فريق منتدى الدي في دي العربي
08-02-2022, 11:28 PM
أسباب التشاحن بين المؤمنين
الحمد لله..
عباد الله، لقد وصاكم الله بالألفة، ونهاكم عن البغضاء والقطيعة، واعلموا أن الشيطان لا يريد بكم خيرًا، بل هو ساعٍ في التحريش بينكم، قال ربنا تعالى آمِرًا عباده بانتقاء القول الحسن، والكلام اللطيف، والأسلوب الرفيق بعضهم مع بعض؛ لأن الشيطان يدخل بينهم على وجه الإفساد وتقسية القلوب: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]، وليس الحسن فقط بل الأحسن، ثم حذَّر من كيد عدوهم المفسِد ذات بينِهم: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53]، والنَّزْغُ هو الإلقاء الخفي للشر في القلوب، ثم ذكر حاله الدائم مع المؤمنين: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]؛ أي: ظاهر العداوة، قديم الكيد، ضاري الشر.
وعن جابر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»؛ (رواه مسلم).
والتحريش: هو الإفساد وتغيير قلوبهم وتقاطعهم، قال القاضي: والتحريش: الإغراء على الشيء بنوع من الخداع، وقد انتشر الآن تلبيسه في البلاد والعباد والمذاهب والأعمال، فعلى العبد أن يقف عند كل همٍّ يخطُر له ليعلم أنه لَمَّةُ مَلَكٍ أو لَمَّة شيطان، وأن يُمضِيَ النظر فيه بنور البصيرة والهدى لا بهوًى من الطبع: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
وبالجملة، فمائدة الشيطان هي التحريش، وإثارة نَعَرَات الفرقة في المسلمين، وطعامه دينهم وأعراضهم ودماؤهم، والموفَّق مَن كان حريصًا على أُلْفَتِهم واجتماعهم، والمخذول المشؤوم من أوقد مراجل فرقتهم، ونَبَشَ أسباب شرهم ونشرها، والله المستعان.
ومن أسباب الشحناء الغضبُ، قال جعفر بن محمد: "الغضب مفتاح كل شر"، وصدق رحمه الله؛ فالغضب شعبة من الجنون، وأنقص ما يكون عقل المرء إذا غضِب، ويوشك عدوه الرجيم أن يظفرَ به في ساعةِ غضب ما يهدم سنوات خير كان يعمُرها.
وقال بعض السلف: "أقرب ما يكون العبد من غضب الله عز وجل، إذا غضِب".
واعلم أن لتسكين الغضب إذا هجم أسبابًا يُستعان بها على الحِلم؛ منها:
أن يذكر الله عز وجل فيدعوه ذلك إلى الخوف منه، ويبعثه الخوف منه على الطاعة له، فيرجع إلى أدبه ويأخذ بندبه، فعند ذلك يزول الغضب؛ قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]؛ قال عكرمة: "يعني: إذا غضبت".
وقد وصَّى صلى الله عليه وسلم باجتناب موجبات الغضب، وبكظم الغيظ عند استفحاله؛ فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، قل لي قولًا وأقلِلْ عليَّ؛ لعلِّي أعقِله، قال: «لا تغضب»، فأعاد عليه مرارًا كل ذلك يقول: «لا تغضب».
فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيَه وصية وجيزة جامعة لخصال الخير ليحفظها عنه؛ خشية ألَّا يحفظها لكثرتها، ووصَّاه النبي ألا يغضب، ثم ردد هذه المسألة عليه مرارًا والنبي صلى الله عليه وسلم يردد عليه هذا الجواب، فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر، وأن التحرز منه جماع الخير، ولعل هذا الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه هو أبو الدرداء؛ كما عند الطبراني.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر مَن غضِبَ بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب وتسكنه، ويمدح من مَلَكَ نفسه عند غضبه؛ ففي الصحيحين عن سليمان بن صرد رضي الله عنه، قال: ((كنت جالسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ورجلان يستبَّان، وأحدهما قد احمرَّ وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ذهب منه ما يجد».
