده، وإذ ليس معه أول أمره إلا حر وعبد! ولكن أسباب هذه القوة والمنعة الذاتية لهذه الدعوة الجديدة، هي قناديلها المضيئة، وإن هو إلا قمرها المنير، وحين كانت تستوحي قوتها ومنعتها من ذلكم الرب الكبير القهار الجبار سبحانه، والذي يؤيد بنصره هذه الفئة المؤمنة الواعية من دين، والقائمة عليه من عز ويقين.
المسألة السادسة: إن الله مانعٌ أباك:
ولكنه ويتقدم هذه الأسباب الذاتية لهذه الدعوة، ولأنها دعوة إلى الله تعالى ربنا الحق المبين سبحانه، وهو الله تعالى في الحقيقة، وفي الواقع، وإنما استمدت هذه الدعوة قيمتها وقوتها وأسباب منعتها، وإلا من قوة ربانية، وإلا من حصانة إلهية، هي التي سكبت عليها ذلكم الإصرار والمواجهة، وبكل سبيل شرعي ممكن لإحقاق حق هم به يؤمنون، وإزهاق باطل هم به يكفرون.
وكم من مشهد رأيناه حسنًا سننًا مضيئًا، وحين تشرفنا مرورًا ودراسة وبحثًا وتأملًا في أحداث هذه السيرة النبوية المباركة، وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم يربت على صدر إحدى بناته رضي الله تعالى عنهن، وإبان اقشعرارها يوم اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابًا، وشفقة مما أصاب القوم والدها النبي العربي الأمي الأبي الكريم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين قامت باكية وهي إذ تغسل عن والدها الأذى والتراب، ولكنه وبصبره واحتسابه وجلده يقول لها: لا تبكِ بنية فإن الله مانع أباك[1].
وهذه أم جميل زوج أبي لهب، وحين راحت لتؤذيه صلى الله عليه وسلم، وحين نزلت سورة المسد؛ ولأنه في نظرها يهجوها، وإذ رآها صلى الله عليه وسلم قادمة، ومن قول أبي بكر لها، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يهجُها، والواقع أنه صدق القول والحديث والبيان، ولأن الذي قصم ظهرها وسيرتها، وإن هو إلا هذا القرآن العظيم؛ ولأن الله تعالى يدافع عن الذين آمنوا، وحين طمأنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه الله تعالى مانعه منها، وحين قرأا القرآن العظيم الكريم المبارك، وإذ يجعل الله تعالى من بينها ومن بينه حجابًا مستورًا، وكان هذا من معتمد تأويل الناس لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ﴾ [الإسراء: 45].
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد وأحمد بن إسحاق، قالا: حدثنا أبو أحمد، حدثنا عبدالسلام بن حرب عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: ((لما نزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ﴾ [المسد: 1]، جاءت امرأة أبي لهب ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أبو بكر فقال له أبو بكر: لو تنحيت لا تؤذيك بشيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيحال بيني وبينها، فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر، فقالت: يا أبا بكر، هجانا صاحبك، فقال أبو بكر: لا ورب هذه البيت، ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به، فقالت: إنك لمصدق، فلما ولت، قال أبو بكر: ما رأتك؟ قال: لا، ما زال ملك يسترني حتى ولت))، ثم قال البزار: لا نعلمه يُروى بأحسن من هذا الإسناد عن أبي بكر رضي الله عنه[2].
المسألة السابعة: موجبات النصر وأسباب التمكين:
ومنه فلينفض الناس عن أنفسهم الدعة، وإلا أن ينفروا بالحق الذي به يؤمنون، وإليه يدعون، ولا يخشون العاقبة، ولأن العاقبة خير أبدًا، وإنهم لمساقون إلى جنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للذين آمنوا بالله ورسله، ولئن فعلوا فلهم الأجر والمثوبة، وإنهم ولئن نكصوا أو تعبوا أو زهقوا، فلسوف يستبدلهم الله تعالى بقوم، وإذ من وصفهم ذلكم الذي تشرئب إليه الأعناق، وتتشوفه النفوس الزكية، وحين كان من نعتهم أنهم:
1- يحبهم الله ويحبونه.
