فريق منتدى الدي في دي العربي
06-23-2022, 07:58 PM
المسلم وفريضة الصوم
العلامة عبد الوهاب خلاف
كلَّف الله سبحانه المسلم بأنواع عِدَّة من العبادات لحكمٍ بالغة قصدها بهذا التكليف، أظهرُها أنَّ هذه العبادات شعائر الإيمان بالله تعالى، وآيات إسلام العبد لربه وإذعانه لألوهيته، وأنَّها امتحان لقوة الإرادة وصدق العزيمة في مجاهدة النفس ومكافحة الهوى، وأنَّها مع هذا وذاك رياضة تهذيبيَّة تصلح الفرد والجماعة.
فكل عبادة كلَّف الله تعالى بها المسلم فهي شعار إيمانه، ومرآة عقيدته، وآية إسلامه لربه واستسلامه، ووسيلة لإصلاحه وتهذيبه.
ومن بالغ حكمة الله سبحانه أنَّه ما كلف المسلم بنوع واحد من العبادات في زمن واحد من الأوقات، بل كلَّفه بعدة أنواع من العبادات في عدة أزمان: كلَّفه بعبادة بدنيَّة كالصلاة، وبعبادة ماليَّة كالزكاة، وبعبادة بدنيَّة ماليَّة كالحج، وكلَّفه بعبادة إيجابية كالصلاة والزكاة والحج، وبعبادة سلبيَّة كالصيام، وكلَّفه بعبادة مُكرَّرة في كل يوم وليلة، وبعبادة مكررة في كل سنة، وبعبادة واحدةٍ في العمر.
ومقصود الشارع الحكيم بتنويع ما كلَّف به من العبادات أن تكون للإيمان القلبي مظاهر شتى تدل عليه وتثبته وتقويه، وأن تكون للمؤمن عدة امتحانات وابتلاءات تختبر بها نفسه وإرادته وعزيمته من كافة نواحيها، وأن يكون تهذيب النفس شاملاً كاملاً، لأنَّ الإنسان قد يكون قويَّ الإرادة في العبادة البدنية دون المالية، أو في الإيجابية دون السلبية، أو في الحولية دون المتكرِّرة في كل يوم وليلة، فعلاج النفس من كل نواحيها يقتضي تنويع ما تكلَّف به.
وقد صرَّحت آيات القرآن التي كلَّفت المسلم بهذه العبادات بأنَّ هذا التكليف هو لمصلحة المكلَّف نفسه، والله سبحانه غني عن كل ما سواه، فقال سبحانه في فرض الصلاة: [إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ] {العنكبوت:45}. وقال تعالى في فرض الزكاة: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] {التوبة:103}. وقال في فرض الحج: [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ] {الحج:27}. وقال في فرض الصيام: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ] {البقرة:183-184}.
والتكليف الإلهي بأنواع عدَّة من العبادات ليس خاصاً بالمسلم، وإنما هو سُنَّة الله تعالى في كل الأمم التي بُعِثَ إليها بالرسل وبالكتب، فالصيام كما كتب على المسلمين كتب على الذين من قبلهم، والصلاة والزكاة كما فُرضتا على المسلمين فُرضتا على الذين من قبلهم، قال تعالى: [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ] {البقرة:83}.
فعلى كل مسلم أن يُؤمن ويذعن بأنَّ ما كلَّفه الله تعالى به من صلاة وزكاة وصيام وحج إنما كلَّفه به ليدعم إيمانه، ويربي إرادته وعزيمته، ويُهَذِّب نفسه ويصلحها، وإذا لم يدرك ما في بعض هذه التكليفات من حكمة فذلك لظلمة في قلبه، وغلبة هواه على عقله لا لخلو التكليف من حكمته، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وأنَّ هذه التكليفات هي سُنَّة الله تعالى العادلة في كل الأمم، وإنما اختلفت الأمم في طقوس عباداتها وكيفياتِها وأوقات أدائها ووسائلها تبعاً لاختلاف كل بيئة فيما يلائمها وما يَقتضيه إصلاحها.
ومن رحمةِ الله تعالى الواسعة وتمام نعمته سبحانه على خلقه أنَّه في تكليفه لم يكلف نفساً إلا وسعها، ولم يحمِّل أحداً ما لا طاقة له به، وقد قال وهو أصدق القائلين: [لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا] {البقرة:286}. وقال: [يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] {البقرة:185}. وقال: [مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ] {المائدة:6}. وقال: [يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا] {النساء:28}.