ومن غضب فليسكت، وما أحسن قول مورق العجلي رحمه الله: "ما امتلأت غضبًا قط، ولا تكلمت في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت".
والوضوء نافع عند الغضب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تُطْفَأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ»؛ (رواه أحمد بسند حسن).
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تعُدُّون الصُّرَعَةَ فيكم» ؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: «ليس ذلك ولكنه الذي يملك نفسه عن الغضب».
وكظم الغيظ فضيلة يحبها الله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((م «ن كظم غيظًا وهو يستطيع أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء»؛ (رواه أبو داود).
عباد الله، ومن أسباب التشاحن النميمة بين المؤمنين، ويكفي من شؤمها تحريم الجنة على صاحبها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة نمَّام»؛ (متفق عليه).
وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال: «أما إنهما لَيُعَذَّبانِ، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، أما أحدهما، فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر، فكان لا يستتر من بوله» ، قال: فدعا بعسيب رطب، فشقه باثنين، ثم غرس على هذا واحدًا، وعلى هذا واحدًا، ثم قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا))؛ (متفق عليه).
ومن أسبابها الحسد وهو آكل الحسنات، ولقد تأملت سيئ الأخلاق فما رأيت أشأم من خَصْلَتِيِ الكبر والحسد، ثم تأملتها في القرآن فوجدتهما سبب إبلاس إبليس في الشر، وارتكاسه في الخذلان، ووقوعه في اللعنة والرجم.
لقد حسد آدم وتكبر عليه، فأخْلِقْ بمن تشبَّه به في سواد قلبه أن يمتنع الخير عن قلبه ومن قلبه! فحبُّ الخير للناس محتاج لقلب واسع طاهر، ونية طيبة حسنة، وقبل ذلك لمحض توفيق من الرحمن.
والشيطان حريص على تلويث قلوب العباد بسواد خبثه وقتار شؤمه، ولم يجد من رواحله كالحسد والكبر؛ فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، أما إني لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا، ألَا أدلكم على ما تتحابون به؟ أفشوا السلام بينكم»؛ (رواه أحمد).
ومن أسبابها المراء والجدال؛ قال مالك: "المراء يقسي القلوب ويورث الضغائن".
وتاركُهُ موعودٌ بقصر في الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيتٍ في رَبَضِ الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسُن خلقه»؛ (رواه أبو داود).
ومن أكثر ما يفرق بين الإخوان المماراة، فيقول الأول شيئًا فيخالفه صاحبه، فيدلي كلٌّ بحجج تدعم مذهبه ورأيه، ثم يتعصب له وترتفع الأصوات، ثم يتحول محور الحديث لنقد ذات الشخص لا لقوله ورأيه، ثم تستحضر المواقف البعيدة والقريبة، مع تلوينها بسوء الظنون وإظهارها بأقسى الألفاظ وأوحش التشبيهات، فتكون النهاية المؤسفة الفُرقة والقطيعة، والتسبب في عدم رفع الأعمال، مع حرمان بركة الاجتماع ورحمته.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضَلَّ قوم بعد هدًى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدال» ؛ ثم تلا: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]؛ (رواه الترمذي).
واعلم أن المراء داء الفضلاء، فحتى أهل العلم والفضل لم يَسْلَموا من وَضَرِ تلك الإحنة النفسانية - ومرجعها الحسد - فترى في ردود بعضهم على بعض – مع أهميتها - انتصار ظاهر للنفس، وهضم قبيح لحقِّ أخيه، وإشاعة لعيبه الذي لا علاقة له بما رد عليه فيه، وتزيد وتكبر ورتع عرض حرام، ولو راجع الفقيه نفسه لرأى أنه منتصر لهواه لا لهداه، والله الحافظ الهادي المستعان.
عباد الله، ومنها الهوى، والهوى يهوِي بصاحبه في الهاوية؛ قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث مهلكات: شحٌّ مطاع، وهوًى مُتَّبع، وإعجاب المرء بنفسه، وثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغِنى، والعدل في الغضب والرضا»؛ (حسنه الألباني)، فمن عصم من شر هواه، فقد عصم من الشر كله.