2- وأنهم أذلة على المؤمنين.
3- وأنهم أعزة على الكافرين.
4- وأنهم يجاهدون في سبيل الله.
5- وأنهم لا يخافون لومة لائم.
6- وأنهم يعلمون أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 54 - 57].
ولكن الذي نقف عنده هو ربط تحقيق الفلاح بتحقيق هذه الشهادة، وتحقيق المشروط موقوف عليه تحقيق الشرط.
وبه دل على أن الفلاح الذي نرجوه جميعًا متوقف على مدى علمنا وتطبيقاتنا لمقتضى هذه الشهادة، ومنه ومتوقف على مدى دعوتنا الناس إليها لا إلى غيرها.
المسألة الثامنة: إذا رجل في طمرين فسلم علينا:
وهذا هو وصف طارق بن عبدالله المحاربي رضي الله تعالى عنه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ كان من عقده أن المظهر الخارجي، وإن لا يقيم صلبًا، وليس يقيم دولة، وإنما تقام الدول، ومن بين مشاعر التواضع، ومن بين أحاسيس الخضوع، ومن بين نبضات الخشوع، ومن بين خلجات الإخبات، وليس من بين أضراس الأبهة، ولا من بين أنياب الافتراس!
والطِمْرُ: والطمر: الثوب الخلق، وخص ابن الأعرابي به الكساء البالي من غير الصوف، والجمع أطمار[3]، وقد كان هذا، وإبان عصر كانت فيه ملوك كسرى وتيجانها، وأباطرة قيصر وعروشها.
وقد بان يومًا أن هذا هو الحق لا ريب، وحين حل الإسلام محل هذه الإمبراطوريات كلها، وحين اكتسحها جميعها، وتحت لواء رجل ذي طمرين.
لكن هذا الرجل ذا الطمرين شارة التواضع والإخبات، ولكنه أسد في ساحات الوغى والثبات، وإذ تراه شعلة حماس وشجاعة وإقدام، وحين نادى داعي الجهاد، والفتح المبين، وحتى ولو كان وصفه؛ وكما قال عنه يومًا هذا النبي العربي الأمي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: ((رب أشعث أغبر ذي طمرين، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره))[4].
ولأنه وبهكذا يكون طائرًا ذا جناحين أحدهما الإخبات، وثانيهما القوة والإقدام!
ولكننا نقف أيضًا على مدى ذلكم الترحاب والبشرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين استقبل القوم بالسلام، ولسنا نقف كثيرًا على طبيعة هذا السلام، ومن حيث لم يرد به نص، وعلى كل حال، وإلا أنه يمكن حمله على تأكده صلى الله عليه وسلم من إسلام القوم، ومنه كان هذا السلام المعروف عنه، والمعهود به.
المسألة التاسعة: أركان عقد البيع:
ولكن القوم قد كان معهم جملهم، وحين عرض عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه جملهم هذا، وفيه جواز عرض الشراء من صاحب السلعة أو المتاع، وهذا هو الإيجاب، وحين عرض القوم قبولهم بالبيع، وهذا هو الركن الأول من أركان عقد البيع، وهو الذي يسمونه (العاقدين)، ومن شرطهما، وكما هو بيِّن في محله، من تراضٍ وأهلية، وحين كان المبيع أو المحل أو المثمن، ممثلًا بالركن الثاني من أركان عقد البيع هذا، ومنضافًا إليه الثمن وهو ركنه الثالث أيضًا، وأما المحل فهو هذا الجمل الأحمر، وكناية عن ضرورة تحديد المبيع نوعًا ووصفًا، ونفيًا للجهالة، ومن بينة؛ وكيما لا يقع غرر أو استغلال أو تدليس، وحين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم عرض الثمن، وحين عرض صلى الله عليه وسلم كم صاعًا من تمر، وبيانًا أنه يصلح كل متقوم بمال أن يكون عوضًا وثمنًا، وأما الصيغة وهي الركن الرابع لعقد البيع فهي كل ما يصلح أداء لواقعة التسليم للمعقود عليه وهو المحل، ومن كل قول أو فعل، وهذه الصيغة هنا هي المعاطاة، دلالة تسليمهم الجمل للنبي صلى الله عليه وسلم.