وقد جاءت أحكام الصيام التي فصَّلها القرآن على هذا السنن الرحيم، سنن اليسر ورفع الحرج، فبعد أن بيَّن الله سبحانه أنَّ الصيام كُتِبَ وفُرِضَ على المسلمين كما فُرِضَ على الذين من قبلهم، وأنَّه فُرِضَ عليهم أياماً مَعْدودات، بيَّن أنَّ المسلم له بشأن هذه الفريضة حالة من حالات ثلاث:
الحالة الأولى – إذا كان المسلم في شهر رمضان كله أو بعضه مريضاً بمرض عارض غير مزمن يُرجى الشفاء منه، أباح له الشارع أن يُفطر أيام مرضه، وأوجب عليه أن يَصوم بعد رمضان، وبعد شِفَائه من مَرَضِه، بدل الأيام التي أفطرها.
وكذلك إذا كان المسلم في شهر رمضان كله أو بعضه مسافراً، أباحَ له الشارع أن يُفطر أيام سفره، وأوجب عليه أن يصوم بعد رمضان وبعد إقامته بدل الأيام التي أفطرها. وذلك لأنَّ المرض مَظِنَّة لأن يكون الصوم معه فيه مَشَقَّة وحرج، وكذلك السفر، فدفعاً للحرج والمشَقَّة إذا وجدت مظنتها أباح الشارع الفطر للمريض والمسافر؛ ولأنَّ المرض عارض وقتي يرجى زواله وكذلك السفر، أوجب الشارع على المريض والمسافر إذا زال العارض لهما أن يقضيا بعد رمضان صيام ما أفطره، وهذا هو صريح قول الله تعالى: [أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] {البقرة:184}. وقد أطلق سبحانه المرض ولم يقيِّده بقوله: فمن كان منكم مريضاً مرضاً يجد في الصوم معه مشقة، وكذلك أطلق السفر ولم يقيِّده بهذا القيد.
والحكمة في هذا الإطلاق التوسعة على المرضى والمسافرين، وترك تقدير الحال لدين كل واحد منهم وضميره واستفتاء قلبه، فهو سبحانه رَخَّص لمن كان مريضاً في شهر رمضان أو على سفر أن يفطر، وبيَّن حكمة هذا الترخيص بقوله: [يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] {البقرة:185}.
وعلى كل مسلم أن يَسْتفتي قلبه ويقدِّر حاله في مرضه أو سفره، فإن أيقن أو غلب على ظنه أنَّ صومه في مرضه أو سفره يجلب له مَشَقَّةً وحرجاً أفطر، وإن أيقن أو غلب على ظنه أن صومه في مرضه أو سفره لا يجلب له مشقة ولا حرجاً لم يفطر، وهو المسؤول أمام الله تعالى عن تقديره، وعمَّا إذا كان أفطر تهاوناً أو دفعاً للحرج، فليست العبرة بنوع المرض، ولا بطول السفر أو قصره، وإنَّما العبرة بأنه مرض أو سفرٌ الصوم معه عسير، وهذا العسر يقدره المريض أو المسافر، فالله تعالى أطلق المرض والسفر، وبيَّن حكمة إباحة الفطر معهما، ليكون لكل مريض وأي مسافر أن يتمتَّع برخصة الله تعالى في حدود حكمة الله، وقد اتَّفق أكثر العلماء على أنَّ من كان في طور النَّقاهة من المرض وأيقن أو غلب على ظنَّه أنَّه بالصوم ينتكس ويبطئ شفاؤه حكمه حكم المريض.
وكلمة الختام في هذه الحال الأولى:أنَّ الله سبحانه أباح الفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر، لأنَّ كلاً منهما مظنة المشقة والحرج، والحكم الشرعي يوجد حيث توجد مظنته وينتفي حيث تنتفي، وعلى المسلم أن يُقَدِّر حال نفسه، فإذا أيقن أو غلب على ظنه أن مرضه أو سفره ليس في الصوم معه أيَّة مشقة، لم يكن المرض أو السفر بالنسبة له مظنَّة، وإذا انتفت المظنة فلا إباحة.
