فريق منتدى الدي في دي العربي
07-23-2022, 07:44 AM
فوائد من قصة جُرَيْج العابد
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة:
- الإشارة إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستخدم القصص في الدعوة والتربية؛ لما له مِن عظيم الفائدة على النفوس والقلوب: قال الله -تعالى-: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف: 176).
- ومن القصص العظيم الذي قصَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه، ويحمل العِبَر والفوائد الكثيرة: "قصة جريج العابد"؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلَّا ثَلاثَةٌ: عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ، وصاحِبُ جُرَيْجٍ، وكانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عابِدًا، فاتَّخَذَ صَوْمعةً فَكانَ فيها، فأتَتْهُ أُمُّهُ وهو يُصَلِّي فقالَتْ: يا جُرَيْجُ، فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي، فقالَتْ: يا جُرَيْجُ، فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي فقالَتْ: يا جُرَيْجُ، فقالَ: أيْ رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فقالَتْ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حتَّى يَنْظُرَ إلى وُجُوهِ المُومِساتِ، فَتَذاكَرَ بَنُو إسْرائِيلَ جُرَيْجًا وعِبادَتَهُ، وكانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسْنِها، فقالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قالَ: فَتَعَرَّضَتْ له، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْها، فأتَتْ راعِيًا كانَ يَأْوِي إلى صَوْمعتِهِ، فأمْكَنَتْهُ مِن نَفْسِها، فَوَقَعَ عليها فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا ولَدَتْ قالَتْ: هو مِن جُرَيْجٍ، فأتَوْهُ فاسْتَنْزَلُوهُ وهَدَمُوا صَوْمعتَهُ وجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ فقالَ: ما شَأْنُكُمْ؟ قالوا: زَنَيْتَ بهذِه البَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فقالَ: أيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجاؤُوا به، فقالَ: دَعُونِي حتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ في بَطْنِهِ، وقالَ: يا غُلامُ مَن أبُوكَ؟ قالَ: فُلانٌ الرَّاعِي، قالَ: فأقْبَلُوا علَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ ويَتَمَسَّحُونَ به، وقالوا: نَبْنِي لكَ صَوْمعتَكَ مِن ذَهَبٍ، قالَ: لا، أعِيدُوها مِن طِينٍ كما كانَتْ، فَفَعَلُوا... ) (متفق عليه).
- شرح مجمل للقصة ثم الإشارة إلى الدروس والفوائد وهي كثيرة؛ إلا أننا سنقف على أبرزها.
(1) بيان أثر عقوق الوالدين:
- إذا كان العبد الصالح لما انصرف عن أمه إلى صلاته كان ذلك عقوقًا تسبَّب في هذا البلاء الذي أصابه، فقد كان الواجب على جريج أن يجيب أمه، فإنه إذا تعارضت الأمور بُدِئ بأوجبها، ففي رواية أخرى لمسلم: وَصَفَ لَنَا أَبُو رَافِعٍ صِفَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِصِفَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أُمَّهُ حِينَ دَعَتْهُ، كيفَ جَعَلَتْ كَفَّهَا فَوْقَ حَاجِبِهَا، ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا إلَيْهِ تَدْعُوهُ، فَقالَتْ: (يا جُرَيْجُ، أَنَا أُمُّكَ كَلِّمْنِي... ).
- فكيف بهؤلاء الذين يسيئون إلى الوالدين بالأقوال والأفعال ونكران المعروف؟! قال الله -تعالى-: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 23-24)، وقال -تعالى-: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ? وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (لقمان: 15)، وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَأْذَنَهُ في الجِهَادِ، فَقَالَ: (أحَيٌّ والِدَاكَ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَفِيهِما فَجَاهِدْ) (متفق عليه).
- دعاء الوالدين مستجاب، لا سيما عند العقوق: ففي القصة: (اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حتَّى يَنْظُرَ إلى وُجُوهِ المُومِساتِ)(1)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٌ لا شَكَّ فيهِنَّ: دَعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافرِ، ودعوةُ الوالدِ على ولدِهِ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رضا الربِّ تبارَك وتعالى في رضا الوالِدَيْنِ، وسخَطُ الله تبارَكَ وتَعالى في سَخَط الوالدَيْنِ) (رواه البزار، وحسنه الألباني لغيره)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بابانِ مُعجَّلانِ عُقوبتُهما في الدنيا: البَغْيُ، والعقُوقُ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني).
