فريق منتدى الدي في دي العربي
07-25-2022, 02:49 AM
دروس غزوة أحد
الشيخ صلاح نجيب الدق
الْحَمْدُ لِلَّهِ الكريم المنان، ذي الفضل، والإحسان، الذي هدانا للإيمان، وفضَّل ديننا على سائر الأديان، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّهُ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا.
غزوة أحد هي الغزوة الثانية من غزوات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم التي تقابل فيها المسلمون مع المشركين، وبها الكثير مِن الدروس المستفادة، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
سبب غزوة أحد:
لقد امتحن الله عز وجل في غزوة أُحدٍ عباده المؤمنين واختبرهم، وميَّز فيها بين المؤمنين والمنافقين، وذلك أن قريشًا حين قتل اللهُ تعالى زعمائهم في غزوة بدر، وأصيبوا بمصيبة كبيرة لم تكن لهم في حساب، ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لعدم وجود أكابرهم، شرَع يجمع قريشًا ويؤلِّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فجمع قريبًا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وجاؤوا بنسائهم لئلا يفرُّوا، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريبًا من جبل أحد، وذلك في شوال مِن السنة الثالثة، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟ فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر إلى الإشارة بالخروج إليهم، وألَحُّوا عليه صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأشار عبد الله بن أبي بن سلول بالمقام بالمدينة، وتابعه على ذلك بعض الصحابة، فألح أولئك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهض ودخل بيته ولبس لأمتَه وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك، فقالوا: يا رسول الله، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل، فقال: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته (ثياب الحرب) أن يضعها حتى يقاتل»، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وخرج إلى أُحد في ألف من أهل المدينة، فلما كان ببعض الطريق انخزل عبد الله بن أبي بن سلول نحو ثلاثمائة إلى المدينة، واستقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن بقي معه حتى نزل شعب أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم، فلما أصبح تعبأ صلى الله عليه وسلم للقتال في أصحابه، وكان فيهم خمسون فارسًا، واستعمل على الرماة ـ وكانوا خمسين ـ عبد الله بن جبير الأوسي، وأمره وأصحابه ألا يتغيروا من مكانهم، وأن يحفظوا ظهور المسلمين أن يُؤتَوا مِن قِبَلهم، وأعطى اللواء مصعب بن عمير، واستعرض الشباب يومئذ، فأجاز بعضهم وردَّ آخرين، فكان ممن أجاز سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، ولهما خمس عشرة سنة، وكان ممن رد يومئذ أسامة بن زيد بن حارثة، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وغرابة بن أوس، وعمرو بن حزم، ثم أجازهم يوم الخندق.
وتعبأت قريش أيضًا وهم في ثلاثة آلاف، فيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل.
قاتل المسلمين قتالًا شديدًا، وكانت الانتصار أول النهار للمسلمين على الكفار، فانهزموا راجعين حتى وصلوا إلى نسائهم، فلما رأى ذلك أصحاب عبد الله بن جبير قالوا: يا قوم، الغنيمة الغنيمة، فذكَّرهم عبد الله بن جبير تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه في ذلك، فظنوا أن ليس للمشركين رجعة، وأنهم لا تقوم لهم قائمة بعد ذلك، فذهبوا في طلب الغنيمة، وكر الفرسان من المشركين فوجدوا تلك الفُرجة قد خلت من الرماة، فجاوزوها وتمكنوا، وأقبل آخرهم، فكان ما أراد الله تعالى كونه، فاستشهد من أكرمهم الله بالشهادة من المؤمنين، فقتل جماعة من أفاضل الصحابة، وتولى أكثرهم، وخلص المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجرح في وجهه الكريم وكسرت رباعيته (أسنانه) اليمنى السفلى بحجر، ورشقه المشركون بالحجارة حتى وقع لشقه، وسقط في حفرة، فأخذ علي بن أبي طالب بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله، وقُتل مصعب بن عمير رضي الله عنه بين يديه، فدفع صلى الله عليه وسلم اللواء إلى علي بن أبي طالب، ونشبت حلقتان من حِلَق المغفر في وجهه صلى الله عليه وسلم، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه، فكان الهتم يزيِّنه، وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من جرحه صلى الله عليه وسلم، وأدرك المشركون النبي صلى الله عليه وسلم فحال دونه نفر من المسلمين نحوًا من عشرة فقتلوا، ثم قاتلهم طلحة حتى أبعدهم عنه صلى الله عليه وسلم، وترس أبو دجانة سماك بن خرشة عليه صلى الله عليه وسلم بظهره، والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرك رضي الله عنه، ورمى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يومئذ رميًا مسددًا منكئًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارم فداك أبي وأمي.
وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان الظفري، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها عليه بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم، فكانت أصح عينيه وأحسنهما.
وصرخ الشيطان ـ لعنه الله ـ بأعلى صوته: إن محمدًا قد قتل، ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين، وتولى أكثرهم، وكان أمر الله.
ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل الناس، ولقي سعد بن معاذ، فقال: يا سعد، والله إني لأجد ريح الجنة مِن قِبَل أُحد، فقاتل حتى قتل رضي الله عنه، ووجدت به سبعون ضربة، وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحوًا من عشرين جراحةً، بعضها في رجله، فعرج منها حتى مات رضي الله عنه، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين، فكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك رضي الله عنه، فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن اسكت، واجتمع إليه المسلمون، ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم، فلما أسندوا في الجبل، أدركه أبي بن خلف على جواد، يقال له العود، زعم الخبيث أنه يقتل رسول اللهصلى الله عليه وسلم، فلما اقترب تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من يد الحارث بن الصمة، فطعنه بها، فجاءت في ترقوته، ويكر عدو الله منهزمًا، فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون، إنه قال لي: إنه قاتلي، ولم يزل به ذلك حتى مات بسرف مرجعه إلى مكة لعنه الله، وأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلو صخرة هناك، فلم يستطع لما بهصلى الله عليه وسلم، ولأنه ظاهر يومئذ بين درعين، فجلس طلحة تحته حتى صعد، وحانت الصلاة، فصلى جالسًا، ثم مال المشركون إلى رحالهم، ثم استقبلوا طريق مكة منصرفين إليها، وكان هذا كله يوم السبت، واستشهد يومئذ من المسلمين نحو السبعين، منهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأربعة من المهاجرين، والباقون من الأنصار رضي الله عنهم جميعهم، فدفنهم في دمائهم ولم يصل عليهم يومئذ، وفر يومئذ من المسلمين جماعة من الأعيان، منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد نص الله سبحانه على العفو عنهم، فقال عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (آل عمران:155)، وقُتل يومئذ من المشركين اثنان وعشرون، وقد ذكر سبحانه هذه الوقعة في سورة آل عمران.
(الفصول في سيرة الرسول لابن كثير صـ81:74).
دروس من غزوة أحد:
نستطيع أن نوجز الدروس المستفادة من غزوة أحد في الأمر التالية:
(1) مبدأ الشورى مبدأ مهم في الإسلام:
ويتضح ذلك في استشار النبيِّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في قتال المشركين خارج المدينة أو داخلها وأَخْذَه برأي الأغلبية.
(2) ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم وشجاعته في ميدان المعركة رغم رجوع عبد الله بن أبي بن سلول (زعيم المنافقين) بثلث الجيش.
(3) حُسْنُ القيادة العسكرية للرسول صلى الله عليه وسلم، ووصيته لأصحابه بعدم مغادرة أماكنهم مهما كانت الأحوال.
(4) الصبر عند الشدائد.
ويظهر ذلك بوضوح في صبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعدم جزعه لما أصابه وأصاب أصحابه من آلام وأحزان, ومن فوات النصر الذي قاربه في أول النهار وخسرانه في آخره.
(5) الابتلاء في النفس والمال والأهل سُنَّة الله تعالى في عباده الصالحين.
(6) ضرورة الالتزام بأوامر القائد وطاعته في الحروب.
(7) المعاصي ومخالفة أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سبب الهزيمة.