ومن الأسباب: البغي عند الخلاف ولم يسلم من ذلك سوى أقل الناس، ومنها التعصب لغير الحق، سواء لمذهب أو قبيلة أو غير ذلك من دهاليز الهوى، وهي آفة سوداء في ثوب المؤمن، وهي تابعة للهوى، ودالة على ضعف التسليم لله ووهن الإسلام في القلب، فالإسلام عقد على الاستسلام لله واتباع دينه جملة وتفصيلًا، وفي الساعة التي يولي المرء ظهره للحق معنقًا في طول باطله، فقد أطلق بعض ما عقده من شُعَبِ الإيمان، وبحسب إطلاقه وحنثه وخلفه، يكون بعده وخِذلانه وخيبته.
عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قُتل تحت راية عِمَّيَّة يدعو عصبية، أو ينصر عصبية، فقتلة جاهلية»؛ (رواه مسلم)، والعمية: الجهالة والضلالة؛ أي: فقتله قتلٌ جاهليٌّ.
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((كنا في غزاة - قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق - فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية» ؟ قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوها فإنها منتنة»؛ (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ومن نصب شخصًا - كائنًا من كان - فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم: 32]؛ الآية.
ومن أسباب الشحناء: سوء الظن، ومن هذا التَّنُّور انقدح شرر نيران العداوات بين كثير من عباد الله، والله تعالى قد ربَّانا ووعظنا بقوله الأعز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، فنهى الله عباده عن كثير من الظن، وهو التهمة في غير محلها؛ لأن بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، فليجتنب كثيرًا منه احتياطًا؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث»؛ (متفق عليه)، وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا".
ومن ساء عمله ساء ظنه، فهو يرى غيره بعين طبعه لا عين إنصافه.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونُهُ = وصدق ما يعتاده من توهمِ
عباد الله، ومن أسباب الشحناء: التنافس على الدنيا، ولأن معيار الغنيمة عند بعض مَن خُذلوا حطام فانٍ، فلا عجب - إذًا - من تهالك الفَراش على نارها، فالقلوب غير المحفوظة بحب الله والدار الآخرة هي كالفراش التائه حول ضرام الموقدة، والله المستعان.
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا فُتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم» ؟ قيل: نكون كما أمر الله، قال: «أو غير ذلك؛ تتنافسون ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين، فتجعلون بعضهم على رقاب بعض»؛ (رواه مسلم).
إنها الدنيا؛ الحطام الفاني، والحظ الزائل، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من تركها تبعته، ومن تبعها تركته، فتنة لكل مفتون، وعون على طاعة الله لكل موفق منيب.
وما هي إلا جيفة مستحيلـــة *** عليها كلاب همُّهُنَّ اجتذابها
فإن تجتَنِبْها كنت سلمًا لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها
ومن الأسباب: حب الرئاسة، وحب الرئاسة من فروع حب الدنيا، وهو آخر ما يسقط من رؤوس الصديقين، فترى الرجل من أزهد الناس في المال والمتاع حتى إذا هَزْهَزَهُ منصب أو رئاسة، تهالك على تحصيله، ونَسِيَ ما كان يُوعَظ به، والله المستعان.
قال الفضيل: "ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحدًا بخير".
ومن الأسباب: اختلاف الصفوف في الصلاة؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوِّي صفوفنا، حتى كأنما يسوي بها القداح - أي: خشب السهام - حتى إذا رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يومًا فقام، حتى كاد أن يكبر فرأى رجلًا باديًا صدره، فقال: «عباد الله، لتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم»؛ (رواه مسلم)، فتأمل شؤم المخالفة في الصف بالوعيد بأن يختلفوا في وجوههم ويتعادَوا.
ومن الأسباب: النجوى بين المؤمنين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجَيَنَّ اثنان دون صاحبهما؛ فإن ذلك يحزنه»؛ (رواه مسلم).
