فريق منتدى الدي في دي العربي
07-26-2022, 04:55 AM
أبشر أيها الغني المزكي
المسلم الذي يعتقد أن الفقير الذي يأخذ زكاته هو الذي يحمل زاده إلى الآخِرة، مع المسلم الذي يريد أن يطهِّر نفسه من رذيلة البخل والطمع وحبِّ المال، مع الذي أطفأ نار الحسد في قلب الفقير، مع الذي قال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فيه: «... نعم المالُ الصالح مع الرجل الصالح»؛ (رواه ابن حبان في "صحيحه").
مع الغني المزكي، مع الغني المنفِق، مع الذي ترجم في واقع حياته قول الله - تعالى -: {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ﴾ [المعارج: 24- 25].
أنا أقف اليوم مذكِّرًا ومبشِّرًا بما أعدَّه الله لهذا الغني الصالح من الثواب في الدنيا والآخرة؛ حتى يكون دافعًا له، ولكل غني يريد أن يكون ماله غدًا حجابًا له من النار، وينتفع به يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلى المسارعة في فعل الخيرات، واغتنام لحظات العمر في فعل الطاعات.
إِذَا جَادَتِ الدُّنْيِا عَلَيْكَ فَجُدْ بِهَا *** عَلَى النَّاسِ طُرًّا إِنَّهَا تَتَقَلَّـــــــبُ
فَلاَ الجُودُ يُفْنِيهَا إِذَا هِيَ أَقْبَلَتْ *** وَلاَ البُخْلُ يُبْقِيهَا إِذَا هِيَ تَذْهَبُ
أبشر أيها الغني المزكي:
بأن الله - تعالى - يطهِّرك ويطهِّر مالك، واسمع إلى كتاب الله وهو يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، طُهْرَة وزكاة للنفس والمال، ولذلك الذي يُخرِج زكاة ماله بعد أن يتغلَّب على نفسه الشحيحة يشعر بلذَّة، ويشعر بحلاوة الإيمان وطمأنينة النفس.
واسمع إلى المشهد المثير الذي يرويه لنا التاريخ في أنصع صفحاته المشرِقة: دخل النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يومًا على السيدة فاطمة - رضي الله عنها - وهي زوجٌ لعلي - رضي الله عنه - ورآها تصنع شيئًا عجيبًا؛ رأى في إحدى يديها درهمًا تمسِك به، وفي اليد الأخرى وعاء به عطر له رائحة نفَّاذة تملأ الجو طيبًا وجمالاً، وكانت ترشُّ من هذا العطر على الدرهم، فسألها: «ما تصنعين يا فاطمة» ؟، فقالت: أعطر هذا الدرهم، «ولماذا» ؟، أجابت: لأنه درهم الصدقة، «ولماذا تعطرين درهم الصدقة» ؟، فتردُّ الابنة الذكية التي شعرت بحلاوة الإيمان قائلة: لقد سمعتك يا أبي تقول: «إن درهم الصدقة يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير»، وأنا أحب أن يقع درهمي في يد الله معطرًا.
أرأيتم كيف عبَّرت السيدة فاطمة - رضي الله عنها - عن شعورها بلذَّة الصدقة وحلاوتها.
وهو الذي جعل الفضيل بن عياض يقول إذا جاءه الفقراء: "نِعمَ السائلون؛ يحملون أزوادنا إلى الآخرة بغير أجرة حتى يضعونها في الميزان".
أمَّا الذي لا ينفق ولا يخرج الزكاة من ماله، فتراه دائمًا في كرب ونكد، وفي ضنك وألم؛ لأنه مريض بمرض خطير، ألا وهو مرض الشح والبخل.
أبشر أيها الغني المزكي:
بأن الزكاة التي خرجت من مالك لا تنقصه بل تزيده بما يحصل فيه من بركة الإنفاق والعطاء؛ قال - تعالى -: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
*واسمع إلى نبيك العظيم - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وهو يقول: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضَع أحد لله إلا رفعه الله»؛ (رواه مسلم).
هذا سيدنا عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - كان أغنى الصحابة، وبعدما التحق النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - بالرفيق الأعلى قام بعض الصحابة وقالوا: يا عبدالرحمن، خشينا أن يؤخِّرك كثرة مالك عن اللحوق برسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقال لهم عبدالرحمن: ولماذا؟ قالوا: ألم تعرف حديث النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأَل عن عمره: فيمَ أفناه؟ وعن علمه: فيمَ فعل فيه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه: فيمَ أبلاه» ؟؛ (رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح").