(8) وجوب الأخذ بأسباب النصر المادية والمعنوية مع التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه. فقد لبس النبيُّ صلى الله عليه وسلم آلة الحرب، وكافح معه الصحابة ودافعوا عنه، رغم أن الله تعالى عصمه من القتل.
(9) حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم.
أحاط المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة، وكانوا تسعة يدافعون عنه، فقتلَ المشركون سبعة منهم بعد قتال عنيف، ولم يبق معه صلى الله عليه وسلم غير سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عُبيد الله.
(10) تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع لهم يوم أحد.
قال تعالى: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [آل عمران: 140 - 143].
بيَّن الله سبحانه لهم أن الجروح والقتلى يجب ألا تؤثر في جسدهم واجتهادهم في جهاد العدو؛ وذلك لأنه كما أصابهم ذلك، فقد أصاب عدوَّهم مثلُه من قبلُ، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فألا يلحقكم الفتور مع حُسن العاقبة والتمسك بالحق أَولى.
(11) التضحية مِن أجل الإسلام.
إن الإسلام لا يتحقق في واقع الحياة، ولا يثبُت على هذه الأرض، ولا تعلو رايته خفاقةً، ولا يتحقق منهجُه بين الناس إلا بجهدٍ من أبناء هذا الدين يسبقه ويرافقه، ويُعقبه توفيق من الله عز وجل.
إن الإسلام لابد له من علم يُنشر، ودعوة تبذل، وأموال تُنفق، وأرواح تُزهق في سبيل الله تعالى.
(12) ضرورة الحذر من اليهود في كل مكان وزمان.
قال الأنصار يوم أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ فقال: لا حاجة لنا فيهم، وفي هذا الموقف الحذر من النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود يدلنا على بعد نظَرِه فهو يعلم عداوة اليهود للمسلمين؛ (غزوة أحد ـ أمير محمد المدري صـ24:4).
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلاَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْعَمَلَ خَالِصًَا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وأن يجعله ذُخْرًا لي عنده يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ (الشعراء: 89:88)، كما أسأله سُبْحَانَهُ أن ينفعَ به طلابَ العِلْمِ الكرامِ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
الشيخ صلاح نجيب الدق
الْحَمْدُ لِلَّهِ الكريم المنان، ذي الفضل، والإحسان، الذي هدانا للإيمان، وفضَّل ديننا على سائر الأديان، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّهُ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا.
غزوة أحد هي الغزوة الثانية من غزوات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم التي تقابل فيها المسلمون مع المشركين، وبها الكثير مِن الدروس المستفادة، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
سبب غزوة أحد:
لقد امتحن الله عز وجل في غزوة أُحدٍ عباده المؤمنين واختبرهم، وميَّز فيها بين المؤمنين والمنافقين، وذلك أن قريشًا حين قتل اللهُ تعالى زعمائهم في غزوة بدر، وأصيبوا بمصيبة كبيرة لم تكن لهم في حساب، ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لعدم وجود أكابرهم، شرَع يجمع قريشًا ويؤلِّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فجمع قريبًا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وجاؤوا بنسائهم لئلا يفرُّوا، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريبًا من جبل أحد، وذلك في شوال مِن السنة الثالثة، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟ فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر إلى الإشارة بالخروج إليهم، وألَحُّوا عليه صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأشار عبد الله بن أبي بن سلول بالمقام بالمدينة، وتابعه على ذلك بعض الصحابة، فألح أولئك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهض ودخل بيته ولبس لأمتَه وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك، فقالوا: يا رسول الله، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل، فقال: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته (ثياب الحرب) أن يضعها حتى يقاتل»، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وخرج إلى أُحد في ألف من أهل المدينة، فلما كان ببعض الطريق انخزل عبد الله بن أبي بن سلول نحو ثلاثمائة إلى المدينة، واستقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن بقي معه حتى نزل شعب أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم، فلما أصبح تعبأ صلى الله عليه وسلم للقتال في أصحابه، وكان فيهم خمسون فارسًا، واستعمل على الرماة ـ وكانوا خمسين ـ عبد الله بن جبير الأوسي، وأمره وأصحابه ألا يتغيروا من مكانهم، وأن يحفظوا ظهور المسلمين أن يُؤتَوا مِن قِبَلهم، وأعطى اللواء مصعب بن عمير، واستعرض الشباب يومئذ، فأجاز بعضهم وردَّ آخرين، فكان ممن أجاز سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، ولهما خمس عشرة سنة، وكان ممن رد يومئذ أسامة بن زيد بن حارثة، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وغرابة بن أوس، وعمرو بن حزم، ثم أجازهم يوم الخندق.