ومنها: كثرة المزاح، والمزاح لا بأس به على الندرة، أو في المرة تلو المرة، بحيث لا يكون طبعًا معتادًا، ولا يكون كذبًا ولا مشتملًا على محرم ولا أذًى؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم يفاكه أصحابه ويداعبهم ويمازحهم، لكنه لا يقول إلا حقًّا وصدقًا، وبإدخال السرور والفرح بلا أذية، وكم من كلمة أراد بها صاحبها المفاكهة والممازحة نتجت حربًا وقتلًا، والعاقل من اتعظ بغيره.
وبالجملة، فالمزاح لا بد أن يكون بقدر، وأن تُحفَظ له آدابه وأوقاته وأشخاصه، فليس كل وقت يصلح له، ولا كل شخص يتقبله، ولا كل حال يكون مناسبًا له، وبالله التوفيق.
وذكر خالد بن صفوان المزاح، فقال: "يصك أحدكم صاحبه بأشد من الجندل، وينشقه أحرق من الخردل، ويفرغ عليه أحر من المرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحك".
ومن الأسباب: المعصية، وشؤم الذنوب لا حد له، ومن هتك ستر محارم الله، فهو حريٌّ بنقص معية ربه له بحفظه وعنايته وتيسير الخير له، ومن الثمار المرة للمعصية الجفوة في قلوب العباد للعاصي، حتى وإن لم يعلموا معصيته، فيحسون بنوع نفرة منه، كذلك فالعاصي قاسي القلب، فيركب المعصية غير مبالٍ بسوء العاقبة، فلا يرعى حرمة قطع رحمه أو هجْرِ مسلمٍ لدنيا، ولا يهمه تغليظ الوعيد على من فعل ذلك.
كذلك، فالمعاصي بذاتها سبب للتشاحن، ولو تأملت قضايا الشحناء بين الناس، لرأيت كثيرًا منها كان شرره معصية، والله المستعان.
وما نزل بلاء إلا بذنب، ولا ارتفع إلا بتوبة، ومن البلاء المشاحنة والخصومات بين المؤمنين؛ قال أحد السلف: "إني لأعصي الله، فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي".
اللهم صلِّ على محمد.
______________________________ ______________
الكاتب: إبراهيم الدميجي
الحمد لله..
عباد الله، لقد وصاكم الله بالألفة، ونهاكم عن البغضاء والقطيعة، واعلموا أن الشيطان لا يريد بكم خيرًا، بل هو ساعٍ في التحريش بينكم، قال ربنا تعالى آمِرًا عباده بانتقاء القول الحسن، والكلام اللطيف، والأسلوب الرفيق بعضهم مع بعض؛ لأن الشيطان يدخل بينهم على وجه الإفساد وتقسية القلوب: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]، وليس الحسن فقط بل الأحسن، ثم حذَّر من كيد عدوهم المفسِد ذات بينِهم: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53]، والنَّزْغُ هو الإلقاء الخفي للشر في القلوب، ثم ذكر حاله الدائم مع المؤمنين: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]؛ أي: ظاهر العداوة، قديم الكيد، ضاري الشر.
وعن جابر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»؛ (رواه مسلم).
والتحريش: هو الإفساد وتغيير قلوبهم وتقاطعهم، قال القاضي: والتحريش: الإغراء على الشيء بنوع من الخداع، وقد انتشر الآن تلبيسه في البلاد والعباد والمذاهب والأعمال، فعلى العبد أن يقف عند كل همٍّ يخطُر له ليعلم أنه لَمَّةُ مَلَكٍ أو لَمَّة شيطان، وأن يُمضِيَ النظر فيه بنور البصيرة والهدى لا بهوًى من الطبع: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
وبالجملة، فمائدة الشيطان هي التحريش، وإثارة نَعَرَات الفرقة في المسلمين، وطعامه دينهم وأعراضهم ودماؤهم، والموفَّق مَن كان حريصًا على أُلْفَتِهم واجتماعهم، والمخذول المشؤوم من أوقد مراجل فرقتهم، ونَبَشَ أسباب شرهم ونشرها، والله المستعان.