(2) حقد أهل الفجور على الصالحين المصلحين:
- الساقطون في أوحال الرذيلة والشهوات، يودون أن لو كان الناس جميعًا على شاكلتهم: ففي القصة: (فَتَذاكَرَ بَنُو إسْرائِيلَ جُرَيْجًا وعِبادَتَهُ، وكانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسْنِها، فقالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ... )، وقال -تعالى-: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) (النساء: 89)، وقال القائل: "ودت الزانية لو زنت النساء جميعًا".
- على أهل الصلاح أن يتأهلوا لمثل هذه الظروف (سعي أهل الباطل في تشويه صورتهم)؛ فإنها طبيعة الطريق إلى الجنة(2): قال الله -تعالى-: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ? فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت: 2-3)، وقال -تعالى-: (كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (الذاريات: 52).
- فليحذر المسلم من تصديق التُّهَم في الصالحين مِن دون تبيُّن وبرهان، وإلا كان مِن الممكن أن تتطور الأمور إلى قتل جريج المظلوم: ففي القصة: (فأتَوْهُ فاسْتَنْزَلُوهُ وهَدَمُوا صَوْمعتَهُ وجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).
(3) إنجاء الله وستره للصالحين:
- أنجى الله جريجًا وبرَّأه من التهمة الشنيعة لصلاحه وتقواه: قال -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) (الطلاق: 2).
الوكيل سبحانه يتوكل بأمر أوليائه ويدافع عنهم: قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (الحج: 38)، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران: 173-174)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ؛ فَلْيُكْثِرْ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
- أثر عملك الصالح سيظهر عند الشدائد والمحن: قال -صلى الله عليه وسلم-: (احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تجِدْه تُجاهَك، إِذَا سَألْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وإذا استعنْتَ فاستعِنْ باللهِ، واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، وإنِ اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يضُروك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يعرفُك في الشدَّةِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
(4) فضل الصلاة عند نزول الكرب والبلاء:
- الصلاة من أكبر العون على الثبات وتحمُّل البلاء وكشف الكربات: ففي القصة: (فقالَ: دَعُونِي حتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ في بَطْنِهِ، وقالَ: يا غُلامُ مَن أبُوكَ؟ قالَ: فُلانٌ الرَّاعِي... )، وقال -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45)، وعن حذيفة قال: "كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إذا حزبَهُ أمرٌ صلَّى" (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وروى ابن جرير بسنده أنَّ ابنَ عبَّاسٍ: "نُعيَ إليه أخوه قُثَمُ، وهو في سَفَرٍ فاستَرجَعَ، ثم تَنَحَّى عنِ الطَّريقِ، فأناخَ فصلَّى رَكعَتَيْنِ أطالَ فيهما الجُلوسَ، ثم قامَ يَمْشي إلى راحِلَتِه وهو يَقولُ: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45)".
(5) إثبات كرامات الصالحين:
- ما أجرى الله لجريج العابد من إنطاق الرضيع، هو نوع من الكرامة كما هو مذهب أهل الحق: قال العلماء: "الكرامة: أمر خارق للعادة غير مقرونٍ بدعوى النبوة، ولا هو مقدمة لها، تظهر على يدي عبد ظاهر الصلاح، مصحوبٍ بصحيح الاعتقاد، والعمل الصالح" (الموسوعة العقدية).
- أمثلة لكرامات بعض الصالحين: قال -تعالى- عن مريم عليه السلام: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران: 37)، وكانت الملائكة تنزل تسلم على عمران بن حصين لما طال مرضه، ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- الملائكة تغسل حنظلة بن عامر لما استشهد يوم أُحُد، فقال: (إِنَّ صَاحِبَكُمْ حَنْظَلَةَ تُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ) (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).
خاتمة:
- الإشارة إلى الدروس المستفادة إجمالًا؛ لا سيما الدرس الثاني.
فاللهم ردَّ كيد أهل الباطل في نحورهم، واستر عبادك المؤمنين في الدنيا والآخرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
(1) تأملوا دعوة المرأة الصالحة أم جريج، فإن مِن أشر ما يُبتلَى به الصالحون: النظر في وجوه أهل المعاصي والفجور؛ فكيف هي قلوب هؤلاء الذين يتلذذون بالنظر إلى هؤلاء، ويضيعون الساعات والأعمار في النظر إليهم؟! نسأل الله العافية.
(2) يحسن الإشارة إلى أن الشيطان يزيِّن تصديق الكذب والباطل في حق الصالحين أكثر مِن غيرهم، ليصد الناس عن سبيل الله بتنفير الناس منهم ومن الدِّين، ومن أهل العلم.
