فريق منتدى الدي في دي العربي
06-23-2022, 01:00 PM
شهر الجود والكرم
الشيخ عبدالله محمد الطوالة
الحمد لله الذي جعَل في اختلاف الليل والنهار آية وذكرًا، وجعل هذه الدار زادًا ومجازًا إلى الدار الأخرى، والحمد لله الذي يسَّر لِمَن شاء من عباده الهدى واليسرى، وجزاهم بفضله على الحسنةٍ الواحدة عشرًا: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ﴾ [طه: 5-6].
والصلاةُ والسلامُ على من بعثهُ اللهُ تباركَ وتعالى هاديًا ومبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا منيرًا، فبلَّغَ الرسالةَ، وأدى الأمانةَ، ونصحَ الأُمَّةَ، وجاهدَ في الله جهادًا كبيرًا، صـلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ وأنعمَ عليه، وعلى آله الأطهارِ، وصحابتهِ الأبْرارِ، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمَّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، فتقوى اللهِ هيَ الزادُ الأعْظَمُ، وهيَ الطريقُ الأكْرَمُ، وهيَ المنهجُ الأقْوَمُ، والسبيلُ الأسْلَمُ، ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 18-20].
معاشر المؤمنين، أيها الصائمونَ الكرام، حين نتأمَّلُ عبادةَ الرسول صلى الله عليه وسلم عمومًا، وفي رمضان خصوصًا نجدُ اجتهادًا عجيبًا، فقد كان صلى الله عليه وسلم يواصِلُ الصيامَ لليومين والثلاثة، وكان يذكرُ الله تعالى في كل أحيانه، وكان يقومُ من الليل حتى تتفطرَ قدماه، وكان يتدارسُ القرآنَ مع جبريل كل ليلةٍ من ليالي رمضان، وكان يعتكفُ في مسجدهِ العشرَ الأواخرَ من رمضان، لكن أعجبَ ما كان يفعلهُ ويُكثرُ منهُ في رمضانَ هو الصدقة، فالصدقةُ في رمضانَ لها منزلةٌ خاصة، تأمَّلوا ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس t، قال: "كانَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ"..
إنه درسٌ رمضاني عظيم: فالصدقةُ تكافلٌ وتراحمٌ، وتوثيقٌ لأواصر الترابطِ والتعاونِ بين أفراد المجتمع، وشعورٌ بآلام إخوانك المسلمين، وإحساسٌ بأحوال المحرومين والمحتاجين.
الصدقةُ كما في صحيح مُسلمٍ برهانُ الإيمان، ودليلُ رِقَّةِ القَلْبِ وَما فيه من رَّحْمَةٍ غامرةٍ، وحبٍّ لفعل الخيرِ وَإِغَاثَةِ المَلْهُوفِ، وبذلِ المَعْرُوفِ، وَالعَطْفِ عَلَى المحتاجين من الفُقَرَاءِ وَالـمَسَاكِينِ، الصدقةُ من أحبِّ الأعمالِ إلى الله تعالى، ففي الحديث الصحيح: قال صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مُسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا"؛ الحديث.
الصدقةُ لها وقعٌ خاص عند الغنيِّ الكريمِ سبحانه، تأمَّل: ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 18]، و﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [البقرة:245]، وتأملوا هذا الحديث الصحيح يا عباد الله: "إِنَّ العبدَ إذا تَصَدَّقَ من طَيِّبٍ تَقَبَّلَها اللهُ مِنْهُ، وأَخَذَها بِيَمِينِهِ فَرَبَّاها، كما يُربِّي أحدُكُمْ مُهْرَهُ أوْ فَصِيلهُ، وإِنَّ الرجلَ لَيَتَصَدَّقُ بِاللُّقْمَةِ، فَتَرْبُو في يَدِ اللهِ أوْ قال: في كَفِّ اللهِ حتى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ، فَتَصَدَّقُوا".
فالصدقةُ لها أجرٌ خاص عند الله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]، فكيف إذا كانت الصدقة في رمضان؟!