الحالة الثانية – إذا كان المسلم في شهر رمضان مريضاً بمرض مزمن لا يُرجى شفاؤه، والصوم فيه مشقَّة عليه، أو كان شيخاً كبيراً والصوم شاقٌّ عليه، أو كان هزيلاً ضعيف البنية يجد في الصوم مشقة عليه، فهؤلاء أباح الشارع لكل واحد منهم أن يفطر، لأنَّه لا يحتمل الصوم إلا بجهد ومشقة، وأوجب عليه أن يفدي، أي: يطعم مسكيناً عن كل يوم أفطره، بأن يقدم له فطوراً وسحوراً، أو قيمة فطوره وسحوره.
أما إباحة الفطر في شهر رمضان لكل واحد من هؤلاء فلأن حال كل واحد منهم مظنة الحرج والمشقة، لأنَّ المرض المزمن والهزال والشيخوخة والقرحة المعوية، وأمثال هذه العِلَل، الصوم معها عسير شاق.
وأما إيجاب الفدية على كل واحد منهم دون القضاء فلأن هذه الأعذار لا يرجى زوالها، ولا يُنتظر أن يكون المبتلى بعذر منها بعد رمضان خيراً منه في رمضان، فمن حكمة الشارع الحكيم أنه فرَّق بين المبتلى بعذر وقتي يرجى زواله كمرض عارض مرجو الشفاء منه أو سفر، وبين المبتلى بعذر دائم غير مرجو زواله، فأوجب على الأول إذا أفطر في رمضان عدة من أيام أخر بعد رمضان وبعد زوال عذره، وأوجب على الثاني فدية طعام مسكين ولم يوجب عليه القضاء، وهذا صريح قوله تعالى: [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] {البقرة:184}.
ودفعاً للاشتباه في فهم هذه الآية أقرِّر أنَّه في اللغة العربية لا تستعمل كلمة الاجتهاد وكلمة الإطاقة إلا حيث يوجد بذل جهد واحتمال مشقة، فلا يقال في الأمر السهل الهيِّن: هو يجتهد فيه أو هو يطيقه، وإنما يقال ذلك في الصعب العسير الذي هو مظنة مشقة، فلا يقال هو يطيق حمل نواة أو ريشة أو عشرة دراهم من حديد، وإنما يقال هو يطيق حمل قنطارين من الحديد أو حمل الأمتعة الثقيلة.
فالذين يطيقون الصيام هم الذين يبذلون فيه الجهد ويحتملون فيه المشقات، وإذا كان الأمر سهلاً هيناً وقلت أنا أطيقه كان التعبير نابياً لغة وعرفاً، فهؤلاء الذين يحتملون الصوم بجهد ومشقة للأعذار الدائمة اللازمة لهم، أباح الله تعالى لهم أن يفطروا وأوجب عليهم الفدية.
والذي أختاره من أقوال الفقهاء قول من ذهب إلى أنَّ الحامل والمرضع إذا خافتا من الصوم على أنفسهما أو على ولدهما وأفطرت كل واحدة منهما دفعاً للضرر عن نفسها أو عن ولدها، تجب عليها الفدية دون القضاء، لأنَّ تكرر حملها وإرضاعها وتواليهما في بعض الحالات يجعل عذر الحامل والمرضع من الأعذار الدائمة، ويجعلها ممن ينتظمها قوله تعالى: [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] {البقرة:184}. وبعض الفقهاء أوجب على الحامل والمرضع القضاء، وبعضهم أوجب عليهما القضاء والفدية.
والعُمَّال الذين يزاولون الأعمال الشاقَّة، ويحترفون المهن الشاقة، هم ممن يطيقون الصوم، أي: يحتملون فيه الجهد والمشقة، وهم قد جعل الله تعالى سبيل رزقهم هذه المشاق كعمَّال المناجم والمحاجر وحمالي الأثقال ليسوا بعد رمضان خيراً منهم في رمضان، فعليهم إن أفطروا الفدية وليس عليهم القضاء.
الحالة الثالثة – إذا كان المسلم في شهر رمضان سليماً مُقِيماً ليس به هُزال ولا ضعف من شيخوخة أو مرض مزمن أي ليس به عذر وقتي ولا عذر دائم، فهذا يفرض عليه أن يصوم، لقوله تعالى: [ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] {البقرة:185}، ويحرم عليه أن يفطر، وإن أفطر لغير عذر شرعي فقد أهمل ركناً من الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام، وأهمل تزكية صحة وعافية وقوة أنعم الله تعالى عليه بها، وترك نفسه وهواها، وآثر إرضاء شهواته على إرضاء ربه، فلم يفز في الدنيا برياضة روحيَّة نفسيَّة لها في استقامته وصلاحه بأثر حميد، ولم يفز في الآخرة بمثوبة الله تعالى ورضاه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
العلامة عبد الوهاب خلاف
كلَّف الله سبحانه المسلم بأنواع عِدَّة من العبادات لحكمٍ بالغة قصدها بهذا التكليف، أظهرُها أنَّ هذه العبادات شعائر الإيمان بالله تعالى، وآيات إسلام العبد لربه وإذعانه لألوهيته، وأنَّها امتحان لقوة الإرادة وصدق العزيمة في مجاهدة النفس ومكافحة الهوى، وأنَّها مع هذا وذاك رياضة تهذيبيَّة تصلح الفرد والجماعة.