فقالوا: ستُسأَل عن الشباب سؤالاً واحدًا، وعن العمر سؤالاً واحدًا، وعن العلم سؤالاً واحدًا، وإنما ستُسأَل عن المال سؤالين: السؤال الأول: فيمَ أنفقته؟ والثاني: ومن أين اكتسبته؟ فقال لهم عبدالرحمن: وماذا أفعل؟ وما ذنبي إذا كنت أنفق مائة درهم في الصباح فيعطيني الله ألفًا بالليل؟!
أبشر أيها الغني المزكي:
بأن صدقتك وكثرة إنفاقك في سبيل الله وإطعامك للفقراء والمساكين سببٌ لإنزال الرحمات من رب البريات, وها هو رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يحدثنا أن رجلاً كان يسير في صحراء، فمرَّت سحابة فوقه وسمع فيها صوتًا يقول: اسقِ حديقة فلان، وقد وكل الله - تعالى - بالسحاب ملائكةً تقوده إلى الأرض التي يشاء الله - تعالى - أن ينزل عليها المطر.
أمَّا الصوت الذي سمعه الرجل في الصحراء فقد كان صوت ملَك من الملائكة يأمر الملك الموكَّل بالسحاب بأن يسقي حديقة رجل ذكر له اسمه، وأراد الرجل أن يعرف مَن هو صاحب الحديقة، فتبع السحابة حتى أمطرت في أرض كثيرة الحجارة، ثم جرى ماء المطر في شقٍّ في الأرض حتى دخل بستانًا، وجد فيه رجلاً يحمل مِسحَاةً ويسقي زرعه من ذلك الماء، فسأله: ما اسمك؟ قال صاحب البستان: اسمي فلان، فإذا هو الاسم نفسه الذي سمعه في السحابة، قال الرجل لصاحب البستان: لقد سمعت صوتًا في سحابة يقول: اسقِ حديقة فلان، وهو اسمك، فأردت أن أعرف ما هو عملك الصالح الذي أثابك الله عليه فأرسل تلك السحابة لتسقي بستانك، قال صاحب البستان: إنني حين أجني ثمار بستاني أقسِّمها ثلاثة أقسام: قسم أتصدَّق به، وقسم أدَّخره لي ولأهل بيتي، وقسم أبيعه وأشتري بثمنه بذورًا أزرعها في موسم جديد.
وهنا عرف الرجل سرَّ صاحب البستان؛ فهو يأكل من عمل يده وينفق على أهله، ولا يسأل الناس شيئًا، وهو يتصدَّق على الفقراء، والصدقة تحفظ المال وتباركه.
أبشر أيها الغني المزكي:
بأن الله - تعالى - يدفع عنك ببركة زكاتك المصائب والفتن، ويحفظ لك مالك ونفسك وأهلك، واسمع إلى نبيِّك الكريم - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وهو يقول: «حصِّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدُّوا للبلاء الدعاء»؛ (رواه الطبراني).
وقال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء»؛ (رواه ابن حبان).
ويقول ابن القيم - رحمه الله - في شأن الصدقة: "إن للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء حتى ولو كانت من فاجر أو ظالم بل من كافر؛ فإن الله يدفع بها عنه أنواعًا من البلاء".
واسمع معي إلى هذه القصة التي تبيِّن لنا أن للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء، هذه القصة هي قصة امرأة كان لها ولد مسافر للدراسة، وكانت امرأة فقيرة لكنها جوادة كريمة، مُحِبة لله ولرسوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فبينما هي ذات يوم على عشائها الذي لا تملك غيره إذ بطارق يطرق عليها الباب ففتحته، فإذا هو مسكين يسأل طعامًا، فقامت إلى عشائها فأعطته إيَّاه، وذهب هو ليشبع وباتت وهي جائعة لكنها محتسِبة عند الله الأجر، ألم الجوع في بطنها؛ لكن فرحة السعادة في قلبها أن سدَّت جوعةً لمسلم.
ومضت الأيام والليالي وقَدِم ابنها من سفره، وأخذ يحدثها عن سفره فذكر لها من أعجب ما حدث له أن أسدًا اعتدى عليه في إحدى الغابات حتى صار بين يديه، فجاءه رجل عليه ثياب بيض فأنقذه، فسأله: مَن أنت؟ قال: لقمة بلقمة، فتعجَّبت، ماذا يريد بهذا الكلام؟!