الصدقةُ مخلوفةٌ، والمتصدِقُ يُعوضُ في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39]، وفي الحديث المتفق عليه، قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا».
الصدقةُ شفاءٌ ودواء، ففي الحديث الحسن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "داوُوا مَرْضاكم بالصَّدَقةِ"، وفي الحديث الصحيح: صنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السوءِ والآفاتِ والهلكاتِ"، وقال الإمام بن القيم: (للصدَقة تأثيرٌ عجيبٌ في دفع أنواع البلاء، ولو كانت مِن فاجر أو مِن ظالِم، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعًا من البلاء، وهذا أمرٌ معلوم عنْدَ الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مُقرُّون بـه لأنهم جرَّبوه).
الصدقةُ من أسبابِ الأمنِ من عذاب الله تعالى، تأمل: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [المنافقون: 10]، وفي الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صِلَةُ الرَّحِمِ تزيدُ في العُمُرِ وصدَقةُ السِّرِ تطفئُ غضبَ الرَّبِّ".
الصدقةُ من أعظم الأعمالِ الصالحة مُضاعفةً في الأجور، وتكفيرًا للذنوب، وتزكيةً وتطهيرًا للنفس، قال تعالى: ﴿ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 17]، وقال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]، وفي الحديث الصحيح: قال صلى الله عليه وسلم: "الصَّدقةُ تُطْفِئُ الخطيئةَ كما يُطْفِئُ الماءُ النَّارَ".
ومن مميزات الصدقةِ العجيبة أن المتصدقَ في ظلِ صدقتهِ يومَ القيامة، ففي الحديث المشهور، قال صلى الله عليه وسلم: "سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظلَّ إلَّا ظلُّه، (وذكَر منهم) ورجُلٌ تصَدَّقَ بصَدَقةٍ فأَخفاها حتى لا تعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يَمينُه"، وفي الحديث الحسن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقةَ لتُطفئ عَن أهلِها حرَّ القبورِ، وإنما يَستَظل المؤمِنُ يومَ القيامةِ في ظل صدقتِهِ".
ثم إن مفهوم الصدقةِ في ديننا واسعٌ جدًّا، فليست الصدقةُ مقصورةً على المال فقط، فتبسُّمكَ في وجهِ أخيكَ صدقةٌ، والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ، وأمركَ بالمعروف ونهيكُ عن المنكر صدقةٌ، وإرشادكَ الرجلَ في أرض الضلالِ لك صدقةٌ، وإماطتُكَ الأذى والشوكَ والعظمَ عن الطريق لك صدقةٌ، وإفراغكَ من دلوك في دلو أخيكَ لك صدقةٌ، وبصركَ للرجل الرديء البصرِ لك صدقةٌ، وكلُّ معروفٍ صدقة، وكفَّ شرك عن الناس، صدقةٌ منك على نفسك، فلا تحرموا أنفسكم من هذه الأجور العظيمة المضاعفة.
وقد دَلَّتِ الدَّلائِلُ نقلًا وعقلًا أَنَّ الكِرَامَ المُحسِنِينَ هُم أَشرَحُ النَّاسِ صُدُورًا، وَأَطيَبُهُم نُفُوسًا، وَأَهنأهم قُلُوبًا، وَأَكثرُهُم سَعَادَةً وحبورًا، وَكَيفَ لا يَكُونُونَ كَذَلِكَ، وفي كتاب الله العزيز، أنَّ اللهَ مع المحسنين، ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 148]، و﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [التوبة: 120]، و﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56]، وفي صحيح البخاري: "مَن كَانَ في حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ في حَاجَتِهِ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِن كُرُبَاتِ يَومِ القِيَامَةِ".
أَعُوذُ بِاللهِ من الشيطان الرجيم: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77].
أقول ما تسمعون.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وصلاة وسلامًا على عباده اللذين اصطفى، أما بعد:
فاتَّقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنَه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
معاشر الصائمين الكرام، عرَفنا شيئًا من فضائل الصدقة ومميزاتها، وعظيم منزلتها، وحُسنِ عاقبتها، فما هي شروطها وآدابها التي ينبغي مُراعاتها عند إخراجِها.