المسألة العاشرة: البراعة في ابتكار مواقف لصالح الدعوة:
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أمره أنه سلك طريقه بالجمل، ولما لم يعطهم ثمنه، وفيه جواز تأجيل دفع الثمن.
ولكننا لا نقف عنده هذا الجانب الفقهي كثيرًا، ولعله للعلم به لدى أهله ولا ريب، وإنما هو الوقوف على الاختبار الذي حكم الموقف، وكيف يسلك النبي صلى الله عليه وسلم سبيله، وآخذًا الجمل، ولما لم يكن هناك سابقة معرفة بينه وبين هؤلاء القوم أصحاب الجمل، والذين ما باعوه، وإذ كان ركوبهم، وإلا لحاجتهم إلى ذلكم الثمن، وقد كانوا على ما يبدو جياعًا، ويريدون سد رمقهم، ومن ثمن جملهم تمرًا، وحين قدر هذا الثمن بكم صاع من التمر.
وهذا من لوازم صنع المواقف على كل حال، ولعمل بين القوم، ولسبر الغور، وبهذه المواقف، وبين هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ويدخلون منه، وعلى ذلكم خلقه، ويعرفون عنه، وذلكم وفاؤه، ويدركون عنه، وذلكم إيفاؤه، بمقتضى عقود أبرمت، وحين كان هذا النبي صلى الله عليه يعلم؛ ويقف عند قوله ربه الرحمن سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ [المائدة: 1].
وهذا وصف حال القوم، وحين سيطر عليهم خوفهم، وحين قال هذا طارق بن عبيدالله: "فما استوضعنا مما قلنا شيئًا، وأخذ بخطام الجمل وانطلق، فلما توارى عنا بحيطان المدينة ونخلها، قلنا: ما صنعنا والله ما بعنا جملنا ممن يعرف، ولا أخذنا له ثمنًا".
المسألة الحادية عشرة: فراسة امرأة:
ولكن هذه المرأة الظعينة، وحين خرجت بقول الصدق الذي به قد توشحت، ومن قول الحق الذي به توسمت، وحين رأت بحسها النسوي الرقيق الحاني اللطيف، أمارات الهدى والوفاء، وعلى قسمات هذا الرجل؛ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ قالوا إنهم لا يعرفونه، ولم يسبق لهم سابقة معرفة أو تعامل أو ممارسة.
وعلى كل حال، فإن هذه هي نظرة الإسلام الحنيف الخالد إلى المرأة تكريمًا، واعترافًا بدورها وقيمتها ورأيها، ولما كان صوابًا، ومن قولها، وحين كان حقًّا وعدلًا وقسطًا، ومن حديثها، وحين أبرقت قولًا سجله لها التاريخ، ولما كان فريدًا ممهورًا بالحق والعدل والصدق والنصفة، وذلكم التوسم الذي أقف أمامه منبهرًا، ومن فراسة هذه امرأة، ووسط فريق من الرجال، ولما لم ينظروا نظرها، ولما لم يتفرسوا فراستها.
وحين قالت قولها هذا: "لا تلاوموا فلقد رأيت وجه رجل لا يغدر، ما رأيت شيئًا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه"[5].
المسألة الثانية عشرة: الرجال قوامون على النساء:
ويكأني لست أنقص من حق الرجال شيئًا، ويكأني لست أغمض عن قوامتهم طرفًا، ولكن هذا شيء، وشهادة التاريخ على هكذا فراسة بامرأة لرجل لم تكن بينهم سابقة عهد ولا معرفة شيء آخر، وهو الذي تنبغي الإشارة إليه، والوقوف عنده، توجيه الشكر لها، ونيابة عن أمة خالدة، كان من شأنها هو ذلكم الاتحاف بالشهادة، على حق المرأة وكرامتها وعطائها، وتسجيل مواقفها الخالدة التليدة!