فسألته أمه: متى حدث هذا الكلام؟ فأخبرها فإذا هو نفس اليوم الذي سدَّت به لقمة ذلك الجائع، لقمة الجائع أنقذت ولدها أن يكون لقمة لأسد مفترس.
أرأيتم كيف دُفِع البلاء ببركة الصدقة؟! (صنائع المعروف تقي مصارع السوء).
أبشر أيها الغني المزكي:
بأن زكاتك وصدقتك ستُظِلُّك يوم القيامة، وتَحُول بينك وبين حرِّ الشمس حينما تدنو من الرؤوس؛ فعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: «كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقته حتى يُقضَى بين الناس»؛ (رواه أحمد والحاكم).
وعن أبي هريرة أن النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: «سبعة يُظِلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه... ورجلٌ تصدَّق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكَر الله خاليًا ففاضَت عيناه»؛ (متفق عليه).
بل إن يوم القيامة يومٌ عظيم يأتي العالم بعلمه، والمجاهد بجهاده، والمصلِّي بصلاته، والصائم بصيامه، ويأتي المتصدِّق بعلمهم وجهادهم وصلاتهم وصيامهم؛ فهو قد طبع كتبًا للعلماء وقفًا على إخوانه المسلمين، وبنى مسجدًا يُصلِّي فيه المسلمون، وأعان المجاهدين في سبيل الله بماله، وفطَّر الصائمين على نفقته، فيحصل له أجر هؤلاء جميعًا، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
أبشر أيها الغني المزكي:
بأن صدقتك تقف لك في أوَّل منزل من منازل الآخرة في القبر، واسمع إلى رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وهو يقول: «إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حرَّ القبور, وإنما يستظلُّ المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته»؛ (رواه الطبراني).
أبشر أيها الغني المزكي:
بأن زكاتك وصدقتك دواءٌ لأمراضك البدنية، واسمع إلى رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وهو يقول: «حصِّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدُّوا للبلاء الدعاء»؛ (رواه الطبراني).
يُذكَر أن رجلاً سأل عبدالله بن المبارك - رضي الله عنه - عن مرضٍ أصابه في ركبتيه منذ سبع سنين وقد عالَجَها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع، فقال له ابن المبارك: اذهب واحفر بئرًا؛ فإن الناس بحاجة الماء، فإني أرجو أن تنبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل ذلك فبرأ.
وقصة أخرى يرويها صاحبها لنا فيقول: لي بنت صغيرة أصابها مرض في حلقها، فذهبت بها للمستشفيات وعرضتها على كثيرٍ من الأطباء، ولكن دون فائدة فمرضها أصبح مستعصيًا، وأكاد أكون أنا المريض بسبب مرضها الذي أرَّق كلَّ العائلة، وأصبحنا نُعطِيها إبرًا للتخفيف فقط من آلامها، حتى يئسنا من كل شيء إلا من رحمة الله، إلى أن جاء الأمل وفُتِح باب الفرج؛ فقد اتَّصل بي أحد الصالحين وذكر لي حديث رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «داووا مرضاكم بالصدقة»، فقلت له: قد تصدقت كثيرًا، فقال: تصدَّق هذه المرة بنية شفاء ابنتك، وفعلاً تصدَّقت بصدقة متواضعة لأحد الفقراء ولم يتغيَّر شيء، فأخبرته فقال: أنت ممَّن لديهم نعمة ومال كثير، فلتكن صدقتك بحجم مالك، فذهبت للمرة الثانية وملأت سيارتي من الأرز والدجاج والخيرات بمبلغ كبير ووزَّعتها على كثيرٍ من المحتاجين ففرحوا بصدقتي، ووالله لم أكن أتوقَّع أبدًا أن آخِر إبرة أخذتها ابنتي هي التي كانت قبل صدقتي، فشُفِيت تمامًا بحمد الله، فأيقنت أن الصدقة من أكبر أسباب الشفاء.