إنَّ أهمَّ ما ينبغي على المسلم أن يحرصَ عليه في أعماله كُلِّها الإخلاص، فالإخلاصُ هو الأساس، يقولُ الحقُّ جلَّ وعلا: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]، وفي الحديث الصحيح: "إنَّ اللهَ لا يقبلُ من العملِ إلَّا ما كان خالصًا وابتُغي به وجهُه"، والصدقةُ بالذات كثيرًا ما يشوبها الرياءُ وحبُّ الذكرِ والثناء، وهذا من حرص الشيطانِ على إفسادِ هذا العملِ العظيم، فليحرص المتصدقُ على تحرِّي الْإِخْلَاصَ للهِ جلَّ وعلا، وألا يَكُونُ الْبَاعِثُ عَلَى إِخْرَاجِهَا رِيَاءٌ وَلَا سُمْعَةٌ.
ومن الآداب الخاصةِ بالصدقة أن يُخْرِجُهَا مِنْ طَيِّبِ مَالِهِ؛ يقولُ جلَّ وعلا: ﴿ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]..
ومن آداب الصدقةِ إخراجُها بطيب نفسٍ، وَألَا يُتْبِعُهَا مَنًّا وَلَا أَذًى، فقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمَنَّ وَالْأَذَى فِي الصَّدَقَةِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾.. [البقرة: 263-264]..
ومن آداب الصدقة، اسْتِشعارُ فضلِ اللَّهِ تَعَالَى, ومِنتهِ عَلَيْهِ فِيهَا؛ فَالْمَالُ مَالُ اللَّهِ تَعَالَى، فهو الذي رزقهُ إياهُ ابتداءً، وهو هَدَاهُ ووفقهُ، وهو الذي اعانهُ على بذلهِ والتَّصدقَ به، وَهو الذي خَلَّصهُ به مِنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ؛ فَهَذِهِ نعم كُبْرَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16]، وكان الصحابة t وهم يحفرونَ الخندقَ ينشدون: واللهِ لولا اللهِ ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فانزلنَّ سكينة علينا، وثبِّت الأقدام إن لاقينا، إن الأُلى قد بغوا علينا، وإن أرادوا فتنة أبينا.
معاشر المؤمنين الكرام، عرَفتم أن ربَّكم الكريم جلَّ وعلا يقول لكم: "الصوم لي وأنا أجزي به"، وعلمتُم أن ربكم الغني تبارك وتعالى يستقرضكم أموالَكم؛ ليضاعف لكم الأجور أضعافًا كثيرة، وعلمتم أن ربكم اللطيف الودود جل وعلا يتوددُ ويتقربُ إليكم قائلًا: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، وفي الحديث القدسي الصحيح يقول تبارك وتعالى: "مَن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ منه ذِرَاعًا، وَمَن تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ منه بَاعًا، وَمَن أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"، فماذا تنتظرون يا عباد الله، تقربوا مِن رَبِّكُم ولا تترددوا، وجِدوا وثابروا، واصبروا وصابروا ورابطوا، وسابقوا ونافسوا، واعلموا أن دعاء الصائم مُستجاب، وأنَّ له عِندَ فِطرِه دَعوَةً مَا تُرَدُّ، وَله في ثُلُثِ اللَّيلِ الآخِرِ دعوةٌ أُخرَى لا ترد، وَله ثَالِثَةٌ ورابعةٌ وعاشرةٌ بَينَ كلِّ أَذَانٍ وَإِقَامَةِ، وَأنه أَقرَبُ مَا يَكُونُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وقمن أن يستجاب به، فاستعينوا بالله وَلا تَعجِزُوا، حقِّقوا الإخلاص فهو الأساس، حافظوا على الصلوات وقوموا لله قانتين، تصدقوا وأَطعِمُوا, وادعو بإلحاح واستغفروا، واذكروه ذكرًا كثيرًا لعلكم تفلحون.
ويا بن آدم عِش ما شئت فإنك ميت، وأحبِب مَن شئت فإنك مفارقه، واعمَل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يَبلى والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..