ومن أسباب الشحناء الغضبُ، قال جعفر بن محمد: "الغضب مفتاح كل شر"، وصدق رحمه الله؛ فالغضب شعبة من الجنون، وأنقص ما يكون عقل المرء إذا غضِب، ويوشك عدوه الرجيم أن يظفرَ به في ساعةِ غضب ما يهدم سنوات خير كان يعمُرها.
وقال بعض السلف: "أقرب ما يكون العبد من غضب الله عز وجل، إذا غضِب".
واعلم أن لتسكين الغضب إذا هجم أسبابًا يُستعان بها على الحِلم؛ منها:
أن يذكر الله عز وجل فيدعوه ذلك إلى الخوف منه، ويبعثه الخوف منه على الطاعة له، فيرجع إلى أدبه ويأخذ بندبه، فعند ذلك يزول الغضب؛ قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]؛ قال عكرمة: "يعني: إذا غضبت".
وقد وصَّى صلى الله عليه وسلم باجتناب موجبات الغضب، وبكظم الغيظ عند استفحاله؛ فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، قل لي قولًا وأقلِلْ عليَّ؛ لعلِّي أعقِله، قال: «لا تغضب»، فأعاد عليه مرارًا كل ذلك يقول: «لا تغضب».
فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيَه وصية وجيزة جامعة لخصال الخير ليحفظها عنه؛ خشية ألَّا يحفظها لكثرتها، ووصَّاه النبي ألا يغضب، ثم ردد هذه المسألة عليه مرارًا والنبي صلى الله عليه وسلم يردد عليه هذا الجواب، فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر، وأن التحرز منه جماع الخير، ولعل هذا الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه هو أبو الدرداء؛ كما عند الطبراني.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر مَن غضِبَ بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب وتسكنه، ويمدح من مَلَكَ نفسه عند غضبه؛ ففي الصحيحين عن سليمان بن صرد رضي الله عنه، قال: ((كنت جالسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ورجلان يستبَّان، وأحدهما قد احمرَّ وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ذهب منه ما يجد».
ومن غضب فليسكت، وما أحسن قول مورق العجلي رحمه الله: "ما امتلأت غضبًا قط، ولا تكلمت في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت".
والوضوء نافع عند الغضب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تُطْفَأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ»؛ (رواه أحمد بسند حسن).
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تعُدُّون الصُّرَعَةَ فيكم» ؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: «ليس ذلك ولكنه الذي يملك نفسه عن الغضب».
وكظم الغيظ فضيلة يحبها الله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((م «ن كظم غيظًا وهو يستطيع أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء»؛ (رواه أبو داود).
عباد الله، ومن أسباب التشاحن النميمة بين المؤمنين، ويكفي من شؤمها تحريم الجنة على صاحبها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة نمَّام»؛ (متفق عليه).
وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال: «أما إنهما لَيُعَذَّبانِ، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، أما أحدهما، فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر، فكان لا يستتر من بوله» ، قال: فدعا بعسيب رطب، فشقه باثنين، ثم غرس على هذا واحدًا، وعلى هذا واحدًا، ثم قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا))؛ (متفق عليه).
ومن أسبابها الحسد وهو آكل الحسنات، ولقد تأملت سيئ الأخلاق فما رأيت أشأم من خَصْلَتِيِ الكبر والحسد، ثم تأملتها في القرآن فوجدتهما سبب إبلاس إبليس في الشر، وارتكاسه في الخذلان، ووقوعه في اللعنة والرجم.
لقد حسد آدم وتكبر عليه، فأخْلِقْ بمن تشبَّه به في سواد قلبه أن يمتنع الخير عن قلبه ومن قلبه! فحبُّ الخير للناس محتاج لقلب واسع طاهر، ونية طيبة حسنة، وقبل ذلك لمحض توفيق من الرحمن.
والشيطان حريص على تلويث قلوب العباد بسواد خبثه وقتار شؤمه، ولم يجد من رواحله كالحسد والكبر؛ فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، أما إني لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا، ألَا أدلكم على ما تتحابون به؟ أفشوا السلام بينكم»؛ (رواه أحمد).
