فريق منتدى الدي في دي العربي
07-25-2022, 02:49 AM
امتحان البيوت
في هدأة من الزمان، وبعد ما فتح الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من خيرات بني النَّضير وبني قريظة، كما يبدو من سورة الأحزاب، وبعدما أمِنت المدينة من غزو قريش والعرب، وقد فرضت المدينة قوَّتها في الجزيرة العربية، واغتنى المهاجرون بعد الفقر، وأمِن الناس بعد الخوف والترقب، وتوسعت البيوت ولانت الفُرُش، فإذا الناس مجتمعون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون حول منبره، ينتظرونه فلا يخرج إليهم ولا يصلي بهم، ويقفون على بابه فلا يأذن لهم ولا يكلمهم[1]، فتضطرب المدينة بساكنيها، وتعود حالة القلق إلى أشد ما كانت عليه أو أكثر، حتى لقد ظن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ سـبب هذا الاضطـراب والقلق هو غزو الغسـاسنة للمدينة، فيقول له صاحبه: «بل أعظم من ذلك! طلَّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نساءَه».
هِزَّة البيت النبوي:
اضطربت المدينة لِـمَا اعترى البيت النبوي من هِزَّة كانت سبباً في نزول آية التخيير، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا 28 وَإن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28 - 29].
ذلك أنَّ أزواجه صلى الله عليه وسلم قمن ببعض الأمور التي تسوؤه من غيرتهن من بعضهن والكيد لأجل ذلك؛ كما في قصة (التحريم) المشهورة، وطلبْن الزيادة في الكسوة والنفقة تبعاً لتوسع الحال في المدينة ولدى الصحابة بوجه عام، وذلك بعد المغانم التي تحصَّل عليها المسلمون من انتصاراتهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوسع في النفقة والبيت كما فعل الناس مع قدرته على ذلك، وإنما رضي أنْ يبقى على حاله التي كان عليها من قبل، وهي الحال التي ما يزال الفقراء عليها من قلة ذات اليد؛ زهداً في الدنيا واعتناءً بأمر الآخرة، قال أبو حيان: «ولَـمَّا نصر الله نبيَّه وفرَّق عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنَّضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله! بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخَوَل، ونحـن على ما تراه من الفاقة والضيق. وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال»[2].
ويروي الطبري[3] عن أبي الزبير أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرُج صلواتٍ، فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إنْ شئتم لأَعلمنَّ لكم شأنه؛ فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فجعل يتكلم ويرفع صوته، حتى أذن له. قال: فجعلت أقول في نفسي: أيُّ شيء أكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، أو كلمة نحوها؟ فقلت: يا رسول الله، لو رأيت فلانة وسألتني النفقة فصككتها صكة، فقال صلى الله عليه وسلم : «ذلك حبسني عنكم». قال: فأتى حفصة، فقال: لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ما كانت لك من حاجة فإليَّ؛ ثم تتبع نساء النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يكلمهن، فقال لعائشة: أيغرك أنك امرأة حسناء، وأنَّ زوجك يحبك؟ لتنتهين أو لينزلن فيك القرآن. قال: فقالت أم سلمة: يا بن الخطاب، أو ما بقي لك إلا أنْ تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نسائه، ولن تسأل المرأة إلا لزوجها. قال: ونزل القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا 28 وَإن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28 - 29]. قال: فبدأ بعائشة فخيَّرها، وقرأ عليها القرآن، فقالت: هل بدأتَ بأحد من نسائك قبلي؟ قال: «لا». قالت: فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ولا تخبرهن بذلك. قال: ثم تتبعهن فجعل يخيرهن ويقرأ عليهن القرآن، ويخبرهن بما صنعت عائشة، فتتابعن على ذلك.
وللقارئ أنْ يتأمل أثر تلك المطالبات ومحاولة الاستئثار على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومزاجه، فإنَّ الزوجة ليست كسائر الناس في تأثيرها على زوجها، فتستطيع أنْ تكون سبباً في قيامه كالجبل شامخاً، وتستطيع كذلك أنْ تطفئه حتى يصير ظلمة في غياهب الليل. وقد جعل الله تعالى الزوجة سكناً للرجل في موحش حياته كما قال جلَّ شأنه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا} [الروم: 21]. فإذا لم يجد السكن في بيته وعند زوجه فإنَّ الحياة كلها موحشة مكفهرة، فلا سبيل بعد ذلك إلا الانزواء والانقباض والانكفاء.
وقد لا تدرك الزوجة أهمية كونها سكن الزوج وقِوام البيت فربما عبثت بذلك فتسببت باهتزاز البيوت ونقص الدين وضعف الفاعلية في الحياة العامة دون أنْ تشعر.
ولقد اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، بل اعتزل المسجد والناس على إثر خفوت روحه وانطفاء وهجه... هكذا تُمَزَّق سعادة البيت الزوجي وبهجته. وفي رواية ابن عباس رضي الله عنه أنَّ عمر قال: «وكنا قد تحدثنا أنَّ غسان تنعل الخيل لتغزونا. قال: فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فرجع إليَّ عِشاءً فضرب بابي ضرباً شديداً وقال: أنائم هو؟ ففزعت فخرجت إليه فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم. قال: قلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول؛ طلق رسول الله نساءه. فقلت: خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا يوشك أنْ يكون. فجمعت عليَّ ثيابي، فصليت مع رسول الله الفجر، فدخل رسول الله مشربة له فاعتزل فيها. قال: ودخلتُ على حفصة فإذا هي تبكي فقلت: ما يبكيك؟ ألم أكن قد حدثتك هذا؟ طلقكن رسول الله؟ فقالت: لا أدري ما أقول، هو ذا معتزل في هذه المشربة. قال: فخرجت فجئت المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم. قال: فجلست معهم ثم غلبني ما أجد فجئت المشربة التي فيها رسول الله...»[4].
توبةٌ في بيت الزوجية:
بعد أنْ قرأ النبي صلى الله عليه وسلم آية التخيير على نسائه، وخيَّرهن بين البقاء معه أزواجاً في ظل حياة متزهدة وثواب هذا الخيار هو الفوز بالدار الآخرة، وبين الخروج من عصمته والطلاق مع إعطائهن حظهن من المال والزينة، بعد ذلك اجتمع اختيارهن على العيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والصبر على شظف العيش معه ابتغاء ثواب الله والدار الآخرة وألَّا يطلبنه متاع الدنيا وزينتها. فكان هذا امتحاناً عظيماً وكان اختيارهن دليلاً على صلاحهن وخيريتهن وكمال عقولهن، وبذلك تنتهي مشكلة المطالبات بالتوسعة لتتم حكمة الله، وفي ذلك يقول السعدي: «أراد الله أنْ يسهِّل الأمر على رسوله، وأنْ يرفع درجة زوجاته، ويُذهِب عنهن كلَّ أمرٍ ينقص أجرهن»[5].