وتعبأت قريش أيضًا وهم في ثلاثة آلاف، فيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل.
قاتل المسلمين قتالًا شديدًا، وكانت الانتصار أول النهار للمسلمين على الكفار، فانهزموا راجعين حتى وصلوا إلى نسائهم، فلما رأى ذلك أصحاب عبد الله بن جبير قالوا: يا قوم، الغنيمة الغنيمة، فذكَّرهم عبد الله بن جبير تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه في ذلك، فظنوا أن ليس للمشركين رجعة، وأنهم لا تقوم لهم قائمة بعد ذلك، فذهبوا في طلب الغنيمة، وكر الفرسان من المشركين فوجدوا تلك الفُرجة قد خلت من الرماة، فجاوزوها وتمكنوا، وأقبل آخرهم، فكان ما أراد الله تعالى كونه، فاستشهد من أكرمهم الله بالشهادة من المؤمنين، فقتل جماعة من أفاضل الصحابة، وتولى أكثرهم، وخلص المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجرح في وجهه الكريم وكسرت رباعيته (أسنانه) اليمنى السفلى بحجر، ورشقه المشركون بالحجارة حتى وقع لشقه، وسقط في حفرة، فأخذ علي بن أبي طالب بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله، وقُتل مصعب بن عمير رضي الله عنه بين يديه، فدفع صلى الله عليه وسلم اللواء إلى علي بن أبي طالب، ونشبت حلقتان من حِلَق المغفر في وجهه صلى الله عليه وسلم، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه، فكان الهتم يزيِّنه، وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من جرحه صلى الله عليه وسلم، وأدرك المشركون النبي صلى الله عليه وسلم فحال دونه نفر من المسلمين نحوًا من عشرة فقتلوا، ثم قاتلهم طلحة حتى أبعدهم عنه صلى الله عليه وسلم، وترس أبو دجانة سماك بن خرشة عليه صلى الله عليه وسلم بظهره، والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرك رضي الله عنه، ورمى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يومئذ رميًا مسددًا منكئًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارم فداك أبي وأمي.
وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان الظفري، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها عليه بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم، فكانت أصح عينيه وأحسنهما.
وصرخ الشيطان ـ لعنه الله ـ بأعلى صوته: إن محمدًا قد قتل، ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين، وتولى أكثرهم، وكان أمر الله.
ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل الناس، ولقي سعد بن معاذ، فقال: يا سعد، والله إني لأجد ريح الجنة مِن قِبَل أُحد، فقاتل حتى قتل رضي الله عنه، ووجدت به سبعون ضربة، وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحوًا من عشرين جراحةً، بعضها في رجله، فعرج منها حتى مات رضي الله عنه، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين، فكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك رضي الله عنه، فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن اسكت، واجتمع إليه المسلمون، ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم، فلما أسندوا في الجبل، أدركه أبي بن خلف على جواد، يقال له العود، زعم الخبيث أنه يقتل رسول اللهصلى الله عليه وسلم، فلما اقترب تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من يد الحارث بن الصمة، فطعنه بها، فجاءت في ترقوته، ويكر عدو الله منهزمًا، فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون، إنه قال لي: إنه قاتلي، ولم يزل به ذلك حتى مات بسرف مرجعه إلى مكة لعنه الله، وأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلو صخرة هناك، فلم يستطع لما بهصلى الله عليه وسلم، ولأنه ظاهر يومئذ بين درعين، فجلس طلحة تحته حتى صعد، وحانت الصلاة، فصلى جالسًا، ثم مال المشركون إلى رحالهم، ثم استقبلوا طريق مكة منصرفين إليها، وكان هذا كله يوم السبت، واستشهد يومئذ من المسلمين نحو السبعين، منهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأربعة من المهاجرين، والباقون من الأنصار رضي الله عنهم جميعهم، فدفنهم في دمائهم ولم يصل عليهم يومئذ، وفر يومئذ من المسلمين جماعة من الأعيان، منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد نص الله سبحانه على العفو عنهم، فقال عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (آل عمران:155)، وقُتل يومئذ من المشركين اثنان وعشرون، وقد ذكر سبحانه هذه الوقعة في سورة آل عمران.