ومن أسبابها المراء والجدال؛ قال مالك: "المراء يقسي القلوب ويورث الضغائن".
وتاركُهُ موعودٌ بقصر في الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيتٍ في رَبَضِ الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسُن خلقه»؛ (رواه أبو داود).
ومن أكثر ما يفرق بين الإخوان المماراة، فيقول الأول شيئًا فيخالفه صاحبه، فيدلي كلٌّ بحجج تدعم مذهبه ورأيه، ثم يتعصب له وترتفع الأصوات، ثم يتحول محور الحديث لنقد ذات الشخص لا لقوله ورأيه، ثم تستحضر المواقف البعيدة والقريبة، مع تلوينها بسوء الظنون وإظهارها بأقسى الألفاظ وأوحش التشبيهات، فتكون النهاية المؤسفة الفُرقة والقطيعة، والتسبب في عدم رفع الأعمال، مع حرمان بركة الاجتماع ورحمته.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضَلَّ قوم بعد هدًى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدال» ؛ ثم تلا: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]؛ (رواه الترمذي).
واعلم أن المراء داء الفضلاء، فحتى أهل العلم والفضل لم يَسْلَموا من وَضَرِ تلك الإحنة النفسانية - ومرجعها الحسد - فترى في ردود بعضهم على بعض – مع أهميتها - انتصار ظاهر للنفس، وهضم قبيح لحقِّ أخيه، وإشاعة لعيبه الذي لا علاقة له بما رد عليه فيه، وتزيد وتكبر ورتع عرض حرام، ولو راجع الفقيه نفسه لرأى أنه منتصر لهواه لا لهداه، والله الحافظ الهادي المستعان.
عباد الله، ومنها الهوى، والهوى يهوِي بصاحبه في الهاوية؛ قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث مهلكات: شحٌّ مطاع، وهوًى مُتَّبع، وإعجاب المرء بنفسه، وثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغِنى، والعدل في الغضب والرضا»؛ (حسنه الألباني)، فمن عصم من شر هواه، فقد عصم من الشر كله.
ومن الأسباب: البغي عند الخلاف ولم يسلم من ذلك سوى أقل الناس، ومنها التعصب لغير الحق، سواء لمذهب أو قبيلة أو غير ذلك من دهاليز الهوى، وهي آفة سوداء في ثوب المؤمن، وهي تابعة للهوى، ودالة على ضعف التسليم لله ووهن الإسلام في القلب، فالإسلام عقد على الاستسلام لله واتباع دينه جملة وتفصيلًا، وفي الساعة التي يولي المرء ظهره للحق معنقًا في طول باطله، فقد أطلق بعض ما عقده من شُعَبِ الإيمان، وبحسب إطلاقه وحنثه وخلفه، يكون بعده وخِذلانه وخيبته.
عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قُتل تحت راية عِمَّيَّة يدعو عصبية، أو ينصر عصبية، فقتلة جاهلية»؛ (رواه مسلم)، والعمية: الجهالة والضلالة؛ أي: فقتله قتلٌ جاهليٌّ.
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((كنا في غزاة - قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق - فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية» ؟ قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوها فإنها منتنة»؛ (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ومن نصب شخصًا - كائنًا من كان - فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم: 32]؛ الآية.
ومن أسباب الشحناء: سوء الظن، ومن هذا التَّنُّور انقدح شرر نيران العداوات بين كثير من عباد الله، والله تعالى قد ربَّانا ووعظنا بقوله الأعز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، فنهى الله عباده عن كثير من الظن، وهو التهمة في غير محلها؛ لأن بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، فليجتنب كثيرًا منه احتياطًا؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث»؛ (متفق عليه)، وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا".
ومن ساء عمله ساء ظنه، فهو يرى غيره بعين طبعه لا عين إنصافه.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونُهُ = وصدق ما يعتاده من توهمِ
عباد الله، ومن أسباب الشحناء: التنافس على الدنيا، ولأن معيار الغنيمة عند بعض مَن خُذلوا حطام فانٍ، فلا عجب - إذًا - من تهالك الفَراش على نارها، فالقلوب غير المحفوظة بحب الله والدار الآخرة هي كالفراش التائه حول ضرام الموقدة، والله المستعان.