ومما تستفيده بيوت المسلمين من هذه الحادثة أنْ تنظر إلى ما يقع فيها من المشكلات والأزمات نظرة العارف بحكمة الله ورحمته ولطفه، فتجعلَ تلك المشكلات والأزمات بداية لانطلاقة إيمانية داخل البيت، وتجديداً وتحسيناً لحال الزوجية، وفرصة للإصلاح الشامل للحياة الخاصة، والإسلامُ يربي أهله على تلمُّس العطايا والـمِنَح في ثنايا المحن والأزمات.
ولقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الاختيار من نسائه؛ فقد ذكرت عائشة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَـمَّا نزل إلى نسائه أُمر أنْ يخيرهن، فدخل عليَّ فقال: «سأذكر لكِ أمراً ولا تعجلي حتى تستشيري أباك»، فقلت: وما هو يا نبي الله؟ قال: «إني أُمرت أنْ أخيِّرَكن»، وتلا عليها آية التخيير إلى آخر الآيتين. قالت: قلت: وما الذي تقول: «لا تعجلي حتى تستشيري أباك» ! فإني أختار الله ورسوله. فسُرَّ بذلك، وعرض على نسائه، فتتابعن كلهن، فاخترن الله ورسوله[6]. وانقضت هذه المشكلات التي أقامت مدة من الزمان بالإبقاء على ما يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلَّة ذات اليد، وعلى اتخاذ نسائه قرار البقاء معه على ما يريده هو، وإلى أنْ يتوفاه الله، وعلى ثناء الله عليهن في كتابه وإكرامه سبحانه وتعالى لهن في الدنيا وادخاره لثوابهن في الآخرة.
وعوضهن الله في الدنيا بمنع النبي صلى الله عليه وسلم من تطليقهن والزواج عليهن، وادخر لهن في الآخرة الخلود في زوجية محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى الجنة. قال تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} [الأحزاب: 52]. قال السعدي: «هذا شكر من الله - الذي لم يزل شكوراً - لزوجات رسوله رضي الله عنهن، حيث اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، أنْ رحمهن، وقصَرَ رسولَه عليهن، فقال: لا يحل لك النساء من بعد زوجاتك الموجودات ولا أن تبدل بهن من أزواج، أي: ولا تطلق بعضهن، فتأخذ بدلها، فحصل بهذا أمنُهن من الضرائر ومن الطلاق، لأنَّ الله قضى أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، لا يكون بينه وبينهن فرقة. {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} أي: حسن غيرهن، فلا يحللن لك {إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أي: السراري، فذلك جائز لك، لأنَّ المملوكات في كراهة الزوجات لسن بمنزلة الزوجات في الإضرار للزوجات»[7].
بوصلة الآخرة:
حين اختارت أمهات المؤمنين رضي الله عنهن الله ورسوله والدار الآخرة على متاع الدنيا وزينتها أمرهن الله بعدد من الوصايا التي بها تصلح أحوالهن في حياتهن الزوجية، وهي وصايا عظيمة يتوجب على كل زوجة أنْ تمتثلها في نفسها إذا كانت تبتغي الدار الآخرة وما أعده الله فيها من حسن الثواب، قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْروفًا 32 وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 33 وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْـحِكْمَةِ إنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 32 - 34]. قال القرطبي: «وإنْ كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يَرِد دليل يخص جميع النساء؛ كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع، فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن، وخاطَبَهن بذلك تشريفاً لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلَمَ أنه فِعْل الجاهلية الأولى»[8].
فالوصية الأولى: هي عدم الخضوع بالقول عند الرجال، والاكتفاء بالمعروف منه. فأما الخضوع بالقول فهو ترقيق الكلام عند مخاطبة الرجال[9]، وهو ممنوع لأنه يُطمِع الرجل الذي في قلبه مرض الشهوة، وأما المعروف من القول فهو الذي ليس بالليِّن الخاضع ولا بالغليظ الجاف، ومضمونه لا تنكره الشريعة ولا النفوس[10].
وفي عصرٍ تيسَّر فيه الحديث بين الرجال والنساء، تحتاج المرأة إلى ضبط مشاعرها ولسانها أكثر وأكثر، لتسلم هي من مغبَّة الخضوع، وليسلم الذي في قلبه مرض من الرجال، سواء كان ذلك مباشرة أم من خلال شبكات التواصل الإلكترونية أم من خلال أجهزة الاتصالات، فإنَّ الخضوع بالقول مما تُنهى عنه المرأة في حضرة الرجال لأنه لا ينبغي أنْ يكون خضوع القول إلا مع زوجها، قال ابن كثير: «أي لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها»[11]. فهي تُنهى عنه أمامهم كما هو مستحب لها عند زوجها، لأنَّ من طبيعة الخضوع بالقول استمالة قلب الزوج وإيناسه، فكان حسناً في موضعٍ وسيئاً في غير هذا الموضع.
وفطرة المرأة تدعوها إلى الخضوع بالقول، والإسلام يوافق هذه الفطرة ويوجهها في المسار الصحيح المفيد، قال البقاعي: «اللين في كلام النساء خلق لهن لا تكلُّف فيه، فأُريد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم التكلف للإتيان بضده»[12].
والوصية الثانية: هي القرار في البيوت، أي لزومها وعدم الخروج منها إلا للحاجة كما ذكر القرطبي آنفاً، لما في ذلك من جلب للمصالح ودرء للمفاسد، فإنَّ قرار الزوجة في بيتها فيه سكن للزوج ورعاية للأولاد وعناية بالبيت ونضرة في وجهها واعتناء بزينتها واستثمار للوقت في عبادة ربها. وفي الخروج من البيت تفريط في حق زوجها وحق أولادها، وإهمال لبيتها وهدر لنشاطها وإتلاف لقوَّتها وخفوت لنضرتها، وتعرُّضٌ للرجال وجلب للمعصية واقتراب من حبائلها، ولذلك كانت تتمـة الآية في النهي عن التبرج، وهو الاختلاط بالرجال والمشي بين أيديهم وإظهار بعض الزينة والمحاسن[13]، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شر نسائكم المتبرجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم»[14].
والمرأة المشغولة بأعمال البيت والزوجية التي قَصَرَتْ نفسها على بيتها وزوجها وامتنعت من الخروج إلا لحاجة مقدَّرة بقدرها هي أسلمُ النساء من شؤم التبرج والاختلاط والخضوع بالقول عند الرجال، والمرأة التي تكثر الخروج لحاجة ولغير حاجة - ولربما ظنت أنَّ بعض مقاصد خروجها حاجات تستحق الخروج - هي أكثر النساء عرضة لشؤم التبرج والاختلاط والخضوع بالقول.
والوصية الثالثة: هي لزوم طريق الاستقامة وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإقامة الفرائض لا سيما الصلاة والزكاة. وخصَّ الصلاة والزكاة بالأمر ثم جاء الأمر عاماً بالطاعة لأنَّ هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات؛ فمن اعتنى بهما حق العناية جرتاه إلى ما وراءهما، قال تعالى: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ} [العنكبوت: 45][15].