والآن ابنتي - بفضل الله - لها ثلاث سنوات ليس بها أي مرض على الإطلاق، ومن تلك اللحظة أصبحت أُكثِر من الصدقة، خصوصًا على الأوقاف الخيرية، وأنا كل يوم أحسُّ بالنعمة والبركة والعافية في مالي وعائلتي، وأنصح كلَّ مريض بأن يتصدَّق بأعز ما يملك ويكرِّر ذلك، فسيشفيه الله ولو بنسبة، وأدين لله بصحَّة ما ذكرت، والله لا يضيع أجر المحسنين.
إن سلَفَنا الصالح كان أحدهم إذا رأى مَن يعمل للآخرة أكثر منه نافَسَه وحاول اللحاق به بل مجاوزته، فكان تنافسهم في درجات الآخرة، واستباقهم إليها كما قال - تعالى -: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، أمَّا نحن فعكسنا الأمر؛ فصار تنافسنا في الدنيا الدنية وحظوظها الفانية.
نحن لا نريد من خلال كلامنا أن نقول لكم: اجعلوا أبناءكم وأهليكم عالةً على الناس وفي حاجة وفقر، ولكن لا بُدَّ من الإنفاق، ولو شيئًا قليلاً، ولنكن - أيها الإخوة - صُرَحاء لا يُجَامِل بعضنا بعضًا.
أسألكم بالله: كم ننفق في سبيل المتعة والفرح؟ وكم ننفق في أسفارنا وفي أكلنا وشربنا؟ وكم ننفق في تزيين سياراتنا وتجميل بيوتنا؟ كم ننفق في شراء الحاجيات لبيوتنا؟ كم ننفق في العزائم والولائم والأعراس؟ ألم أقل: إننا أصبحنا نتنافس في الدنيا الدنية.
أيها المسلم:
اسمع إلى نصيحة سيدنا الحسن وكأنه يخاطبنا جميعًا فيقول: "إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة".
وقال وهيب بن الورد: إذا استطعت أن لا يسبقك أحد إلى الله فافعل.
فهنيئًا لكلِّ فائزٍ بخير الدنيا والآخرة، هنيئًا لِمَن كان من المتصدِّقين ونال هذه البشارات، هنيئًا لكلِّ مَن استغلَّ غناه في طاعة الله وفاز بجنة عرضها السماوات والأرض.
أقول قولي هذا واستغفر الله.
__________________________________________________
الكاتب: د. محمد جمعة الحلبوسي
المسلم الذي يعتقد أن الفقير الذي يأخذ زكاته هو الذي يحمل زاده إلى الآخِرة، مع المسلم الذي يريد أن يطهِّر نفسه من رذيلة البخل والطمع وحبِّ المال، مع الذي أطفأ نار الحسد في قلب الفقير، مع الذي قال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فيه: «... نعم المالُ الصالح مع الرجل الصالح»؛ (رواه ابن حبان في "صحيحه").
مع الغني المزكي، مع الغني المنفِق، مع الذي ترجم في واقع حياته قول الله - تعالى -: {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ﴾ [المعارج: 24- 25].
أنا أقف اليوم مذكِّرًا ومبشِّرًا بما أعدَّه الله لهذا الغني الصالح من الثواب في الدنيا والآخرة؛ حتى يكون دافعًا له، ولكل غني يريد أن يكون ماله غدًا حجابًا له من النار، وينتفع به يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلى المسارعة في فعل الخيرات، واغتنام لحظات العمر في فعل الطاعات.
إِذَا جَادَتِ الدُّنْيِا عَلَيْكَ فَجُدْ بِهَا *** عَلَى النَّاسِ طُرًّا إِنَّهَا تَتَقَلَّـــــــبُ
فَلاَ الجُودُ يُفْنِيهَا إِذَا هِيَ أَقْبَلَتْ *** وَلاَ البُخْلُ يُبْقِيهَا إِذَا هِيَ تَذْهَبُ
أبشر أيها الغني المزكي:
بأن الله - تعالى - يطهِّرك ويطهِّر مالك، واسمع إلى كتاب الله وهو يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، طُهْرَة وزكاة للنفس والمال، ولذلك الذي يُخرِج زكاة ماله بعد أن يتغلَّب على نفسه الشحيحة يشعر بلذَّة، ويشعر بحلاوة الإيمان وطمأنينة النفس.