فكل عبادة كلَّف الله تعالى بها المسلم فهي شعار إيمانه، ومرآة عقيدته، وآية إسلامه لربه واستسلامه، ووسيلة لإصلاحه وتهذيبه.
ومن بالغ حكمة الله سبحانه أنَّه ما كلف المسلم بنوع واحد من العبادات في زمن واحد من الأوقات، بل كلَّفه بعدة أنواع من العبادات في عدة أزمان: كلَّفه بعبادة بدنيَّة كالصلاة، وبعبادة ماليَّة كالزكاة، وبعبادة بدنيَّة ماليَّة كالحج، وكلَّفه بعبادة إيجابية كالصلاة والزكاة والحج، وبعبادة سلبيَّة كالصيام، وكلَّفه بعبادة مُكرَّرة في كل يوم وليلة، وبعبادة مكررة في كل سنة، وبعبادة واحدةٍ في العمر.
ومقصود الشارع الحكيم بتنويع ما كلَّف به من العبادات أن تكون للإيمان القلبي مظاهر شتى تدل عليه وتثبته وتقويه، وأن تكون للمؤمن عدة امتحانات وابتلاءات تختبر بها نفسه وإرادته وعزيمته من كافة نواحيها، وأن يكون تهذيب النفس شاملاً كاملاً، لأنَّ الإنسان قد يكون قويَّ الإرادة في العبادة البدنية دون المالية، أو في الإيجابية دون السلبية، أو في الحولية دون المتكرِّرة في كل يوم وليلة، فعلاج النفس من كل نواحيها يقتضي تنويع ما تكلَّف به.
وقد صرَّحت آيات القرآن التي كلَّفت المسلم بهذه العبادات بأنَّ هذا التكليف هو لمصلحة المكلَّف نفسه، والله سبحانه غني عن كل ما سواه، فقال سبحانه في فرض الصلاة: [إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ] {العنكبوت:45}. وقال تعالى في فرض الزكاة: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] {التوبة:103}. وقال في فرض الحج: [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ] {الحج:27}. وقال في فرض الصيام: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ] {البقرة:183-184}.
والتكليف الإلهي بأنواع عدَّة من العبادات ليس خاصاً بالمسلم، وإنما هو سُنَّة الله تعالى في كل الأمم التي بُعِثَ إليها بالرسل وبالكتب، فالصيام كما كتب على المسلمين كتب على الذين من قبلهم، والصلاة والزكاة كما فُرضتا على المسلمين فُرضتا على الذين من قبلهم، قال تعالى: [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ] {البقرة:83}.
فعلى كل مسلم أن يُؤمن ويذعن بأنَّ ما كلَّفه الله تعالى به من صلاة وزكاة وصيام وحج إنما كلَّفه به ليدعم إيمانه، ويربي إرادته وعزيمته، ويُهَذِّب نفسه ويصلحها، وإذا لم يدرك ما في بعض هذه التكليفات من حكمة فذلك لظلمة في قلبه، وغلبة هواه على عقله لا لخلو التكليف من حكمته، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وأنَّ هذه التكليفات هي سُنَّة الله تعالى العادلة في كل الأمم، وإنما اختلفت الأمم في طقوس عباداتها وكيفياتِها وأوقات أدائها ووسائلها تبعاً لاختلاف كل بيئة فيما يلائمها وما يَقتضيه إصلاحها.
ومن رحمةِ الله تعالى الواسعة وتمام نعمته سبحانه على خلقه أنَّه في تكليفه لم يكلف نفساً إلا وسعها، ولم يحمِّل أحداً ما لا طاقة له به، وقد قال وهو أصدق القائلين: [لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا] {البقرة:286}. وقال: [يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] {البقرة:185}. وقال: [مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ] {المائدة:6}. وقال: [يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا] {النساء:28}.