اللهم صلِّ..
الشيخ عبدالله محمد الطوالة
الحمد لله الذي جعَل في اختلاف الليل والنهار آية وذكرًا، وجعل هذه الدار زادًا ومجازًا إلى الدار الأخرى، والحمد لله الذي يسَّر لِمَن شاء من عباده الهدى واليسرى، وجزاهم بفضله على الحسنةٍ الواحدة عشرًا: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ﴾ [طه: 5-6].
والصلاةُ والسلامُ على من بعثهُ اللهُ تباركَ وتعالى هاديًا ومبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا منيرًا، فبلَّغَ الرسالةَ، وأدى الأمانةَ، ونصحَ الأُمَّةَ، وجاهدَ في الله جهادًا كبيرًا، صـلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ وأنعمَ عليه، وعلى آله الأطهارِ، وصحابتهِ الأبْرارِ، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمَّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، فتقوى اللهِ هيَ الزادُ الأعْظَمُ، وهيَ الطريقُ الأكْرَمُ، وهيَ المنهجُ الأقْوَمُ، والسبيلُ الأسْلَمُ، ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 18-20].
معاشر المؤمنين، أيها الصائمونَ الكرام، حين نتأمَّلُ عبادةَ الرسول صلى الله عليه وسلم عمومًا، وفي رمضان خصوصًا نجدُ اجتهادًا عجيبًا، فقد كان صلى الله عليه وسلم يواصِلُ الصيامَ لليومين والثلاثة، وكان يذكرُ الله تعالى في كل أحيانه، وكان يقومُ من الليل حتى تتفطرَ قدماه، وكان يتدارسُ القرآنَ مع جبريل كل ليلةٍ من ليالي رمضان، وكان يعتكفُ في مسجدهِ العشرَ الأواخرَ من رمضان، لكن أعجبَ ما كان يفعلهُ ويُكثرُ منهُ في رمضانَ هو الصدقة، فالصدقةُ في رمضانَ لها منزلةٌ خاصة، تأمَّلوا ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس t، قال: "كانَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ"..
إنه درسٌ رمضاني عظيم: فالصدقةُ تكافلٌ وتراحمٌ، وتوثيقٌ لأواصر الترابطِ والتعاونِ بين أفراد المجتمع، وشعورٌ بآلام إخوانك المسلمين، وإحساسٌ بأحوال المحرومين والمحتاجين.
الصدقةُ كما في صحيح مُسلمٍ برهانُ الإيمان، ودليلُ رِقَّةِ القَلْبِ وَما فيه من رَّحْمَةٍ غامرةٍ، وحبٍّ لفعل الخيرِ وَإِغَاثَةِ المَلْهُوفِ، وبذلِ المَعْرُوفِ، وَالعَطْفِ عَلَى المحتاجين من الفُقَرَاءِ وَالـمَسَاكِينِ، الصدقةُ من أحبِّ الأعمالِ إلى الله تعالى، ففي الحديث الصحيح: قال صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مُسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا"؛ الحديث.
الصدقةُ لها وقعٌ خاص عند الغنيِّ الكريمِ سبحانه، تأمَّل: ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 18]، و﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [البقرة:245]، وتأملوا هذا الحديث الصحيح يا عباد الله: "إِنَّ العبدَ إذا تَصَدَّقَ من طَيِّبٍ تَقَبَّلَها اللهُ مِنْهُ، وأَخَذَها بِيَمِينِهِ فَرَبَّاها، كما يُربِّي أحدُكُمْ مُهْرَهُ أوْ فَصِيلهُ، وإِنَّ الرجلَ لَيَتَصَدَّقُ بِاللُّقْمَةِ، فَتَرْبُو في يَدِ اللهِ أوْ قال: في كَفِّ اللهِ حتى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ، فَتَصَدَّقُوا".
فالصدقةُ لها أجرٌ خاص عند الله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]، فكيف إذا كانت الصدقة في رمضان؟!
الصدقةُ مخلوفةٌ، والمتصدِقُ يُعوضُ في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39]، وفي الحديث المتفق عليه، قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا».