والوصية الرابعة: تلاوة آيات الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ودراستها، قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْـحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]، قال السعدي: «يشمل ذكر لفظه بتلاوته، وذكر معناه بتدبُّره والتفكر فيه واستخراج أحكامه وحِكَمه، وذكر العمل به وتأويله»[16]. فهنا ثلاثة أحوال للذِّكْر: أولها: تلاوة القرآن والسنة، وثانيها: النظر في معاني القرآن والسنة، والتفكر فيها وما تتضمنه من أحكام، وثالثها: ذكر العمل المترتب على تلك الآيات والأحاديث وكيف يمكن تطبيقه في الواقع، ونحو ذلك وهو دراسة أحكام الشريعة وفقهها.
وبهذه الوصايا الأربعة تتشكل بُوصلَة الزوجة الصالحة والمرأة الطيبة التي تريد الله ورسوله والدار الآخرة، وهي: ضبط ميزان الكلام عند الرجال الأجانب، والقرار في البيت، ولزوم طريق الاستقامة، وتلاوة آيات القرآن والسنة وفهمها ودراستها والنظر في أحكام الشريعة بقصد العمل.
الشيطان والمهام التخريبية:
أليس للشيطان دور تخريبي في هذه الحادثة؟
بلى، كيف لا يكون له دور تخريبي وهو الذي يَعدُّ التفريق بين الزوجين من أعظم الأعمال التي يحاسب بها جنوده. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئاً، قال ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدْنيه منه ويقول: نعم، أنت» . قال الأعمش: أراه قال: فيلتزمه»[17]. وكثير من المشكلات الزوجية تنشأ من صغائر الأمور، فيوقد الشيطان تحتها حتى تنضج وتتحول إلى فرقة.
ولكن الشيطان لا يلقي حبائله جزافاً بلا تفنن وإمعان، وإنما يزينها بالمبررات العقلية والحجج المنطقية، فتكون فتنته عبارة عن مناقشات وجدال بين الزوجين حتى يتم ما يريده، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم إنما طلبن التوسع في النفقة بعد أنْ فتح الله على المسلمين وأورثهم أراضي اليهود وأموالهم ونخيلهم وذهبهم ونقودهم، فنال الصحابة منها ما نالهم، ووسعوا على أنفسهم وأهليهم تبعاً لذلك وبعد سنوات من المسغبة والفقر، فأرادت نساء النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يكون لهن حظ كما لسائر النساء في المدينة، كيف والنبي صلى الله عليه وسلم له خُمس الفيء مما أفاءه الله عليه من بني النضير، فكان المتوقع أنْ يكون لهن نصيب وافر من الذهب والزينة والمال وسعة المنزل... أو هكذا يلقي الشيطان حبائله في نفوس النساء، فيسخطن حياتهن مع أزواجهن، وتبدأ أصواتهن تعلو مطالبة بالزيادة والتوسع في النفقة والسكن والزينة مما لا يوافق رؤية الزوج في طريقة حياته؛ فكيف إذا كان هذا الزوج يتجه قلبه نحو الآخرة، بل كيف إذا كان هذا الزوج هو محمد صلى الله عليه وسلم الموعود بأعلى درجات النعيم في الجنة.
لذلك وجب على الأزواج من الرجال والنساء الحذر من الشيطان والاستعاذة الدائمة من نزغاته ومن همزه ونفخه ونفثه. والقرآن يحذرنا من هذه المهام التخريبية لإبليس، قال تعالى: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. والرجس هنا هو الشيطان وعمله، ذكر ذلك ابن عباس[18] وعبد الرحمن بن زيد[19]. والله تعالى يذكر للنساء أنَّ مراده من هذه الوصايا تطهير النساء من الدنس والشرور وحفظهن من أذى الشيطان وحبائله، فإنَّ الشيطان هو الذي يتسبب في الشقاق بين الزوجين، وهو الذي يتسبب في تبرُّج النساء واختلاطهن، فإذا لم يفلح في التسبب إلى ذلك بوساوسه عمل أعمالاً أخرى لأجل ذلك، حتى لو أدى به الأمر إلى أنْ يقوم بأعمال محسوسة ملموسة ليدفع النساء إلى الشر دفعاً، فلأجل ذلك أوصى الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء الأمة من بعدهن بتلك الوصـايا الأربعة لِـمَا فيهـا من حفظ لهن عن الشرور وعن كيد الشيطان، ولِـمَا فيها من ذكر الله وطاعته الطاردة للشيطان والمذهبة لعمله والجالبة للطمأنينة والهناء.
وقد روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: تلا هذه الآية: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}، قال: كان فيما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة؛ وإنَّ بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صِباحاً وفي النساء دمامة، وكان نساء السهل صِباحاً وفي الرجال دمامة، وإنَّ إبليس أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام، فأجَّر نفسه منه، وكان يخدمه، واتخذ إبليس شيئاً مثل ذلك الذي يزمر فيه الرعاء، فجاء فيه بصوت لم يسمع مثله، فبلغ ذلك من حولهم، فانتابوهم يسمعون إليه، واتخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة، فيتبرج الرجال للنساء، ويتزين النساء للرجال، وإنَّ رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم ذلك، فرأى النساء، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك، فتحولوا إليهن، فنزلوا معهن، فظهرت الفاحشة فيهن، فهو قول الله: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}[20].
إنَّ الشيطان لا يألو جهداً لإقناع المرأة بخروجها من بيتها واختلاطها بالرجال وتبرجها بين أيديهم، فتارة يبذر فيها دافع الحاجة إلى العمل خارج المنزل للحصول على المال، وتارة يبذر فيها دافع الحاجة إلى التفسح والتنزه للاستجمام والاسترواح من عناء أعمال البيت وغير البيت، وتارة يبذر فيها دافع الحاجة إلى التسوق وشراء ما يلزم البيت، وتارة يبذر فيها دافع الشعور بالذات والاستقلال والحرية، ولا يزال يبذر بذوره ويعين على دفع المرأة إلى ترك وظائفها المنزلية التي أوصى الله بها إلى القيام بما يمليه عليها من أقوال وأفعال تجلب الشر لها ولبيتها، ولا يزال يبذر بذوره ويعين على نقل الزوجة من دائرة الرضا والسعادة الزوجية إلى مسارب السخط والتأفف والشعور بالنقص في الذات والمال ليهدم بيتها ويفرق بينها وبين زوجها. ولو كان الأمر هيِّناً لما حصل في أحسن بيوت العالم وأجلِّها وأشرفها وأخْيَرها؛ أعني بيت النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته، الأمر الذي كان من تأثيره اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم بيته والمسجد والناس.