(الفصول في سيرة الرسول لابن كثير صـ81:74).
دروس من غزوة أحد:
نستطيع أن نوجز الدروس المستفادة من غزوة أحد في الأمر التالية:
(1) مبدأ الشورى مبدأ مهم في الإسلام:
ويتضح ذلك في استشار النبيِّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في قتال المشركين خارج المدينة أو داخلها وأَخْذَه برأي الأغلبية.
(2) ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم وشجاعته في ميدان المعركة رغم رجوع عبد الله بن أبي بن سلول (زعيم المنافقين) بثلث الجيش.
(3) حُسْنُ القيادة العسكرية للرسول صلى الله عليه وسلم، ووصيته لأصحابه بعدم مغادرة أماكنهم مهما كانت الأحوال.
(4) الصبر عند الشدائد.
ويظهر ذلك بوضوح في صبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعدم جزعه لما أصابه وأصاب أصحابه من آلام وأحزان, ومن فوات النصر الذي قاربه في أول النهار وخسرانه في آخره.
(5) الابتلاء في النفس والمال والأهل سُنَّة الله تعالى في عباده الصالحين.
(6) ضرورة الالتزام بأوامر القائد وطاعته في الحروب.
(7) المعاصي ومخالفة أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سبب الهزيمة.
(8) وجوب الأخذ بأسباب النصر المادية والمعنوية مع التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه. فقد لبس النبيُّ صلى الله عليه وسلم آلة الحرب، وكافح معه الصحابة ودافعوا عنه، رغم أن الله تعالى عصمه من القتل.
(9) حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم.
أحاط المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة، وكانوا تسعة يدافعون عنه، فقتلَ المشركون سبعة منهم بعد قتال عنيف، ولم يبق معه صلى الله عليه وسلم غير سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عُبيد الله.
(10) تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع لهم يوم أحد.
قال تعالى: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [آل عمران: 140 - 143].
بيَّن الله سبحانه لهم أن الجروح والقتلى يجب ألا تؤثر في جسدهم واجتهادهم في جهاد العدو؛ وذلك لأنه كما أصابهم ذلك، فقد أصاب عدوَّهم مثلُه من قبلُ، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فألا يلحقكم الفتور مع حُسن العاقبة والتمسك بالحق أَولى.
(11) التضحية مِن أجل الإسلام.
إن الإسلام لا يتحقق في واقع الحياة، ولا يثبُت على هذه الأرض، ولا تعلو رايته خفاقةً، ولا يتحقق منهجُه بين الناس إلا بجهدٍ من أبناء هذا الدين يسبقه ويرافقه، ويُعقبه توفيق من الله عز وجل.
إن الإسلام لابد له من علم يُنشر، ودعوة تبذل، وأموال تُنفق، وأرواح تُزهق في سبيل الله تعالى.
(12) ضرورة الحذر من اليهود في كل مكان وزمان.
قال الأنصار يوم أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ فقال: لا حاجة لنا فيهم، وفي هذا الموقف الحذر من النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود يدلنا على بعد نظَرِه فهو يعلم عداوة اليهود للمسلمين؛ (غزوة أحد ـ أمير محمد المدري صـ24:4).
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلاَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْعَمَلَ خَالِصًَا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وأن يجعله ذُخْرًا لي عنده يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ (الشعراء: 89:88)، كما أسأله سُبْحَانَهُ أن ينفعَ به طلابَ العِلْمِ الكرامِ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.