الصدقةُ شفاءٌ ودواء، ففي الحديث الحسن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "داوُوا مَرْضاكم بالصَّدَقةِ"، وفي الحديث الصحيح: صنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السوءِ والآفاتِ والهلكاتِ"، وقال الإمام بن القيم: (للصدَقة تأثيرٌ عجيبٌ في دفع أنواع البلاء، ولو كانت مِن فاجر أو مِن ظالِم، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعًا من البلاء، وهذا أمرٌ معلوم عنْدَ الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مُقرُّون بـه لأنهم جرَّبوه).
الصدقةُ من أسبابِ الأمنِ من عذاب الله تعالى، تأمل: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [المنافقون: 10]، وفي الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صِلَةُ الرَّحِمِ تزيدُ في العُمُرِ وصدَقةُ السِّرِ تطفئُ غضبَ الرَّبِّ".
الصدقةُ من أعظم الأعمالِ الصالحة مُضاعفةً في الأجور، وتكفيرًا للذنوب، وتزكيةً وتطهيرًا للنفس، قال تعالى: ﴿ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 17]، وقال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]، وفي الحديث الصحيح: قال صلى الله عليه وسلم: "الصَّدقةُ تُطْفِئُ الخطيئةَ كما يُطْفِئُ الماءُ النَّارَ".
ومن مميزات الصدقةِ العجيبة أن المتصدقَ في ظلِ صدقتهِ يومَ القيامة، ففي الحديث المشهور، قال صلى الله عليه وسلم: "سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظلَّ إلَّا ظلُّه، (وذكَر منهم) ورجُلٌ تصَدَّقَ بصَدَقةٍ فأَخفاها حتى لا تعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يَمينُه"، وفي الحديث الحسن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقةَ لتُطفئ عَن أهلِها حرَّ القبورِ، وإنما يَستَظل المؤمِنُ يومَ القيامةِ في ظل صدقتِهِ".
ثم إن مفهوم الصدقةِ في ديننا واسعٌ جدًّا، فليست الصدقةُ مقصورةً على المال فقط، فتبسُّمكَ في وجهِ أخيكَ صدقةٌ، والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ، وأمركَ بالمعروف ونهيكُ عن المنكر صدقةٌ، وإرشادكَ الرجلَ في أرض الضلالِ لك صدقةٌ، وإماطتُكَ الأذى والشوكَ والعظمَ عن الطريق لك صدقةٌ، وإفراغكَ من دلوك في دلو أخيكَ لك صدقةٌ، وبصركَ للرجل الرديء البصرِ لك صدقةٌ، وكلُّ معروفٍ صدقة، وكفَّ شرك عن الناس، صدقةٌ منك على نفسك، فلا تحرموا أنفسكم من هذه الأجور العظيمة المضاعفة.
وقد دَلَّتِ الدَّلائِلُ نقلًا وعقلًا أَنَّ الكِرَامَ المُحسِنِينَ هُم أَشرَحُ النَّاسِ صُدُورًا، وَأَطيَبُهُم نُفُوسًا، وَأَهنأهم قُلُوبًا، وَأَكثرُهُم سَعَادَةً وحبورًا، وَكَيفَ لا يَكُونُونَ كَذَلِكَ، وفي كتاب الله العزيز، أنَّ اللهَ مع المحسنين، ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 148]، و﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [التوبة: 120]، و﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56]، وفي صحيح البخاري: "مَن كَانَ في حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ في حَاجَتِهِ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِن كُرُبَاتِ يَومِ القِيَامَةِ".
أَعُوذُ بِاللهِ من الشيطان الرجيم: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77].
أقول ما تسمعون.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وصلاة وسلامًا على عباده اللذين اصطفى، أما بعد:
فاتَّقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنَه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
معاشر الصائمين الكرام، عرَفنا شيئًا من فضائل الصدقة ومميزاتها، وعظيم منزلتها، وحُسنِ عاقبتها، فما هي شروطها وآدابها التي ينبغي مُراعاتها عند إخراجِها.