وإنَّ ضعف بيوت المسلمين وما يتسرب إلى الأزواج رجالاً ونساء من الوهن والسخط والشحناء لا يسلم من عمل الشيطان وألاعيبه وحبائله؛ فأين وصايا الله تعالى الأربعة للنساء من ذلك كله؟ وهل ثمة اعتناء بها أصلاً؟
ولست أقصد من هذا تأنيباً؛ وإنما أقصد إسداء النصح لنساء المسلمين ليتعرفنَ طريقة القرآن في معالجة قضايا اجتماعية كبرى تتعلق بأكثر بيوت المسلمين فيهتدوا بها، ولا بد في الأمة من وجود بيوت صالحة بنسائها اللواتي يراعين وصية الله لهن، ليكنَّ بذلك نواة البيوت الطيبة الهانئة والمطمئنة، فإنَّ هذه البيوت هي أصل في قوة الأمة وصلاح الدين وإماتة المنكرات.
مجالس النساء:
اجتماع النساء والالتقاء ببعضهن عادة قديمة حديثة، جرت الأعراف والعادات بها، سواء انعقدت هذه المجالس بمناسبة أو بغير مناسبة، ويجري فيها الحديث بكل شجونه وشؤونه، ويكثر فيها الكلام والقيل والقال.
وهنا وقفة مهمة، اكتسبت أهميتها من تفسير عدد من الظواهر والشكاوى، إذ يمكن لهذه المجالس أنْ تكون لَبِنة في إصلاح الأحوال الاجتماعية أو معول هدم لها. وهنا يأتي السؤال التالي:
كيف تقضي النساء الوقت في مجالسهن؟
نظرت في قول المولى تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْـحِكْمَةِ}، فوجدت وصية الله تعالى لأمهات المؤمنين - بعد ما حدث منهن في مسألة طلب التوسع في النفقة - بأنْ يكون من وظائفهن في بيوتهن: ذكر الله وتلاوة كتابه وتعلُّم أحكامه وتعلم السنة، لأنَّ ذلك يعصم - بإذن الله - من وقـوع الإخفاقات والإشكالات، أو يخفف منها، أو يعالجها بعد وقوعها. ثم تأمَّلت في حال النساء اليوم في مجالسهن، فأسِفتُ لذلك كثيراً، لأنَّ كثيراً من مجالس النساء اليوم لا يُذكَر فيها الله تعالى ولا يتلى فيها كتابه ولا تُتدارس فيها سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأحكام شريعته وآدابها، وكثير من النساء اليوم يعشن حياتهن بعيداً عن هذه الوظيفة البيتية المهمة، في تخلٍّ ظاهرٍ عن مسؤوليتهن، وقد تعتذر بعض النساء بانشغالهن بالأولاد وعمل البيت، وقد تعتذر بعضهن بالعمل المضني خارج البيت، وقد تعتذر بعضهن بالاكتفاء بقوامة الزوج والأب؛ فتجدهن لا يتعلمن ولا يقرأن ولا يتدارسن أحكام القرآن وأمور الشريعة وواجباتها، ويزهدن في إقامة مجالس الذكر في بيوتهن واجتماعاتهن، ويشتغلن بالغيبة والتمظهر والقيل والقال وبث الشجون والشكوى ومتابعة توافه الأمور والموضات ونحو ذلك... وهو ما أفرز ازدياداً في الجهل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وضعفاً في الفكر وإخفاقاً في التربية ونفوراً عن رعاية البيت والزوج. وهذا على سبيل الكثرة لا التعميم.
ووصية الله تعالى إذا قيلت لأمهات المؤمنين فإنَّ نساء المؤمنين مخاطَبات بها من باب أولى. والمأمول أنْ تعيَ النساء مسؤوليتهن في إحياء البيوت بذكر الله والصلاة والقرآن والسنة وما فيهما من العلم والدين، فإنَّ الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأنْ يقيمها لهن، بل أمرهن بأنْ يقمْن بذلك بأنفسهن.
ما على النساء إذا اجتمعن في مجلسٍ أنْ يتدارسن كتاب الله بينهن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من قوم يقومون من مجلسٍ لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة»[21]. ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: «ما اجتمع قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وتغشَّتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده»[22].
وما على النساء إذا اجتمعن في مجلسٍ أنْ يتذاكرن آداب الزوجية الواجبة والمستحبة، ابتغاء ما عند الله مما أعده للزوجة الصالحة، وأنْ يتدارسن سير القدوات من نساء الأمة كأمهات المؤمنين ومريم بنت عمران وأمها وآسية بنت مزاحم وأم سليم وسائر زوجات المهاجرين والأنصار، بل كثير من نساء زماننا هذا الذي تغلبت فيه نساء على كيد الشيطان فكُنَّ صالحات قانتات مريدات وجه الله تعالى والدار الآخرة.
وما على النساء إذا اجتمعن في مجلسٍ أنْ يتذاكرن مهارات التربية الإسلامية وطرائقها ووسائلها، وأنْ يناقشن تحديات التربية المعاصرة بوعي وعلم ابتغاء الوصول بأولادهن إلى مصاف الصالحين الأشداء.
وما على النساء إذا اجتمعن في مجلسٍ أنْ يوجهن دعوة إلى طالبة علم أو معلمة قرآن، فيكون لهن نصيب من علمها وتوجيهها وبركتها؛ ولو أدى ذلك إلى أنْ يجعلن لها جُعْلاً من المال.
يا نساء المؤمنين! إصلاح حالكن ومعاشكن ونجاحكن في الحياة الزوجية وتربية الأولاد يبدأ من هذه الوصية الربانية: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْـحِكْمَةِ}
[1] انظر: الطبري: 19/85، الطبقات: 10/171، وذكر ابن حبان في كتابه «السيرة النبوية وأخبار الخلفاء» هذه الحادثة السنة التاسعة من الهجرة: 1/360، وذِكر غسان في الرواية يدل على تأخُّرها في السيرة.
[2] البحر المحيط: 8/471.
[3] تفسير الطبري: 19/85.
[4] الطبقات لابن سعد: 10/171.
[5] تفسير السعدي: 3/1381.
[6] تفسير الطبري: 19/89.
[7] تفسير السعدي: 3/1397.
[8] تفسير القرطبي: 14/117.
[9] تفسير ابن كثير: 6/182.
[10] تفسير السعدي: 3/1384، المحرر الوجيز: 8/10.
[11] تفسير ابن كثير: 6/182.
[12] نظم الدرر: 6/101.
[13] تفسير ابن كثير: 6/183، المحرر الوجيز: 8/11.
[14] أخرجه البيهقي وصححه الألباني في الصحيحة حـ 1849.
[15] التحرير والتنوير: 22/13.
[16] تفسير السعدي: 3/1385.
[17] أخرجه مسلم حـ 2814.
[18] معالم التنزيل: 3/562.
[19] تفسير الطبري: 19/101.
[20] تفسير الطبري: 19/98.
[21] أخرجه أبو داود حـ 4855.