واسمع إلى المشهد المثير الذي يرويه لنا التاريخ في أنصع صفحاته المشرِقة: دخل النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يومًا على السيدة فاطمة - رضي الله عنها - وهي زوجٌ لعلي - رضي الله عنه - ورآها تصنع شيئًا عجيبًا؛ رأى في إحدى يديها درهمًا تمسِك به، وفي اليد الأخرى وعاء به عطر له رائحة نفَّاذة تملأ الجو طيبًا وجمالاً، وكانت ترشُّ من هذا العطر على الدرهم، فسألها: «ما تصنعين يا فاطمة» ؟، فقالت: أعطر هذا الدرهم، «ولماذا» ؟، أجابت: لأنه درهم الصدقة، «ولماذا تعطرين درهم الصدقة» ؟، فتردُّ الابنة الذكية التي شعرت بحلاوة الإيمان قائلة: لقد سمعتك يا أبي تقول: «إن درهم الصدقة يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير»، وأنا أحب أن يقع درهمي في يد الله معطرًا.
أرأيتم كيف عبَّرت السيدة فاطمة - رضي الله عنها - عن شعورها بلذَّة الصدقة وحلاوتها.
وهو الذي جعل الفضيل بن عياض يقول إذا جاءه الفقراء: "نِعمَ السائلون؛ يحملون أزوادنا إلى الآخرة بغير أجرة حتى يضعونها في الميزان".
أمَّا الذي لا ينفق ولا يخرج الزكاة من ماله، فتراه دائمًا في كرب ونكد، وفي ضنك وألم؛ لأنه مريض بمرض خطير، ألا وهو مرض الشح والبخل.
أبشر أيها الغني المزكي:
بأن الزكاة التي خرجت من مالك لا تنقصه بل تزيده بما يحصل فيه من بركة الإنفاق والعطاء؛ قال - تعالى -: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
*واسمع إلى نبيك العظيم - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وهو يقول: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضَع أحد لله إلا رفعه الله»؛ (رواه مسلم).
هذا سيدنا عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - كان أغنى الصحابة، وبعدما التحق النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - بالرفيق الأعلى قام بعض الصحابة وقالوا: يا عبدالرحمن، خشينا أن يؤخِّرك كثرة مالك عن اللحوق برسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقال لهم عبدالرحمن: ولماذا؟ قالوا: ألم تعرف حديث النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأَل عن عمره: فيمَ أفناه؟ وعن علمه: فيمَ فعل فيه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه: فيمَ أبلاه» ؟؛ (رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح").
فقالوا: ستُسأَل عن الشباب سؤالاً واحدًا، وعن العمر سؤالاً واحدًا، وعن العلم سؤالاً واحدًا، وإنما ستُسأَل عن المال سؤالين: السؤال الأول: فيمَ أنفقته؟ والثاني: ومن أين اكتسبته؟ فقال لهم عبدالرحمن: وماذا أفعل؟ وما ذنبي إذا كنت أنفق مائة درهم في الصباح فيعطيني الله ألفًا بالليل؟!
أبشر أيها الغني المزكي:
بأن صدقتك وكثرة إنفاقك في سبيل الله وإطعامك للفقراء والمساكين سببٌ لإنزال الرحمات من رب البريات, وها هو رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يحدثنا أن رجلاً كان يسير في صحراء، فمرَّت سحابة فوقه وسمع فيها صوتًا يقول: اسقِ حديقة فلان، وقد وكل الله - تعالى - بالسحاب ملائكةً تقوده إلى الأرض التي يشاء الله - تعالى - أن ينزل عليها المطر.
أمَّا الصوت الذي سمعه الرجل في الصحراء فقد كان صوت ملَك من الملائكة يأمر الملك الموكَّل بالسحاب بأن يسقي حديقة رجل ذكر له اسمه، وأراد الرجل أن يعرف مَن هو صاحب الحديقة، فتبع السحابة حتى أمطرت في أرض كثيرة الحجارة، ثم جرى ماء المطر في شقٍّ في الأرض حتى دخل بستانًا، وجد فيه رجلاً يحمل مِسحَاةً ويسقي زرعه من ذلك الماء، فسأله: ما اسمك؟ قال صاحب البستان: اسمي فلان، فإذا هو الاسم نفسه الذي سمعه في السحابة، قال الرجل لصاحب البستان: لقد سمعت صوتًا في سحابة يقول: اسقِ حديقة فلان، وهو اسمك، فأردت أن أعرف ما هو عملك الصالح الذي أثابك الله عليه فأرسل تلك السحابة لتسقي بستانك، قال صاحب البستان: إنني حين أجني ثمار بستاني أقسِّمها ثلاثة أقسام: قسم أتصدَّق به، وقسم أدَّخره لي ولأهل بيتي، وقسم أبيعه وأشتري بثمنه بذورًا أزرعها في موسم جديد.