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة:
- الإشارة إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستخدم القصص في الدعوة والتربية؛ لما له مِن عظيم الفائدة على النفوس والقلوب: قال الله -تعالى-: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف: 176).
- ومن القصص العظيم الذي قصَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه، ويحمل العِبَر والفوائد الكثيرة: "قصة جريج العابد"؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلَّا ثَلاثَةٌ: عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ، وصاحِبُ جُرَيْجٍ، وكانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عابِدًا، فاتَّخَذَ صَوْمعةً فَكانَ فيها، فأتَتْهُ أُمُّهُ وهو يُصَلِّي فقالَتْ: يا جُرَيْجُ، فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي، فقالَتْ: يا جُرَيْجُ، فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي فقالَتْ: يا جُرَيْجُ، فقالَ: أيْ رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فقالَتْ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حتَّى يَنْظُرَ إلى وُجُوهِ المُومِساتِ، فَتَذاكَرَ بَنُو إسْرائِيلَ جُرَيْجًا وعِبادَتَهُ، وكانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسْنِها، فقالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قالَ: فَتَعَرَّضَتْ له، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْها، فأتَتْ راعِيًا كانَ يَأْوِي إلى صَوْمعتِهِ، فأمْكَنَتْهُ مِن نَفْسِها، فَوَقَعَ عليها فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا ولَدَتْ قالَتْ: هو مِن جُرَيْجٍ، فأتَوْهُ فاسْتَنْزَلُوهُ وهَدَمُوا صَوْمعتَهُ وجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ فقالَ: ما شَأْنُكُمْ؟ قالوا: زَنَيْتَ بهذِه البَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فقالَ: أيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجاؤُوا به، فقالَ: دَعُونِي حتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ في بَطْنِهِ، وقالَ: يا غُلامُ مَن أبُوكَ؟ قالَ: فُلانٌ الرَّاعِي، قالَ: فأقْبَلُوا علَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ ويَتَمَسَّحُونَ به، وقالوا: نَبْنِي لكَ صَوْمعتَكَ مِن ذَهَبٍ، قالَ: لا، أعِيدُوها مِن طِينٍ كما كانَتْ، فَفَعَلُوا... ) (متفق عليه).
- شرح مجمل للقصة ثم الإشارة إلى الدروس والفوائد وهي كثيرة؛ إلا أننا سنقف على أبرزها.
(1) بيان أثر عقوق الوالدين:
- إذا كان العبد الصالح لما انصرف عن أمه إلى صلاته كان ذلك عقوقًا تسبَّب في هذا البلاء الذي أصابه، فقد كان الواجب على جريج أن يجيب أمه، فإنه إذا تعارضت الأمور بُدِئ بأوجبها، ففي رواية أخرى لمسلم: وَصَفَ لَنَا أَبُو رَافِعٍ صِفَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِصِفَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أُمَّهُ حِينَ دَعَتْهُ، كيفَ جَعَلَتْ كَفَّهَا فَوْقَ حَاجِبِهَا، ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا إلَيْهِ تَدْعُوهُ، فَقالَتْ: (يا جُرَيْجُ، أَنَا أُمُّكَ كَلِّمْنِي... ).
- فكيف بهؤلاء الذين يسيئون إلى الوالدين بالأقوال والأفعال ونكران المعروف؟! قال الله -تعالى-: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 23-24)، وقال -تعالى-: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ? وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (لقمان: 15)، وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَأْذَنَهُ في الجِهَادِ، فَقَالَ: (أحَيٌّ والِدَاكَ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَفِيهِما فَجَاهِدْ) (متفق عليه).
- دعاء الوالدين مستجاب، لا سيما عند العقوق: ففي القصة: (اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حتَّى يَنْظُرَ إلى وُجُوهِ المُومِساتِ)(1)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٌ لا شَكَّ فيهِنَّ: دَعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافرِ، ودعوةُ الوالدِ على ولدِهِ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رضا الربِّ تبارَك وتعالى في رضا الوالِدَيْنِ، وسخَطُ الله تبارَكَ وتَعالى في سَخَط الوالدَيْنِ) (رواه البزار، وحسنه الألباني لغيره)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بابانِ مُعجَّلانِ عُقوبتُهما في الدنيا: البَغْيُ، والعقُوقُ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني).