[22] أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق حـ 944.
منقول
في هدأة من الزمان، وبعد ما فتح الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من خيرات بني النَّضير وبني قريظة، كما يبدو من سورة الأحزاب، وبعدما أمِنت المدينة من غزو قريش والعرب، وقد فرضت المدينة قوَّتها في الجزيرة العربية، واغتنى المهاجرون بعد الفقر، وأمِن الناس بعد الخوف والترقب، وتوسعت البيوت ولانت الفُرُش، فإذا الناس مجتمعون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون حول منبره، ينتظرونه فلا يخرج إليهم ولا يصلي بهم، ويقفون على بابه فلا يأذن لهم ولا يكلمهم[1]، فتضطرب المدينة بساكنيها، وتعود حالة القلق إلى أشد ما كانت عليه أو أكثر، حتى لقد ظن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ سـبب هذا الاضطـراب والقلق هو غزو الغسـاسنة للمدينة، فيقول له صاحبه: «بل أعظم من ذلك! طلَّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نساءَه».
هِزَّة البيت النبوي:
اضطربت المدينة لِـمَا اعترى البيت النبوي من هِزَّة كانت سبباً في نزول آية التخيير، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا 28 وَإن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28 - 29].
ذلك أنَّ أزواجه صلى الله عليه وسلم قمن ببعض الأمور التي تسوؤه من غيرتهن من بعضهن والكيد لأجل ذلك؛ كما في قصة (التحريم) المشهورة، وطلبْن الزيادة في الكسوة والنفقة تبعاً لتوسع الحال في المدينة ولدى الصحابة بوجه عام، وذلك بعد المغانم التي تحصَّل عليها المسلمون من انتصاراتهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوسع في النفقة والبيت كما فعل الناس مع قدرته على ذلك، وإنما رضي أنْ يبقى على حاله التي كان عليها من قبل، وهي الحال التي ما يزال الفقراء عليها من قلة ذات اليد؛ زهداً في الدنيا واعتناءً بأمر الآخرة، قال أبو حيان: «ولَـمَّا نصر الله نبيَّه وفرَّق عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنَّضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله! بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخَوَل، ونحـن على ما تراه من الفاقة والضيق. وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال»[2].
ويروي الطبري[3] عن أبي الزبير أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرُج صلواتٍ، فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إنْ شئتم لأَعلمنَّ لكم شأنه؛ فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فجعل يتكلم ويرفع صوته، حتى أذن له. قال: فجعلت أقول في نفسي: أيُّ شيء أكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، أو كلمة نحوها؟ فقلت: يا رسول الله، لو رأيت فلانة وسألتني النفقة فصككتها صكة، فقال صلى الله عليه وسلم : «ذلك حبسني عنكم». قال: فأتى حفصة، فقال: لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ما كانت لك من حاجة فإليَّ؛ ثم تتبع نساء النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يكلمهن، فقال لعائشة: أيغرك أنك امرأة حسناء، وأنَّ زوجك يحبك؟ لتنتهين أو لينزلن فيك القرآن. قال: فقالت أم سلمة: يا بن الخطاب، أو ما بقي لك إلا أنْ تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نسائه، ولن تسأل المرأة إلا لزوجها. قال: ونزل القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا 28 وَإن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28 - 29]. قال: فبدأ بعائشة فخيَّرها، وقرأ عليها القرآن، فقالت: هل بدأتَ بأحد من نسائك قبلي؟ قال: «لا». قالت: فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ولا تخبرهن بذلك. قال: ثم تتبعهن فجعل يخيرهن ويقرأ عليهن القرآن، ويخبرهن بما صنعت عائشة، فتتابعن على ذلك.
وللقارئ أنْ يتأمل أثر تلك المطالبات ومحاولة الاستئثار على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومزاجه، فإنَّ الزوجة ليست كسائر الناس في تأثيرها على زوجها، فتستطيع أنْ تكون سبباً في قيامه كالجبل شامخاً، وتستطيع كذلك أنْ تطفئه حتى يصير ظلمة في غياهب الليل. وقد جعل الله تعالى الزوجة سكناً للرجل في موحش حياته كما قال جلَّ شأنه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا} [الروم: 21]. فإذا لم يجد السكن في بيته وعند زوجه فإنَّ الحياة كلها موحشة مكفهرة، فلا سبيل بعد ذلك إلا الانزواء والانقباض والانكفاء.
وقد لا تدرك الزوجة أهمية كونها سكن الزوج وقِوام البيت فربما عبثت بذلك فتسببت باهتزاز البيوت ونقص الدين وضعف الفاعلية في الحياة العامة دون أنْ تشعر.
ولقد اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، بل اعتزل المسجد والناس على إثر خفوت روحه وانطفاء وهجه... هكذا تُمَزَّق سعادة البيت الزوجي وبهجته. وفي رواية ابن عباس رضي الله عنه أنَّ عمر قال: «وكنا قد تحدثنا أنَّ غسان تنعل الخيل لتغزونا. قال: فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فرجع إليَّ عِشاءً فضرب بابي ضرباً شديداً وقال: أنائم هو؟ ففزعت فخرجت إليه فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم. قال: قلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول؛ طلق رسول الله نساءه. فقلت: خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا يوشك أنْ يكون. فجمعت عليَّ ثيابي، فصليت مع رسول الله الفجر، فدخل رسول الله مشربة له فاعتزل فيها. قال: ودخلتُ على حفصة فإذا هي تبكي فقلت: ما يبكيك؟ ألم أكن قد حدثتك هذا؟ طلقكن رسول الله؟ فقالت: لا أدري ما أقول، هو ذا معتزل في هذه المشربة. قال: فخرجت فجئت المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم. قال: فجلست معهم ثم غلبني ما أجد فجئت المشربة التي فيها رسول الله...»[4].
توبةٌ في بيت الزوجية:
بعد أنْ قرأ النبي صلى الله عليه وسلم آية التخيير على نسائه، وخيَّرهن بين البقاء معه أزواجاً في ظل حياة متزهدة وثواب هذا الخيار هو الفوز بالدار الآخرة، وبين الخروج من عصمته والطلاق مع إعطائهن حظهن من المال والزينة، بعد ذلك اجتمع اختيارهن على العيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والصبر على شظف العيش معه ابتغاء ثواب الله والدار الآخرة وألَّا يطلبنه متاع الدنيا وزينتها. فكان هذا امتحاناً عظيماً وكان اختيارهن دليلاً على صلاحهن وخيريتهن وكمال عقولهن، وبذلك تنتهي مشكلة المطالبات بالتوسعة لتتم حكمة الله، وفي ذلك يقول السعدي: «أراد الله أنْ يسهِّل الأمر على رسوله، وأنْ يرفع درجة زوجاته، ويُذهِب عنهن كلَّ أمرٍ ينقص أجرهن»[5].