وهنا عرف الرجل سرَّ صاحب البستان؛ فهو يأكل من عمل يده وينفق على أهله، ولا يسأل الناس شيئًا، وهو يتصدَّق على الفقراء، والصدقة تحفظ المال وتباركه.
أبشر أيها الغني المزكي:
بأن الله - تعالى - يدفع عنك ببركة زكاتك المصائب والفتن، ويحفظ لك مالك ونفسك وأهلك، واسمع إلى نبيِّك الكريم - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وهو يقول: «حصِّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدُّوا للبلاء الدعاء»؛ (رواه الطبراني).
وقال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء»؛ (رواه ابن حبان).
ويقول ابن القيم - رحمه الله - في شأن الصدقة: "إن للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء حتى ولو كانت من فاجر أو ظالم بل من كافر؛ فإن الله يدفع بها عنه أنواعًا من البلاء".
واسمع معي إلى هذه القصة التي تبيِّن لنا أن للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء، هذه القصة هي قصة امرأة كان لها ولد مسافر للدراسة، وكانت امرأة فقيرة لكنها جوادة كريمة، مُحِبة لله ولرسوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فبينما هي ذات يوم على عشائها الذي لا تملك غيره إذ بطارق يطرق عليها الباب ففتحته، فإذا هو مسكين يسأل طعامًا، فقامت إلى عشائها فأعطته إيَّاه، وذهب هو ليشبع وباتت وهي جائعة لكنها محتسِبة عند الله الأجر، ألم الجوع في بطنها؛ لكن فرحة السعادة في قلبها أن سدَّت جوعةً لمسلم.
ومضت الأيام والليالي وقَدِم ابنها من سفره، وأخذ يحدثها عن سفره فذكر لها من أعجب ما حدث له أن أسدًا اعتدى عليه في إحدى الغابات حتى صار بين يديه، فجاءه رجل عليه ثياب بيض فأنقذه، فسأله: مَن أنت؟ قال: لقمة بلقمة، فتعجَّبت، ماذا يريد بهذا الكلام؟!
فسألته أمه: متى حدث هذا الكلام؟ فأخبرها فإذا هو نفس اليوم الذي سدَّت به لقمة ذلك الجائع، لقمة الجائع أنقذت ولدها أن يكون لقمة لأسد مفترس.
أرأيتم كيف دُفِع البلاء ببركة الصدقة؟! (صنائع المعروف تقي مصارع السوء).
أبشر أيها الغني المزكي:
بأن زكاتك وصدقتك ستُظِلُّك يوم القيامة، وتَحُول بينك وبين حرِّ الشمس حينما تدنو من الرؤوس؛ فعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: «كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقته حتى يُقضَى بين الناس»؛ (رواه أحمد والحاكم).
وعن أبي هريرة أن النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: «سبعة يُظِلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه... ورجلٌ تصدَّق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكَر الله خاليًا ففاضَت عيناه»؛ (متفق عليه).
بل إن يوم القيامة يومٌ عظيم يأتي العالم بعلمه، والمجاهد بجهاده، والمصلِّي بصلاته، والصائم بصيامه، ويأتي المتصدِّق بعلمهم وجهادهم وصلاتهم وصيامهم؛ فهو قد طبع كتبًا للعلماء وقفًا على إخوانه المسلمين، وبنى مسجدًا يُصلِّي فيه المسلمون، وأعان المجاهدين في سبيل الله بماله، وفطَّر الصائمين على نفقته، فيحصل له أجر هؤلاء جميعًا، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
أبشر أيها الغني المزكي:
بأن صدقتك تقف لك في أوَّل منزل من منازل الآخرة في القبر، واسمع إلى رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وهو يقول: «إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حرَّ القبور, وإنما يستظلُّ المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته»؛ (رواه الطبراني).
أبشر أيها الغني المزكي:
بأن زكاتك وصدقتك دواءٌ لأمراضك البدنية، واسمع إلى رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وهو يقول: «حصِّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدُّوا للبلاء الدعاء»؛ (رواه الطبراني).