(2) حقد أهل الفجور على الصالحين المصلحين:
- الساقطون في أوحال الرذيلة والشهوات، يودون أن لو كان الناس جميعًا على شاكلتهم: ففي القصة: (فَتَذاكَرَ بَنُو إسْرائِيلَ جُرَيْجًا وعِبادَتَهُ، وكانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسْنِها، فقالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ... )، وقال -تعالى-: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) (النساء: 89)، وقال القائل: "ودت الزانية لو زنت النساء جميعًا".
- على أهل الصلاح أن يتأهلوا لمثل هذه الظروف (سعي أهل الباطل في تشويه صورتهم)؛ فإنها طبيعة الطريق إلى الجنة(2): قال الله -تعالى-: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ? فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت: 2-3)، وقال -تعالى-: (كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (الذاريات: 52).
- فليحذر المسلم من تصديق التُّهَم في الصالحين مِن دون تبيُّن وبرهان، وإلا كان مِن الممكن أن تتطور الأمور إلى قتل جريج المظلوم: ففي القصة: (فأتَوْهُ فاسْتَنْزَلُوهُ وهَدَمُوا صَوْمعتَهُ وجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).
(3) إنجاء الله وستره للصالحين:
- أنجى الله جريجًا وبرَّأه من التهمة الشنيعة لصلاحه وتقواه: قال -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) (الطلاق: 2).
الوكيل سبحانه يتوكل بأمر أوليائه ويدافع عنهم: قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (الحج: 38)، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران: 173-174)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ؛ فَلْيُكْثِرْ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
- أثر عملك الصالح سيظهر عند الشدائد والمحن: قال -صلى الله عليه وسلم-: (احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تجِدْه تُجاهَك، إِذَا سَألْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وإذا استعنْتَ فاستعِنْ باللهِ، واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، وإنِ اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يضُروك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يعرفُك في الشدَّةِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
(4) فضل الصلاة عند نزول الكرب والبلاء:
- الصلاة من أكبر العون على الثبات وتحمُّل البلاء وكشف الكربات: ففي القصة: (فقالَ: دَعُونِي حتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ في بَطْنِهِ، وقالَ: يا غُلامُ مَن أبُوكَ؟ قالَ: فُلانٌ الرَّاعِي... )، وقال -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45)، وعن حذيفة قال: "كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إذا حزبَهُ أمرٌ صلَّى" (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وروى ابن جرير بسنده أنَّ ابنَ عبَّاسٍ: "نُعيَ إليه أخوه قُثَمُ، وهو في سَفَرٍ فاستَرجَعَ، ثم تَنَحَّى عنِ الطَّريقِ، فأناخَ فصلَّى رَكعَتَيْنِ أطالَ فيهما الجُلوسَ، ثم قامَ يَمْشي إلى راحِلَتِه وهو يَقولُ: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45)".
(5) إثبات كرامات الصالحين:
- ما أجرى الله لجريج العابد من إنطاق الرضيع، هو نوع من الكرامة كما هو مذهب أهل الحق: قال العلماء: "الكرامة: أمر خارق للعادة غير مقرونٍ بدعوى النبوة، ولا هو مقدمة لها، تظهر على يدي عبد ظاهر الصلاح، مصحوبٍ بصحيح الاعتقاد، والعمل الصالح" (الموسوعة العقدية).
- أمثلة لكرامات بعض الصالحين: قال -تعالى- عن مريم عليه السلام: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران: 37)، وكانت الملائكة تنزل تسلم على عمران بن حصين لما طال مرضه، ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- الملائكة تغسل حنظلة بن عامر لما استشهد يوم أُحُد، فقال: (إِنَّ صَاحِبَكُمْ حَنْظَلَةَ تُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ) (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).
خاتمة:
- الإشارة إلى الدروس المستفادة إجمالًا؛ لا سيما الدرس الثاني.
فاللهم ردَّ كيد أهل الباطل في نحورهم، واستر عبادك المؤمنين في الدنيا والآخرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
(1) تأملوا دعوة المرأة الصالحة أم جريج، فإن مِن أشر ما يُبتلَى به الصالحون: النظر في وجوه أهل المعاصي والفجور؛ فكيف هي قلوب هؤلاء الذين يتلذذون بالنظر إلى هؤلاء، ويضيعون الساعات والأعمار في النظر إليهم؟! نسأل الله العافية.
(2) يحسن الإشارة إلى أن الشيطان يزيِّن تصديق الكذب والباطل في حق الصالحين أكثر مِن غيرهم، ليصد الناس عن سبيل الله بتنفير الناس منهم ومن الدِّين، ومن أهل العلم.