ومما تستفيده بيوت المسلمين من هذه الحادثة أنْ تنظر إلى ما يقع فيها من المشكلات والأزمات نظرة العارف بحكمة الله ورحمته ولطفه، فتجعلَ تلك المشكلات والأزمات بداية لانطلاقة إيمانية داخل البيت، وتجديداً وتحسيناً لحال الزوجية، وفرصة للإصلاح الشامل للحياة الخاصة، والإسلامُ يربي أهله على تلمُّس العطايا والـمِنَح في ثنايا المحن والأزمات.
ولقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الاختيار من نسائه؛ فقد ذكرت عائشة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَـمَّا نزل إلى نسائه أُمر أنْ يخيرهن، فدخل عليَّ فقال: «سأذكر لكِ أمراً ولا تعجلي حتى تستشيري أباك»، فقلت: وما هو يا نبي الله؟ قال: «إني أُمرت أنْ أخيِّرَكن»، وتلا عليها آية التخيير إلى آخر الآيتين. قالت: قلت: وما الذي تقول: «لا تعجلي حتى تستشيري أباك» ! فإني أختار الله ورسوله. فسُرَّ بذلك، وعرض على نسائه، فتتابعن كلهن، فاخترن الله ورسوله[6]. وانقضت هذه المشكلات التي أقامت مدة من الزمان بالإبقاء على ما يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلَّة ذات اليد، وعلى اتخاذ نسائه قرار البقاء معه على ما يريده هو، وإلى أنْ يتوفاه الله، وعلى ثناء الله عليهن في كتابه وإكرامه سبحانه وتعالى لهن في الدنيا وادخاره لثوابهن في الآخرة.
وعوضهن الله في الدنيا بمنع النبي صلى الله عليه وسلم من تطليقهن والزواج عليهن، وادخر لهن في الآخرة الخلود في زوجية محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى الجنة. قال تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} [الأحزاب: 52]. قال السعدي: «هذا شكر من الله - الذي لم يزل شكوراً - لزوجات رسوله رضي الله عنهن، حيث اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، أنْ رحمهن، وقصَرَ رسولَه عليهن، فقال: لا يحل لك النساء من بعد زوجاتك الموجودات ولا أن تبدل بهن من أزواج، أي: ولا تطلق بعضهن، فتأخذ بدلها، فحصل بهذا أمنُهن من الضرائر ومن الطلاق، لأنَّ الله قضى أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، لا يكون بينه وبينهن فرقة. {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} أي: حسن غيرهن، فلا يحللن لك {إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أي: السراري، فذلك جائز لك، لأنَّ المملوكات في كراهة الزوجات لسن بمنزلة الزوجات في الإضرار للزوجات»[7].
بوصلة الآخرة:
حين اختارت أمهات المؤمنين رضي الله عنهن الله ورسوله والدار الآخرة على متاع الدنيا وزينتها أمرهن الله بعدد من الوصايا التي بها تصلح أحوالهن في حياتهن الزوجية، وهي وصايا عظيمة يتوجب على كل زوجة أنْ تمتثلها في نفسها إذا كانت تبتغي الدار الآخرة وما أعده الله فيها من حسن الثواب، قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْروفًا 32 وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 33 وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْـحِكْمَةِ إنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 32 - 34]. قال القرطبي: «وإنْ كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يَرِد دليل يخص جميع النساء؛ كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع، فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن، وخاطَبَهن بذلك تشريفاً لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلَمَ أنه فِعْل الجاهلية الأولى»[8].
فالوصية الأولى: هي عدم الخضوع بالقول عند الرجال، والاكتفاء بالمعروف منه. فأما الخضوع بالقول فهو ترقيق الكلام عند مخاطبة الرجال[9]، وهو ممنوع لأنه يُطمِع الرجل الذي في قلبه مرض الشهوة، وأما المعروف من القول فهو الذي ليس بالليِّن الخاضع ولا بالغليظ الجاف، ومضمونه لا تنكره الشريعة ولا النفوس[10].
وفي عصرٍ تيسَّر فيه الحديث بين الرجال والنساء، تحتاج المرأة إلى ضبط مشاعرها ولسانها أكثر وأكثر، لتسلم هي من مغبَّة الخضوع، وليسلم الذي في قلبه مرض من الرجال، سواء كان ذلك مباشرة أم من خلال شبكات التواصل الإلكترونية أم من خلال أجهزة الاتصالات، فإنَّ الخضوع بالقول مما تُنهى عنه المرأة في حضرة الرجال لأنه لا ينبغي أنْ يكون خضوع القول إلا مع زوجها، قال ابن كثير: «أي لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها»[11]. فهي تُنهى عنه أمامهم كما هو مستحب لها عند زوجها، لأنَّ من طبيعة الخضوع بالقول استمالة قلب الزوج وإيناسه، فكان حسناً في موضعٍ وسيئاً في غير هذا الموضع.
وفطرة المرأة تدعوها إلى الخضوع بالقول، والإسلام يوافق هذه الفطرة ويوجهها في المسار الصحيح المفيد، قال البقاعي: «اللين في كلام النساء خلق لهن لا تكلُّف فيه، فأُريد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم التكلف للإتيان بضده»[12].
والوصية الثانية: هي القرار في البيوت، أي لزومها وعدم الخروج منها إلا للحاجة كما ذكر القرطبي آنفاً، لما في ذلك من جلب للمصالح ودرء للمفاسد، فإنَّ قرار الزوجة في بيتها فيه سكن للزوج ورعاية للأولاد وعناية بالبيت ونضرة في وجهها واعتناء بزينتها واستثمار للوقت في عبادة ربها. وفي الخروج من البيت تفريط في حق زوجها وحق أولادها، وإهمال لبيتها وهدر لنشاطها وإتلاف لقوَّتها وخفوت لنضرتها، وتعرُّضٌ للرجال وجلب للمعصية واقتراب من حبائلها، ولذلك كانت تتمـة الآية في النهي عن التبرج، وهو الاختلاط بالرجال والمشي بين أيديهم وإظهار بعض الزينة والمحاسن[13]، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شر نسائكم المتبرجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم»[14].
والمرأة المشغولة بأعمال البيت والزوجية التي قَصَرَتْ نفسها على بيتها وزوجها وامتنعت من الخروج إلا لحاجة مقدَّرة بقدرها هي أسلمُ النساء من شؤم التبرج والاختلاط والخضوع بالقول عند الرجال، والمرأة التي تكثر الخروج لحاجة ولغير حاجة - ولربما ظنت أنَّ بعض مقاصد خروجها حاجات تستحق الخروج - هي أكثر النساء عرضة لشؤم التبرج والاختلاط والخضوع بالقول.
والوصية الثالثة: هي لزوم طريق الاستقامة وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإقامة الفرائض لا سيما الصلاة والزكاة. وخصَّ الصلاة والزكاة بالأمر ثم جاء الأمر عاماً بالطاعة لأنَّ هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات؛ فمن اعتنى بهما حق العناية جرتاه إلى ما وراءهما، قال تعالى: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ} [العنكبوت: 45][15].