يُذكَر أن رجلاً سأل عبدالله بن المبارك - رضي الله عنه - عن مرضٍ أصابه في ركبتيه منذ سبع سنين وقد عالَجَها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع، فقال له ابن المبارك: اذهب واحفر بئرًا؛ فإن الناس بحاجة الماء، فإني أرجو أن تنبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل ذلك فبرأ.
وقصة أخرى يرويها صاحبها لنا فيقول: لي بنت صغيرة أصابها مرض في حلقها، فذهبت بها للمستشفيات وعرضتها على كثيرٍ من الأطباء، ولكن دون فائدة فمرضها أصبح مستعصيًا، وأكاد أكون أنا المريض بسبب مرضها الذي أرَّق كلَّ العائلة، وأصبحنا نُعطِيها إبرًا للتخفيف فقط من آلامها، حتى يئسنا من كل شيء إلا من رحمة الله، إلى أن جاء الأمل وفُتِح باب الفرج؛ فقد اتَّصل بي أحد الصالحين وذكر لي حديث رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «داووا مرضاكم بالصدقة»، فقلت له: قد تصدقت كثيرًا، فقال: تصدَّق هذه المرة بنية شفاء ابنتك، وفعلاً تصدَّقت بصدقة متواضعة لأحد الفقراء ولم يتغيَّر شيء، فأخبرته فقال: أنت ممَّن لديهم نعمة ومال كثير، فلتكن صدقتك بحجم مالك، فذهبت للمرة الثانية وملأت سيارتي من الأرز والدجاج والخيرات بمبلغ كبير ووزَّعتها على كثيرٍ من المحتاجين ففرحوا بصدقتي، ووالله لم أكن أتوقَّع أبدًا أن آخِر إبرة أخذتها ابنتي هي التي كانت قبل صدقتي، فشُفِيت تمامًا بحمد الله، فأيقنت أن الصدقة من أكبر أسباب الشفاء.
والآن ابنتي - بفضل الله - لها ثلاث سنوات ليس بها أي مرض على الإطلاق، ومن تلك اللحظة أصبحت أُكثِر من الصدقة، خصوصًا على الأوقاف الخيرية، وأنا كل يوم أحسُّ بالنعمة والبركة والعافية في مالي وعائلتي، وأنصح كلَّ مريض بأن يتصدَّق بأعز ما يملك ويكرِّر ذلك، فسيشفيه الله ولو بنسبة، وأدين لله بصحَّة ما ذكرت، والله لا يضيع أجر المحسنين.
إن سلَفَنا الصالح كان أحدهم إذا رأى مَن يعمل للآخرة أكثر منه نافَسَه وحاول اللحاق به بل مجاوزته، فكان تنافسهم في درجات الآخرة، واستباقهم إليها كما قال - تعالى -: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، أمَّا نحن فعكسنا الأمر؛ فصار تنافسنا في الدنيا الدنية وحظوظها الفانية.
نحن لا نريد من خلال كلامنا أن نقول لكم: اجعلوا أبناءكم وأهليكم عالةً على الناس وفي حاجة وفقر، ولكن لا بُدَّ من الإنفاق، ولو شيئًا قليلاً، ولنكن - أيها الإخوة - صُرَحاء لا يُجَامِل بعضنا بعضًا.
أسألكم بالله: كم ننفق في سبيل المتعة والفرح؟ وكم ننفق في أسفارنا وفي أكلنا وشربنا؟ وكم ننفق في تزيين سياراتنا وتجميل بيوتنا؟ كم ننفق في شراء الحاجيات لبيوتنا؟ كم ننفق في العزائم والولائم والأعراس؟ ألم أقل: إننا أصبحنا نتنافس في الدنيا الدنية.
أيها المسلم:
اسمع إلى نصيحة سيدنا الحسن وكأنه يخاطبنا جميعًا فيقول: "إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة".
وقال وهيب بن الورد: إذا استطعت أن لا يسبقك أحد إلى الله فافعل.
فهنيئًا لكلِّ فائزٍ بخير الدنيا والآخرة، هنيئًا لِمَن كان من المتصدِّقين ونال هذه البشارات، هنيئًا لكلِّ مَن استغلَّ غناه في طاعة الله وفاز بجنة عرضها السماوات والأرض.
أقول قولي هذا واستغفر الله.
__________________________________________________
الكاتب: د. محمد جمعة الحلبوسي