إنَّ أهمَّ ما ينبغي على المسلم أن يحرصَ عليه في أعماله كُلِّها الإخلاص، فالإخلاصُ هو الأساس، يقولُ الحقُّ جلَّ وعلا: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]، وفي الحديث الصحيح: "إنَّ اللهَ لا يقبلُ من العملِ إلَّا ما كان خالصًا وابتُغي به وجهُه"، والصدقةُ بالذات كثيرًا ما يشوبها الرياءُ وحبُّ الذكرِ والثناء، وهذا من حرص الشيطانِ على إفسادِ هذا العملِ العظيم، فليحرص المتصدقُ على تحرِّي الْإِخْلَاصَ للهِ جلَّ وعلا، وألا يَكُونُ الْبَاعِثُ عَلَى إِخْرَاجِهَا رِيَاءٌ وَلَا سُمْعَةٌ.
ومن الآداب الخاصةِ بالصدقة أن يُخْرِجُهَا مِنْ طَيِّبِ مَالِهِ؛ يقولُ جلَّ وعلا: ﴿ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]..
ومن آداب الصدقةِ إخراجُها بطيب نفسٍ، وَألَا يُتْبِعُهَا مَنًّا وَلَا أَذًى، فقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمَنَّ وَالْأَذَى فِي الصَّدَقَةِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾.. [البقرة: 263-264]..
ومن آداب الصدقة، اسْتِشعارُ فضلِ اللَّهِ تَعَالَى, ومِنتهِ عَلَيْهِ فِيهَا؛ فَالْمَالُ مَالُ اللَّهِ تَعَالَى، فهو الذي رزقهُ إياهُ ابتداءً، وهو هَدَاهُ ووفقهُ، وهو الذي اعانهُ على بذلهِ والتَّصدقَ به، وَهو الذي خَلَّصهُ به مِنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ؛ فَهَذِهِ نعم كُبْرَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16]، وكان الصحابة t وهم يحفرونَ الخندقَ ينشدون: واللهِ لولا اللهِ ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فانزلنَّ سكينة علينا، وثبِّت الأقدام إن لاقينا، إن الأُلى قد بغوا علينا، وإن أرادوا فتنة أبينا.
معاشر المؤمنين الكرام، عرَفتم أن ربَّكم الكريم جلَّ وعلا يقول لكم: "الصوم لي وأنا أجزي به"، وعلمتُم أن ربكم الغني تبارك وتعالى يستقرضكم أموالَكم؛ ليضاعف لكم الأجور أضعافًا كثيرة، وعلمتم أن ربكم اللطيف الودود جل وعلا يتوددُ ويتقربُ إليكم قائلًا: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، وفي الحديث القدسي الصحيح يقول تبارك وتعالى: "مَن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ منه ذِرَاعًا، وَمَن تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ منه بَاعًا، وَمَن أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"، فماذا تنتظرون يا عباد الله، تقربوا مِن رَبِّكُم ولا تترددوا، وجِدوا وثابروا، واصبروا وصابروا ورابطوا، وسابقوا ونافسوا، واعلموا أن دعاء الصائم مُستجاب، وأنَّ له عِندَ فِطرِه دَعوَةً مَا تُرَدُّ، وَله في ثُلُثِ اللَّيلِ الآخِرِ دعوةٌ أُخرَى لا ترد، وَله ثَالِثَةٌ ورابعةٌ وعاشرةٌ بَينَ كلِّ أَذَانٍ وَإِقَامَةِ، وَأنه أَقرَبُ مَا يَكُونُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وقمن أن يستجاب به، فاستعينوا بالله وَلا تَعجِزُوا، حقِّقوا الإخلاص فهو الأساس، حافظوا على الصلوات وقوموا لله قانتين، تصدقوا وأَطعِمُوا, وادعو بإلحاح واستغفروا، واذكروه ذكرًا كثيرًا لعلكم تفلحون.
ويا بن آدم عِش ما شئت فإنك ميت، وأحبِب مَن شئت فإنك مفارقه، واعمَل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يَبلى والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..
اللهم صلِّ..