والوصية الرابعة: تلاوة آيات الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ودراستها، قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْـحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]، قال السعدي: «يشمل ذكر لفظه بتلاوته، وذكر معناه بتدبُّره والتفكر فيه واستخراج أحكامه وحِكَمه، وذكر العمل به وتأويله»[16]. فهنا ثلاثة أحوال للذِّكْر: أولها: تلاوة القرآن والسنة، وثانيها: النظر في معاني القرآن والسنة، والتفكر فيها وما تتضمنه من أحكام، وثالثها: ذكر العمل المترتب على تلك الآيات والأحاديث وكيف يمكن تطبيقه في الواقع، ونحو ذلك وهو دراسة أحكام الشريعة وفقهها.
وبهذه الوصايا الأربعة تتشكل بُوصلَة الزوجة الصالحة والمرأة الطيبة التي تريد الله ورسوله والدار الآخرة، وهي: ضبط ميزان الكلام عند الرجال الأجانب، والقرار في البيت، ولزوم طريق الاستقامة، وتلاوة آيات القرآن والسنة وفهمها ودراستها والنظر في أحكام الشريعة بقصد العمل.
الشيطان والمهام التخريبية:
أليس للشيطان دور تخريبي في هذه الحادثة؟
بلى، كيف لا يكون له دور تخريبي وهو الذي يَعدُّ التفريق بين الزوجين من أعظم الأعمال التي يحاسب بها جنوده. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئاً، قال ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدْنيه منه ويقول: نعم، أنت» . قال الأعمش: أراه قال: فيلتزمه»[17]. وكثير من المشكلات الزوجية تنشأ من صغائر الأمور، فيوقد الشيطان تحتها حتى تنضج وتتحول إلى فرقة.
ولكن الشيطان لا يلقي حبائله جزافاً بلا تفنن وإمعان، وإنما يزينها بالمبررات العقلية والحجج المنطقية، فتكون فتنته عبارة عن مناقشات وجدال بين الزوجين حتى يتم ما يريده، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم إنما طلبن التوسع في النفقة بعد أنْ فتح الله على المسلمين وأورثهم أراضي اليهود وأموالهم ونخيلهم وذهبهم ونقودهم، فنال الصحابة منها ما نالهم، ووسعوا على أنفسهم وأهليهم تبعاً لذلك وبعد سنوات من المسغبة والفقر، فأرادت نساء النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يكون لهن حظ كما لسائر النساء في المدينة، كيف والنبي صلى الله عليه وسلم له خُمس الفيء مما أفاءه الله عليه من بني النضير، فكان المتوقع أنْ يكون لهن نصيب وافر من الذهب والزينة والمال وسعة المنزل... أو هكذا يلقي الشيطان حبائله في نفوس النساء، فيسخطن حياتهن مع أزواجهن، وتبدأ أصواتهن تعلو مطالبة بالزيادة والتوسع في النفقة والسكن والزينة مما لا يوافق رؤية الزوج في طريقة حياته؛ فكيف إذا كان هذا الزوج يتجه قلبه نحو الآخرة، بل كيف إذا كان هذا الزوج هو محمد صلى الله عليه وسلم الموعود بأعلى درجات النعيم في الجنة.
لذلك وجب على الأزواج من الرجال والنساء الحذر من الشيطان والاستعاذة الدائمة من نزغاته ومن همزه ونفخه ونفثه. والقرآن يحذرنا من هذه المهام التخريبية لإبليس، قال تعالى: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. والرجس هنا هو الشيطان وعمله، ذكر ذلك ابن عباس[18] وعبد الرحمن بن زيد[19]. والله تعالى يذكر للنساء أنَّ مراده من هذه الوصايا تطهير النساء من الدنس والشرور وحفظهن من أذى الشيطان وحبائله، فإنَّ الشيطان هو الذي يتسبب في الشقاق بين الزوجين، وهو الذي يتسبب في تبرُّج النساء واختلاطهن، فإذا لم يفلح في التسبب إلى ذلك بوساوسه عمل أعمالاً أخرى لأجل ذلك، حتى لو أدى به الأمر إلى أنْ يقوم بأعمال محسوسة ملموسة ليدفع النساء إلى الشر دفعاً، فلأجل ذلك أوصى الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء الأمة من بعدهن بتلك الوصـايا الأربعة لِـمَا فيهـا من حفظ لهن عن الشرور وعن كيد الشيطان، ولِـمَا فيها من ذكر الله وطاعته الطاردة للشيطان والمذهبة لعمله والجالبة للطمأنينة والهناء.
وقد روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: تلا هذه الآية: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}، قال: كان فيما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة؛ وإنَّ بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صِباحاً وفي النساء دمامة، وكان نساء السهل صِباحاً وفي الرجال دمامة، وإنَّ إبليس أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام، فأجَّر نفسه منه، وكان يخدمه، واتخذ إبليس شيئاً مثل ذلك الذي يزمر فيه الرعاء، فجاء فيه بصوت لم يسمع مثله، فبلغ ذلك من حولهم، فانتابوهم يسمعون إليه، واتخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة، فيتبرج الرجال للنساء، ويتزين النساء للرجال، وإنَّ رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم ذلك، فرأى النساء، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك، فتحولوا إليهن، فنزلوا معهن، فظهرت الفاحشة فيهن، فهو قول الله: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}[20].
إنَّ الشيطان لا يألو جهداً لإقناع المرأة بخروجها من بيتها واختلاطها بالرجال وتبرجها بين أيديهم، فتارة يبذر فيها دافع الحاجة إلى العمل خارج المنزل للحصول على المال، وتارة يبذر فيها دافع الحاجة إلى التفسح والتنزه للاستجمام والاسترواح من عناء أعمال البيت وغير البيت، وتارة يبذر فيها دافع الحاجة إلى التسوق وشراء ما يلزم البيت، وتارة يبذر فيها دافع الشعور بالذات والاستقلال والحرية، ولا يزال يبذر بذوره ويعين على دفع المرأة إلى ترك وظائفها المنزلية التي أوصى الله بها إلى القيام بما يمليه عليها من أقوال وأفعال تجلب الشر لها ولبيتها، ولا يزال يبذر بذوره ويعين على نقل الزوجة من دائرة الرضا والسعادة الزوجية إلى مسارب السخط والتأفف والشعور بالنقص في الذات والمال ليهدم بيتها ويفرق بينها وبين زوجها. ولو كان الأمر هيِّناً لما حصل في أحسن بيوت العالم وأجلِّها وأشرفها وأخْيَرها؛ أعني بيت النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته، الأمر الذي كان من تأثيره اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم بيته والمسجد والناس.