المسألة الثالثة عشرة: أثر المظهر الخارجي على باطن العبد الداخلي:
لكن قول المرأة الظعينة هذا، وحين كان قول الحق، وإذ كان موافقًا لطبائع هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وما قد جبله عليه ربه تعالى، وهذه امرأة لم يكن لها سابقة عهد بهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر التاريخ لها مواقف تشهد بأنها خرجت بهكذا الانطباع، ومن خلال الممارسة والمخالطة، وحينها يكون هذا شيئًا معقولًا، ولهذا الشهادة التي أدلت بها، ولكن الذي حدث، ومن شهادتها هذه الشهادة، وأن ذلكم كان خارج نطاق المخالطة، وإذ كان دون لقاء سبقت فيه مبايعة أو شراء، أو مناكحة أو معاقدة، أو مما سواه، مما يكون عامل سبر للأخلاق، وموجب كشف للطبائع.
وحين كان الأمر كذلك، فلا شك أن هناك عاملًا داخليًّا خالج هذه المرأة، وإذ أدت بها فراستها أن تشهد على هذا الرسول النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن رؤيتها له أول مرة، وهذا عامل نفسي حسن أن يعقد معمل للبحث والدراسة حول علاقة المظهر العام الخارجي، وبما يمكن أن يكون دليلًا وبرهانًا على صلاح الباطن الداخلي.
ولربما كان زيادة إيضاح لهذا، وما كان قد وقع من أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه، وحين قال: "إن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا، أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا، لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة"[6].
ولأن قومًا، ولربما كان لسبب أو لآخر، وإنما يظهرون خلاف ما يبطنون، وهو إذ يعاملهم تأسيسًا على ما يظهر منهم، لكن هذا شيء، ومبحثنا شيء آخر على كل حال، ولكنما علاقة أخرى بينهما، ومن خلال الاتفاق على أثر الهدي الظاهر، وما له من علاقة بينة بينه وبين الاعتقاد الباطن.
ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام الدارقطني رحمه الله تعالى عن طارق بن عبدالله المحاربي قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة بسوق ذي المجاز وأنا في بياعة لي - هكذا قال - أبيعها، فمر وعليه حلة حمراء وهو ينادي بأعلى صوته: يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا، ورجل يتبعه بالحجارة وقد أدمى كعبيه وعرقوبيه وهو يقول: يا أيها الناس، لا تطيعوه؛ فإنه كذاب، قلت: من هذا؟ فقالوا: هذا غلام بني عبدالمطلب، قلت: من هذا الذي يتبعه يرميه؟ قالوا: هذا عمه عبدالعزى، وهو أبو لهب لعنه الله، فلما ظهر الإسلام وقدم المدينة أقبلنا في ركب من الربذة وجنوب الربذة حتى نزلنا قريبًا من المدينة ومعنا ظعينة لنا، فبينما نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه، فقال: من أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة وجنوب الربذة، قال: ومعنا جمل أحمر، قال: تبيعوني جملكم هذا؟ قلنا: نعم، قال: بكم؟ قلنا: بكذا وكذا صاعًا من تمر، قال: فما استوضعنا شيئًا، وقال: قد أخذته، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة فتوارى عنا، فتلاومنا بيننا، وقلنا: أعطيتم جملكم من لا تعرفونه، فقالت الظعينة: لا تلاوموا؛ فقد رأيت وجه رجل ما كان ليحقركم، ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه، فلما كان العشي أتانا رجل فقال: السلام عليكم، رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا، وتكتالوا حتى تستوفوا، قال: فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا، فلما كان من الغد دخلنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول: أمك وأباك، وأختك وأخاك، وأدناك أدناك، فقام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع الذين قتلوا فلانًا في الجاهلية، فخذ لنا بثأرنا، فرفع يديه حتى رأينا بياض إبطيه وقال: ألا لا يجني والد على ولده))[7].
[1] السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج 2/ 283.
[2] تفسير ابن كثير، ابن كثير: 4/ 604.
[3] لسان العرب، ابن منظور: ج 4/ 503.
[4] جامع العلوم والحكم: 1/ 269؛ خلاصة حكم المحدث: مشهور.
[5] البداية والنهاية، ابن كثير: ج 5/ 101.
[6] صحيح البخاري: 2641.
[7] تخريج سنن الدارقطني، شعيب الأرنؤوط:2976؛ حكم المحدث: صحيح.