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا فُتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم» ؟ قيل: نكون كما أمر الله، قال: «أو غير ذلك؛ تتنافسون ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين، فتجعلون بعضهم على رقاب بعض»؛ (رواه مسلم).
إنها الدنيا؛ الحطام الفاني، والحظ الزائل، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من تركها تبعته، ومن تبعها تركته، فتنة لكل مفتون، وعون على طاعة الله لكل موفق منيب.
وما هي إلا جيفة مستحيلـــة *** عليها كلاب همُّهُنَّ اجتذابها
فإن تجتَنِبْها كنت سلمًا لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها
ومن الأسباب: حب الرئاسة، وحب الرئاسة من فروع حب الدنيا، وهو آخر ما يسقط من رؤوس الصديقين، فترى الرجل من أزهد الناس في المال والمتاع حتى إذا هَزْهَزَهُ منصب أو رئاسة، تهالك على تحصيله، ونَسِيَ ما كان يُوعَظ به، والله المستعان.
قال الفضيل: "ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحدًا بخير".
ومن الأسباب: اختلاف الصفوف في الصلاة؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوِّي صفوفنا، حتى كأنما يسوي بها القداح - أي: خشب السهام - حتى إذا رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يومًا فقام، حتى كاد أن يكبر فرأى رجلًا باديًا صدره، فقال: «عباد الله، لتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم»؛ (رواه مسلم)، فتأمل شؤم المخالفة في الصف بالوعيد بأن يختلفوا في وجوههم ويتعادَوا.
ومن الأسباب: النجوى بين المؤمنين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجَيَنَّ اثنان دون صاحبهما؛ فإن ذلك يحزنه»؛ (رواه مسلم).
ومنها: كثرة المزاح، والمزاح لا بأس به على الندرة، أو في المرة تلو المرة، بحيث لا يكون طبعًا معتادًا، ولا يكون كذبًا ولا مشتملًا على محرم ولا أذًى؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم يفاكه أصحابه ويداعبهم ويمازحهم، لكنه لا يقول إلا حقًّا وصدقًا، وبإدخال السرور والفرح بلا أذية، وكم من كلمة أراد بها صاحبها المفاكهة والممازحة نتجت حربًا وقتلًا، والعاقل من اتعظ بغيره.
وبالجملة، فالمزاح لا بد أن يكون بقدر، وأن تُحفَظ له آدابه وأوقاته وأشخاصه، فليس كل وقت يصلح له، ولا كل شخص يتقبله، ولا كل حال يكون مناسبًا له، وبالله التوفيق.
وذكر خالد بن صفوان المزاح، فقال: "يصك أحدكم صاحبه بأشد من الجندل، وينشقه أحرق من الخردل، ويفرغ عليه أحر من المرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحك".
ومن الأسباب: المعصية، وشؤم الذنوب لا حد له، ومن هتك ستر محارم الله، فهو حريٌّ بنقص معية ربه له بحفظه وعنايته وتيسير الخير له، ومن الثمار المرة للمعصية الجفوة في قلوب العباد للعاصي، حتى وإن لم يعلموا معصيته، فيحسون بنوع نفرة منه، كذلك فالعاصي قاسي القلب، فيركب المعصية غير مبالٍ بسوء العاقبة، فلا يرعى حرمة قطع رحمه أو هجْرِ مسلمٍ لدنيا، ولا يهمه تغليظ الوعيد على من فعل ذلك.
كذلك، فالمعاصي بذاتها سبب للتشاحن، ولو تأملت قضايا الشحناء بين الناس، لرأيت كثيرًا منها كان شرره معصية، والله المستعان.
وما نزل بلاء إلا بذنب، ولا ارتفع إلا بتوبة، ومن البلاء المشاحنة والخصومات بين المؤمنين؛ قال أحد السلف: "إني لأعصي الله، فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي".
اللهم صلِّ على محمد.
______________________________ ______________
الكاتب: إبراهيم الدميجي