وقد جاءت أحكام الصيام التي فصَّلها القرآن على هذا السنن الرحيم، سنن اليسر ورفع الحرج، فبعد أن بيَّن الله سبحانه أنَّ الصيام كُتِبَ وفُرِضَ على المسلمين كما فُرِضَ على الذين من قبلهم، وأنَّه فُرِضَ عليهم أياماً مَعْدودات، بيَّن أنَّ المسلم له بشأن هذه الفريضة حالة من حالات ثلاث:
الحالة الأولى – إذا كان المسلم في شهر رمضان كله أو بعضه مريضاً بمرض عارض غير مزمن يُرجى الشفاء منه، أباح له الشارع أن يُفطر أيام مرضه، وأوجب عليه أن يَصوم بعد رمضان، وبعد شِفَائه من مَرَضِه، بدل الأيام التي أفطرها.
وكذلك إذا كان المسلم في شهر رمضان كله أو بعضه مسافراً، أباحَ له الشارع أن يُفطر أيام سفره، وأوجب عليه أن يصوم بعد رمضان وبعد إقامته بدل الأيام التي أفطرها. وذلك لأنَّ المرض مَظِنَّة لأن يكون الصوم معه فيه مَشَقَّة وحرج، وكذلك السفر، فدفعاً للحرج والمشَقَّة إذا وجدت مظنتها أباح الشارع الفطر للمريض والمسافر؛ ولأنَّ المرض عارض وقتي يرجى زواله وكذلك السفر، أوجب الشارع على المريض والمسافر إذا زال العارض لهما أن يقضيا بعد رمضان صيام ما أفطره، وهذا هو صريح قول الله تعالى: [أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] {البقرة:184}. وقد أطلق سبحانه المرض ولم يقيِّده بقوله: فمن كان منكم مريضاً مرضاً يجد في الصوم معه مشقة، وكذلك أطلق السفر ولم يقيِّده بهذا القيد.
والحكمة في هذا الإطلاق التوسعة على المرضى والمسافرين، وترك تقدير الحال لدين كل واحد منهم وضميره واستفتاء قلبه، فهو سبحانه رَخَّص لمن كان مريضاً في شهر رمضان أو على سفر أن يفطر، وبيَّن حكمة هذا الترخيص بقوله: [يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] {البقرة:185}.
وعلى كل مسلم أن يَسْتفتي قلبه ويقدِّر حاله في مرضه أو سفره، فإن أيقن أو غلب على ظنه أنَّ صومه في مرضه أو سفره يجلب له مَشَقَّةً وحرجاً أفطر، وإن أيقن أو غلب على ظنه أن صومه في مرضه أو سفره لا يجلب له مشقة ولا حرجاً لم يفطر، وهو المسؤول أمام الله تعالى عن تقديره، وعمَّا إذا كان أفطر تهاوناً أو دفعاً للحرج، فليست العبرة بنوع المرض، ولا بطول السفر أو قصره، وإنَّما العبرة بأنه مرض أو سفرٌ الصوم معه عسير، وهذا العسر يقدره المريض أو المسافر، فالله تعالى أطلق المرض والسفر، وبيَّن حكمة إباحة الفطر معهما، ليكون لكل مريض وأي مسافر أن يتمتَّع برخصة الله تعالى في حدود حكمة الله، وقد اتَّفق أكثر العلماء على أنَّ من كان في طور النَّقاهة من المرض وأيقن أو غلب على ظنَّه أنَّه بالصوم ينتكس ويبطئ شفاؤه حكمه حكم المريض.
وكلمة الختام في هذه الحال الأولى:أنَّ الله سبحانه أباح الفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر، لأنَّ كلاً منهما مظنة المشقة والحرج، والحكم الشرعي يوجد حيث توجد مظنته وينتفي حيث تنتفي، وعلى المسلم أن يُقَدِّر حال نفسه، فإذا أيقن أو غلب على ظنه أن مرضه أو سفره ليس في الصوم معه أيَّة مشقة، لم يكن المرض أو السفر بالنسبة له مظنَّة، وإذا انتفت المظنة فلا إباحة.
الحالة الثانية – إذا كان المسلم في شهر رمضان مريضاً بمرض مزمن لا يُرجى شفاؤه، والصوم فيه مشقَّة عليه، أو كان شيخاً كبيراً والصوم شاقٌّ عليه، أو كان هزيلاً ضعيف البنية يجد في الصوم مشقة عليه، فهؤلاء أباح الشارع لكل واحد منهم أن يفطر، لأنَّه لا يحتمل الصوم إلا بجهد ومشقة، وأوجب عليه أن يفدي، أي: يطعم مسكيناً عن كل يوم أفطره، بأن يقدم له فطوراً وسحوراً، أو قيمة فطوره وسحوره.