وإنَّ ضعف بيوت المسلمين وما يتسرب إلى الأزواج رجالاً ونساء من الوهن والسخط والشحناء لا يسلم من عمل الشيطان وألاعيبه وحبائله؛ فأين وصايا الله تعالى الأربعة للنساء من ذلك كله؟ وهل ثمة اعتناء بها أصلاً؟
ولست أقصد من هذا تأنيباً؛ وإنما أقصد إسداء النصح لنساء المسلمين ليتعرفنَ طريقة القرآن في معالجة قضايا اجتماعية كبرى تتعلق بأكثر بيوت المسلمين فيهتدوا بها، ولا بد في الأمة من وجود بيوت صالحة بنسائها اللواتي يراعين وصية الله لهن، ليكنَّ بذلك نواة البيوت الطيبة الهانئة والمطمئنة، فإنَّ هذه البيوت هي أصل في قوة الأمة وصلاح الدين وإماتة المنكرات.
مجالس النساء:
اجتماع النساء والالتقاء ببعضهن عادة قديمة حديثة، جرت الأعراف والعادات بها، سواء انعقدت هذه المجالس بمناسبة أو بغير مناسبة، ويجري فيها الحديث بكل شجونه وشؤونه، ويكثر فيها الكلام والقيل والقال.
وهنا وقفة مهمة، اكتسبت أهميتها من تفسير عدد من الظواهر والشكاوى، إذ يمكن لهذه المجالس أنْ تكون لَبِنة في إصلاح الأحوال الاجتماعية أو معول هدم لها. وهنا يأتي السؤال التالي:
كيف تقضي النساء الوقت في مجالسهن؟
نظرت في قول المولى تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْـحِكْمَةِ}، فوجدت وصية الله تعالى لأمهات المؤمنين - بعد ما حدث منهن في مسألة طلب التوسع في النفقة - بأنْ يكون من وظائفهن في بيوتهن: ذكر الله وتلاوة كتابه وتعلُّم أحكامه وتعلم السنة، لأنَّ ذلك يعصم - بإذن الله - من وقـوع الإخفاقات والإشكالات، أو يخفف منها، أو يعالجها بعد وقوعها. ثم تأمَّلت في حال النساء اليوم في مجالسهن، فأسِفتُ لذلك كثيراً، لأنَّ كثيراً من مجالس النساء اليوم لا يُذكَر فيها الله تعالى ولا يتلى فيها كتابه ولا تُتدارس فيها سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأحكام شريعته وآدابها، وكثير من النساء اليوم يعشن حياتهن بعيداً عن هذه الوظيفة البيتية المهمة، في تخلٍّ ظاهرٍ عن مسؤوليتهن، وقد تعتذر بعض النساء بانشغالهن بالأولاد وعمل البيت، وقد تعتذر بعضهن بالعمل المضني خارج البيت، وقد تعتذر بعضهن بالاكتفاء بقوامة الزوج والأب؛ فتجدهن لا يتعلمن ولا يقرأن ولا يتدارسن أحكام القرآن وأمور الشريعة وواجباتها، ويزهدن في إقامة مجالس الذكر في بيوتهن واجتماعاتهن، ويشتغلن بالغيبة والتمظهر والقيل والقال وبث الشجون والشكوى ومتابعة توافه الأمور والموضات ونحو ذلك... وهو ما أفرز ازدياداً في الجهل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وضعفاً في الفكر وإخفاقاً في التربية ونفوراً عن رعاية البيت والزوج. وهذا على سبيل الكثرة لا التعميم.
ووصية الله تعالى إذا قيلت لأمهات المؤمنين فإنَّ نساء المؤمنين مخاطَبات بها من باب أولى. والمأمول أنْ تعيَ النساء مسؤوليتهن في إحياء البيوت بذكر الله والصلاة والقرآن والسنة وما فيهما من العلم والدين، فإنَّ الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأنْ يقيمها لهن، بل أمرهن بأنْ يقمْن بذلك بأنفسهن.
ما على النساء إذا اجتمعن في مجلسٍ أنْ يتدارسن كتاب الله بينهن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من قوم يقومون من مجلسٍ لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة»[21]. ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: «ما اجتمع قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وتغشَّتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده»[22].
وما على النساء إذا اجتمعن في مجلسٍ أنْ يتذاكرن آداب الزوجية الواجبة والمستحبة، ابتغاء ما عند الله مما أعده للزوجة الصالحة، وأنْ يتدارسن سير القدوات من نساء الأمة كأمهات المؤمنين ومريم بنت عمران وأمها وآسية بنت مزاحم وأم سليم وسائر زوجات المهاجرين والأنصار، بل كثير من نساء زماننا هذا الذي تغلبت فيه نساء على كيد الشيطان فكُنَّ صالحات قانتات مريدات وجه الله تعالى والدار الآخرة.
وما على النساء إذا اجتمعن في مجلسٍ أنْ يتذاكرن مهارات التربية الإسلامية وطرائقها ووسائلها، وأنْ يناقشن تحديات التربية المعاصرة بوعي وعلم ابتغاء الوصول بأولادهن إلى مصاف الصالحين الأشداء.
وما على النساء إذا اجتمعن في مجلسٍ أنْ يوجهن دعوة إلى طالبة علم أو معلمة قرآن، فيكون لهن نصيب من علمها وتوجيهها وبركتها؛ ولو أدى ذلك إلى أنْ يجعلن لها جُعْلاً من المال.
يا نساء المؤمنين! إصلاح حالكن ومعاشكن ونجاحكن في الحياة الزوجية وتربية الأولاد يبدأ من هذه الوصية الربانية: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْـحِكْمَةِ}
[1] انظر: الطبري: 19/85، الطبقات: 10/171، وذكر ابن حبان في كتابه «السيرة النبوية وأخبار الخلفاء» هذه الحادثة السنة التاسعة من الهجرة: 1/360، وذِكر غسان في الرواية يدل على تأخُّرها في السيرة.
[2] البحر المحيط: 8/471.
[3] تفسير الطبري: 19/85.
[4] الطبقات لابن سعد: 10/171.
[5] تفسير السعدي: 3/1381.
[6] تفسير الطبري: 19/89.
[7] تفسير السعدي: 3/1397.
[8] تفسير القرطبي: 14/117.
[9] تفسير ابن كثير: 6/182.
[10] تفسير السعدي: 3/1384، المحرر الوجيز: 8/10.
[11] تفسير ابن كثير: 6/182.
[12] نظم الدرر: 6/101.
[13] تفسير ابن كثير: 6/183، المحرر الوجيز: 8/11.
[14] أخرجه البيهقي وصححه الألباني في الصحيحة حـ 1849.
[15] التحرير والتنوير: 22/13.
[16] تفسير السعدي: 3/1385.
[17] أخرجه مسلم حـ 2814.
[18] معالم التنزيل: 3/562.
[19] تفسير الطبري: 19/101.
[20] تفسير الطبري: 19/98.
[21] أخرجه أبو داود حـ 4855.
[22] أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق حـ 944.
منقول