أما إباحة الفطر في شهر رمضان لكل واحد من هؤلاء فلأن حال كل واحد منهم مظنة الحرج والمشقة، لأنَّ المرض المزمن والهزال والشيخوخة والقرحة المعوية، وأمثال هذه العِلَل، الصوم معها عسير شاق.
وأما إيجاب الفدية على كل واحد منهم دون القضاء فلأن هذه الأعذار لا يرجى زوالها، ولا يُنتظر أن يكون المبتلى بعذر منها بعد رمضان خيراً منه في رمضان، فمن حكمة الشارع الحكيم أنه فرَّق بين المبتلى بعذر وقتي يرجى زواله كمرض عارض مرجو الشفاء منه أو سفر، وبين المبتلى بعذر دائم غير مرجو زواله، فأوجب على الأول إذا أفطر في رمضان عدة من أيام أخر بعد رمضان وبعد زوال عذره، وأوجب على الثاني فدية طعام مسكين ولم يوجب عليه القضاء، وهذا صريح قوله تعالى: [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] {البقرة:184}.
ودفعاً للاشتباه في فهم هذه الآية أقرِّر أنَّه في اللغة العربية لا تستعمل كلمة الاجتهاد وكلمة الإطاقة إلا حيث يوجد بذل جهد واحتمال مشقة، فلا يقال في الأمر السهل الهيِّن: هو يجتهد فيه أو هو يطيقه، وإنما يقال ذلك في الصعب العسير الذي هو مظنة مشقة، فلا يقال هو يطيق حمل نواة أو ريشة أو عشرة دراهم من حديد، وإنما يقال هو يطيق حمل قنطارين من الحديد أو حمل الأمتعة الثقيلة.
فالذين يطيقون الصيام هم الذين يبذلون فيه الجهد ويحتملون فيه المشقات، وإذا كان الأمر سهلاً هيناً وقلت أنا أطيقه كان التعبير نابياً لغة وعرفاً، فهؤلاء الذين يحتملون الصوم بجهد ومشقة للأعذار الدائمة اللازمة لهم، أباح الله تعالى لهم أن يفطروا وأوجب عليهم الفدية.
والذي أختاره من أقوال الفقهاء قول من ذهب إلى أنَّ الحامل والمرضع إذا خافتا من الصوم على أنفسهما أو على ولدهما وأفطرت كل واحدة منهما دفعاً للضرر عن نفسها أو عن ولدها، تجب عليها الفدية دون القضاء، لأنَّ تكرر حملها وإرضاعها وتواليهما في بعض الحالات يجعل عذر الحامل والمرضع من الأعذار الدائمة، ويجعلها ممن ينتظمها قوله تعالى: [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] {البقرة:184}. وبعض الفقهاء أوجب على الحامل والمرضع القضاء، وبعضهم أوجب عليهما القضاء والفدية.
والعُمَّال الذين يزاولون الأعمال الشاقَّة، ويحترفون المهن الشاقة، هم ممن يطيقون الصوم، أي: يحتملون فيه الجهد والمشقة، وهم قد جعل الله تعالى سبيل رزقهم هذه المشاق كعمَّال المناجم والمحاجر وحمالي الأثقال ليسوا بعد رمضان خيراً منهم في رمضان، فعليهم إن أفطروا الفدية وليس عليهم القضاء.
الحالة الثالثة – إذا كان المسلم في شهر رمضان سليماً مُقِيماً ليس به هُزال ولا ضعف من شيخوخة أو مرض مزمن أي ليس به عذر وقتي ولا عذر دائم، فهذا يفرض عليه أن يصوم، لقوله تعالى: [ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] {البقرة:185}، ويحرم عليه أن يفطر، وإن أفطر لغير عذر شرعي فقد أهمل ركناً من الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام، وأهمل تزكية صحة وعافية وقوة أنعم الله تعالى عليه بها، وترك نفسه وهواها، وآثر إرضاء شهواته على إرضاء ربه، فلم يفز في الدنيا برياضة روحيَّة نفسيَّة لها في استقامته وصلاحه بأثر حميد، ولم يفز في الآخرة بمثوبة الله تعالى ورضاه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.